الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الرابع

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام. أمَّا بعد، فأهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ عبد الحكيم محمد العجلان. أهلا وسهلاً بكم صاحب الفضيلة}.
أهلاً وسهلاً، حياكم الله.
{أحسن الله إليكم. أستأذنك باستكمال ما توقفنا عنده}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ حَاضَتْ مُتَمَتِّعَةٌ فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ أَحْرَمَتْ بِهِ وَصَارَتْ قَارِنَةً) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، وأوليائه الصالحين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا نسوا تذكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين جميعًا. آمين.
لا يزال الحديث موصولاً في أول الكلام على (كتاب الحج) ، وذكرنا في المجلس الماضي ما يتعلق بالأنساك وتوضيحها، وما يتعلق بما يسن بمريد الحج والعمرة والدخول في الإحرام، وبين يدي هذا الحديث، وأحب الإشارة إلى أنه تقدم فيما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لَمَّا قال: (وَتَطَيُّبٌ فِي بَدَنٍ، وَكُرِهَ فِي ثَوْبٍ) ، ذكرنا مسألة مُتعلقة بهذا المعنى وهي صحيحة، ولكن ربما كان سياق المؤلف -رحمه الله- في قوله: (وَكُرِهَ فِي ثَوْبٍ) أن المقصود بذلك كراهية وجود الطيب في الثوب، وذلك لئلا يُعوزه إذا خلعه، لأنه لا يجوز له أن يلبسه حتى يغسل ما أصابه من طيب، وإلا تعلقت به فدية من فدية الإحرام، أو فعل محظور من محظورات الإحرام. فيتنبه إلى ما أراده المؤلف هنا، وما استُرسِلَ في الحديث عنه وهو صحيح، ولكن ربما لا يكون مرادًا للمؤلف فيما ذكر.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ حَاضَتْ مُتَمَتِّعَةٌ) قد تعرض هذه العادة -التي كتبها الله جل وعلا على بنات آدم- للنساء كثيرًا في هذه العبادة، وأراد الله -جل وعلا- أن يُبين ذلك للعباد، وأن يُسلي بذلك النساء، فإنَّ خير نساء المؤمنين، أزواج النبي ، لَمَّا كنَّ معه، حاضت عائشة في أول إحرامها، وحاضت صفية نهاية حجها، وكل ذلك مما كان فيه تسلية للنساء إذا أصابها شيء من ذلك، حتى إن عائشة -رضي الله عنها- بكت، فقال لها النبي : «إنَّ هذا شيءٌ كتبَهُ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- على بَناتِ آدمَ، فاقضي ما يقضي المُحرمُ، غيرَ أن لا تَطوفي بالبَيتِ» ، وصفية لَمَّا حاضت قال: «أحَابِسَتُنَا هي؟» قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَاضَتْ يَومَ النَّحْرِ، يعني: طافت طواف الإفاضة، فقالَ: «اخْرُجُوا»، فَدَلَّ ذلك على تخفيف طواف الوداع عن المرأة الحائض.
وعلى كل حال، من تمتعت ثم حاضت، فلا يخلو إمَّا أن تكون متعتها جاءت متقدمة كثيرة، فتطهر من حيضها، وتطوف وتحل، وتكمل عمرتها على ما هي عليه، ثم تشرع في حجها كذلك، ولا يتغير عليها شيء.
ولكن كما هو الحال في كثير ممن يحجون من الداخل، أو يأتون في آخر الوقت من الخارج، فالذين يأتون من الخارج، قد يأتي بعضهم في يوم خمسة، فلو أنها حاضت مثلا لَمَّا وصلت، خاصة مع تغير الأحوال، وما يلحق الإنسان من التعب، فالنساء قد تتغير أحوالهن، فربما تعجلت عادتها، فالمهم أنه إذا نزلت عادتها، فبناء على ذلك، وهي تبقى خمسة أيام أو ستة، فإنه يأت يوم عرفة ولم تطهر، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا بطواف، ولا يتأتى الطواف لها إلا بطهر، ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]، وبناء على ذلك يقولون: إنها إذا لم يتأت لها، ولم يمكنها فعل عمرتها قبل يوم عرفة؛ فإنها تدخل الحج عليها، فتكون قارنة، وهذا هو حكم من كان هذه حالها، وحكم من شابهها، أي أنَّ هذا الحكم ليس مختصًا بالحائض فقط، ولكنه هو أقرب وأكثر مثال يمكن أن يكون.
ويمكن أن يحرم الإنسان متمتعًا على أنه سيصل في اليوم السابع، فيحصل لدابته عطل، فلا يصل إلى مكة إلا في اليوم التاسع، ويخشى إن ذهب إلى مكة أن يلحقه زحامٌ، أو يمنع فلا يصل إلى عرفة إلا وقد انتهى يوم عرفة وليلته.
ومثل ذلك لو حُصِرَ بعدو، حتى إذا خُلِّيَ بينه وبين المسير لم يبق إلا وقت يسير جدًا، فكل هذه أحوال مثل حال الحائض، ولذا نقول: ينتقل المتمتع إلى كونه قارنًا، ويقلب نيته ويكملها بكونه قارنًا، ويصح بذلك حجه.
واصل ذلك ما جاء في قول النبي لعائشة: «فَافْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ، غيرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُرِي» . ولأجل ذلك قال: (وَإِنْ حَاضَتْ مُتَمَتِّعَةٌ فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ) يعني هي للحالين، إن لم تخش فتنتظر حتى تطهر ثم تطوف، وإذا خشيت أو علمت قطعا أنها لا تطوف لقرب الوقت؛ فإنها تقلب نيتها إلى قارنة.
