الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

16746 27
الدرس العشرون

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائهِ بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
 حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهًلا، أرحب بك وبطلابنا وإخواننا الذين يتابعوننا، وأسأل الله -جلّ وعلا- ألا يحرمهم الأجر والمثوبة، وأن يزيدهم من الفضل والعلم والهدى والتوفيق والسنة.
{أسأل الله أن يحسن إليكم ويبارك فيكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ).
قال -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ ثَمَرٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَلَا زَرْعٍ قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ، لِغَيْرِ مَالِكِ أَصْلٍ أَوْ أَرْضِهِ. إِلَّا بِشَرْطِ قَطْعٍ، إِنْ كَانَ مُنْتَفِعاً بِهِ، وَلَيْسَ مُشَاعاً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد، فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يُتم علينا وعليكم نعمه، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن ينفي عنا كل بلاءٍ وفتنة، وكل سوءٍ ومحنة، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في أحكام بيع الأصول والثمار، وكنا قد ذكرنا ما يتعلق ببيع الدور، وما يدخل فيها وما لا يدخل، وقبل أن ننتقل إلى ما نحن بصددهِ، كنا أشرنا إلى تفريع المسائل على ذلك بنحو ما ذكر الفقهاء، وما آل إليه الأمر.
وهنا أُنبه على مسألةٍ مُهمة على سبيل العموم، وإن كنا قد نبهنا عليها على سبيل التفريع أو ذكر الجزئيات، أن ما يلحق الدور في هذه الأزمنة مع ما تغير فيها مما يثبت وما يلتحق بها ويكون تابعًا للأصل قد اختلف كثيرًا عمَّا مضى، فربما كانت أشياء فيما مضى منقولةٌ مفصولة، وصارت في هذا الوقت مثبتةً تابعة، والعكس بالعكس، وربما كانت أشياء كثيرة فيما مضى ثابتة وصارت الآن منقولة؟
إذًا عرفنا ما يتعلق بالأصل، ثم عرفنا ما ذكر الفقهاء عليها من الحكم، فينتبهُ إلى ذلك ويتنبه.
ثم ذكرنا ما يتعلق بأحكام بيع الشجر ودخول الثمر فيه من عدمه، وهذا هو النوع الثاني، كما مر بنا أيضًا بيع الأرض، وما فيها من غراسٍ وبناء، وهي أقلها اختصارًا أو أسهلها.
ولكن هنا مسألةٌ مهمة: وهي أنَّ المؤلف -رحمه الله- قال في بيع الأرض: (أَوْ أَرْضاً شَمِلَ: غَرْسَهَا وَبِنَاءَهَا)، أي أنَّ من باع أرضًا دخل فيها غراسها وبنائها، ولا بد أن تتنبه للعكس: لأنه يمكن أن يحصل خلاف ذلك، وهو أن يبيع الشجر فقط، فيكونُ الإنسان مالكًا للأرض وهذا الشخص مالكًا للغرس، فكونه مَلك الغرس لا يعني ملكه للأرض، بخلاف العكس، فالعكس يمكن أن يكون إذا باع الأرض دخل الغراس أصالةً، إلا أن يكون بينهما اتفاقٌ بخلاف ذلك.
وبعد هذا انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى أحكام بيع الثمار، قال: (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ ثَمَرٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ)، يعني: لو أنَّ شخصًا أراد أن يشتري هذا الثمر، طَلْع هذا النخل، أو ثمرة هذا العام من العنب، أو ثمرة هذا العام من التفاح، أو ما فيها من برسيم أو طماطم، أو ما تُلقيه هذه المزرعة من باذنجان أو من بطيخ؛ وهذه ربما يتعاطها بعضهم.
ولكن لَمَّا كان ذلك سبيلًا إلى حصول الغرر على واحدٍ منه منعه الشارع، ولَمَّا كان ذلك سبيلًا إلى حصول المنازعة؛ قطع الشارعُ باب المنازعة، ولَمَّا كان ذلك سبيلاً إلى حصول الندامة، بمعنى أنَّ هذه المزرعة مثلًا في كل سنة يخرج منها عشرة طن من التمر، والتمر طيبٌ ذو نكهةٍ وحبةٍ ونحو ذلك وهو مما يحرص عليه الناس، فرأى أن يشتريها، ثم بعد ذلك في هذه السنة -هذا شجر أحيانًا يتأثر بهواء، أو بشدة حر، أو بزيادة سقي، أو بسماد، أو بخلافه- فاشتراها ثم بعد ذلك صار نتاج هذا النخل إنما هو طنان، فقد يلحقه ندامةٌ كثيرة، ويلحقه ضررٌ كبير، والشارع قد منع ذلك، فلهذا منع بيع المعدوم وبيع الحمل ومثل ذلك.
والعكس بالعكس: كان يعرف صاحبهُا أنها لا تنتج أكثر من عشرة أطنان، ثم باعها على أنها عشرة أطنان، فطاب ثمر ذلك العام فأنتجت عشرين طنًا، يقول: لا، أنا ما بعتك أنا كل سنة ما تكون إلا عشرة أطنان، فقطعًا لمادة الخلاف ومنعًا للنزاع منع منه الشارع.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلَا يَصح بيعُ ثَمَرٍ قبل بُدو صَلَاحه)؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْعَاهَةِ، لأنه قد يشتريه ثم يدخل عليها بعض الأدواء والأمراض فتهلكها، على من ستكون الهلكة؟
فهذا يقول: أنت ما أعطيتني ثمر، والآخر يقول: لقد اشتريتها مني قبل أن تتلف، فمنعًا لهذه المنازعة منع الشارع، فجاء في الحديث: «نَهَى النبي عَنْ بَيْعِ الثَّمَارِ، قبل بدو صَلاَحُهَا»[1].
قال: (وَلَا زَرْعٍ قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ)، البُر، الشعير... نحو ذلك، أيضًا مثلها، ربما تباع قبل اشتداد الحب فيأتي بِلةٌ من السماء، مطر من السماء، غيثٌ كثير فيفسدها، وهي قوائمها سيقانها قصيرة، فإذا جاء البرد أو الثلج أو نحوه يقطعها عن بكرة أبيها، فلما كانت عرضةً لذلك لم يَجُز.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لِغَيْرِ مَالِكِ أَصْلٍ أَوْ أَرْضِهِ)؛ أمَّا إذا كانت لمالك الأصل فتكون الجهالة فيها أقل، والغرر فيها أبعد، كونه هو يمكنه أن ينتفع بها، هذا يُسلمه من دخول أحدٍ عليه في ملكه، فله في هذا مصالح كثيرة؛ فلأجلّ ذلك جاز، بشرط، قال: (لِغَيْرِ مَالِكِ أَصْلٍ أَوْ أَرْضِهِ)، فإذا بيعت إلى مالك أصلها أو أرضه جاز.
دعنا نقول الآن: هذا الشخص عنده هذه الأرض، ثم أَجَّرَ هذه الأرض لمن يزرعها وينتفع بها، في أثناء السنة قال: لماذا لا أبيعها؟ فباع هذه الأرض، ولما باعها صارت الأرض لصالح والزرعُ لحسن؛ لأنه هوم من يزرعها كل عام، قال: حسن يزرعها، تنتظره إلى أن ينتهي، جاء وانتهينا، ثم جاء صالح ٌإلى حسن قال: الآن تزرع وأنا محتاج للأرض وكذا وكذا.. أريد أن أشتري منك الآن.
فنقول في مثل هذه الصورة بخصوصها: يجوز، وإن كان من حيث الأصل أن الزرع لا يباع قبل اشتداده، إلا أنه في مثل هذه المسألة يجوز؛ لأن هذا هو مالك الأصل والضرر عليه أقل، والمنفعة له أكبر؛ فلأجلّ ذلك جاز.
ومثل هذا لو كان باع النخل والثمر لمالكه، فنقول في مثل هذه الحالة أيضًا كما قلنا في الزرع: إنه إذا كان البيع لمالك الأصلِ أي: لمالك الشجر جاز.
قال: (إلا بِشَرْط القطعٍ إن كَانَ مُنْتَفعاً بِهِ)، هذا استثناءٌ من بيعه قبل بدو صلاحه، فيقول: إذا كان بيعه قبل بدو صلاحه بشرط القطع، فهنا نأمن حصول الإشكال، ونأمن حصول الخلاف، ونأمن عدم حصول التغير والتقلب أن تتلف الثمرة، أن تكثر فتلحقه الندامة، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا كان بشرط القطع لا بأس؛ لأنه كأنه مبيعٌ مخصوص معلومٌ تعلق به الحكم في ذاته.
لكن يقول بشرط: أن يكون منتفعًا به، فإذا كان مثلًا ينتفعون به في نحو مثلًا أدوية، كما الآن في الوقت الحاضر صارت هذه الأشياء ربما ينتفعوا بها خلاف العادة المنتفعة من ثمرة تؤخذ فتؤكل أو نحوها، أو كان نفعه للبهائم أكثر بكثير من نفعهِ للناس في إطعامهم وفي ذلك زيادة على حاجة الناس، وهنا لا فكذلك.
المهم: قُل (إن كَانَ مُنْتَفعاً بِهِ وَلَيْسَ مشَاعاً)؛ لأن المشاع يقتضي أن يكون فيه جهالة، أين حقي الذي اشتريته من حقٍ شخص الذي بقي! فلا يصح.
 {ثم قال -رحمه الله-: (وَكَذَا بَقْلٌ وَرَطْبَة وَلَا قِثَّاءٍ وَنَحْوِهِ إِلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً أَوْ مَعَ أَصْلِه، وَإِنْ تُرِكَ مَا شُرِطَ قَطْعُهُ بَطَلَ اَلْبَيْعُ بِزِيَادَةٍ غَيْرِ يَسِيرَةٍ إِلَّا اَلْخَشَبَ فَلَا، وَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَكَذَا بَقْلٌ)، البقل: هو الخضروات، مثل: البقدونس ونحوها، وهذه كما قال المؤلف: أحكامها مثل الزرع.
(وَرَطْبَة) الرطبة كما قلنا مثل الأشياء التي تباع طرية كالبرسيم ونحوها ونحو ذلك.
قال: (وَلَا قِثَّاءٍ)، هو نوع من الخيار، ونحو ذلك.
 قال: (إِلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً)، هذه الأشياء هي بين الزرع وبين الثمر، فهي ليست مثل الزرع ينتهي حتى يبذر من جديد ونحوها، لكنها تُقطع.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: البقل أو الرطب تشتريه ولكن لابد أن تقطعه؛ لأنه لا يُؤمن عليه التلف، أو يمكن أن يحصل عليه الزيادة، فالحكم متعلقٌ بالموجود، وليس بالذي وجد بعد ذلك، فالذي وجد بعد ذلك وزاد إنما هو حقٌ لمالك الأصل، وليس حقًا للمشتري.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا كان بقلٌ ورطبةٌ أو قثاءٌ فيصح، لكن تُجز في حينها، تُقطع اللقطة من القثاء، من الباذنجان، من الطماطم؛ على نحو ما ذكرناه.
قال: (أَوْ مَعَ أَصْلِه)، إذا كانت تباعُ مع أصلهِ جاز، ولو لم تُبع مع أرضه، فمادام تباع مع أصله فلو لم يبدُ صلاحها، وإن كان في هذا شيء من الخلاف.
قال: (وَإِنْ تُرِكَ مَا شُرِطَ قَطْعُهُ بَطَلَ)، مثل ما ذكرنا، هو اشترى مثلًا الطماطم اللقطة الظاهرة أو الباذنجان أو القثاء ونحوها، ثم بعد ذلك تركها، فلا يخلو هذا الترك، إن كان شيئًا يسيرًا مما يتسامح فيه الناس، ولا يكون شيئًا ذو بال أو يلتفت إليه الناس أو ترتفع إليه الهمة، وأما إذا تُرك شهرًا فمعنى ذلك أنه اختلط حقهُ بحق غيره، وبناءً على ذلك يقول المؤلف: (بَطَلَ اَلْبَيْعُ)، لماذا؟ لأنه لم يمكن التسليم، ولِمَا حصل فيه من المنازعة، هذا يقول هذا لي، وهذا يقول هذا لي، ولا يحصل بذلك معرفة.
هم يقولون: (إِلَّا اَلْخَشَبَ) إذا بيع، فإنهما لا يبطل، لكنهما يشتركان، وكأنه يكون معلوم القدر فيما كان وفيما زاد، غالبًا أنهم لا يبيعونه إلا قد عرفوا كم فيه، سواء حسبوا في الأوقات الحالية بالمتر المكعب أو بالطول أو بالحجم ونحوه؛ فيكون في ذلك واضحًا، لا يتأتى فيه ما يتأتى في غيره من الإشكال.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَحَصَادٌ وَلُقَاطٌ وَجِدَاد ٌعَلَى مُشْتَرٍ، وَعَلَى بَائِعٍ سَقْيٌ وَلَوْ تَضَرَّرَ أَصْلٌ)}.
(وَحَصَادٌ)، الحصاد للزرع، (وَلُقَاطٌ) للثمرة، (وَجِدَاد) للنخل، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: كل هذا على المشتري، هو الذي اشتراه، فمن حيث الأصل هو الذي يلقطها وهو الذي يأخذها.
قال: (وَعَلَى بَائِعٍ) يعني يجب على البائع؛ لأن (على) دالةٌ على اللزوم والوجوب، (سَقْيٌ وَلَوْ تَضَرَّرَ أَصْلٌ)، إذا قَرُب طِيب الثمار فسقيُ الأرض سقي الشجر ينفع الثمر يزيد مائه ويزيد حلاوته وطراوته، لكنه يضر أصل الشجرة.
فهنا يقول المؤلف -رحمه الله-: أنه يلزمه أن يسقي ولو تضرر الأصل؛ لأنك علمت أن فيها ثمر وأنه التزمت بتسليمه على وجه تمامهِ، وتمامهُ يكون بإعطائه أعلى ما يمكن تحقيقه، ولا يتأتى ذلك إلا بتمام سقيه.
فكأنك رضيت على نفسك لحصول نوعٍ من الضرر على الشجرة أو تقليل حقها، إبقاءٍ لحق صاحب الثمرة، ورضاؤك بالبيع على تلك الحال، هو رضاء بما يترتب على ذلك.
قال: (وَلَوْ تَضَرَّرَ أَصْلٌ)، مثل ما ذكرنا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَا تَلِفَ سِوَى يَسِيرٍ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَعَلَى بَائِعٍ مَا لَمْ يُبَعْ مَعَ أَصْلٍ، أَوْ يُؤَخَّرْ أَخْذٌ عَنْ عَادَتِهِ)}.
قال: (وَمَا تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ)، الزراعة وما في حكمها عرضةٌ لحصول الآفات، فالآفات إما أن تكون بفعل آدمي أو نحو ذلك، فهذه لا حكم لها، البيع على ما هو عليه، وعلى من أتلف الضمان والغُرم بحسبه، بحسب التفريط والتعدي، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتعلق بهذا.
ولكن إذا كان بأمرٍ خارج عن قدرة الإنسان، لذلك قال: (بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ) نسبةً إلى السماء، باعتبار أنها تكون من جهتها، لا أنها سببها أو أنها الفاعلة فيها، فالذي قدّر ذلك هو الله -جلّ وعلا-، ولكن جرت عادة أهل العلم على أن يقولوا: آفةً سماوية إشارةً إلى أنه لا صنع للإنسان فيها، وأنها جاءت من جهة السماء، نسبة الشيء إلى جهته، لا أنها هي سبب ذلك ونحوه، بل هو الله -جلّ وعلا- وهو الذي قدّر ذلك وأحكمه، وجعل هذه الآفات سببًا لحصول التلف ونحوه.
إذًا إمَّا أن يكون يسيرًا فهذا لا يلتفت إليه؛ لأنه بُد من حصول ذلك لا محالة، ولكن إذا تلف هذا الشيء، فيقولون: أُمر بوضع الجوائح، جاء في حديث جابر عند مسلم في صحيحه: قال: «أَمَرَنا بوَضْعِ الجَوَائِحِ»[2]، وقال في الحديث الآخر: «لوْ بعْتَ مِن أخِيكَ ثَمَرًا فأصابَتْهُ جائِحَةٌ، فلا يَحِلُّ لكَ أنْ تَأْخُذَ منه شيئًا، بمَا يستحل أحدكم مال أخيه»[3]، «بمَ تَأْخُذُ مالَ أخيك بغير حق»، فيقولون: أن ذلك جاء في أمر النبي .
لكن هل هذا الأمر على سبيل الوجوبِ أو على سبيل الندب والحث؟
فظاهر كلام الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أنَّ ذلك لازمٌ واجب؛ لأنه قال: «بمَ يَأْخُذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق»، أُمِرَ بوضع الجوائح، والأمر الأصل فيه الوجوب واللزوم، فهنا يقولون: إن هذا داخلٌ في تلك الأحوال، على سبيل اللزوم.
ولكن قال جمهور الفقهاء: هذا من النبي أمرٌ بالإحسان، وأنَّ صاحب الزرع، أو صاحب الثمر، أو صاحب الشجر، عليه أن يحسن إلى هذا الذي تضرر، وبذل ماله، وحصلت عليه هذه الآفة، فبناءً على ذلك قالوا: يحسن به أن يضعها وليس ذلك على سبيل الوجوب.
على قول الحنابلة: ذلك موقوفٌ بأن يكون قبل التسليم أو بعد التسليم قبل القطع.
لِمَ قالوا بهذا؟
قالوا باللزوم، لأنه وإن خلى بينه بين الاستلام، لكن التخلية هي قبضٌ ضعيفٌ، وبناءً على ذلك قلنا بلزوم أمر الجوائح، ولأجل هذا –يقولون-: لو كان قد قطعها وجعلها في المستودع أو البيدر -المكان الذي تحفظ فيها هذه الأشياء- طبعًا المشتري لا إشكال فيه.
فعلى كل حال: هذه من المسائل المشهورة عند الفقهاء، والخلاف فيها بين الحنابلة وبين الجمهور، والحكم كما قلنا.
قال المؤلف -رحمه الله-: لكن إذا كانت حصول التلف بسببٍ من البائع، يقول: فلا، أو لا دخل للبائع فيه، فلأجل ذلك قال: (مَا لَمْ يُبَعْ مَعَ أَصْلٍ)، إذا بيع مع أصله فهو قد استلمه استلامًا تاما، قبضًا كاملًا، فلا علاقة للبائع به، فبناءً على ذلك لا رجوع.
أو قالوا: إنه سلمه المبيع، لكن هذا تأخر عادةً عن القطع، وكان الأولى به مثلًا أن يقطعه قبل شهر فأخر ذلك، فنقول: أنت الذي فرطت، فإذًا ليس هو من جهة حصول الآفة، لكنه من جهة حصول التفريط، فبناءً على ذلك لا ضمان في تلك الحال.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَصَلَاحُ بَعْضِ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ صَلَاحٌ لِجَمِيعِ نَوْعِهَا اَلَّذِي فِي اَلْبُسْتَانِ)}.
لَمَّا قال المؤلف: (ولا يباع ثمرُ حتى يبدو صلاحه) أراد أن يُبين، فعندنا إما الحكم ببدو الصلاح في البستان، أو بالنوع، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- جعل ذلك منوطًا بقيدين:
أولًا: أن صلاح كل نوعٍ هو صلاح لذلك النوع في ذلك البستان، فمثلًا عندنا النخل أنواع: الإخلاص، البرحي، المبروم، السكري، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا بدى صلاح الإخلاص فيجوز له بيع كل نخل الإخلاص في ذلك البستان، وليس في عموم البلد.
أي: في بستانه فقط، فإذًا هو مخصوص بالبستان نفسه وبالنوع نفسه.
{طيب إذا كان شيخ نصفه ونصفه؟}
يقولون: إذا بدى الصلاح في بعضهِ، بدى صلاحُ لذلك النوع كله في نفس البستان وفي نفس النوع.
على سبيل المثال: بالنسبة للنخل وهو أكثر شيء نعرفه، عندنا شيء يسمى: الهلالي، هذا معروف أنه يأتي بعد هذا الوقت بأسبوعين أو ربما شهر، ولا يزال رُطبًا يأخذ الناس منه ويتزودون، بينما أكثر ثمر النخل قبل أسبوعين أو شهر قد جُذ وانتهى صار صرامًا، يعني: انتهى بكل حال.
فإذًا هم يقولون: أن هذه الثمار من حيث هي تختلف، فكل نوع له حكمه، كذلك مثلًا أهل التفاح يعرفونه بأنواعهِ سواءُ كان ذلك بألوانه، أو كان ذلك بأسمائه، أو كان ذلك بحجمه، أنا لا أعرف في هذا شيئًا، ومثل ذلك الموز، كل نوعٍ له حكمه.
فإذًا هو منوطُ بدو الصلاح بالنوع، ومتعلقهُ ذلك البستان.
فإذًا لو صلح ثمر الإخلاص في هذا البستان لا يعني لصاحب البستان الذي بجوارهِ أن يبيع خلاصه، بل لابد أن ينظر هل بدى صلاحه ولا لا؟ فإذا بدى صلاحه جاز؛ لأنه هو له تعلق بالشمس وبالحرارة وبالسقي وبغيره؛ فكل شيء يختلف بحسبه.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَصَلَاحُ ثَمَرِ نَخْلٍ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ، وَعِنَبٍ أَنْ يَتَمَوَّهَ بِالْمَاءِ اَلْحُلْوِ وَبَقِيَّةُ ثَمَرٍ بُدُوّ ُنُضْجٍ وَطِيِبُ أَكْلٍ)}.
صَلَاحُ الثَمَرِ النخل أن يحمر أو يصفر، كما جاء في الحديث: «حتى يَحمَرَّ أو يَصفَرَّ»، «لا تبيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، قيل: ما صلاحا يا رسول الله؟ قال: أن تَحمَرَّ أو تَصفَرَّ».
(وَعِنَبٍ أَنْ يَتَمَوَّهَ بِالْمَاءِ اَلْحُلْوِ)، العنب إذا ذقتها أحيانًا فيهم مرورة، لا يستطيع أحدٌ أن يستسيغها، فهذا قطعًا أنه لم يبدو صلاحه، لكن إذا بدأ تجد فيه أثرُ للحلاوة وإن لم يكن في كل الأحوال يعني هو مطلب الإنسان أو انتهى؛ لأنه درجات الحلاوة واكتمال حلاوته، لكن بمجرد وجود هذا الطعم الذي فيه نوع حلاوة، وإن بقيت شيءٍ من المرورة، فهذا انتقالُ إلى بدو صلاحهِ، فيجوز بيعه في مثل هذه الحالة.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَبَقِيَّةُ ثَمَرٍ بُدُوّ ُنُضْجٍ)، بدو النضج معروف عند أهل الفلاحة، ومعروف عند الناس كلٌ بحسبه.
(وَطِيِبُ أَكْلٍ) يعني إمكان الأكل منه، قد لا يكون هو في تمام نُضجه أو في كمال الاستمتاع به والانتفاع، لكنه لو أراد شخصٌ أن يأكل لأمكن ذلك ولكان مقبولًا، فهذا أوان العلم بوقت بدو نضجه أو إمكان أكله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَشْمَلُ بَيْعَ دَابَّةٍ عِذَارَهَا وَمِقْوَدَهَا وَنَعْلهَا، وَقِنٍّ لِبَاسَهُ لِغَيْرِ جَمَالٍ)}.  
قال: (وَيَشْمَلُ بَيْعَ دَابَّةٍ عِذَارَهَا)، العذار مثل: اللجام، وهو جانب اللحية؛ ولأجل ذلك هناك عظم يسمى العذار فمنه سمي ذلك، وهو معترث، والعوارض في جانبي الإنسان، ومنه سُمي عذارها يعني: لجامها، فالعادة أن هذا اللجام ثابت فيها، أو هو في حكم المثبت، يعني لا يفك منها.
 (وَمِقْوَدَهَا) الذي هو مرتبط بذلك.
(وَنَعْلهَا)! (النعل) أيضًا يُسمر، وبناءً على هذا قالوا: هو داخلٌ في هذا.
قالوا: (وَقِنٍّ لِبَاسَهُ لِغَيْرِ جَمَالٍ)، القِن ما يستتر به، بعض الناس مثلًا على سبيل المثال يُلبس عبده ما يذهب به إلى السوق، ما يشتري به الحاجات، لكن إذا كان عنده مثلًا وليمة عُرس ألبس عبيده لباس زهو، جمال يستقبلون به الناس ويزدان به الحفل، ويطلب به حصول الأبهة، ونحو ذلك؛ فهذا موجود في كل الأوقات، ولهذا لباس الجمال لا يدخل في الحكم، لكن لباس المعتاد هو لباسٌ في الغالب أنه له مرتبط به، «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ»، فثياب الجمال أو نحوه للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، فيستثنى من ذلك ما كان عادةً وهو ما يلبسه في ذلك عادةً فهي داخلةٌ في الحكم، أو في التبع، هي تبعٌ للعبد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ اَلسَّلَمُ بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام السلم، والسَّلم هو من أحكام البيع، لكن الذي تقدم وجه، وهذا له وجه، يعني أنَّ البيع فيه ثمنٌ وفيه مثمن، فبيّن المؤلف -رحمه الله تعالى- الشروط السبعة لحصول البيع، والعلم بالثمن، والعلم بالمثمن، ونحو ذلك مما تقدم.
ثم بيّن في باب الربا ما يصح تأجيله من المثمنات وما لا يصح، والأثمان، هنا أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه لما كان الغالب أنَّ الثمن غير موجود والمثمن موجودًا، فيشتري بثمن مؤجّل، ولكن هنا العكس: أن يكون الثمن حاضرًا والمثمن مؤجّلا، فهذا فتح فيه الشارع باب تيسير على الناس، فكما أنَّ الناس قد يحتاجون فلا يجدون أثمان الأشياء فيحتاجون لشرائها بأثمان مؤجّلة، فكذلك أيضًا يجد الناس من الحوائج والأمور ما لا يحتاج إلى ثمنها، أو يوجد عندهم من الأثمان ما لا يحتاجون إليه، ويحتاجون بعدها إلى ما يُقابلها في حينها وفي محلها، فيقدم هذا الثمن ليحصلوا في أوان طلبهم لتلك المثمنات في حينها أو في محلها؛ كل ذلك جائز بشرطه.
فإذًا هذا من الشارع توضيحٌ لحال تأخر الثمن فيما مضى، وفي هذه المسائل حال تقدم الثمنِ وتأخر المثمن، وأنَّ ذلك جائزٌ بقيده وشروطه.
لماذا احتيج إلى مثل هذا الباب، ولم يُحتج إلى باب المثمنات إذا تأخرت أثمانها؟
الأثمان معروفة، فإذا قلت: مئة دينار لا أحد يختلف في الدنانير، ما نحتاج إلى تفصيل، إذا قال: مائة درهم معروف، إذا قال: ألف ريال معروف، إذا قال عشرة آلاف ريال معروف، لكن هنا تعطيه مائة ألف ريال وتقول له: أريد سيارة، سيارة منها القليل، ومنها الكثير، ومنها الصغير، ومنها الكبير، ومنها ما تكملت مواصفاته، ومنها ما قلت، ومنها الجديد، ومنها القديم.
فاحتيج في ذلك إلى ضبطٍ يحصل به المقصود، ولا يكون به التنازع أو يصير على واحدٍ منهما الغرر والظلم، فبيّن الشارعُ وذكر الفقهاء استنادًا إلى ما دلت عليه الأدلة، وجاءت به النصوص من ضبط هذا الباب، ومن الإحسان فيه.
لذلك جاء في حديث ابن عباس أنَّ النبي قال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»[4]، فإذا كان الأجلُ واضحًا، والشيء واضحًا، والثمن معلومًا، وانتفت الجهالات فيها، وعُرف الحد والقدر في ذلك، حصل بذلك المقصود وانتفى به النزاع، وهو الباب الذي فصله المؤلف -رحمه الله تعالى-.
 وفي هذا الحقيقة هذا الباب هو من أكثر الأبواب التي يحصل بها خلاصٌ وفكاك من المعاملات المحرمة الربوية على ما ذكرنا، وفيها توسعةٌ للأسواق والأعمال لحصول المقصود والوصول إلى غاياتهم؛ مع تعذر الشيء في هذا الوقت، أو حصول حاجةٍ لصاحب الصنعة إلى الأثمان ابتداءً للتهيؤ بها وشراء ما يكون من بذر، أو ما يحتاج إليه من آلةٍ للصنعة، ومواد خام... وغيرها، فكل ذلك كان فيه تيسيرًا وتسهيلًا.
 كما قلنا: عندنا الآن كثير من العقود مبناها على السَّلم، إن لم تكن منطبقةً على السَّلم فلا تنفك من أن تكون داخلةٌ في معناه، على سبيل المثال: عقود التوريد، وعقود المقاولات، وعقود الاستصناع؛ كلها في الغالب بابها باب السَّلم فتدخل فيه.
طبعًا بالنسبة لباب الاستصناع هو الأكثر وقوعًا، وإن كان الفقهاء بالنسبة لتقييداتهم، جمهور الفقهاء لا يذهبون إلى الاستصناع؛ لأن الاستصناع فيه التحديد والتعيين أكثر فيحصل به الإشكال؛ فلأجل ذلك لم تنطبق عليه ضوابط السَّلم فمنعوه خلافًا للحنفية، لكن الحقيقة: أنه آلت أمور الناس في هذا الوقت إلى الحاجة إلى الاستصناع.
{ما الفرق بين الاستصناع والسَّلم؟}
السَّلم في الغالب يتعلق بدين، يعني شيء غير مُعين -موصوف-، ولكن الاستصناع يتعلق بعين مُعينة، والعين المعينة إمكان حصولها من عدمها أقل من حصول الموصوف في الذمة، فحصول الموصوف في الذمة إذا لم تحصل هذا، فقد تحصل الثالث، الرابع، الخامس.
والعين إذا تلف أو ما باع، أو لم يتأتَّ للإنسان الحصول عليه، حصل عليه إشكال، فإذا قلت مثلًا: بُر هذه المزرعة، يمكن هذه المزرعة ما تنتج، لكن لو قلت بُر ووصفه كذا وكذا، فهذا ينطبق على هذه المزرعة وعلى غيرها، وإذا ما أنتجت هذه المزرعة أنتجت الأخرى، ذهبت لمكان آخر وأتيت به.
إذًا العين أضيق، لكن الحاجة ماسة إلى مثل هذا في هذا الوقت.
الثاني: الثمن في السَّلم معجل بينما المثمن مؤجل.
{أي لا يتجزأ، بل يعطيه الثمن كاملا}
نعم هذا صحيح.
وأما الاستصناع فيمكن أن يكون بعضه حاضرًا وبعضه مؤجلا، ولذلك هذا مما قد يرد معه على الإشكال؛ لأن بعضه قد يكون مثل: الدين بالدين.
أيضًا هما يتفقان في كونهما عقدٌ على مجهول أو معدوم، وفي وقت العقد لا يوجد سواء في السَّلم أو سواء في الاستصناع.
فعلى كل حال: دَرَجَ المعاصرون في هذا الوقت، سواء من فقهاء الحنفية أو فقهاء الجمهور إلى التوسعة في ذلك؛ لأنه مع تقدم الصناعة وحركة الأعمال ونحوها، كانت حاجة الناس مُلحة إلى التوسعة عليهم في عقود الاستصناع، وما يُلحق به من عقود المقاولة والتوريد.
فصار على ذلك العمل، وعمت به البلوى، والأمر فيه فُسحةٌ؛ لأنَّ له أصلٌ، والحاجة داعيةٌ إلى ذلك، ولهذا على سبيل المثال في باب الإجارة: سيأتينا أنَّ الأجير المشترك يُضَمَّنُ على الإطلاق، مع أن قواعد الشرع لا يُضمن الإنسان إلا بتعدٍ أو تفريط، ولكن لَمَّا كان الناس يضعون عندهم كل شيء مثل: المغسلة، وسيأتينا حُكمها.
علي -رضي الله عنه- ضمّنه، يعني: إذا ضيعت شيئًا أو أفسدته تضمنه، لماذا؟ قال: لا يصلح أمر الناس إلا هذا، وإن قلنا لا يضمن، كان بدأ بالتفريط، وبدأ بكذا، وهذا قطع ثوبه، وهذا أضاعه، وهذا خرقه، ونحو ذلك.
{إذا كان بدون تعدٍ أو تفريط؟}.
ليس هذا محل بحثنا، سيأتي الأجير المشترك في باب الإجارة، ولكن الكلام أن هذا مدعاةٌ إلى القول بالتوسعة في باب الاستصناع، كما جاءت النصوص متكاثرةً في أحكام السَّلم؛ لأنه وإن لم ينطبق عليه السَّلم مائة بالمائة، إلا أنه داخلٌ فيه، ويمكن ضبطه كما يمكن ضبط السَّلم؛ فلأجل ذلك احتيج إلى القول به والتوسيع فيه.
{قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ اَلسَّلَم بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ، أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ كَمَكِيلٍ وَنَحْوِهِ)}.
السَّلم يقال: سلم، ويقال: سلف، وحقيقته تعجيل الثمن وتأجيل المثمن، الأصل فيه ما جاء في حديث النبي لَمَّا جاء إلى أهل المدينة وهم يسلفون ويبيعون ويشترون، قال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، أي: ينفي الجهالات، ينفي ما يحصل به الغرر، ويحصل ما يؤدي حاجة الناس، ويسمحوا بضبطِ أعمالهم.
فكما قلنا: من الناس من يستطيع الزراعة، ولربما يُنتج شيئًا كثيرًا، لكن ليس عنده ما يشتري به البذر فيحتاج إلى تعجيل الثمن، ويتعهد لصاحب هذا الثمن بضاعةٍ موصوفةٍ معلومةٍ موضحة، فبناءً على ذلك جاز على ما ذكرنا، ولهذا حُكي في هذا إجماع أهل العلم فلا يختلفون في صحتهِ.
{ثم قال –رحمه الله-: (وَذِكْرُ جِنْسٍ وَنَوْعٍ، وَكُلِّ وَصْفٍ يَخْتَلِفُ بِهِ اَلثَّمَنُ غَالِبًا، وَحَدَاثَةٍ وَقِدَمٍ، وَذِكْرُ قَدْرِهِ)}.
يقول المؤلف –رحمه الله-: (وَيَصِحُّ اَلسَّلَم بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ)، السّلم كما قلنا هو بيعٌ، وإذا قلنا بأن السَّلم يصح بسبعة شروط، فمعنى ذلك أن بيع السَّلم لابد أن يجتمع فيه أربعة عشر شرطًا، سبعةٌ هي شروط البيع، وسبعةٌ هي شروط السّلم، فبناءً على ذلك ما كان فيه تعجيلٌ للثمن وتأجيلٌ للمثمن، فلابد فيه من وجود هذه الشروط الأربعة عشر، السبعة المتقدمة في البيع باعتبار أن السّلم بيعٌ، والسبعة المذكورة هنا وهي باعتبار أن المثمن هنا مؤجل، والخلاف فيه يشتد، فاحتيج فيه إلى البيان والضبط على ما جاء في حديث النبي .
ولذلك قال: (أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ)، وهذا ما يُعبر عنه الفقهاء بالمثلِ، قالوا: (كَمَكِيلٍ وَنَحْوِهِ وَذِكْرُ جِنْسٍ وَنَوْعٍ، وَكُلِّ وَصْفٍ يَخْتَلِفُ بِهِ اَلثَّمَنُ غَالِبًا)؛ فإذًا إذا قال: من الأرز البسمتي النوع الذي يأتي من الهند، حبته كذا، ونوعه كذا، ومثل ذلك البُر وذكر صفاته، وأهل تلك الأشياء يعرفونها، فلابد من تحديد، مثل ذلك، ومثلًا في التمور يقول: من الإخلاص مثلًا الحبة الطيبة التي يحصل بها الضبط.
وهنا لو نظرتم إلى كلام الفقهاء –رحمهم الله تعالى- لرأيتم أن ما يصح فيه السّلم محدود، وهي: المثليات، والمثليات عَدَّوها قليلة، لكن كل ذلك منوطٌ بأنَّ الحرفة عندهم بسيطة، والصنعة عندهم ضعيفة، فلمَّا تطورت أحوال الناس، وزادت الحرفة، وأتقنت الصنعة، صار أكثر الأشياء متماثلة.
وبناءً على ذلك: يسع في هذا الوقت أن يدخل السّلم في أشياء كثيرة، لم يكن يدخل فيها على ما عدَّ الفقهاء، وليس ما أصلوه، لأن ما أصلوه يدخل في هذه الأشياء.
لكن ما عدَّ الفقهاء لا يدخل فيه، هم عدوا أشياء بسيطة؛ بسبب أنهم قالوا: لابد من انضباط الصفات، وغير هذه الأشياء لا تنضبط صفاتها، فإذًا الأواني عندهم مثلًا لا تنضبط صفاتها، لماذا؟ لأنه يصنع بيده، ربما يصنع صغيرًا، وربما يصنع كبيرًا، ولكن الآن لو تأتي بمائة ألف إناءٍ لرأيتها شيئًا واحدًا لا يختلف عن هذا البتة.
والسيارات مع صعوبتها وكثرة تفاصيلها مع ذلك يمكن، فإذا قال سيارة من نوع كذا، أبوابها تعمل بالطريقة الفلانية، ولونها كذا، ومراتبها من الجلد، ومحركها كذا، يستطيع أن يُفصل، ويأتي حتى ولو بمائة صفة، وتُضبط هذه الصفات ويمكن تنفيذها.
إذًا ذكر الفقهاء أشياء قليلة عدًّا، لكنهم قيدوا ذلك بما تنضبط به الصفات، فلمَّا اتسع في هذا الوقت ما تحصل به انضباط الصفات قلنا: بما بكل ما انضبطت صفته، وأمكن الإتيان به على وجهه.
لكن لابد أن يكون الشيء مضبوطًا فيذكر الجنس، مثلًا لو قال: سيارة، السيارة فيها ما يكون بعشرة آلاف ريال، وفيها ما يكون بأكثر من مليون ريال، أو سيارة لها أربع كفرات أو نحو ذلك، لابد من ذكر الجنس والنوع والأشياء التي تؤثر في الثمن غالبًا؛ حتى الألوان الآن ربما بعض الألوان لكثرة ترفه الناس ونحوهم، يكون سعره أكثر من الآخر لإقبال الناس عليه ورغبتهم فيه.
فإذًا كل ما كان مُؤثرُا في الثمن كان مُتعلقًا به الحكم.
وحدثه قِدم: أيضًا هذا له أثر، فبعض القديم أغلى من الحديث، وبعض الحديث أغلى من القديم بحسب الأشياء ونوعها.
{ثم قال –رحمه الله-: (وَذِكْرُ قَدْرِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي مَكِيلٍ وَزْنًا وَعَكْسُهُ)}.
يعني: لابد من شيءٍ ينضبط، فالمعيار الشرعي لو قيل في المكيل وزن أو كذا لما صح، فمادام أن له اعتباراتٌ شرعية بكيلٍ أو وزنٍ أو نحوه، فليكن كذلك على وجهٍ معلوم وقدرٍ مُبين.
{ثم قال –رحمه الله-: (وَذِكْرُ أَجَلٍ مَعْلُومٍ كَشَهْرٍ)}.
قال: (وَذِكْرُ أَجَلٍ مَعْلُومٍ) لابد أن يكون الأجل معلومًا، لو قال له: أنا آتيك بتمر، وصفته كذا وكذا، وبوزن أو كيل قدره كذا، بدون أن يكون فيه أجل، هذا مُشكل، يتضرر ذلك، إذا جاء يطالبه في نهاية السنة، قال: لا، أنا ما قلت لك ها السنة، السنة القادمة، فيفضي ذلك إلى حصول النزاع؛ فلأجل ذلك قال النبي : «إلى أجلٍ معلوم» هذا ما وضح في الدليل، وجليٌ في الأثر، وهذا لا إشكال فيه.
وهذا أيضًا من آثار الخلاف بين الاستصناع، يقوله: تصنع لي هذا وتأخذ قيمتها، فمتى ما صنعها وأكلمها أتى بها، مما يختلف به.
قالوا: (كَشَهْرٍ)، هل المقصود بذلك إطلاقُ التمثيل؟ لو قال لك: يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة! من الفقهاء من قال: المهم أن يكون الأجل معلومًا قليلًا كان أو كثيرًا، ولكن ظاهر كلام الحنابلة أنهم يقولون: لابد أن يكون وقتٌ له وقعٌ في الثمن، يعني ممكن أن يُنتفع بهذا الوقت، أما اليومين والثلاثة فليس فيه فرق.
لكن على كل حال: هم ذهبوا إلى الاعتبار فلا يعتبِرُ ما قال، والتوسعة في هذا: أنه مادام الأجل معلوم فالحمد لله.
لكن أيضًا الحنابلة وغيرهم يقولون: يستثنى من ذلك الأشياء التي إذا اتفق معه على أن يُسلمه شيئًا فشيئًا، مثل: الخبز، فقال: أنا لا أحتاج هذا المبلغ الآن عندي، وأنت خباز، أنا أعطيك ألف ريال بشرط أن ترسل لي كل يوم خبزةً أو خمس أو عشر لمدة سنة، فيقولون: هذا يصح حتى ولو كان الأجل ليس بعيدًا، ويبدأ تسليم هذه الأشياء.
{ثم قال –رحمه الله-: (وَأَنْ يُوجَدَ غَالِبًا فِي مَحِلِّه)}.
لأنه إذا لم يتصور وجوده غالبًا فإنه يُفضي إلى النزاع، فلو اشترط مثلًا أنه بعد سيسلمه التمر بعد ثلاثة أشهر، والتمر عندنا إنما يكون في فصل الصيف، وبعد ثلاثة أشهر هذا هو عُز فصل الشتاء، فيتعذب في ذلك غالبًا تسليمه، فهذا يُفضي إلى المنع، لكن لو قال: والله يمكن أنا أحضرها فيه بعض البلدان تنتج في هذا الوقت لكونها صيفًا، أو فيه من يخزنها الآن في محال التخزين أو نحوه.
المهم، يمكن حصولها غالبًا، لئلا يفضي ذلك إلى النزاع، لئلا يفضي ذلك إلى الإخلاف، فنحن لا نريد الإضرار بأحدهما، فإذا عُلم ذلك غالبًا بأنه يحصل فما يكون خارجًا عن هذا فهذا قليل، فلا نمنع هذا الخير الكثير بأمرٍ قليل، لكن إذا لم يكن يحصل غالبًا فيه، فإنه لا يتأتى، بل هذه نوع مقامرة، وطريقٌ إلى حصول الاختلاف والمنازعة.
{ثم قال –رحمه الله-: (فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ صَبَرَ أَوْ أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ)}.
يقول: إذا تعذر، يعني مع كوننا قد بذلنا من الأسباب ما بذلنا، ولكن في بعض الأحوال يكون هناك عارض خارجٌ عن العادة، مثل: تلفت المزارع، وجاءت شمسٌ حارقة، هبَّ غبارٌ فأصابها عاهة، أو نحو ذلك، فيقولون: إذا تعذر ينفسخ البيع أو يصبر، فإن صبر فالحمد لله، وإن طلب ثمنه فله ذلك، وينفسخ البيع لعدم تعلق المطلوب.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وبارك فيكم، وفتح لكم، كان باقي مسألة: (أَوْ أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ) أو لا؟}
نؤجلها ونبدأ بها في الدرس القادم مادام أن الوقت قد انتهى.
{أحسن الله إليكم، وفتح لكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (2194)، ومسلم (1534).
[2] رواه مسلم.
[3] رواه مسلم.
[4] أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك