{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أمَّا بعد، فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد من مجالس شرح (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلاً وسهلاً بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، وحياكم الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأبقى الله هذه الجادة على خير وهدى، وكثر سالكوها، ونفعهم بها في الدنيا، ونفعهم بها يوم القيامة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْفِدْيَةُ.
يُخَيَّرُ بِفِدْيَةِ حَلْقٍ وتَقْلِيمٍ وَتَغْطِيَةِ رَأْس رجلٍ ووجه امرأة وَطِيبٍ بَيْنَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فاسأل الله -جل وعلا- أن يعلي بكم منار العلم، وأن يجعلكم من أهله، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة العلماء الربانيين، وأن يجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الفردوس الأعلى من الجنة، ووالدينا، وأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي استهللنا الحديث فيما يتعلق بالفدية من جهة أصل مشروعيتها، وما وردت فيه، ثم ما جرى من أهل العلم بنقل حكم حلق الرأس إلى بقية المحظورات، إلا ما سيأتي بتفصيله -بإذن الله جل وعلا-.
قال المؤلف: (يُخَيَّرُ بِفِدْيَةِ حَلْقٍ وتَقْلِيمٍ وَتَغْطِيَةِ رَأْس رجلٍ ووجه امرأة وَطِيبٍ) ، ولاحظ أنه لم يذكر هنا (ولبس مخيط) لماذا لم يذكرها؟ لأنها من جهة التعداد، فلبس المخيط شيء، وتغطية الرأس شيء آخر، ولكن من جهة الفدية هما شيء واحد، ولذلك كانت تغطية الرأس مع لبس المخيط تجب فيه فدية واحدة. كأنه محظور واحد، وحتى في الحديث جاء ذكرهما شيئًا واحدًا.
فإذًا هذه المحظورات يخير فيها بين الثلاثة المذكورة.
وقلنا أيضًا في آخر الدرس الماضي: إنَّ هذا التخيير كل بحسب ما يليق به ويسهل عليه، وأن هذا توسعة من الله -جل وعلا- على عباده؛ طلبًا في تكميل عبادتهم، وتتميم ما حصل عليهم من خدش ونقص في فعل محظور من محظورات الإحرام، سواء احتاجوا إليه ففعلوه بعذر أو لا، وسيأتي ما يتعلق بعض الأشياء التي قد يُعذر بها الإنسان، فلا يكون فيها فدية، والأشياء التي لا يعذر ولو كان له سبب يقتضي فعل ذلك المحظور، والوقوع في ذلك المنهي عنه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَيْنَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ) وذكرنا أنَّ هذا مشهور عند الفقهاء، وأصله ما جاء عن الصحابة في القدر الذي يكفي المسكين لطعام يومه ذاك.
ولَمَّا كان البر هو من أنفع ما يكون للناس، فإن القليل منه يغني عن الكثير من سواه، ولذلك قال: (مُدَّ بُرٍّ) الذي هو ربع الصاع، (أَوْ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ) ، فالبر القليل خير من (أَوْ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ) أو من زبيب، أو من شعير.
قال: (أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ) على ما تقدم بنا في المجلس الماضي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي جَزَاءِ صَيْدٍ بَيْنَ مِثْلِ مِثْلِيٍّ أَوْ تَقْوِيمِهِ بِدَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا يُجْزِئُ فِي فِطْرَةٍ، فَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّ بَرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَصُومُ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا، وَبَيْنَ إِطْعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فِي غَيْرِ مِثْلِيٍّ) }.
جزاء الصيد عند أهل العلم أنه لا يخلُ من حالين:
إمَّا أن يكون له مثلٌ، أو لا مِثلَ له، فالذي له مثلٌ يخير فيه الذي قتل الصيد وهو محرم بين ثلاثة أشياء:
بين مثله، كما جاء في الضبعة كبش، حكم به النبي ﷺ، وفي النعامة: بدنة، وقد حكم بذلك أصحاب النبي ﷺ.
إذًا من قتل واحدًا من هذه الصيود فيه مثلها إن كان لها مثلٌ، فإمَّا أن يُخرج مثلها، فيأتي بهذا الكبش فيذبحه، أو يأتي بهذه البدنة فيذبحها، أو تقويمه بدراهم، أي يُقَوِّم المثل بدراهم ويشترى بها طعامًا ثم يخرج، وهذا مقابل ما أهدر من الصيد، وما أتلف مما يحرم عليه إتلافه من ضبع أو نعامة أو غيرها من الصيود، ولهذا قال: (أَوْ تَقْوِيمِهِ بِدَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا يُجْزِئُ فِي فِطْرَةٍ) ، يعني: الطعام الذي في الفطرة. ما هو الطعام الذي في الفطرة عند الحنابلة؟
هو خمسة أشياء إن لم توجد كان من سائر طعام البلد
ومن قال: يجزئ من طعام البلد حتى ولو وجدت الخمسة، فالحكم أيضًا مضطرد هنا كما هو هناك، سواء بسواء؛ لأنَّ بعض الطلبة لا يُحسن طرد الأحكام، وما قُرِّرَ هنا يلزم أن يتقرر في كل المسائل التي تشابهها إلا بسبب، وهذا هو الذي تقوى به الملكة الفقهية، ويحسن به نظر العالم، ويسلم من التناقض، ويمتنع عليه المعارض، فإن الإنسان إذا قال في المسألة هنا بقول وهنا بقول، وكان أصلهما واحد؛ دلَّ هذا على تعارضه، فيأتي المعارض ويقول له: أنت قلت هنا كذا وهنا كذا، فيلزمك ما قلته هناك وإلا صار قولك منقوضًا، فَيَرِدُ عليه الإشكال.
إذًا تُقَوَّم بدراهم وتُخرج منها طعامًا في فطرة، (فَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّ بَرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ) كما تقدم قبل قليل.
(أَوْ يَصُومُ) الصيام كم يُقدر؟ يقولون: بعدد ما يكون من طعام المساكين، عن طعام كل يوم مسكين، فإذا افترضنا مثلًا أن الضبع مثله كبش، فإما أن تخرج كبشًا، وإما أن ننظر في قيمة الكبش، "ألف وخمسمائة ريال مثلًا عندنا في السعودية"، فنشتري به طعامًا، كم سيكون؟
نصف الصاع على سبيل المثال يكون بعشرة ريالات، معنى ذلك عندنا مائة وخمسين نصف الصاع، ما معناه؟ معنى ذلك أنه سيصوم مثلًا مئة وخمسين يومًا، فإذًا إمَّا أن يخرج المثل وهو الكبش، وإما أن يُشترى بقيمته طعامًا، فيوزع على كل مسكين مُد بُر أو نصف صاع من غيره، مما يجزي في فطره أو يقابل ذلك الصيام. والصيام يحسب ما يمكن أن يطعم به من عدد المساكين، فيصام عنها بعدد ذلك أيامًا، كلٌ يفعل أو هذه على سبيل التخيير.
طبعًا تقدير المثل يحكم به ذوا عدلٍ منكم من أهل الخبرة، قد لا يكون عالمًا، لأنَّ المقصود به الخبرة في هذه الأمور، إمَّا لشبهها في الخلقة وهذا هو الغالب أو في بعض الصفات، ولذلك حكم الصحابة في الحمام بشاه، مع أن الحمام بعيد عن الشاه إلى حد ما، لكن اشترك معه في صفة من صفاته في أنه يعبُ الماء ويهدر، وهذه لا توجد في غيرها من الطيور.
إذا هذا هو المثل، فيحكم به ذوا عدلٍ ممن يعرفون البهائم ويعتادون عليها.
طيب ما لا مثل له؟
الذي ليس له مثل، الفقهاء يقولون: "كل الطيور سوى الحمام لا مثل لها"، فيجعلونها فيما لا مثل له، والذي له مثلٌ، يقولون: إنه بين إطعام وصيام، وكيف إطعام؟ يقولون يقوّم، ما الذي يقوم؟ الصيد نفسه، هناك يقوّم المثل، لكن هنا يقوم الصيد نفسه في المكان الذي أصيب فيه، أو قتل فيه؛ لأن الغزال مثلا لو قُتلت في مكان يكثر فيه تعاطيها وانتقالها ووجودها ليس كالمكان الذي لا توجد فيه كأحد طرفي مكانٍ آخر أو نحوه، فالمهم أنه بنفس المكان تنظر إلى قيمتها، فيخرج به طعام أو صيام فيما يقابل عدد إطعام المساكين الذي قوّم به هذا الصيد ونحوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ عَدِمَ مُتَمَتِّعٌ أَوْ قَارِنٌ الْهَدْيَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَالْأَفْضَلُ جَعْلُ آخِرِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ لِأَهْلِهِ) }.
قال: (وَإِنْ عَدِمَ مُتَمَتِّعٌ) أي: لم يجد الهدي، لعدم قدرته على شرائه أو لعدم حصوله عليه، ليست الأمور فيما مضي كما هي هذا الوقت في تكاثر ما يُوفد إلى البيت، ولله الحمد والمنة أن جعل على الحج ولايةً قائمةً فيه بكل مصالحه، تسعى على الحجيج بكل ما يُيسر عليهم، فبناءً على ذلك، لو أن الناس أرادوا أن يشتروا فما وجدوا، أو لم يستطيعوا لعدم قدرةٍ، ففي كلا الحالين يُنتقل إلى البدل، صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
وهذه الأيام الثلاثة يسن أن يكون آخرها يوم عرفة، وبعضهم يقول: اليوم الثامن، واستحب بعض الفقهاء أن يشرع المتمتع في الإحرام حتى يتلبس بالإحرام حقيقة، وإن كان بعضهم لا يشترط ذلك، قالوا: فإن لم يكن فتكون بعد يوم النحر، أي: في أيام التشريق، فإن أيام التشريق لا يجوز صيامها، فهي أيام أكل وشرب وذكر لله -جل وعلا-، لكن استثني من ذلك من لم يجد دم التمتع؛ فإنه يحل له أن يصومها استثناء، فيصوم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع، والمقصود بالسبعة إذا رجع يعني: أنه لا يُلزم أن يكون في مكة، فبناءً على ذلك لو صامها في الطريق أو صامها في بلده، أو في بلد آخر، أو لو صامها في مكة بعد ذلك، لجاز.
ولكن تأخيرها لا على سبيل قصد أن تكون هناك، ولكن على سبيل التسهيل والتيسير عليه، فإن تسنى له أن يَصومها في طريقه أو في مكان آخر أو في بلد إقامته، فعل ذلك وأدى الذي عليه.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَالْأَفْضَلُ جَعْلُ آخِرِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ لِأَهْلِهِ) .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْمُحْصَر إِذَا لَمْ يَجِدْهُ صَامَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ) }.
المحصر، هو الممنوع من الوصول إلى البيت أو الوصول عرفة، ولا يستطيع أن يُكمل حجه، وسيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-، فمُنع من الوصول إلى البيت، سواء كان ذلك بسبب سيل استمر وقتًا طويلًا، ولو قطعه لهلك، وإذا انتظر فإنه يفوت عليه الحج، ومثل ذلك: العدو وهو الأكثر، وسيأتي بيان ذلك. والمهم أنَّ المحصر لا يخلو إما أن يكون قد اشترط أو لم يشترط، فإذا اشترط تحلل مجانًا على ما سيأتيه، لكن إذا لم يكن قد اشترط، ولذلك الحنابلة يستحبون الاشتراط، وهذا هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- أن يشترط الإنسان في كل حال، ويُستحب للإنسان ألا يتوانى عن ذلك؛ تيسيرًا على نفسه واقتداءً بالصحابة، ولئلا يعرضه للحرج.
والمحصر حتى يحل لا بُد له أن يذبح هديًا، فإذا لم يجد الهدي؛ فإنه يصوم عشرة أيام ثم يحل، وقاسوا ذلك على هذا التمتع وقالوا: "هما دمان يجبان في عبادة واحدة"، فما كان من البدل في الأولى صار بدلًا في الثانية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَسْقُطُ بِنِسْيَانٍ فِي لُبْسٍ، وَطِيبٍ وَتَغْطِيَةِ رَأْسٍ) }.
قال: (وَتَسْقُطُ) أي: أن الفدية تسقطُ بالنسيان، واحد لبس ثيابًا ناسيًا أنه محرم، أو غطى رأسه كذلك وهو ناسٍ، أو تطيب، أو لبس سراويله، أو قام من النوم ولبس السراويل على عادته، ثم مشى بها ثم تذكر أنه محرمٌ، ففي هذه الأحوال يقولون: إنه لا شيء عليه، ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ ، و «رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ»، لِمَ خُصت هذه دونما سواها؟
قال أهل العلم: هذه لا إتلاف فيها، وأما ما سوى ذلك ففيه إتلافٌ، يعني فيه شيءٌ لا يمكن عوده، فتحقق بدله أو تحقق فداؤه، ولأجل ذلك، لو كان الإنسان قد حصل منه جماع حتى ولو كان ناسيًا، -ففي مشهور المذهب وإن كان في هذا خلاف- أنه يلزمه؛ لأنه الجماع لا يمكن أن يعود الإنسان فيه، وكذلك إذا حلق إنسان رأسه، فلا يمكن أن يعود الشعر، أو قص أظافره ونحو ذلك.
فبناءً على هذا قالوا: تلك إتلافات فلا يمكن عودها، فتحقق في كل الأحوال حتى ولو كان نسيانًا أو خطأ فداؤها، أمَّا هذه فيمكن الرجوع إلى ما كان ولا يفوت شيء، فبناءً على ذلك تسقط بالنسيان.
إذًا يبقى ما نبهنا عليه، وهو أن عقد النكاح لا كفارة فيه بكل حال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَكُلُّ هَدْيٍ أَوْ طَعَامٍ فَلِمَسَاكِين الْحَرَمِ، إِلَّا فِدْيَةَ أَذًى وَلُبْسٍ وَنَحْوِهَا، فَحَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهَا) }.
قوله: (وَكُلُّ هَدْيٍ) يعني مما وجب على المتمتع أو القارن أو تقرّب به المفرد على سبيل السنية والاستحباب يكون لمساكين الحرم، والمقصود بمساكين الحرم، من أقام به أو جازه، يعني: جاء من الحجاج والمعتمرين الذين تحل لهم الزكاة، الفقراء والمساكين، فيعطون من هذا الهدي، وهذا فيه من تعظيم هذا البيت، وتعظيم من وفد إليه، ولأجل ذلك لم يزل مباركًا، ومن وفد إليه كان في نعمة ورحمة، ولابُد أن يجد من أبواب البر، وسبل تفريج الكربة، مما جعله الله -جل وعلا- خاصًا بهذه البقعة التي عظمها الله -جل وعلا- وحرمّها، ما لم يكن لغيرها.
فإذًا هذا الهدي كله لمساكين الحرم ومثل ذلك أيضًا ما يُهدى إلى البيت في عمرة، وما يُهدى إلى البيت لغير حاج ولا معتمر، وهذا مثل ما أن يؤثر الإنسان من بلده إلى بيت الله الحرام إهداءً إلى أهل الحرم، فهذا مسنون ومُستحب، وإن كان شيئًا يقل وجوده، أو من السنن التي تكاد تكون مندثرة، أن يُهدي الناس مع عُمرِهم أو يهدوا وهم في بيوتاتهم، فالنبي ﷺ أهدى وهو في المدينة، وأرسلها مع أصحابه، فهي سنةٌ باقية فكل ذلك داخل فيما يوزع على فقراء الحرم، ولذلك قال: (فَلِمَسَاكِين الْحَرَمِ) ، ويدخل في ذلك المجتاز والمقيم بها.
قال: (إِلَّا فِدْيَةَ أَذًى) أمَّا فدية الأذى، والتي هي بفعل محظورٌ فحيث وُجد سببها، إن كان في الحرم فهو في الحرم، وإن كان في الطريق فهو في الطريق، فلو أنَّ شخصًا خرج من ذي الحليفة حتى إذا كان ببدر لحقته حكةٌ شديدة فلبس ثيابًا مخيطة، فنقول: "لو أنك بذلتها لأهل بدر إطعام ستة مساكين أو ذبحت شاة هناك ووزعتها على من لقيت في طريقك فلا بأس"، أو كان معهم فقراء في قافلتهم فأعطاهم إياها، كل ذلك جائزٌ.
إذًا حيث وجد السبب من حلٍ أو من حرم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُجْزِئُ الصَّوْمُ بِكُلِّ مَكَانٍ) }.
أمَّا الصوم فيكون في أي مكان، صيام ثلاثة أيام؛ لأنه لا يتعلق بالمكان، وإنما يتعلق بالإنسان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالدَّمُ شَاةٌ أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ) }
(وَالدَّمُ شَاةٌ أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ) أي: مما يحل في الأضاحي، والجذع من الضأن، والثني من المعز ومن البقر ومن الغنم، ومن الإبل.
- من البقر ما تم له السنتان.
- من الغنم ما تم له السنة.
- من الإبل ما تمّ له خمس سنوات وهكذا.
(سُبْعُ بَدَنَةٍ) أيضًا بشرط أن يكون قد نُحر، ما يأتي وبشتري من القصّاب أو الجزار سبع بدنة فيتصدق به لا، لابُد أن يكون منحورًا، ومهراق الدم تقربًا إلى الله -جل وعلا-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُرْجَعُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إِلَى مَا قَضَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ، وَفِيمَا لَمْ تَقْضِ فِيهِ إِلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ خَبِيرَيْنِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَكَانَهُ) }.
كما قلنا قبل قليل في الحديث المتقدم، (وَيُرْجَعُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إِلَى مَا قَضَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ) ، فالصحابة هم أخبرُ الناسِ، وأعدل ما يكون، فلن نجد بعد حكمهم حكمًا، ولا على قولهم قولًا، ولن يكون في استدراك ذلك خيرًا، بل القول ما قالوا، والحكم ما حكموا، وما إليه ساروا وذهبوا -رضوان الله عليهم وأرضاهم- ولهم أقاويل مشهورة في الأرنب عناق، في الظبي جدي، في النعامة بدنة، في الغزال عنز، في الوعل بقرة أو بدنة، وهكذا كلٌ بما حكم به أصحاب النبي ﷺ، وما لم تقضِ فيه الصحابة يُرجع فيه إلى قول عدليين خبيرين، كما جاءت به الآية ونصّت عليه.
(وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ) يعني لا يوجد له مثل، كما قلنا مثلاً: ما سوى الحمام من سائر الطيور فيجعلونه مما لا مثل له، فتجب قيمته مكانه أو مثل ذلك.
طبعًا بعض الناس يذهب لأدغال أفريقيا أو إلى غابات الأمازون، وهذه ليست من الأماكن التي يكون فيها الإنسان محرمًا، ولكن لو افترضنا أنها انتقلت إلى ذلك المكان، أو أن الإنسان بقي على إحرامه فاضطر إلى ذهابٍ إلى تلك الأماكن، فعرض له شيء من ذلك، فيتعلق به الحكم.
فلو أنه تسلّط على صيدٍ من صيود تلك الأماكن، مما لا يعهده الناس، فننظر في قول العدليين، فإن شبهوه بشيء فذاك، وإن وجدوا له مثلًا فالحمد لله، وإن لم يُعتبر له مثلٌ ويصير العدليين إلى شيءٍ، فيعتبر القيمة في مكانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ مُطْلَقًا صَيْدُ حَرَمِ مَكَّةَ، وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَحَشِيشِهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَفِيهِ الْجَزَاءُ، وَصَيْدُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَحَشِيشِهِ لِغَيْرِ حَاجَةِ عَلَفٍ وَقَتَبٍ وَنَحْوِهِمَا وَلَا جَزَاءَ) }.
قال: (وَحَرُمَ مُطْلَقًا صَيْدُ حَرَمِ مَكَّةَ) فكما أنَّ المحرم محرّم عليه الصيد، فمكة والحرم محرّم الاعتداء على صيودها ولو كان الإنسان حلالًا، فهي إذًا محرمة على المحرم إذا دخلها باعتباره محرمًا، وباعتبار ذلك حرامًا، ولكن لو حل المحرم، فكان من قاطني مكة وما أحاط بتلك البقاع المحرمة عشرة أميال أو ما قاربها من جهة الجعرانة، وتسعة أو عشرة من جهة التنعيم، وإلى جهة عرفة، كل ذلك الحرم الذي جاءت حدوده محدودة، وقد بُينت هذه بأعلامٍ ظاهرةٍ وموجودة، فالآتي من جدة إذا تجاوز الشميسي، هذه المنطقة التي يحصل فيها فرز الحجيج ونحوهم، فأقبل على مرتفعٍ؛ وجد علامة هي بداية الحرم على سبيل من هذا المكان.
أيضًا من جهة عرفة للنازل من جبل الطائف ونحوه، كذلك يجد هذه العلامات، فهذه العلامات محددة في جهات مُتفرقة تقرّب للناس مكان هذا الحرم، فهذا الحرم محرّم حرمه الله -جل وعلا-، وحرمه رسوله ﷺ تعظيمًا لهذا البيت ومن وفد إليه، والعجب أن هذا البيت الذي حرمه الله -جل وعلا- وحرمه رسوله ﷺ كان أهل الجاهلية يعظمونه، حتى يرى الرجل قاتل أبيه فلا يقربه، ومع ذلك نجدُ الناس أسهل ما يكون عليهم انتهاك حرمة الحرم حتى ولو كانوا في المسجد الحرام، فيختلفون، ويرتفع الصوت، وربما مُدت الأيدي وهذا كثيرٌ جدًا، بل وربما كان الإنسان متلبسًا بإحرام حجٍ أو عمرة، فأي انتهاك للحرمة!، وأي ذهاب لتعظيم أمر الله -جل وعلا- من القلوب!
والواجب على أهل العلم وعلى أهل النظر أن يعلموا الناس تعظيم البيت، وإذا عُظّم هذا البيت وتمت فيه السكينة، واكتملت فيه الطمأنينة على ما أمر الله -جل وعلا- وأمر رسوله ﷺ كان أهنأ في إقامة هذه العبادات، وأتمّ في الشروع في هذه الأنساك، ووُجد فيها من الراحة وأثر العبادة، وتعظيم الله -جل وعلا- لهذه البقعة ما لا يكون في أرضٍ سواها في البسيطة كلها، وعرف الناس الفرق بينها وبين سواها، وما أظلم من حجارتها فإنه يشرق فيما جعل الله -جل وعلا- من خصوصيتها، ويأنس الناس بما خصها من هوي القلوب إليها، وأنسِ الناس بها، لكن لا تعكر تلك بما يكون من انتهاك الحرمة والاعتداء عليها.
فالمؤلف- رحمه الله تعالى- قال: (وَحَرُمَ مُطْلَقًا صَيْدُ حَرَمِ مَكَّةَ) يعني: سواء كان من البرِ أو كان من البحر، ولا يجوز للناس إلا الحيوانات الإنسية التي يألفون تربيتها من إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ، ومثل: دجاج ونحوه، وفيه من الجزاء فيما تقدم.
قال: (وَقَطْعُ شَجَرِهِ) كذلك الشجر الذي وُجد في الحرم، فإنه لا يجوز الاعتداء عليه.
طيب إذا احتاج الإنسان كأن لا يجد مكانًا يبني فيه بيته إلا بقطع هذه الشجر، فهو إما أن ينقلها، فإن نقلها فوجدت ولم يُنقص منها شيء فالحمد لله، وإلا وَجب عليه فداء ذلك، وأما ما سوى هذا فلا يُقطع شجره، وهو مما لم ينبته الآدميون.
وأما ما أنبته الآدميون من نخل، أو زرعوه من زرع، فهذا شأنهم به، وكان أهل مكة وغيرهم يزرعون ويأكلون ويقطعون ونحوه، ولكن أمَّا شجرها فلا.
(وَحَشِيشِهِ) حتى الحشيش الذي فيه إنما استأذن ابن العباس من النبي ﷺ في الإذخر، فإنهم كانوا يحتاجون إليه للانتفاع فأذن له ﷺ فبقي ما سواه على الحرمة والمنع وعدم الاعتداء عليه، وهذا يحصل حقيقة كثيرًا، يعني أن الناس أحيانا لا يفطنون لهذا، وخاصة صيد الحرم.
على سبيل المثال: لَمَّا يأتي في فصل من فصول السنة ويكثر الجراد، والجراد هو نوع من الصيد، فلا يجوز الاعتداء عليه البتة، وينص الفقهاء ويقولون: ولو فرش الجراد في ممرات الناس، فإنه لا يجوز لهم أن يدعسوه، ولو دعسوه بأرجلهم لوجب عليهم فداؤه قولًا واحدًا، ولا يقول واحد: إنه يؤذي، ولا أنَّ الناس يخافون من هذا، فلا يجوز الاعتداء عليه، بل كما قلت لكم يقولون: حتى ولو فرش الأرض، بحيث لا يجد الناس طريقًا سواه، فهذا كله تعظيم لهذا البيت، وتعظيم لمن سكنه وقطن فيه، حتى من هذه الصيود التي اعتاد الناس أن تنالها أيديهم، ويتطلعوا إلى الإمساك بها، والانتفاع بها، فإن الله جعل لها من الأمان إذا وفدت إلى هذه البقعة ما ليس لغيرها من الأمكنة، فليُعلم ذلك وليُتنبه له، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَفِيهِ الْجَزَاءُ) يعني: الجزاء المتقدم، فـ "ال" هنا للعهد على ما تقدم من جزاء الصيد بالنسبة للمحرم سواء بسواء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَصَيْدُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَحَشِيشِهِ لِغَيْرِ حَاجَةِ عَلَفٍ وَقَتَبٍ وَنَحْوِهِمَا وَلَا جَزَاءَ) }.
أين حرم المدينة؟
في أكثر كلام أهل العلم أن حرم المدينة من عير إلى ثور، ولهم في هذا كلام طويل، هل ثور وعير هنا هما الجبلان في مكة أو هما آخران بالمدينة؟ وكثير من نقلوا أو درسوا تاريخ المدينة وغيره يقولون: إنهما بالمدينة، وأن عير هذا في جهة شرق ذي الحليفة، وثور هو جبلٌ خلف جبل أحد بشيء يسير، وهو صغير، ولكن قالوا: إن صغره بالنسبة إلى جبل أحد، وإلا فهو كبير، فهذا يعني حد حرم المدينة، فأيضًا لها حرمة تعظيم، فلا يُقطع شجرها ولا حشيشها، ولكنها أخف من مكة، ولذلك إذا احتاج الناس جازَ لهم أن ينتفعوا بحشيشها، أو الانتفاع بشجرها، أو نحوه، مثلًا بجعلها راحًا يستقون بها أو سوى ذلك، ولهذا قال: (لِغَيْرِ حَاجَةِ عَلَفٍ وَقَتَبٍ وَنَحْوِهِمَا) ، فإذا فعلوا ذلك بغير حاجةٍ فعلوا ما لا يحل لهم فعله، وأما إذا احتاجوا فجازَ ذلك، والقتب هو ما يُجعل على ظهر البعير، مثل: الرحل، وهو أكبر منه، قالوا: لكن لا جزاء فيها، فهي دون حرم مكة من هذه الجهة، وهذا فرق بينها وبين مكة في هذا الحكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ: يَسُنُّ نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا، وَالْمَسْجِدُ مِنْ بَابِ أَبِي شَيْبَةَ) }.
إذًا هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في المسائل التي تتعلق بالمحرم شيئًا فشيئًا وأولًا فأول، فأول ما يتعلق بالمحرم، سواء كان قد أحرم لعمرةٍ أو أحرم لحجٍ، هو الوصول إلى مكة، كما قلنا سابقًا: إن مكة في العهد الماضي كانت صغيرة جدًا، والحرم أكبر منها، فإذا تُكلم عن مكة فمعنى ذلك أننا نتكلم عن الحرم، والعكس بالعكس الآن، فإذا تكلمنا على مكة فمنها ما هو في الحرم، ومنها ما هو خارجًا عنه، ولكن إذا تكلمنا عن الحرم فقط فهو في مكة بخلاف الأول، فانقلبت المسألة، فما كان صغيرًا أصبح كبيرًا، وما كبيرًا -الذي هو الحرم، كان أكبر من مكة- صار صغيرًا، فبعض الأحكام أحيانًا يحصل فيها التفاوت بناءً على الحالة التي قُررت فيها بعض هذه المسائل، ولهذا يُتنبه الآن.
إذًا الحكم متعلق بدخول مكة من حيث هي، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (يَسُنُّ نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا) والنبي ﷺ كان يدخل من الثنية العليا، والثنية العليا أين تقع؟ قالوا: إنه يدخله من جهة مسجد عائشة من التنعيم، إلى أن يصل إلى العتيبية، ثم يدخل من الحجون من جهة مقبرة المعلاة، هذه هي الثنية العليا، وبعضهم يقول: انتهى الآن حكمها بانتشار هذه المباني، وذهاب هذه المعالم التي تدل عليها، ولكن أظن أن الأمر يسير في الدخول سواء من أعلاها من جهة ما وصفه أهل العلم، (وَالْمَسْجِدُ مِنْ بَابِ أَبِي شَيْبَةَ) فإنه هو الذي يتلقى الداخل من تلك البقاع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَهُ وَقَالَ مَا وَرَدَ) }.
هذا جاء عن أصحاب النبي ﷺ أنه كان إذا رأى البيت، والمقصود بالبيت: الكعبة، فإذا رأى الكعبة رفع يده وقال: (للَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، وَإِلَيْك السَّلَامُ» ، ويُكبّر الله -جل وعلا- ويعظمه، ثم يقول: «اللهمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابَةً، وزِدْ مِن شرَفِهِ وعِظَمِهِ مِمَنْ حجَّهُ أو اعتَمرَهُ تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابَةً وبِرًا» وهذا داخل في تعظيم البيت، وتعظيم هذه الشعائر، وهو مأخوذ من عمل الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو أيضًا ظاهر في عمومات الأدلة.
فإذًا، قال ما ورد على حسب ما جاء عن أصحاب النبي ﷺ قلنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (طَافَ مُضْطَبِعًا لِلْعُمْرَةِ الْمُعْتَمِرُ، وَلِلْقُدُومِ غَيْرُهُ) }.
كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يشير إلى مسألة وهي من أهمية بمكان، وكثير من الناس يغفل عنها، طبعًا تقدم بنا أن قلنا: إنَّ دخول مكة يُسن له الاغتسال، وأنَّ الناس الآن يغفلون عن ذلك، ولكن أقل الأحوال ما دام أنَّ الإنسان لن يغتسل لدخول مكة، وما دام أن اغتساله لإحرامه قريبٌ من دخوله مكة لسهولة الانتقال، فالأحسن أن ينوي بهذا الاغتسال أن يكون لهما جميعًا، أي: للإحرام حيث أحرم، ولدخول مكة، ولكونه يدخلها عن قرب، فيكون ذلك أفضل، وأول ما يدخل الإنسان ينبغي له ألا يشتغل بشيء إلا بفعل ما جاء لأجله، لا يفطنون لهذه الأمور، وهي لها معنى من الأهمية والتعظيم، يعني: أنك إنما جئت من بيتك وأنفقت ما أنفقت من مالك، وتعرضت لِمَا تعرضت له من المهالك فيما مضى خاصة، وحصل عليك من الأمور، وتجردت من الثياب، ولبيت الله -جل وعلا- وتشعثت، وَثَمَّ إلى أشياء كثيرة؛ لأداء هذا النسك، فينبغي ألا تبدأ بشيءٍ سواه، وهذا ما نصَّ عليه الفقهاء، وهو أظهر في التعظيم، وأعظم في الامتثال، وهو أتم ما يكون في عمل المكلف.
فأول ما يبدأ به، ما دام أنه شيء يمكن أن يكون للإنسان عنه مندوحة، يعني ما هو شيء يُلزم به، لو ترك أغراضه مثلا لضاعت، فنقول: لا بأس أن يؤمن على أغراضه، فيجعلها في مكان سكناه أو غير ذلك مما له، وأمَّا أن يجلس ليأكل أو أن يقول أنام وأفعل ذلك غدًا، فينبغي له ألا يُؤخر هذا، ما دام أنه يمكنه فعله.
ثم قال: (ثُمَّ طَافَ مُضْطَبِعًا) ، أي يشرع في طوافه، والاضطباع هي هيئة للباس الطائف، وذلك بأن يجعل رداءه من تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، فيكشف الأيمن ويستر الأيسر، وهذه الصفة هي من صفات الطواف.
انتبه: بعض الناس يظن أنها من بداية إحرامه يكون على هذه الهيئة، وهذا خطأ، فهي تكون حال الطواف.
ثم طاف (لِلْعُمْرَةِ الْمُعْتَمِرُ وَلِلْقُدُومِ غَيْرُهُ) يعني: ليس أحد خارجًا عن هذين الأمرين، فإن جاء للعمرة التي هي تكون في سائر السنة، أو جاء متمتعًا فهو معتمرٌ، وإن كان حاجًا فطوافه طواف قدوم، يعني: سواء كان قارنًا أو كان مُفردًا.
فهذا هو المتعلق حكمه به، أن يبدأ (مُضْطَبِعًا) ؛ ليكون ذلك من صفات طوافه فيشملها بكليتها، بمعنى تقع جميع أطوافه السبعة، وهو على هذه الحال التي وردت بها السنة، وجاءت عن النبي ﷺ.
قال: (وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَيُقَبِّلُهُ، فَإِنْ شَقَّ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ مَا وَرَدَ) .
إذًا أول ما يبدأ الطواف هو من جهة الحجر الأسود، وبه ابتداء الطواف، وأكمل أحواله أن يستلمه، وما دام أن ذلك متعذرٌ كما هو في الأزمنة المتأخرة، ولا ينفك هذا المكان من الزحام، ويُخشى على الإنسان إذا دخل أن يؤذي نفسه، ناهيك أنه ولابُد أن يُؤذي غيره، ويحصل فيها من اللغط والأذية شيء كثير، وهذا مَنهيٌ عنه الإنسان، «إنك امرؤٌ قويٌ فلا تزاحم الناس»، وما أُمرت العبادة للاقتتال والتطاحن، وليس هذا هو مما يجب في تعظيم بيت الله -جل وعلا، فإذا لم يستطع الاستلام فيستلمه بعصا أو نحوه، وإذا كان ذلك غير ممكن وهو الحال في هذا فيشير إليه.
ولكن تمامها من جهة العلم دون جهة الواقع؛ لأنَّه من جهة الواقع فالاستلام والتقبيل صعب للغاية، يعني بأن يمسح بيده ويقبلها.
والثاني: أن يستلمها بيده فيقبل يده، والثالث أن يستلمها بعصا أو محجن كما كان من النبي ﷺ فيقبل المحجن، والرابع أن يشير إليها، فإذا أشار فلا تقبيل، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا بُد من استقبال الحجر حال الابتداء، لأنَّ النبي ﷺ استقبل الحجر، بمعنى أن ينصرف إليه بكليته، فلا يشير وقد أعطى الحجر جهته اليسرى أو عاتقه الأيسر؛ فإنه عند الحنابلة أن طوافه لا يصح، فعندهم أنَّ الاستقبال واجبٌ في أول ابتدائه، وهذا ظاهرٌ في السنة، والنبي ﷺ استقبل الحجر، وهو يغفل كثير من الناس، ولذلك اختلفوا بعدها هل يجب استقباله في كل مرة؟
لكن استحباب الاستقبال، لا إشكال أنه مستحب، فيما بعد أول مرة، يعني: في المرة الثانية والثالثة أو في الشوط الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع، يجب أن يستقبله فإن حصل له الاستلام فذاك، وإلا على ما ذكرنا من هذه الأشياء.
قال: (وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَيُقَبِّلُهُ، فَإِنْ شَقَّ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ مَا وَرَدَ) ما الذي ورد؟
يقول عند الابتداء: «بسم الله، أكبر» ، ثم يقول: «اللَّهُمَّ إيمَاناً بِكَ وَتَصدِيقاً بِكِتابِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّباعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ﷺ» ، ثم يشرعُ في طوافه بما يسّر الله له من ذكر، وبما أفاض الله عليه من دعاءٍ، وابتهال، وخشوع، وانكسار بين يدي الله -جل وعلا-.
ولأحوال الطائفين من الانكسار، ومن التعرض لرحمات الله -جل وعلا- أشياء يقف القلب حائرًا أمامها، وتعجب من أحوال هؤلاء العباد، كيف ألهمهم الله -جل وعلا- من التذلل وتعظيم الله والثناء عليه؟! حتى لربما رأيت بعضهم في حال رثّة، أو في حال لا يُظن بهم العلم والمعرفة، لكن ذلك لم يمنع أن تحيا قلوبهم، وأن تخشع قلوبهم، وأن تقبل على مولاها، وقد وفدت إلى بيته، ورغبت فيما عنده، فهنيئًا لهؤلاء ما فعلوا، ويا حسرة من فقرط وضيع، فلم يكن حظه من هذا إلا التباهي، أو التصوير، أو الإيذاء، وإن من إيذاء الناس في هذه البقاع رفع الصوت بالأدعية والأذكار، بما يسبب لغط الناس وفوات خشوعهم، فإن البرَّ ليس برفع الصوت، «ارْبَعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ ليسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إنَّ الذي تَدعونَ أقرَبُ إلى أحدِكم مِن عُنُقِ راحلتِه» ، يقولها النبي ﷺ لأصحابه، وإن احتاج معلمٌ إلى أن يعلم من معه لجهل أو غيره، فليكن ذلك بحسب ما يصل إليهم، ولا يكون فيه أذية بأي حال من الأحوال.
فإذا وصل إلى الركن اليماني، إن استلمه فهذا تمام، وإن لم يستلمه فلا شيء؛ لأنه سنة، ثم ما بين الركن اليماني والحجر الأسود يكون في ذلك الدعاء المشهور ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ وهي من أدعية القرآن، ومن جوامع الأدعية، ومما يحصل به الخير.
ثم ليعلم أنَّ الرمل، وهو مسارعة الخطى وتقريبها مستحب في الأشواط الثلاثة في طواف القدوم وطواف العمرة، إن تسنى له ذلك، والقرب من البيت أولى من البعد، إن تسنى له ذلك، لكن لا يؤذي الإنسان نفسه، ولا يؤذي غيره، ولذلك زوجة النبي ﷺ أم المؤمنين أم سلمة لَمَّا أمرها النبي ﷺ أن تطوف من وراء الناس، فإذا طافت من وراء الناس معنى ذلك أنها تبعد، لكن لَمَّا كان في بعدها حفظٌ لنفسها من الزحام، ومن معاركةِ الناس، وأيضًا التعرّض لِمَا قد يؤذيها، وكان ذلك أكمل، لكن الكمالات بحسب إمكانها، متى ما تمكن الإنسان فعلَ وإلا فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَرْمُلُ الْأُفُقِيّ فِي هَذَا الطَّوَافِ، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ) }، كما قلنا: الرمل يكون في الأشواط الثلاثة الأولى سنة، و(الْأُفُقِيّ) الذي هو جاء من البعيد، فلا يستحب ذلك لمن كان من أهل مكة ومن قاربها.
هل يرمل الأشواط كاملة؟ أو يمشي ما بين الركن اليماني والحجر الأسود؟
جاء في بعض الأحاديث أنه يرمل ما بين الحجر إلى الحجر، وجاء في بعضها أنه مشى بين الركنين، وهذا أخص ومقيد للآخر، فكان إذا وصل إلى الركن اليماني مشى، فإذا وصل للحجر الأسود شرع في الرمل مرة أخرى، حتى يتم الثلاثة أشواط الأولى، فإذا فات عليه ذلك لزحام أو نسيان لم يقضَ بعدها، فإنه فات محله.
لكن هل الأولى بالإنسان أن يقرب من البيت، فلا يستطيع الرمل لزحام أو يبعد فيترمل لكونه لا زحمة في ذلك، أي تحصيل الفضيلة، فضيلة الرمل أو القرب من البيت؟
قال بعض أهل العلم: السنة المتعلقة بذات العبادة، وهي: الرمل، أولى من السنة المتعلقة بمكانها، وهو القرب من البيت، أي أنه لو أبعد فرمل، كان أولى ممن قرب فزحم فلم يستطع الرمل، ولم يأت بهذه السنة.
قال: (فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ) صلاة ركعتين للطائف مُستحبة كيفما كان الطواف، سواء كان طواف عمرة، أو طواف قدوم، أو طواف إفاضة، أو طواف وداع، أو طواف نفل مطلق، لحديث جبير «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» فيستحب له أن يصلي وهاتان الركعتان هما سنة، فإن صلاهما فحسن وإلا فلا شيء، وليست لازم لتمام الطواف ولا شرط في حصوله، وليست بلازم أن تكون خلف المقام، بل إن تسنى له ذلك وإلا فأي مكان فصلى فيه في المسجد، أو لو صلى خارجه كما جاء عن عمر أنه صلى لما خرج وأبعد عن مكة قليلًا فلا حرج في ذلك لكن لا شك أنه إذا تسنى له خلف المقام بما لا يؤذي الطائفين فهذا هو الأكمل والأتم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثم يستلم الحجر الأسود) }.
قال: (يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ) هذا فعله النبي ﷺ، فلمَّا انتهى من الطواف وصلى ركعتين، رجع فاستلم، ولكن قبل هذا، الاستلام يكون في بداية كل شوط، فإذا انتهى من الشوط السابع، هل يستلم الحجر أو لا؟
يقولون: إن ظاهر السنة أنه عند الابتداء، فبناءً على ذلك لا يكون في الانتهاء، ولكن لو فعل، فإن ذلك يحتمل، وبه قال من قال من أهل العلم، ولكن إذا انتهى من ركعتين فتثنى له إمكان استلام الحجر الأسود، فاستلم فتلك سنة النبي ﷺ كما جاء في الحديث الذي في الصحيح.
وهذا يقودنا إلى مسألة مهمة، وهي: هل استلام الحجر سنة تابعة للطواف، فلا يشرع إلا في ذاك؟ أو هو سنة مستقلة تشرع أحيانًا مع الطواف وأحيانًا منفردة؟ بمعنى لو جاء إنسان يتعبد لله -جل وعلا- ودخل المسجد الحرام، ودخل حتى قَبَّل الحجر ثم رجع وخرج، هل هذا مستحب أو لا؟
قد يؤخذ هذا ومن فعل النبي ﷺ، بعد أن صلى ركعتين أنَّ هذا سنة مستحبة، وما جاء في بعض الأحاديث أن هنا تمحى به الذنوب، يدل على أنه محل للاستحباب على جهة الانفراد.
{أحسن الله إليكم.
لعلنا نكتفي بهذا القدر}.
أسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله خيرًا أعزاءنا المشاهدين، ونتم ما تبقى في مجالس قادمة -إن شاء الله- وإلى ذلكم الحين، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.