و «أَحْرَمَتْ بِهِ» يعني: بالحج، فأدخلته على العمرة، فصارت قارنة، وانتقلت من حالٍ إلى حالٍ أخرى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتُسَنُّ التَّلْبِيَةُ، وَتَتَأَكَّدُ إِذَا عَلَا نَشْزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ صَلَّى مَكْتُوبَةً أَوْ أَقَبْلَ لَيْلٌ أَوْ نَهَارٌ، أَوْ الْتَقَتِ الرِّفَاقُ، أَوْ رَكِبَ، أَوْ نَزَلَ أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ رَأَى الْبَيْتَ، أَوْ فَعَلَ مَحْذُورًا نَاسِيًا) }.
قال: (وَتُسَنُّ التَّلْبِيَةُ) التلبية من مسنونات الإحرام ولا شك، وهي من أعظم شعاره، ولذلك قال النبي : «أفضلُ الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ» ، فالعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو ما يحصل من إنهار الدماء، والتقرب إلى الله -جل وعلا- بهذه القرابين، وقد لبَّى النبي ، ولَبَّى أصحابه معه، ورفعوا بذلك أصواتهم.
ولَبَّى هي: لبيك اللهم لبيك، يعني: المبالغة لإظهار الطاعة لله -جل وعلا-، أي: طاعة لك بعد طاعة، أو إقامة على طاعتك، وإدامة وثبات على ذلك.
من لبى، يعني: إذا لزم المكان وثبت فيه، فهو بمثابة ثبوت الطاعة، أو قال بعض أهل العلم: مِن لَبَّى إذا أخذه بتلابيبه، فاستجمع فاستمسك بالشيء، فكذلك استمساك الإنسان بالطاعة ونحوها، ولأهل العلم في ذلك كلام وتفاسير في شروح الأحاديث، ومن أحسن من أفاض في الكلام فيها: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في شرح العمدة في الفقه، فإنه ذكر كلامًا عظيمًا في تفسير التلبية، والكلام على ذلك.
إذًا استحباب التلبية أمر مشروع، وهي من الأمور التي تقل عند الناس، وينصرفون عنها بالحديث فيما بينهم.
وينبغي للحاج أن يُقبل على حجه، والمحرم أن يقبل على إحرامه في عمرته، فيكثر من الطلب، ويقلل من الحديث، ويلهج بذلك ويملأ بها وقته.
وقبل أن نأتي في الأحوال التي تتأكد، هنا مسألة ينص عليها الحنابلة ويستغربها بعضهم، وهو أن التلبية عند الحنابلة مُستحبة في كل حال، ولكنه لا يكررها في حال واحدة، وهذه لا يفطن لها كثير من الناس. يعني: إذا قلت مثلا وأنت جالس في هذا المكان: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والحمد، لا شريك لك" فلا تعيدها مرة ثانية حتى تقوم من هذا المكان، فتلبي في حال قيامك، ثم تلبي مثلا في حال جلوس آخر، أو في انتقال إلى مكان آخر وهكذا، مع أنَّ ظاهر النصوص هنا الإكثار من التلبية، والأمر بها على كل حال، وهذا هو الذي عليه الفتيا عند أهل العلم، ويجري عليه العمل عند عامة الناس.
ثم ذكر المؤلف ما تتأكد فيه، فقال: (وَتَتَأَكَّدُ إِذَا عَلَا نَشْزًا) ، يعني: التبة، أو الجبل الصغير، أو نحوه.
(أَوْ هَبَطَ وَادِيًا) ، وهذا جاء فيه أثر جابر -رضي الله تعالى عنه- أنَّ التلبية كانت تتأكد عندهم في تلك الأحوال.
(أَوْ صَلَّى مَكْتُوبَةً) ، وهذا أيضًا من الأمور التي يقل عند الناس فعلها، فإذا صلى المحرم، فأول شيء يبدأ به بعد صلاته التلبية، ولكن ينبغي هنا أن يعلم أنها تلبية واحدة أيضًا، واستحسن بعضهم أن يعيدها ثلاثًا، ومما يدل على تأكدها: أنَّ التكبير المقيد الذي هو بإجماع أهل العلم مُستحبٌ؛ فإنه بالنسبة للحاج يَتأخر ابتداء وقته إلى حِلِّه من التلبية. لماذا؟
لأنَّ التلبية تحل محله، في أن المصلي إذا انتهى من صلاته حال كونه محرمًا، أنه يبدأ بالتلبية، ولأجل ذلك التكبير الذي هو من سمات أيام التشريق وعشر ذي الحجة، التكبير المقيد الذي يبدأ يوم التاسع بإجماع أهل العلم هو: مستحب، ومع ذلك استثنوا منه هذا، وما استثنوا منه هذا إلا لخصوصية أنَّ الحاج يُلبي عقب الصلاة، وهذا نراه في الحقيقة مهجورًا عند كثير من الناس.
(أَوْ أَقَبْلَ لَيْلٌ أَوْ نَهَارٌ) ، أي: عند تغير الحال، أو (أَوْ الْتَقَتِ الرِّفَاقُ، أَوْ رَكِبَ، أَوْ نَزَلَ، أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ رَأَى الْبَيْتَ) ، وبعضهم ذكر ستة مواضع، وربما زادوا على ذلك، كما ذكر المؤلف.
قال: (أَوْ فَعَلَ مَحْذُورًا نَاسِيًا) فإنه بالتلبية يُظهر إحرامه، وثباته عليه، وطاعته لربه، وتخلصه عن كل ما ينقص إحرامه، أو يحدث فيه شيئا.
وما يتعلق من حال المحرم بالتلبية، والامتناع عن محظورات الإحرام، فهذه حال لها معنى لو كان الناس يشعرون، يعني: تأمل أنك تركت وطنك، وأنفقت مالك، ثم تجردت من ثيابك، ثم انكشفت وتعرضت لربك في حَرٍّ، وفي شدة، وفي أحوال وتنقلات، وفي كل هذه الأحوال مع ما احتف بك من تعب، ونصب، وغبار، وحر ذلك، تعيد: لبيك اللهم لبيك، مقيم على طاعتك، فكأن العبد يعاهد ربه على الاستقامة على الطاعة في كل الأحوال مهما لحق به من الضر، ومهما اشتد به من الأمر، ومهما فارق به من الأهل، ومهما اختلف عليه من الضر، ومهما ضاق عليه من العيش، ومهما ترك من الدعة والشهوة، ومهما خلف من الأعمال والأولاد والثروات والتجارات، فهو مقيم على الطاعة، ومستقيم عليها، وهو كذلك في حال ليله، وهو كذلك في حال نهاره، وهو كذلك إذا علا جبلاً، وهو كذلك إذا هبط واديًا، لا يختلف حال المرء من أنه يعيد هذا، ويديم ويعاهد ربه كذلك فأنَّ للعبد أن يكون بعد حجه مُنتكسًا، أو بعد فراغه من إحرامه مُتفلتًا في أنواع العصيان، والوقوع في الصغائر والكبائر والموبقات. نسأل الله السلامة والعافية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَكُرِهَ إِحْرَامٌ قَبْلَ مِيقَاتٍ وَبِحَجٍّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ) }.
قال: (وَكُرِهَ إِحْرَامٌ قَبْلَ مِيقَاتٍ) المواقيت سيأتي بيانها، والمؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا المتن قَدَّم وأَخَّر، فلو أنه جعل هذه المسألة مع قوله: (وَسُنَّ لِمُرِيدِ إِحْرَامٍ) أي: جعلها بعد ذكر المواقيت لكان أكثر تسلسلاً، وأظهر للمتعلم، ولكن الأمر في هذا يسير.
قال: (وَكُرِهَ إِحْرَامٌ قَبْلَ مِيقَاتٍ) جاءت السنة -كما سيأتي بعد هذه المسألة- بالمواقيت التي وقتها النبي لمريدي الحج والعمرة، فمن وصل إلى ميقات من هذه المواقيت أَهَلَّ.
هل يهل الإنسان قبل ذلك أو لا؟
المؤلف يقول: كره ذلك، وهذا هو مشهور المذهب، وذلك للتالي:
أولاً: لأن النبي وقت هذه المواقيت، ولم يكن الإنسان بأكثر اقتداء ولا اهتداء إذا أَهَلَّ قبلها، فإنَّ الكمال في الاتباع، والاهتداء في لزوم السنة، والتمام في اقتفاء سبيل سلف الأمة -رضوان الله تعالى عليهم- وطريق النبي ، ولذلك لَمَّا جاء عمران بن حصين -رضي الله عنه- فأحرم قبل الميقات، عاتبه عمر، ومثل ذلك عامر بن عبد الله، لَمَّا أحرم قبل الميقات، عاتبه عثمان -رضي الله عنه- فدلَّ هذا على أنَّ الإحرام يكون من المواقيت ويكره قبل ذلك.
لماذا قلنا يُكره ولم نقل يمنع أو يحرم؟
لأنَّ الصحابة صححوا ذلك، ولم يلزموهم بإعادة أو بابتداء إحرام، أو برجوع في الإهلال والتلبية، فدل ذلك على أن الإحرام انعقد، ولكنه خلاف الأولى، وخلاف الأكمل، وقصة الإمام مالك في ذلك مشهورة، لَمَّا ذكر الرجل الذي أراد أن يُهل قبل الميقات، قال: "يعذبني الله على بضعة أميال تهللت قبلها؟" قال: لا، ولكن أعذبك على أنك ظننت أنك على هدي أَتم من هدي رسول الله .
قال: (وَبِحَجٍّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ) ، يعني: من أحرم بالحج، لو أنَّ إنسانًا قال: "لبيك حجًا" في شهر شعبان أو في رمضان أو في رجب، وبقي على إحرامه إلى العاشر من ذي الحجة، والذي هو وقت لإحلال المحرم من إحرامه، وشروعه في أداء المناسك التي يتحلل بها. فهل هذا فعل صحيح أو لا؟
أولا: قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: ذلك مكروه؛ لأنَّ النبي أهلَّ في أشهر الحج، والله -جل وعلا- يقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197]، وبناء على ذلك قالوا: إنَّ هذه هي شروط الحج، والتي ينبغي أن يبتدأ فيها ويشرع الحاج في حجه، فلا يكون قبل ذلك.
لماذا قالوا أيضًا في هذه المسألة بالكراهية، ولم يقولوا بالتحريم؟
من المعلوم قطعًا، والمجمع عليه فقهًا، أنه لا يختلف أحد من أهل العلم، ولا من المسلمين، أن لو أحرم إنسان بالصلاة قبل دخول وقتها ولو بثانية لم تكن صلاته صحيحة إجماعًا، فلماذا صحَّ إحرام الإنسان بالحج قبل أشهره، وقلتم بالكراهية؟
هذه المسألة لها مرد وتجاذب، والفقهاء -رحمهم الله- قالوا: إمَّا أن تقاس هذه المسألة على الصلاة، وابتداء الصلاة قبل وقتها لها، لا يفيد صاحبها، فتكون الصلاة باطلة، وكذلك يكون الإحرام باطلاً.
قالوا: وإما أن نقيسها على ما هو أقرب، وهو الإحرام قبل الميقات المكاني، وقياس الميقات الزماني على الميقات المكاني في عبادة نفسها، أقرب من قياسها على عبادة غيرها، فلأجل ذلك قالوا: كما أنه يصح -كما جاء عن الصحابة- أنه لو أحرم شخص قبل الميقات المكاني لكان ذلك صحيحًا مع الكراهة، فكذلك لو أحرم شخص بالحج قبل زمانه وشهره؛ فإنه يصح مع الكراهة، قياسا على الميقات المكاني، فكلها مواقيت يدخل بعضها في بعض، أو يجمعه حكم واحد، ولذلك جعلوه تحت مسار مضطرب، ومسألة واحدة، وعلى أنه من أهل العلم من قال: لا ينعقد إحرامه قبل ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَيَانُ الْمَوَاقِيتِ وَالْإِحْرَامِ.
وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الحُلَيْفَةُ، وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ، وَالْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَنَجْدٍ قَرْنٌ، وَالْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ)
}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في المواقيت المكانية، والمواقيت المكانية هي التي وقتها النبي في أحاديث الصحيحين، حديث ابن عمر وغيره.
قال -رحمه الله-: (وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الحُلَيْفَةُ) ، وذو الحليفة بعد المدينة بستة أو سبعة أميال، والآن هو داخلها، وذلك بعد أن اتسعت المدينة وكبرت، وعمرت بالبنيان، وهو أبعد هذه المواقيت عن مكة، يبعد مسافة عشر مراحل، والمرحلة ما يقطع في يوم، وهو الآن مكان معروف، ويفد إليه الحجيج، وهو من أكثر المواقيت التي يصدر منها الحجاج ويحرمون منها؛ وحتى كثير من أهل الديار الأخرى، والذين يأتون من غير جهة ذي الحليفة؛ فإنهم يصلون إلى المدينة أولاً، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى مكة، فيكون ابتداء إحرامهم من إحرام أهل المدينة، فيكون من ذي الحليفة.
قال: (وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ) ، والجحفة يميل إلى البحر قليلاً، وينزل عن ذي الحليفة قليلا، ويقولون: إنَّ تعيين النبي الجحفة هو علم من أعلام نبوته؛ لأنه حدده قبل أن تسلم هذه الجهات كلها، فكان ذلك علامة على نبوته، وهذه جهات عمرت بالإيمان، وصارت موطنًا للعلم والفقه والشريعة، وذكر فيها من العلماء، وذاع صيتها عبر قرون طويلة، وكانت محلا ومأرزًا للإيمان، والعلم، والفقه وأهله، فجمع الله أهل الإسلام، وأظهر فيهم العلم والفقه والإيمان، وأتمَّ الله علينا وعليكم النعمة والرحمة.
إذًا يحرمون من الجحفة، والناس كانوا يحرمون قبلها من غابر؛ لأنها كانت عامرة، بينما الجحفة كانت خربة. والآن بعد إحياء مكانها بُني ميقاتها، وصار محلاً للمواقيت.
كم تبعد من ملكة؟
ذكر بعضهم أنها تبعد ثلاث مراحل، ولكن الظاهر أنها أكثر، ولذلك حددها بعضهم بست مراحل، وهي أقرب؛ لأننا إذا قلنا: المرحلة تقريبًا أربعين كيلو، وهي قريبة من مئة وتسعين، أو مئة وثمانين، فهي أقرب إلى ذلك من هذا، ولكن الحقيقة ربما تختلف بإنعراجات الطريق، واختلاف المسير. ولكن لا أظن أنها تكون ثلاث مراحل بوجه قريب، وهي تحتاج إلى زيادة بحث. ولكن نص عليه بعض الفقهاء أنها ثلاث مراحل، وأكثرهم على أنها ست مراحل، وهذا ظاهر ومتسق وواضح.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالْيَمَنِ يَلَمْلَمَ) بقية المواقيت على بعد مرحلتين من مكة، (وَالْيَمَنِ يَلَمْلَمَ) وهو في جنوب مكة، وكل من أتى من الساحل، أو أتى من الجبال وتهامة ونحوها؛ فإنَّه يمر على هذا الميقات، وهو الآن في مكان يقال له: السعدية، وهو الذي عليه الطريق، ويمر منه الناس ويحرمون.
(وَنَجْدٍ قَرْنٌ) يسمى قرن المنازل، ويسمى قرن الثعالب، وهو السيل الكبير، وهو عامر، ويحرم منه الناس كثيرًا، فمن يأتي من شرق المملكة، كلهم في الغالب يحرمون من هذا المكان.
(وَالْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ) وذات عرق قريب من قرن المنازل، ووقتها النبي في حديث عائشة، وقال بعض أهل العلم: إن عمر هو الذي وقته لأهل العراق، ولكن حديث عائشة عند أهل السنن، وصححه من صححه من أهل العلم، فقالوا: إنَّ هذا مما وافق فيه عمر ما جاء به الشرع، وهو معروف موافقاته.
وذكر ابن عبد البر وغيره، إجماع أهل العلم على أنه ميقات معتبر.
هل ثَمَّ مواقيتٌ غيرها؟
هناك وادي محرم، الذي يحرم منه أهل الطائف، إذا نزلوا من جهة الجبل إلى جهة عرفات، ثم دخلوا مكة، أليس كذلك؟ هل هذا ميقات أو ليس بميقات؟
أقرب ما يقال فيه: إنه امتداد قرن المنازل، فهو شيء واحد، ولا يعتبر من محاذاة المواقيت، وإنما هو امتداد لميقات قرن المنازل، فيتفرع الناس الذين يأتون إلى قرن المنازل من طريقين، إما من طريق الجبل، أو من طريق السيل الكبير، ويدخلون مكة من جهة الشرائع ونحوها.
إذًا هذه هي المواقيت. ولو جئنا إلى هذه المواقيت، وحال الناس اليوم، أن أكثر مجيئهم إلى الحج والعمرة بهذه الوسائل الجديدة، وهي: الطائرة التي تسبح في الهواء، وهذا أكثر أحوال الحجاج والمعتمرين. أليس كذلك؟ فمن أين يحرمون؟
النبي قال: «فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ» ، وبناءً على ذلك فالقاعدة المتقررة عند أهل العلم أنَّ الهواء يتبع القرار، ولذلك من مر في هواء عرفة كمن وقف بها، وبناء على ذلك نقول: من مر على المواقيت من السماء كما لو أحرم من الأرض.
ولكن قد يقول قائل: ربما لا يمر؛ لأنَّ مسارات الطائرات مسارات محددة، وقد تختلف من طائرة إلى طائرة، ومن جهة إلى جهة، ومن شركة إلى شركة، ولهم في ذلك أشياء، وربما لا نتقنها تماما. فنقول كما قال عمر: انظروا إلى حذوها من طريقكم، ولذا قال أهل العلم: إنَّ المحاذاة معتبرة، ولكن كيف تعتبر المحاذاة؟
هذه مسألة مهمة للغاية، والمحاذاة تعتبر بالمساواة لأقرب المواقيت، يعني: إذا جئت إلى أقرب ميقات ستمر منه الطائرة، وليكن هو ميقات ذي الحليفة، فنخط خطًا مستويًا وننظر.
وإذا كانت تمر بين ميقاتين، فننظر إلى أقربهما منها، فنخط الخط المستقيم، ولا نأتي بخط متوسط بينهما، فإنَّ هذا يحمل على تجاوز الميقات، والدخول في تعدي الميقات الذي هو تعدي الواجب ووجوب الفدية.
فيتنبه لهذا خاصة أنه يوجد في مواقع الإنترنت تحديد للمواقيت، وموضوع خطوط بين ذي الحليفة وذات عرق، وبين ذات عرق وقرن المنازل، وكأنَّ هذه هي المحاذاة، وهذا خطأ بالغ، بل لا بد أن تعلم أنه لو كان ذو الحليفة هنا، وذات عرق هنا، والطائرة آتية من هنا، فلا نقول: يحرم من هنا، بل يحرم من ذي الحليفة إذا كانت أقرب له، أو يحرم من ذات عرق، إذا كان أقرب له، ولا نقول: يحرم بينهما؛ لأنَّ هذا من الخلل الواضح، ولم يقل به أحد.
المسألة الثانية: الطائرات تمر بسرعة بالغة جدًا، ولأجل ذلك ينبغي لمن أراد الحج أو العمرة أن يتقدم قليلاً، وتقدمه هنا للحاجة، ومن المعلوم كما سبق أن قلنا: الإحرام قبل الميقات مكروه، ولكن إذا وجدت الحاجة ارتفعت الكراهة؛ لأن الأمر دائر بين أمرين، بين أن يُحرم قبل الميقات ويؤدي الواجب بتحقق ويقين واحتياط، وبين أن يحصل عنده تجاوز الميقات، وتفويت لواجب من واجبات الحج والعمرة، ولذا كان فعل الأحوط، مع وجود الحاجة، ترفع الكراهة، ويكون أتم وأحسن، فإذا انضم إلى ذلك أنَّ بعض الجهات قد لا يكون عندها من الاهتمام في الدقة في المرور بالميقات، أو أنه يحصل هذا وكثير من الناس إما مشغول، أو لم يسمع، أو لحقه نعاس أو نحوه، فيكون فيه شيء من الإشكال بأوجه كثيرة، ولذلك التقدم قليلاً هو المسير الأوحد والأمثل للتيقن وعدم تجاوز الميقات، وعدم الإخلال بهذا الواجب.
هل يوجد شخص يمكن أن لا يمر من واحد من هذه المواقيت؟
ذكر هذا بعض أهل العلم، وهم الذين يأتون من جهة سواكن من البحر، هؤلاء لا يصلون إلى جدة، ولم يمروا بميقات، فقالوا: ما دام إنهم لم يبلغوا بميقات، ولم يحاذوا ميقاتًا، فلهم أن يحرموا من جدة على بُعد مرحلتين.
هل جدة تعد ميقاتًا؟
نقول: لا يمكن أن تعد جدة ميقاتًا، وإن قال هذا بعض المتأخرين الذين لا يلتفت إلى كلامهم؛ لأن كل الجهات باستثناء ما ذكرناه، أن الآتين من تلك الجهات إمَّا أن يمروا بهذه المواقيت التي حددها النبي أو بحذوها، فلا وجه حتى ولو كانت على بعد مرحلتين، وحتى لو خطوا هذه الخطوط التي ذكرناها، وجعلوها خارج هذه الخطوط، فإنه لا يتصور أنَّ أحدًا سينزل بجدة إلا وقد مر بميقات، وأمَّا النبي فقد أَمَرَ من مَرَّ بميقات أو حاذاه أن يحرم منه ولا يتأخر، فكان في ذلك تأخيرًا، ولم يكن هذا ميقاتًا، وهذا ظاهر ومقطوع به لا محالة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ لِحَجٍّ مِنْهَا، وَلِعُمْرَةٍ مِنَ الْحِلِّ) }.
هذه المواقيت إذًا لكل من يأتي من الآفاق، ومن كان دون هذه المواقيت فيحرم من مكانه، مثل من كان من بحرة، أو أم السلم من جهة جدة، أو من في جهة الشرائع من جهة الحل، ونحو ذلك، فهذه الأماكن يحرمون من مكانهم بالعمرة.
لكن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ لِحَجٍّ مِنْهَا) ، وأمَّا بالنسبة للإحرام بالحج، فأهل مكة يحرمون من مكة، وكذلك من جاء من الحجيج الذين اعتمروا وكانوا متمتعين، وبقوا في مكة، فإذا جاء وقت الحج، فيحرمون من مكة، فحكمهم حكم أهل مكة سواء بسواء، وهذا لا اختلاف فيه بين أهل العلم.
ولكن من أراد العمرة وهو بمكة، سواء من أهل مكة أو ممن وفد عليها، فلا بد أن يخرج إلى الحل، لماذا يخرج إلى الحل؟
لأنَّ النبي أَمَرَ عائشة أن تخرج لَمَّا أرادت أن تأتي بعمرة، أمرها أن تخرج إلى التنعيم، والتنعيم من الحل، فَدَلَّ هذا على أنه يحرم بالحل. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية يقولون: إنَّ الإحرام لا بد أن يجتمع فيه الحل والحرم، أي أن المحرم يأتي من الحل فيدخل به الحرم. والحج هم سيخرجون لا محالة، يعني من مناسك الحج يخرج إلى عرفة، وعرفة خارج الحرم، وهم أيضًا سيدخلون إلى مكة للطواف ونحوه من الحل؛ ولأجل ذلك قال أهل العلم: الإحرام للعمرة بالإجماع لمن كان بمكة -مكة القديمة، التي هي داخل الحرم- لا بد أن يكون من الحل، يخرج إلى الحل، خلافًا لبعض المتأخرين الذي لم يفهم العلة، ولم يقف على هذا الإجماع، والإجماع قاطع للنزاع، وقد حكاه الطبري وغيره. فلا إشكال في ذلك، ولكن إذا كان بحج فإنهم يحرمون منها.
طبعا هنا يقولون: "ويحرمون بمكة" ومكة كانت صغيرة، أصغر من الحرم، فإذا ذكروا ذلك يقصدون الذي في الحرم. وأما الآن مكة كبيرة، أكبر من الحرم، وبناء على ذلك متعلق الحكم أنهم الذين في الحرم، الحرم هم الذين يحرمون بالعمرة يخرجون. وأمَّا من كان بمكة في الحلِّ فإذا أراد أن يحرم فليحرم من بيته ويدخل، فيحرم من مكانه ويدخل، فإذًا محل الكلام هم من بمكة القديمة التي هي داخل الحرم، فإذا كانوا يحرمون بالحج فسيحرمون منها، وإذا كانوا يحرمون بالعمرة فسيحتاجون إلى الخروج، سواء كانوا يخرجون إلى مسجد عائشة الذي هو التنعيم، وهو الأشهر، والأيسر، والأعرف للحديث، أو يخرج إلى جهة عرفات، أو إلى جهة الجعرانة، أو ما سوى ذلك من الجهات الأخرى من الحل، لمن يعرفها ويتيقن الوصول إليها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) }.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر المواقيت المكانية، ثم الآن يذكر المواقيت الزمانية، وهي قول الله -جل وعلا- مثل ما قلنا قبل قليل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197].
أمَّا (شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ) فهذه لا يختلف فيها أهل العلم، بينما الثالث هل هو إلى تمام شهر ذي الحجة؟ أو هو إلى عشر ذي الحجة؟ أو هو إلى تسع ذي الحجة؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أنه إلى عشر ذي الحجة، ومن يقول إلى تسع ذي الحجة، فيقول: إن هذا وقت لابتداء الحج، ويوم العاشر الذي هو يوم النحر، لا يمكن للإنسان فيه أن يبتدئ الحج باعتبار أن يوم عرفة قد انتهى، وهذا له وجه من جهة المعنى، ولكن قال الحنابلة: لو قلنا: إنَّ اليوم العاشر من ذي الحجة هو من أيام الحج؛ لأنَّ فيه أعظم أعمال الحج، وهو يوم الحج الأكبر، وإن لم يكن ابتداء الحج فيه إلا أنَّه فيه تمام الحج وكماله، وهذا ما جاء عن الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما، فكان ذلك هو القول، وهو أنَّ عشر ذي الحجة هي تمام هذه الأشهر، فيكون شهران وشيئًا.
وإطلاق الأشهر هنا كما هو معلوم، قد يطلق الشيء ويراد بعضه، فقد يطلق الشهر، ولا يراد الشهر بتمامه، كما هو في عشر ذي الحجة.
ولكن بعض أهل العلم قال: إنها تشمل شهر ذي الحجة كاملاً، ولا يترتب كثير خلاف على هذا، إلا أنَّ بعضهم قال: لا يُؤخر طواف الإفاضة عن أشهر ذي الحجة، كقول الحنفية، والذين يمنعون أن يؤخر إلى محرم، ويؤجل إلى ذاك، وهذا مما يترتب عليه، وإلا فلا يترتب كثير خلاف بين الفقهاء في هذا.
{قال -رحمه الله-: (مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ تِسْعَةٌ:
إِزَالَةُ شَعْرٍ، وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ، وَتَغْطِيَةُ رَأْسِ ذَكَرٍ، وَلَبْسُهُ الْمَخِيطِ إِلا سَرَاوِيلَ لِعَدَم إِزَارٍ، وَخُفَّيْنِ لِعَدَم نَعْلَيْنِ)
}.
قال: (مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ) المحظورات جمع محظور، وهو الممنوع، فالمحرم سمي محرما؛ لأنَّه يحرم عليه بإحرامه أشياء كانت حلا له، كما تسمى تكبيرة الإحرام إحراما؛ لأنه يحرم على المصلي بها ما كان يحل له خارجها من الكلام وغير ذلك.
ما هي محظورات الإحرام؟
هذا جمع من الفقهاء لِمَا جاء عن النبي ، ودلت عليه السنة، أنَّ المحرم يمنع من ذلك، ولا يجوز له تعاطي هذه الأمور.
قال: (إِزَالَةُ شَعْرٍ) وإزالة الشعر من أي جزء من أجزاء البدن، سواء كان ذلك من رأس الإنسان، أو كان ذلك من يديه، أو كان ذلك من سائر بدنه، فلا يجوز للإنسان أن يُزيل الشعر، وذلك أنَّ المحرم حال إحرامه مطلوب ترك الترفه، والشعث لله -جل وعلا-، والإقبال على العبادة، والبعد عن مُتع الدنيا وشهواتها، ولذلك مُنع من إزالة شعره، وهو محل إجماع، أنه محظور من محظورات الإحرام، وذلك لِمَا جاء عن كعب بن عجرة، وكان قد اشتد عليه القمل، وأراد أن يحلق رأسه حتى يذهب عنه ما وجده، فأمره النبي بحلق رأسه، فقال: «صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِن طَعَامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ» ؛ فدلَّ هذا على أن حلق الشعر وإزالته من محظورات الإحرام.
قال بعض الفقهاء: إلا شعرة وجدت في غير محلها، يعني كما لو نبتت في عينه، فيقولون: هذا كأنه صائن معتدٍ، وإزالة المعتدي جائز، وبالتالي لا يترتب على ذلك شيء.
لكن هنا يقول المؤلف: (إِزَالَةُ شَعْرٍ) ، فرتب ذلك على الشعر، وهذا يدل على أنَّ المحظور يكون بشعرة أو شعرتين أو ثلاث، ولكن الثلاث هو الذي تتعلق به الفدية التي سيأتي بيانها.
لكن لو أزال شعرة أو شعرتين فهنا عليه أن يتصدق بشيء حفيف كما جاء عن الصحابة، فيكون عليه شيء من شعير، أو بر، أو نحوه، أو يتصدق بشيء فيحصل به المقصود.
(وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ) أيضًا هو مما يمنع منه المحرم حال إحرامه، وهو مقيس على الشعر، وأيضًا مأخوذ مما جاء في حديث أم سلمة، «فلا يَأْخُذَنَّ مِن شَعْرِهِ، ولا مِن أظْفارِهِ شيئًا»، فتقليم الأظفار ممنوع منه المحرم حال إحرامه، إلا ظفر انكسر فأزاله، فلا بأس بذلك.
ومتعلق الحكم أيضًا ثلاثة أظفار، ويجب عليه بالظفر والظفرين أن يتصدق بشيء على ما ذكر قبل قليل في إزالة الشعر.
(وَتَغْطِيَةُ رَأْسِ ذَكَرٍ) هذا محظور من محظورات الإحرام، وذلك ظاهر في أن النبي في حديث ابن عمر: «لا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، ولَا السَّرَاوِيلَاتِ، ولَا العَمَائِمَ، ولَا البَرَانِسَ»، فذكر البرانس، وتغطية الرأس، وما شابهها، وكله يدل على منع المحرم من تغطية رأسه، وكذلك حديث الرجل الذي مات وهو محرم، فقال : «ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فإنَّه يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ، يعني: محرمًا، فمنع مما منع منه في حال حياته، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا يغطى رأسه، وهذا لا إشكال فيه من تغطية الرأس في أنه داخل في هذا، وأما إذا كان تحت خيمة أو خباء أو نحوه فلا شيء في ذلك، ولكن هل يشترط أن يكون التغطية بملاصق أو حتى بغير ملاصق؟
قال بعض أهل العلم: لا بد وأن يكون ملاصقًا، وبناء على ذلك لو وضع هذه الشمسية التي تقي من الشمس، أو وضع سجادة على رأسه، أو ركب سيارة متنقلة، فيقولون: لا شيء في ذلك؛ لأن هذه ليست بملاصقة.
ومنهم من قال: حتى ولو كان غير ملاصق، فما دام أنه ليس بشيء ثابت كشجرة ونحوها، فإنه يمنع منه، وهذا جاء عن ابن عمر، وهو مشهور المذهب، وإن كانت الفتوى وقول أهل التحقيق، الذي عند كثير من المعاصرين في زماننا، أن هذه لا تدخل في المحظور، ولا يمنع منها المحرم.
وبناء على ذلك لا غضاضة عليه لو غطى بها رأسه، إذا لم تكن ملاصقة له، والنبي جاء وكان يظلل عليه، كما في قصة الفضل بن عباس، فدل ذلك على أن ما يظلل به الرأس مما ليس بملاصق له، لا يعد محظورًا من محظورات الإحرام.
قال: (وَلَبْسُهُ الْمَخِيطِ إِلا سَرَاوِيلَ لِعَدَم إِزَارٍ) ما المقصود بلبس المخيط؟
يقصد به كل ما فُصِّل على قدر عضو، وليس المحظور في حصول الخياطة في الثياب، ولكن المقصود أنها لا تفصل على عضو من الأعضاء، ولذلك يعبر بعض أهل العلم، مثل: بعض فقهاء الشافعية ونحوهم، فيقولون: لبس المحيط، يعني: الذي يحيط بعضو من الأعضاء مخصوص بذلك.
ولأجل ذلك لا يلبس القميص، ولا يلبس البردة، لا يلبس العباءة، لا يلبس السراويل، لا يلبس التبان، والتبان هي سراويل قصيرة، ونحو ذلك.
فهذا هو المقصود من أنه لا يلبس المخيط، ولأجل هذا جاء عن الصحابة أنه لو لبس رداء فأغلقه بشوكة أو بمشبك أو نحوه؛ فإنه يجعلونه كأنما لو خيط.
هنا تأتي مسألة مهمة، وهي كثيرة الوقوع، وهي التي يلبسها الناس اليوم، وهو الإزار والذي هو على هيئة التنورة، أو ما يخاط ويجعل كإزار، ولكنه مفصل على تلك الحال.
هذه لا تجوز إجماعًا، وتسمى عند الفقهاء فيما مضى: النقبة، والنقبة هي التي فصلت على هذا النحو فلا تجوز، وإن كان بعض مشايخنا من أهل العلم المعاصرين، الذين لهم منزلة وقدر، أفتوا بجوازها، ولكن هذا مخالف لقول سبق فيه الإجماع، وقطع فيه أهل العلم الخلاف.
بعض الفقهاء يقولون: وإن وصل إزارًا بازار، يعني: خاطه، يقولون: لا بأس بذلك، ولا يقصدون أنه يخاط حتى يصير كالمستدير، ولكنه لو كان إزارين كلاهما صغير، واحتجنا إلى أن نربطهما حتى يكونا إزارًا يمكن أن يناسبك أو يناسبني أو يناسب من كان خلقته أكبر أو نحو ذلك، فهذا لا بأس، لكنه لم يتغير عن كون هيئته هيئة إزار.
من أين أخذ أهل العلم حظر لبس المخيط؟
من الحديث، أن النبي قال: «لا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، ولَا السَّرَاوِيلَاتِ، ولَا العَمَائِمَ، ولَا البَرَانِسَ» فأخذوا منها أنها كل هذا، ثم فسر النبي ذلك بأنه لبس الإزار والرداء، وعلى هذا فهمه الصحابة، فلا يختلف أهل العلم في أن هذا هو المقصود وهو المراد، وهذا مخصوص بالرجل.
وأمَّا المرأة فإن لها أن تغطي رأسها، ولها أن تبلس مخيطًا، وليس عليها في ذلك غضاضة ولا إشكال، وتقدم معنا الإشارة إلى هذا، وسيأتي ما تمنع منه المرأة في حال إحرامها.
قال: (وَلَبْسُهُ الْمَخِيطِ إِلا سَرَاوِيلَ لِعَدَم إِزَارٍ) يعني: لو لم يجد الإنسان إزارًا فلا يحتاج إلى أن يشق سراويله ثم يلفها عليه، بل يلبسها لئلا يفسدها، والأصل في هذا أنَّ النبي قال: «مَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، ومَن لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ. لِلْمُحْرِمِ» . وهذا فيه استثناء ورخصة لمن عدم ذلك ولم يجد أن يلبس هذه على هذا النحو، ويكون مرخصًا له فيها.
قال: (وَخُفَّيْنِ لِعَدَم نَعْلَيْنِ) الخف هو ما يلبس في القدم ويغطي الكعبين، فهذه لا يلبسها المحرم؛ لأنها تعتبر مما فصلت على عضو، ومثل تلك الجوارب، ولو أنَّ الخفاف قطعت أسفل الكعبين، فالأصح في المذهب، كما هو قول جمع من أهل العلم أنها في حكم ذلك، فلا يجوز لبسها، وتكون لبسًا للمخيط.
وأمَّا النعلان التي يُدخل فيهما الرجل رجليه، حتى ولو كانا لها قيد يمسكهما من جهة العقب أو نحوه، فإنها لا تخرج عن كونها نعلا، فيجوز للمحرم أن يلبسها.
ولكن يُستثنى من ذلك لبس الخفاف لمن لم يجد النعلين، فإنه قد يتأذى بالأرض، وبالحجارة، وبطول الطريق ونحوها، فيلبس الخفين ولا يقطعهما، كما في الحديث المتأخر، لئلا يكون ذلك إفسادًا لها.
{أحسن الله إليكم.
لعلنا نكتفي بهذا القدر}
نعم، فيما ذكرناه -بإذن الله- كفاية، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وإلى لقاء قادم -بإذن الله-، وفقنا الله وإياكم للخير والهدى، وجعل هذه الجادة (جادة المتعلم) والهداة المهتدين، سالكي سبيل العلم، والمستنيرين بنوره، والمستمسكين بسنة نبيهم ، جادة ممتلئة، جادة مستقيمة، جادة قائمة على الهدى والصواب، جادة على الإخلاص والتقوى.
وأسأل الله لنا ولكم الخير والهدى، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى.
{جزاكم الله خيرا.
أعزاءنا المشاهدين، نستكمل ما تبقى في مجالس قادمة -إن شاء الله- وإلى ذلكم الحين، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك