الدرس الثاني والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

16741 27
الدرس الثاني والعشرون

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، نحيي وإياكم فضيلة الشيخ.
حياكم الله شيخنا، وأهلا وسهلا بكم}.
حياكم الله لا وسهلا حياك الله حيا الله طلاب العلم وطالباته، حيا الله المشاهدين والمشاهدات، أدام الله عليكم الخير والهدى، والنفع والعلم، ورقاكم في درجاته وبلغكم أعلى منازله.
{أحسن الله إليكم.
نكمل وإياكم الشرح، قال -رحمه الله-: (فصل وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَكَذَا ثَمَرٌ وَزَرْعٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُمَا، وَقِنٌّ دُونَ وَلَدِهِ وَنَحْوِهِ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَصْلٌ فِي الرَّهن) وقد ذكرنا تعريف الرهن، ومشروعيته في الكتاب والسنة، وذلك في آخر مجلس الماضي.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَكُلُ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ)، هذه من الكليات، وهي نافعة لطالب العلم في أن يعرف ما يندرج فيها، وما يدخل تحتها، فهي عبارة جامعة، وتكون كالضابط للمسألة، ومن حيث الأصل لا يخرج منها شي، وإذا خرج فهو يحتاج إلى استثناء.
وقول المؤلف: (وَكُلُ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ) من جهة أنَّ المقصود من الرهن هو: التوثيق بالاستيفاء من الرهن عند تعذر المدين أو الراهن أداء ما عليه، ولَمَّا كان الرهن بهذه المثابة احتيج إلى أن يكون مما يباع؛ لأنه إذا لم يكن مما يباع لم يحصل منه التوفية ولا الاستيفاء، فلو أنَّ شخصًا على سبيل المثال اشترى من آخر هذه الدار بمليون ريال، على أن يسلمه هذا المبلغ بعد سنة، ورهنه ابنًا له، فذهبت السنة ماذا سيفعل بالابن؟
لا يمكن أن يفعل به شيئًا، فلم يجز رهنه، لأنَّ الابن حرًا، والحر لا يجوز بيعه، ولذا جاء في الحديث الوعيد لمن باع حرًا وأكل ثمنه.
إذًا لا بد في الرهن أن يكون مما يجوز بيعه حتى يحصل المقصود منه، وهو التوفية عند تعذر الاستيفاء من الراهن.
بعد ذلك ذكر بعض أهل العلم مسائل لا تباع ومع ذلك يجوز رهنها.
قال: (وَكَذَا ثَمَرٌ وَزَرْعٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُمَا) تبين فيما مضي أنها عرضة للعاهات والآفات فلم يجز بيعه؛ لئلا تكثر الخصومة، وتحصل بين الناس المنازعة، ولكنه إلى أجل، والغالب أنه يَسْلَم، والرهن إنما هو توثيق. فقالوا: لَمَّا كان المبدأ التوثيق، والغالب أنه يؤول إلى تمام وكمال، ويمكن الاستيفاء منه، فليجز في مثل هذه الحال، وإن كان من حيث الأصل أنَّ الثمر الذي لم يبد صلاحه، والزرع الذي لم ينضج، فإنه لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع كما ذكرنا، ولكن في (باب الرهن) يجوز رهنه ولو لم يقطع، ولو لم يبدُ صلاحه، ومثلُ ذلك الزرع الذي لم يشتد؛ لأنَّ باب التوثيق إنما هو تكميل للعقد، والغالب أنه يحصل إلى وفاء الراهن، وإذا لم يكن من وفاء، فالغالب أنَّ هذا الثمر والزرع يشتد ويطيب على أتم حال، فلأجل ذلك جاز أن يكون رهنًا وإن لم يجز بيعه أصلا.
قال المؤلف: (وَقِنٌّ دُونَ وَلَدِهِ وَنَحْوِهِ)، القن هو العبد، والعبد إذا كان معه ولده فإنه لا يُفَرَّقُ بينهما في بيعٍ، معنى ذلك يقول المؤلف: ما ترهن القن وحده منفردًا؛ لأنَّ هذا قد يُفهم منه أنه لا يجوز بيع القن الذي معه ولده دون أن يباعا جميعًا أو يتركا جميعا؛ لئلا يُفرقُ بينهما.
طيب لو أراد شخص أن يرهن القنَّ بدون الولد؟
يقول الفقهاء: يجوز ذلك؛ لأنَّ حقيقة الرهن هو توثيق، ولكن لو جاء البيع فلا يعني ذلك أننا نبيع القن دون ولده، ولكن الذي متعلق الرهن هو القن، فما حصل من ثمن هذا القن هو الذي يحصل به الوفاء دون الولد. واضح؟
بناء على ذلك يقولون في هذه الصورة: لا يجوز أن يُباع القن دون ولده، ولكن يجوز أن يرهن أحدهما دون الآخر، ولكن مع ذلك إذا جاء البيع، فإنهما لا يُباعان إلا جميعا.
ذكر بعض أهل العلم الذين أجازوا بيع المصحف أنه لا يجوز رهنه، لِمَا في هذا من امتهان للمصحف، كما أنَّ القول بحرمة بيع المصاحف عظيم. لماذا؟
لئلا يحصل في ذلك ظهور الامتهان، يعني: ما ظنكم لو أنه الآن دخل السوق شخصًا معه حمولة ممتلئة من المصاحف، وفي السوق جلود، وفي السوق أثواب مثلاً، وفي السوق بهم، فباع صاحب البهم بهمه، وباع صاحب الجلود جلوده، وباع صاحب الثياب ثيابه، ثم عرضوا السعر والبيع لصاحب المصاحف فلم تبع، أو لم يرغب فيها أحد! ألا يكون ذلك ظهور لامتهان المصحف، ورغبة عنه، وعدم تعظيم له؟ ولذلك جاء عن ابن عمر، وهو المشهور من المذهب عند الصحابة: "وددت أنَّ الأيدي تقطع في بيع المصاحف".
فعلي كل حال: المشهور من المذهب أنها لا تُباع، ولكن لو بيعت؛ فإنه لا يجوز رهنها لِمَا في هذا إيغال في الامتهان أو زيادة فيه.
ومن سَهَّلَ في بيع المصاحف قال: تسهيلاً لحصول الناس عليها ونحو ذلك، فعلى كل حال لو قيل بالبيع، ينبغي أن يكون ذلك على حال لا يحصل فيها امتهان، وهذا يمكن أن يُقيد بقيدين أو أكثر، ولكن مثلا أن لا يُعرض للمزايدة، فيوضع في مكان من أراده بهذا الثمن أخذه، مع أنَّ هذا قد يوجد فيه الامتهان ولكنه أقل.
ولكن المزايدة أنه قد لا يُطلب إلا بأقل الأثمان، أو قد لا يُزايد الناس عليه، فيظهر فيه الامتهان، وإعراض الناس عن المصحف. وبناء على هذا لا يكون.
أيضا الحالة الثانية أن لا يماكس فيه، فما يأتي واحد ويسأل بكم هذا المصحف؟ فيقال مثلاً: بعشرة ريالات. فيقول: لا سآخذه بثمانية ريالات، فيقال له: لا. فيتركه، فيظهر في هذا الامتهان.
فعلى كل حال: هذا إذا قلنا بجواز البيع، مع أنه ينبغي ألا يُصار إليه، إلا في حالٍ ضيقة مع حصول للاعتبار وتعظيم قدر المصحف وإجلاله؛ لئلا يَظهر عند الناس امتهانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ رَاهِنٍ بِقَبْضٍ، وَتَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ بِغَيْرِ إِذَنِ الْآَخَرِ بَاطِلٌ إِلَّا عِتْقَ رَاهِنٍ وَتُؤْخَذُ قِيمَتُهُ مِنْهُ رَهْنًا)}.
قال: (وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ رَاهِنٍ بِقَبْضٍ) الرهن من العقود الجائزة من جهة، واللازمة من جهة أخرى، فهي من جهة المرتهن فالحق له، وبالنسبة له هو عقد جائز، ولو قال للراهن: أنا لا أريد منك رهنًا فخذ رهنك، فينقطع الرهن ويعود المرهون إلى صاحبه، وينتهي عند ذلك الأمر.
ولكن الرهن يلزم في حقه، ولكنه لا يلزم إلا بعد القبض، فإذا أقبض المرتهن الرهن فقد لزم، ولا يجوز له بعد يومين أن يقول له: أنا رهنتك هذه السيارة وأنا في حاجة إليها، وعائلتي لا يجدون ما يذهبون به إلى مدارسهم. فنقول: ما دام أنك رهنته فقد انتهى الأمر، إلا لو قال المرتهن من نفسه: لا أريدها، أو أنا أثق فيك، أو لا أحتاج إلى رهنٍ منك، فهذا من المرتهن لا بأس.
وأمَّا قبل القبض فيجوز له، فلو أنه قال: أشتري منك هذه الدار وأرهنك هذه السيارة، أو هذا الذهب، أو هذه البهم، أو غيرها، مقابل هذه الدار، ثم جاء من اليوم الثاني وقال: أنا لا يمكن أن أرهن السيارة أو البهم، فالبهم أحتاج إليها قربي، والسيارة أذهب بها إلى عملي، وأوصل أولادي، ونحو ذلك في قضاء حاجاتي.
فنقول: ما دام أنك لم تقبضه لم يلزم.
طيب هذا يقول: أنا ما بعتك الدار إلا أن تسلمني الرهن، فنقول: إذا لم يسلمه رهنًا كان له الخيار في أن يستمر في البيع أو أن يفسخه.
ولكن إذا سَلَّمَ الراهن الرهن؛ فإنه قد لزم، ولا يجوز له الرجوع، ولو رجع لم يُجَبْ، ولا يُطاوع على ذلك، إلا أن يكون تنازل من المرتهن في تلك الحال.
قال: (وَتَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ بِغَيْرِ إِذَنِ الْآَخَرِ بَاطِلٌ) الآن الرهان عليه يده، ولكل منها تعلق، فالرهن من حيث هو عينه متعلقة بالمالك؛ لأنه يملكها، والمرتهن يده متعلقة بالاستيفاء من الرهن، فلمَّا كان لكلِ واحدٍ منهما عليه سلطان، فتصرف واحد منهما فيه يُفوت حق الآخر.
وبناء على ذلك نقول: ليس لك أيها المالك أن تتصرف فيه؛ لأن ذلك يفضي إلى تفويت حق المرتهن، وليس للمرتهن حق أن يتصرف فيه؛ لأنه يُفوت حق المالك. المالك ممكن أن يوفيك حقك من غير الرهن، ولا يحب أن يبيع الرهن، وإنما جعله عندك توثيقًا بأن حقك سيصلك في موعده.
وبناء على ذلك يقول المؤلف: (وَتَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ بِغَيْرِ إِذَنِ اَلْآَخَرِ بَاطِلٌ إِلَّا عِتْقَ رَاهِنٍ)، ولو أنَّ الراهن رَهَنَ عَبده، واستلم المرتهن العبد، وأبقاه مع أعبده وخدمه، وجعله في عناية ورعاية، ثم بعد خمسة أيام قال الراهن: عبدي حرٌ لله -جل وعلا-، فيقولون: إنَّ العتق في هذا نافذ وإن لم يكن برضا الآخرة، وإن كان عليه فيه تفويت، وقالوا: هذا لأنَّ الشارع يتطلع إلى العتق ونحو ذلك.
ولكن هنا أولاً يأثم بهذا الفعل؛ لأنه تقصد في تفويت حق المرتهن.
والثاني: أنه يلزمه مثل قيمته، أي: أن يرهن عند المرتهن مثل قيمته، فإذا كانت قيمته عشرين ألف، فيجعل عنده عشرون ألفا.
يقول: طيب أنا أعتقته لله، نقول: ولو أعتقته لله، لكنك فوت حق المرتهن، وبناء على ذلك لزمك مثل قيمته؛ لئلا يفوت عليه حق الاستيثاق، ولئلا يفتات على المرتهن في الرهن، وإلا لأفضى ذلك إلى أن كل واحد يتصرف في الرهن بعد أن يجعله بيد الممتهن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ مُرْتَهِنٍ)}.
هذه جملة مهمة وجملة مفيدة، وهي أن يد الأمانة يد غير ضامنة، فلو مات هذا البعير الذي جعله رهنًا، أو هذا العبد، أو سرقت السيارة التي جعلها رهنًا، أو دكت الدار التي جعلها رهنًا، أو نحو ذلك، نقول: فليس على المرتهن شيء؛ لأنَّ يده يد أمانة.
متى يضمن؟
يضمن إذا كان منه تعديًا أو تفريطًا، فإذا كان مثلاً قد أرسل الدابة حيث لا ترسل، أو أنه جعل مفاتيح السيارة فيها وتركها عرضة للنهب والسرقة، أو نحو ذلك، أو هو الذي حفر بجوار الدار حفرة أو بئرا فانهدمت، فيكون هو من تسبب في هدمها.
إذًا يقولون: إذا كان بتعدٍ أو تفريط ضمن وإلا فلا.
إذًا اليد إمَّا يد ضمان كالعارية ونحوها، وإمَّا يد أمانة كالرهن والوديعة وما في معناها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ رَهَنَ عِنْدَ اثْنَيْنِ فَوَفَّى أَحَدَهُمَا، أَوْ رَهَنَاهُ فَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمَا انْفَكَّ فِي نَصِيبِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ رَهَنَ عِنْدَ اثْنَيْنِ فَوَفَّى أَحَدَهُمَا) كما لو قال: هذا العبد رهن بما عليَّ من دين لكما، فإذا كان قد أخذ من هذا عشرة آلاف، ومن الآخر عشرين ألف، فَوَفَّى للأول العشرة آلاف، فنقول: بقدر نصيبه من الرهن انفك، وتعلق حق الرهن الثاني بقدر ما بقي من نصيبه، وهذا راجع إلى أصل الرهن. طبعا ممكن أن يرهنهما نصفان، حتى ولو تفاوت الدين. فنقول: أنت جعلت هذا الرهن مقابل هذين الدينين، فإذا وفيت أحدهما انفك ما يُقابله من النصيب الذي قد رهنته به، ولك أن تتصرف فيه بهبة، أو ببيع، أو بأي تصرفا.
وأمَّا النصيب الآخر فيبقى؛ لأنه يمكن أن يتعذر عليك التوفية فيستوفي من الرهن، وليس له حق إلا في القدر الذي رهن رهنه فيما يُقابله، ولأجل ذلك قال المؤلف: (وَإِنْ رَهَنَ عِنْدَ اثْنَيْنِ فَوَفَّى أَحَدَهُمَا، أَوْ رَهَنَاهُ فَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمَا انْفَكَّ فِي نَصِيبِهِ) يعني: هما اثنان أخذا من هذا عشرين ألفًا، هذا وَفَّى نصيبه، فنقول: لينفكُ في قدر نصيبه من الرهن، كأن يكون قد رهن سيارة أو دارًا أو نحو ذلك، ينفك في نصيبه، ويبقى نصيب الآخر الذي هو مرهون، وهو الذي يحصل منه التوفية، حتى لو أردنا أن نبيع مستقبلا ما نبيع الدار لنوفي هذا، بل نبيع النصف فقط، والباقي يكون من ذمة المدين. وإذا احتاج إلى بيع بقية ماله، فهذه لها أحكام أخرى، ولكن الرهن لا يمكن أن يُتصرف فيه إلا لهذا الدين.
على سبيل المثال: لَمَّا رهن هؤلاء السيارة في نصيبهم مقابل ما أخذوه انتهى نصيب الآخر فسيبقى نصيب الأول مرهونًا مُقابل ما عليه، وبناء على ذلك: إذا كانت السيارة بيعت بثمانية آلاف فقد بقي الفان ستؤخذ من ذمة المشتري.
طيب إذا أتينا للمشتري وقلنا: أعطنا ألفين، قال: والله ما عندي، وغيرك يطالبونني وهم مئة، وهؤلاء المئة لا يمكن أن يتسلطوا على الثمانية آلاف؛ لأنها مستحقة بالرهن، فهو مُقدم عليهم، ولكن هو يشاركهم في الألفين، فيما بقي من أموال ستباع على هذا الراهن الذي لم يستطع التوفية في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَامْتَنَعَ مِنْ وَفَائِهِ، فَإِنْ كَانَ أَذِنَ لِمُرْتَهِنٍ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ، وَإِلَّا أُجْبِرَ عَلَى الْوَفَاءِ، أَوْ بَيْعِ الرَّهْنِ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ أَوْ عُزِّرَ، فَإِنْ أَصَرَّ بَاعَهُ حَاكِمٌ، وَوَفَّى دَيْنَهُ وَغَائِبٌ كَمُمْتَنِعٍ)}.
قوله: (وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَامْتَنَعَ مِنْ وَفَائِهِ) كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إنَّ الرهن الذي حُبِس لأجل الاستيثاق إنما توفيته حال التعذر، فلا يُتسلط على الرهن لمجرد أنَّ وقت الدين قد انتهى وما جاء بالتوفية، فنبيع ونفتات عليه.
فيقول المؤلف: لا، لابد أن يمتنع من الوفاء؛ لأنه لو أراد بيع الرهن ما احتاج إلى أن يأخذ هذا المبلغ مُؤجلا، بل كان يبيع ويعطيه حقه وينتهي الأمر، ولكن هو محتاج إلى بقاء هذا الرهن، وإنما جعله حتى يستوثق الذي له الحق، فلا يباع إلا أن يمتنع من الوفاء، وإذا أذن للمرتهن في البيع باعه، يقول له: بعه واستوف، وإذا قال له: لا أبيع. نقول: إمَّا أن تُوفي وإلا أجبرناك. فإن وفى فالحمد لله، وإن لم يوف ولم يأذن له في البيع، يأتي مدخل الحاكم في مثل هذه الحال، قال: (وَإِلَّا أُجْبِرَ عَلَى الْوَفَاءِ، أَوْ بَيْعِ الرَّهْنِ) وليس أمامك إلا هذين، إمَّا أن تبيع الرهن، وإمَّا أن توفي.
فإذا أبى حُبِسَ وَعُزِّر. لم الحبس والتعزيز؟
لأنَّ الأصل أن يبيع برضاه، وأن يوفي من حيث أراد، ولا يدخل الحاكم إلا للضرورة، فإذا لم ينفع فيه ذلك باع الحاكم ووفي، ويكون قضاء الحاكم عليه في هذا هو إكراه بحق، فيكون جائزًا، ويصح البيع، ويوفى صاحب الدين دينه.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَغَائِبٌ كَمُمْتَنِعٍ) فلو جاء واحد ورهن هذه السيارة بخمسين ألف، ولَمَّا جاء وقت السداد إذا هو في بلد بعيد، نحاول أن نتواصل معه فلم يُجِبْ، ولم نستطع أن نصل إليه بطريق، فلا يُفَوّت على صاحب الحق حقه؛ لأنَّ حقه متعلقًا بهذا الرهن، فإذا استنفد الحاكم سبل الوصول إلى صاحب الدين، باع على صاحب الدين رهنه، ثم وَفَّى صاحب الدين دينه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ شَرَطَ أَلَّا يُبَاعُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ، أَوْ إِنْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَهُ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ)}.
قوله: (وَإِنْ شَرَطَ أَلَّا يُبَاعُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ) كأن يقول: أنا أرهن عندك هذه الدار، ولكن أنت ما تبيعها ولن تباع. إذًا لا فائدة من الرهن، فإذا كان متعلق الدين ذمتك فما نحتاج إلى الرهن، وإنما نحتاج إلى الرهن إذا كان يمكن بيعه والاستيفاء منه وإلا فلا
وبناء على ذلك نقول: هذا شرط باطل، ووجوده كعدمه، وبناء على ذلك إذا حلَّ الأجل باع واستوفى، وليس عليه في ذلك شيء
قوله: (أَوْ إِنْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَهُ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ)
مثال: أنا أخذت دينًا من شخص يقدر بعشرين ألف، ورهنت له هذه الساعة، وقلت: هذه الساعة رهن بهذه العشرين ألف، وقلت له: إذا جاء يوم اثنا عشر من شهر رمضان ولم آتك بحقك فهذه الساعة لك. فيقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: إنَّ ذلك لا يصح. لماذا؟ لأنَّ حقيقة هذه الصورة أنها بيع مُعلق، لأنه يمكن أو يوفي صاحب الدين ويرجع بساعته، وممكن أن لا يستطيع التوفية فتكون هذه الساعة لك. أليس كذلك؟
فيقولون: هذا معلق متردد وفيه غرر، وبيان ذلك كالآتي:
هو لَمَّا قال له: إن جئتك بالدين في الثاني عشر من شهر رمضان وإلا فالرهن لك وأنت وافقت، فلما جاء الثاني عشر من رمضان وجد أن الساعة صارت لا تساوي إلا خمسة عشر ألف ريال، وإذا وفاه فعليه أن يوفيه عشرين ألف، ولذا قد يقول: الساعة لك ويتركه.
هنا نقول: هل أضرَّ به أو لم يضر به؟ أضرَّ بالفعل، والعكس بالعكس، فإذا زادت قيمة الساعة ووصلت إلى سبعين ألف، ولَمَّا جاءه للتوفية قال: انتهى الأمر وأنا أخذت الساعة! فبناء على ذلك، لَمَّا كان هذا البيع مُعلقا، وفيه ضرر على أحدهما، وفيه غرر، لم يجز، بل الصحيح أنَّه إذا جاء الوقت قال له: هل ستوفي أو لا؟ فإذا قال: والله ما عندي شيء، فيبيعون الساعة، أو يبيعون هذه السيارة، أو هذا الرهن بما بيع به، فإذا بيع بثمانية عشر ألفًا تبقى ألفان، وإن بيع بمئة ألف، أعطاه عشرين ألفًا والباقي له وهكذا، فيكون الرهن في مثل هذه الصورة صورة صحيحة لتوثيق الحق، وليس فيها تغرير أو ظلم على واحد منهما، بخلاف الصورة التي ذكرنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِمُرْتَهِنٍ أَنْ يَرْكَبَ مَا يُرْكَبُ، وَيَحْلِبَ مَا يُحْلَبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ بِلَا إِذَنْ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِلَا إِذَنِ رَاهِنٍ مَعَ إِمْكَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَنْفَقَهُ، وَنَفَقَةِ مِثْلَهِ إِنْ نَوَاهُ)}.
الأصل في الرهن أن يُحفظ فلا يتصرف فيه بأي تصرف من التصرفات؛ لأنَّ يده يد أمانة، فهو ليس ملكًا ولا إجارة ولا عريه، وإنما هو أمانة، ويبقى كالوديعة، وإن وصل الوقت ولم يوف استوفى منه وإلا فلا، لكن يُستثنى من ذلك شيء واحد، وهو المركوب.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَلِمُرْتَهِنٍ أَنْ يَرْكَبَ مَا يُرْكَبُ، وَيَحْلِبَ مَا يُحْلَبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ بِلَا إِذَنْ) أي إذا كان الرهن مركوبًا فللمرتهن (أَنْ يَرْكَبَ مَا يُرْكَبُ، وَيَحْلِبَ مَا يُحْلَبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ بِلَا إِذَنْ)، وهذا من الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وهو مخالف للجمهور، وأصله أنه جاء في الحديث أنَّ النبي قال: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بنَفَقَتِهِ، إذَا كانَ مَرْهُونًا، ولَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بنَفَقَتِهِ، إذَا كانَ مَرْهُونًا، وعلَى الذي يَرْكَبُ ويَشْرَبُ النَّفَقَةُ»[1]، فكأنَّ النبي أذن للمرتهن أن يركب مقابل ما ينفق، وأن يشرب من الدر مقابل ما ينفق، فكانت منفعة لهما جميعًا، فلا يفوته ما فيه من دَرّ، ولا يفوت ما عليه من ظهر للركوب ونحوه، ولا يستفيد منها المرتهن بدون مُقابل، بل يكون ذلك مقابل لِمَا ينفق.
وقالوا: إنَّ هذا نص، ويكون مُستثنى من عموم المرهونات، وبالتالي لا تقاس على ذلك؛ لأنَّ هذا هو القدر الذي جاء به النص، وورد به الدليل، فلا يُتجاوز إلى غيره.
فلو أنَّ شخصًا على سبيل المثال: رهن عمارة، فأراد المرتهن أن يُؤجر البيوتات التي فيها، قلنا: لا؛ لأنه لا يجوز له أن يستفيد منها، فهي أمانة عنده، إذا انتهى الوقت تبيع. إذا احتاج إلى بيع لعدم التوفية
لماذا استثنيتم هذين الأمرين؟
قلنا: الاستثناء لمحل الدليل، فقد جاء الدليل باستثنائهما، ولأهل العلم في ذلك كلام طويل، وابن القيم -رحمه الله تعالى- في إعلام الموقعين قد أفاض في الكلام على هذه المسألة، يعني: ليس هذا محل ذكر أو تفصيل ما جرى من الخلاف بين الفقهاء.
قال: (وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِلَا إِذَنِ رَاهِنٍ مَعَ إِمْكَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَنْفَقَهُ، وَنَفَقَةِ مِثْلَهِ إِنْ نَوَاهُ) .
هذه مسألة الرهن إذا احتاج إلى نفقة، كما لو قلنا: العبد يحتاج إلى أن يأكل لئلا يهلك، فأنفق عليه، فيبين المؤلف -رحمه الله تعالى- أن الأصل أن يستأذن من الراهن، فعبدك يحتاج إلى نفقة، فإذا أرسل له نفقة أو طعامًا أو نحو ذلك، فالحمد لله، وإذ لم يرسل له، أو لم يمكن استئذان الراهن لكون الراهن بعيدا.
قال في الحالة الأولى: إذا لم يستأذن الراهن مع إمكانه، فكأنك تبرعت فلا حق لك في شيء البتة، ولذلك قال: (وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِلَا إِذَنِ رَاهِنٍ مَعَ إِمْكَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ)
هو قد أنفق عليه خمسة أيام، ثم بعد خمسة أيام أرسل ورقة كتب فيها: أعطنا النفقة الفلانية لأننا أنفقنا على عبدك. قال: من أمرك بذلك؟ إن بيتي بجوار بيتك، فلم لم تطلب مني النفقة، لِمَ تصرفت من عندك؟ هل طرقت بابي فلم تجدني؟ هل أرسلت إلى رسولًا فلم أجب؟
فيقول المؤلف -رحمه الله-: ما دام أنه يمكن ولم، فلا رجوع؛ وكأنه تبرع وتصرف من عنده فلا حق لأحد فيه.
قال: (وَإِلَّا رَجَعَ بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَنْفَقَهُ)، فإذا كان قد أنفق عليه لعدم إمكان الاستئذان من الراهن، بحثوا عنه، طلبوه، سأل أقرب الناس إليه فقالوا: لا ندري، فأنفق عليه. فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هنا له الرجوع، ولكن بم يرجع؟
قالوا: (بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَنْفَقَهُ، وَنَفَقَةِ مِثْلَهِ إِنْ نَوَاهُ)، يعني: أول شيء لا بد أيها المرتهن أن تكون قد نويت الرجوع إلى الراهن إذا وجدته، هذا أولا.
والثاني: أن الرجوع يكون بالأقل، فإذا كنت أنفقت عليه صاعًا من الشعير في كل يوم، ومثله ينفق عليه صاعين، سنعطيك قدر نفقتك، والعكس بالعكس، لو أنه كان ينفق عليه العادة أنه يحتج إلى صاع من الشعير في كل يوم، فكنت في كل يوم تعطيه صاعين، فنقول: ليس في نفقة مثله، فنعطيك للخمسة أيام خمسة أصواع؛ لأنك أنفقت بنية الرجوع، ولم يكن يمكن الاستئذان من الراهن، ويخشى على الدابة من فواتها وتلفها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمُعَارٌ وَمُؤَجَّرٌ وَمُودَعٌ كَرَهْنٍ) }.
يعني كله فيما تقدم من الإنفاق عليه، أنه لا يُنفق عليه إلا بإذن، أنه إذا لم يمكن الإذن وخيف عليه فأنفق عليه بنية الرجوع رجع، وأن الرجوع إنما يكون في الأقل من نفقته أو نفقة مثله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَوْ خَرِبَ فَعَمَرَهُ رَجَعَ بِآلَتِهِ فَقَطْ) }.
يعني: خربت الدار، فبناها وصلحها وأحسن إليها غاية الإحسان، فيقولون: إنك لا لا ترجع؟ لماذا؟ قالوا: لأن الدار لا حرمة لها، فلو أنك تركتها لا يضرها ذلك، ولكن الدواب والبهائم إذا ترُكت ماتت، وهي نفس محترمة يجب صيانتها، ويلزم حفظها، وبناء على ذلك: يَرجع حيث نوى الرجوع، ولم يمكنه الاستئذان، ولكن خراب الدار -الدار إنما هي جماد- وبناء على ذلك فتصرفك هذا لا ينفعك ولا يضرك، والذي فعلته من جهد وعمل كله يذهب عليك. ولكن الآلة كأن تكون وضعت بابًا فلك أن تأخذ الباب. وضعت نافذة تأخذ النافذة، وضعت طوبًا تأخذ الطوب، ولكن ما أنفقته من جهد ونحوه فلا.
طيب يقول ما هو الباقي؟ فيما مضى أحيانا ما يكون منه إلا الجهد، يعني لما خربت الدار وتهدمت؛ أرجع جدرانها وسمتها وأعادها قي مكانها وصلحت. أو أضاف إليها شيئا يسندها مثلا. فبناء على ذلك كان أكثر ما فيها جهده، فيذهب جهده؛ لأن هذه الدار ليست مثل البهائم التي تحترم في نفسها، ويحافظ عليها في بقائها، ولا يجوز تركها حتى تتلف.
{أحسن الله إليكم..
قال -رحمه الله-: (أَحْكَامُ الضَّمَانِ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مَا وَجَبَ أَوْ سَيَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا الأَمَانَاتِ، بَلِ التَّعَدِّي فِيهَا)
}.
إذا هذا الفصل هو في النوع الثاني من أنواع التوثيق وهو الضمان.
التوثيق هو الرهن؛ لأنَّ الرهن عين يُعتمد عليها متى ما تعذر الاستيفاء من صاحب الحق قمنا ببيع هذه العين فهي محفوظة أو متعلقة أو مربوطة بحق هذا المستحق، وهو بدين هذا الدائن، فلا إشكال في أنه سيضمن حقه.
لكن الضمان هي باب من أبواب التوفية والتوثيق، ولكن ليس مثل الأول، ولكنه قريب منه، وذلك أنَّ يضمن شخص ما على آخر فتكون بدل الذمة ذمتين، فأنت إذا كان عندك ذمتان يمكنك أن تطالب أيهما شئت، فهذا أقرب في حصول حقك، والضمان بوصول المال إليك، ولذلك قالوا: هو التزام من يصح تبرعه برضاه ما وجب على غيره. لم يجب عليه، ولكنه واجب عليك، وأنا قلت أسدد عنه.
إذًا هو التزام لهذا، وبناء على ذلك قال: إن الضمان مأخوذ من الضم؛ لأن في تضم ذمة الضمين إلى ذمة المدين في توفية ما عليه من الحق، وقيل من التضمين لأن ذمة الضامن والمضمون عنه كلاهما قد تعلقت بهذا الحق، ووجب عليهما الوفاء، وهذا جاء في كتاب الله -جل وعلا-: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف:72]، وفي السنة لَمَّا قال أبو قتادة: «صَلِّ عليه يا رَسولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ»[2] فقبل النبي ضمان سداد ذلك الدين ونحوه، فعلى كل حال هو جاء في غير ما حديث «الضامن غارم» ونحوها.
الضمان كما قلنا: هو تبرع من الشخص وإحسان، وبابه باب الإحسان.
والرهن عين مالك تجعله رهنا أو تأخذه من شخص، تأخذ شيئا وترهنه عندك، يقول: ارهن هذه الساعة وهي لصاحبك، فيأذن لك بالرهن.
الضمان هو التبرع أيضًا، فإذا تبرع شخص برهن فهو محسن إلى الراهن.
وإذا تبرع شخص بالضمان فهو متبرع بالالتزام، فهو محسن في هذا.
يقول أهل العلم: هل يجوز أخذ الأجرة على الضمان أم لا؟ يقولون -هذا هو مشهور المذهب، وحكي في ذلك إجماعا- أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان. لماذا؟
أول شيء لأن بابه باب التبرع، ولأنك إذا أخذت أجرة عليه، فإذا كان عليه عشرة آلاف وأخذت عليه ألفا، ثم سددت عنه عشرة آلاف، ثم أخذت من المضمون عنه عشرة آلاف، فكأنك أخذت أحد عشر ألفًا، أي: الألف الأجرة والمبلغ الذي عليه، فيكون بابه باب الربا. وهذه مسألة مهمة. وهي مسألة أخذ الأجرة على الضمان، وكثير من المعاملات المصرفية المتجددة الآن مبناها على هذا، فلأجل ذلك يَنحى بعض المتأخرين إلى التكلف في إجازة أخذ الأجرة على الضمان؛ لأنَّ عمل كثير من البنوك على ذلك، فيجدون هذا أسهل طريق في تكييفها، ويسمونه التكييف الشرعي، أو الإذن فيها. وهو كما قلنا عند الحنابلة كما هو قول أكثر أهل العلم، بل حُكي فيه الإجماع، أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان لهذا المعنى؛ لأنَّ الضمان حقيقته أنه تبرع وإحسان، وبالتالي لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
قوله: (وَيَصِحُّ ضَمَانُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ) أي لا بد أن يكون جائز التصرف، فلا يصح تصرف سفيه، فلا يجوز أن يأتي سفيه فيضمن؛ لأنَّ هذا يترتب عليه أنه سيدفع مال، والسفيه أصلا لا يستطيع أن يتصرف في ماله فضلا على أن يتصرف بضمان مال غيره، هذه من جهة.
ولكن من كان وليًا على الأيتام -هو جائز للتصرف- فهل يجوز له أن يضمن بمال الأيتام أو فيما ولي من القُصَّر أو نحوه؟!
فقوله هنا: (جَائِزِ التَّصَرُّفِ) قد تكون عبارة قاصرة، ولذلك كان تعبير الكثير منهم -كما هو مضمون التعريف-: التزامُ مَن يَصِحُّ تبرعه، ففيها تبرع ضمني؛ لأن الضمان أوله التزام وآخره بذل. والبذل لا يكون عن الغير، فالولي قد يبذل لليتيم، قد يتصرف له لأجل المصلحة له. ولكن أن تبذل عن غيرك فهذا تبرع، والولي على القُصَّرَ والأيتام، والمجانين، ومن في حكمهم، لا يكون فيه تبرع. فما دام أنك تدفعه عن الغير فهو تبرع.
إذًا الأقرب أو الأصح أن يقال: "هو التزام من يصح تبرعه"، ومن يصح تبرعه متضمن لمن يجوز تصرفه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان جائز التبرع إلا أن يكون جائز التصرف.
قال: (وَيَصِحُّ ضَمَانُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مَا وَجَبَ أَوْ سَيَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ)
ما معنى ما وجب؟
إذا قال: كم عليك الآن؟ قال: عشرون ألفًا. قال: أنا ضامن لك فيها، فهذا صحيح. أو ذهب إلى شخص وقال: أي شيء يأخذه منك عبد الرحمن فأنا كفيل به أو ضامن له. فيقولون: إنَّ ذلك صحيح.
قوله: (لَا الأَمَانَاتِ) أي: لا يجوز ضمان الأمانة، فلا تقل: الأمانة التي عند فلان أنا ضامن بها. لماذا؟
لأنَّ الأمانة من حيث هي لا تضمن، فإذا لم تجد أصالة على المؤتمن، فمن باب أولى ألا يُحتاج فيها إلى ضمين. وبناء على ذلك نقول: إن الأمانات مما لا يدخلها الضمان أصالة، فلأجل ذلك لم يُحتج فيها إلى الضمان تبعا.
ولكن يقولون هنا: إذا كان المراد في هذا هو ضمان التعدي أو التفريط، فهذا قد يصح، ولكنه ليس ضمان للأمانة، بل ضمان على ما سيجب على الإنسان، فلو قيل مثلا: إذا فَرَّطَ فلان أو تعدى فما عليه ذلك، فهذا ضمان ما سيجب عليه.
إذًا الأمانات من حيث هي لا تضمن، ولكن إذا تعدى فيها وجب عليه شيء، فأنت ضمنت ما سيجب على فلان، وبناء على ذلك يكون صحيحًا، ولكن الأمانات من حيث هي لا تضمن، ولهذا قال: (بَلِ التَّعَدِّي فِيهَا) .
{قال- رحمه الله-: (وَلَا جِزْيَةٍ. وَشُرِطَ رِضَا ضَامِنٍ فَقَطْ، وَلِرَبِّ حَقٍّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا) }.
قوله: (وَلَا جِزْيَةٍ) أيضًا الجزية لا تُضمن؛ لأن الجزية لو ضُمنت لأفضى إلى أن الضامن يأتي ويدفع عنهم، وشرط الجزية أن تدفع بإذلال، ﴿حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29]، ففيها صغار وإذلال لهم حتى يكمل فيها اعتبار كونها جزية. فيقولون: كون الضمان فيها يُخرج ما فيها من الصغار؛ فلأجل ذلك لم يجز فيها الضمان، وهي متعلقة بالإنسان في نفسه، أو بالذمي في شخصه، فلم يَجُز أن يتحملها عنه غيره؛ لأنه لا بد أن يقوم بها، وأن يؤديها على ذلك الوجه، ولأجل ذلك لم يدخلها ضمان.
قال: (وَشُرِطَ رِضَا ضَامِنٍ فَقَطْ)، أي: لا يُشترط رضا المضمون عنه، فبمجرد أن أقول: أنا ضامن لفلان، وما دام أني تصديت لهذا، ووافقت على ذلك وَقَبلتُ؛ تَعَلَّقَ به الحق، فلو أنَّ شخصًا جاء إلى آخر وقال: تعطيني عشرة آلاف؟ قال: لا أضمنك. وأحتاج إلى من يضمنك، فقال من يسمع الحوار: أنا أضمن فلانًا، أنا أعرفه وأضمنه.
فقال الرجل الأول: لا أريده أن يضمنني! فقالوا: لا يشترط رضاه، فما دام أنت قد تصديت له، وتعهدت بذلك فيجوز.
إذا يقول المؤلف: (وَشُرِطَ رِضَا ضَامِنٍ) ؛ لأنه هو الذي عليه الحق، وغاية ما فيها أنها ضمان للمضمون له، أن يصل إليه الحق، سواء وصله ممن عليه الدين أو من الضامن، ولأجل ذلك قال: (وَلِرَبِّ حَقٍّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا) أي أنَّ الذمتين صارتا شيئًا واحدًا، فلو أنه ذهب إلى الضمين قبل أن يذهب إلى صاحب الحق فله ذلك. فمتعلق الأمر أن ذمتهما صارت مشمولة بهذا الدين.
فالمضمون له إذا توجه إلى أحدهما جاز، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف، وهو قول جمهور الفقهاء.
لكن ابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول: إنه لا يصار إلى الضامن إلا إذا تعذر المضمون عنه؛ لأنه هو ضامن عند التعذر، أو ضامن عند عدم الوفاء، أو ضامن عند عدم حصول الأداء.
ولكن على كل حال جرت عادة الناس حتى مع القول بأنهما كالذمة الواحدة، إلى أن المروءات وما اعتادوه وتعودوا عليه، ألا يصير إلى الضامن إلا حال التعذر، ألا يصير إلى الضامن إلا إذا زادت المماطلة من المدين، وبناء على ذلك يطلبونه.
وقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- هنا: وإن كان جيدًا ليس ببعيد، لكن من حيث الأصل أنَّ الضمان يُفضي إلى انشغال ذمتهما جميعا، فإذا طالب الضامن؛ جاز له ذلك، وإن كان هذا ليس هو الذي يُطلب أولاً، أو يُرغَبُ فيه ابتداء.
{شكر الله لك فضيلة الشيخ}.
نقف عند هذا، جزاكم الله عنا خيرًا أيها الطلاب، وجعل هذه الجادة (جادة المتعلم) جادة قائمة، يتوافد عليها الطلاب ويتزاحمون، وجزى الله كل من سعى فيها وأنفق عليها، وشارك في إعدادها، وأمضى وأفنى وقته لإيصال العلم إلى الطلاب، ونفعهم بما يستمعون إليه من هذه المجالس المباركة.
أسأل الله أن يبارك لنا ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وشكر الله حسن استماعكم أيها المشاهدون، ونراكم -بإذن الله- في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------
[1] رواه البخاري (2512) .
[2] رواه البخاري (2289) .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك