{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم، أمَّا بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، وحياكم الله، وحيا الله طلاب العلم وطالباته وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، المستفيدين من هذه المجالس التي أسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلها ثوابًا لهم في أُخراهم وزادًا لهم في دنياهم.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله- في كلامه عن واجباته، قال: (واجباته سَبْعَة، ثم ذكر ومبيت بِمُزْدَلِفَة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله، وبمنى لياليها)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعدُ، فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يزيدكم من العلم والهدى، وأن يحمل ما تحملتموه من الهم والغم، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يتم علينا وعليكم النعم الظاهرة والباطنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من واجبات الحج السبعة، فذكرنا أو انتهينا في المجلس الماضي مما يتعلق بأحكام المبيت بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل، وهذا لمن وفاها قبله، وأما من وفاها بعد منتصف الليل؛ فيكفيه بذلك مرورٌ أو بقاءٌ، ولو لحظة يسيرة، ويكون قد أدى ما عليه.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وبمنىً لياليها) يعني أن من واجبات الحج المبيت بمنى ليالي التشريق، أي: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن تأخر.
وأصل اعتبار ذلك واجبًا من واجبات الحج، أن النبي ﷺ بقى بها، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم»[1]، ثمّ إن النبي ﷺ لم يُرخص لأحدٍ أن يخرج من منى في تلك الليالي إلا للسُّقاة والرعاة، وذلك للحاجة التي تترتب عليها مصلحة الحجيج، فلما أذنَ لهم، أو رخّص لهم؛ دلّ على أن غيرهم ليسوا في رخصة، أو أنه بقي عليهم الوجوب، وتعلق بهم اللزوم، وبناءً على ذلك قال أهل العلم: إن هذا واجب من واجبات الحج.
بِمَ يتأتى ذلك الواجب؟ لأهل العلم فيه مآخذ، يتلخص ذلك في أنه يكون في البقاء معظم الليل، أن يبقى فيها أكثر الليل، ولا تتساوى بأن يُقال من أتى بعد منتصف الليل يمر ويكفيه ذلك، وذلك لأنَّ مزدلفة ليست مكانًا للبقاء، وإنما يترتب على الحجيج أعمال بعدها، ونفرة إلى منى، وخروج إلى البيت ونحو ذلك، لكن بالنسبة لمنى فليس على الحاج إلا أن يبقى ويبيت، وأن يمكث ويستقر، فلأجل ذلك قالوا: معظم الليل، ثمّ ليعلم في هذا أنَّ الوجوب متعلق بهذه الليالي الثلاث للمتأخر، وبالليلتين للمتعجل، فمن فوتهما تعلق به دمٌ، وأمَّا من فاته بعضُ ليلةٍ، مثلًا، أي: ما بقي فيها إلا أقل من نصف ليلة، ثمّ إما خرج ليزور أحدًا فتأخر، أو غير ذلك من الحاجات، أو يُحضر حاجة له من فندق أو مكان سكنه، أو نحو ذلك، فهنا يقولون: إنه فات عليه بعض الواجب، ولم يفت عليه جميعه أو كله.
وبناءً على ذلك ذكر أهل العلم أنه يتصدق بشيءٍ، ولا يتعلق الدم إلا بترك الواجبِ كله، أو أكثره فيما يُفهم من كلامهم، وهو محل اعتبارٍ ونظر.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَالرَّمْي مُرَتبًا)}.
والرمي مرتب، رمي الجمار هو من الواجبات، وهنا يدخل فيه الرمي في يوم النحر الذي هو رمي جمرة العقبة، والرمي في أيام التشريق، الذي هو رمي الجمار الثلاث، الصغرى فالوسطى فالعقبة أو الكبرى، وذلك في الحادي عشر والثاني عشر كذلك، والثالث عشر لمن تأخر.
فالرمي مما يجب ويلزم، ويتعلق به حكم الوجوب واللزوم على الحجيج، فإن النبي ﷺ رمى، والنبي ﷺ قال: «لتأخذوا عني مناسككم»[2]، والنبي ﷺ تولى ذلك عن الصغار والنساء، كما في حديث جابر، أنهم توكلوا عنه، وكل هذا يدل على اللزوم والوجوب.
ومما يدلي لذلك تأكيدًا، أنه لما رخص للسقاة والرعاة أن يتركوا المبيت، أمرهم بالرمي، سواء جاءوا فرموه في آخر النهار، أو جمعوه إلى آخر ليلة، ولو كان غير واجب لَمَا حتم عليهم ذلك وألزمهم به؛ فدل هذا على أن الرمي واجبٌ من الواجبات.
وهنا لابُدّ من وجود الرمي، وأن يكون مرتبًا، فأول شيء يُبدأ به جمرة العقبة في يومها، ثم الجمرات الثلاثة الصغرى فالوسطى فالعقبة في الحادي عشر، ثم الصغرى فالوسطى فالعقبة في اليوم الثاني عشر، ثم الصغرى فالوسطى فالعقبة في اليوم الثالث عشر لمن تأخر، فلو أخلّ شخص بواحدٍ من هذه الجمار، جمرة الوسطى أو العقبة في يوم من الأيام أو نحوها، فقد أخلّ بالواجب فتعلق به حكم ترك الواجب، وبناءً على ذلك عليه دمٌ.
لقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا وبين المبيت؟
المبيت أُمر أن يبيت يتأتى ذلك ببعضه، لكن الرمي فعل لابُدّ من الإتيان به تامًا، فالإخلال ببعضه إخلال بجميعه، وبناءً على ذلك كان لازمًا على الحاج أن يفعل ذلك تامًا.
وقد اختُلف فيمن ترك رمي حصاة رمى بست أو خمس، هل يكون كمن أخل بها؟
هؤلاء محل بحث ونظر، منهم من خفف في الرمية تفوت، ومنهم من لا يخفف فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَحلق أَوْ تَقْصِيرٌ، وَطواف وداعٍ)}.
الحلق في الحج هو من أعمال النسك، بمعنى أنه يفعل ذلك تعبدًا، وأنه تقرّبٌ لله -جلّ وعلا- كما يتقرّب بالطواف، وكما يتقرب بالوقوف بعرفة، وكما يتقرب برمي الجمار، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، خلافًا لمن يقول: إنه تحللٌ من الإحرام، يعني: إظهار أن الإنسان ترك إحرامه.
نقول: لا، بل هو عبادةٌ، والدليل على ذلك أن الله -جلّ وعلا- قال: ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ فجعل هذا من علاماتهم التي ظهروا بها، وتنسكوا لله -جلّ وعلا- فيها، والنبي ﷺ دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدًا، ولو كان تحللٌ من الإحرام لتأتى ذلك بالقليل والكثير على حدٍ سواء، فلو كان "الحلق أو التقصير" تحلل لما فضل الحلق على التقصير، كحال الإفطار للصائم فإنه يتأتى بتمرة واحدة أو بوجبة كاملة.
ولكن هنا لَمَّا جعل للمحلق أجرًا وللمقصر أجرًا آخر؛ دلّ ذلك على أنَّ هذا يتعلق بالطاعة والعبادة، ولم يكن تحللًا من النسك، أو انتهاءً من الإحرام.
وتفاصيل الحلق قد مرّت بنا فيما مضى.
قال: (وَطواف الوداع)، وأيضًا هو في حديث ابن عباس أن النبي ﷺ لما قال: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» فأخذ الوجوب من هذا الدليل من جهتين.
أولًا: في قوله (أُمِرَ)، والأمر أمرُ النبي ﷺ، وأَمر الشارع على الوجوب واللزوم.
ثانيًا: التخفيف عن الحائض لِما احتفّ بها من منعها من دخول البيت، وعدم قدرتها على الانتظار، فالتخفيف عنها دليلٌ على أن غيرها لا يساويها في ذلك، فبقي في غيرها حقُ تعلقه بذمته ولزومه عليه، وهذا هو معنى الواجب.
وهنا طواف الوداع في الحج، فلا يتعلق بغيره، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، ولا يضيق على الناس في هذا فيُقال: إنه متعلقٌ بالعمرة كالحج سواء بسواء فيكون واجبًا، فأكثرُ ما استدل به القائلون بالوجوب: «فإنَّ العُمْرَةَ قدْ دَخَلَتْ في الحَجِّ إلى يَومِ القِيَامَةِ»[3]، وليس المقصود بذلك دخول شعائرها وما يجب فيها، ولو كان كذلك لأُلزم في العمرة بأشياء الإجماع منعقد على عدم لزومها فيه. ولكن المقصود في ذلك: نفي ما كان عليه أهل الجاهلية، من أنهم كانوا يمنعون العمرة في أوقات محددة، فجاء الشارع فأبان أن العمرة دخلت بالحج، يعني وقتها مع وقته سواءً بسواءٍ.
وبناءً على ذلك نقول: إنَّ طواف الوداع لا يتعلق إلا بالحج، وذكر بعضهم استدلالًا لطيفًا وهو أنه لو كان طواف الوداع لكل خارج من مكة، فإن الحجاج إذا أرادوا أن يخرجوا إلى منى يوم الثامن -يفارقون مكة ويخرجون منها- فلو وجب طواف الوداع لكل خارج للزم الحجيج قبل أن يخرجون أن يطوفوا طواف وداع ولم يلزم، فدلّ ذلك على أن طواف الوداع لا يتعلق بالخارج من مكة، وإنما يتعلق بالمنتهي لأعمال نسكه في الحج فقط.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وأركان الْعمرَة ثَلَاثَة: إحرام، وَطواف، وسعي، وواجبها اثْنَان)}.
لَمَّا انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- من أحكام الحج، انتقل إلى أحكام العمرة، والعمرة لها أركان ثلاثة.
(إحرام) والمقصود به نية الدخول في النسك، وقد بينا معنى ذلك على وجه التفصيل، فمن نوى الدخول في العمرة فقد أدى ركنها، وأما من لبس ثياب الإحرام فطاف وسعى ولم يكن قد نوى الدخول في النسك؛ فإنه لم يحصل له أي شيء، لأنه ما تلبّس بهذه العبادة ولا شرع فيها، فطوافه هذا طواف نفل؛ لأنه ما دخل في النسك.
(طواف)، والطواف في العمرة يُقال فيه ما قيل في طواف في الحج، كما قلنا قبل قليل سواءٌ بسواء.
(والسعي)، فالسعي من أركان العمرة على مشهور المذهب، وكما قلنا من قبل أنهم ذهبوا إلى أنه قرين الطواف، فجعلوا حكمهما واحدٌ، اعتبارًا بما ذكر وما مرّ من الدليل المتقدم، وقد يُقال: إنه واجبٌ على القول الآخر، وهو قريبٌ وقوي في هذا.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وواجبها اثْنَان الاحرام من الْحل، وَالْحلق أَوْ التَّقْصِير)}.
الواجبات في العمرة: الإحرام من الحل، يعني لا يتصور فيها إحرام من الحرم، مثل ما ذكرنا؛ لأن الإحرام كله لا بُدّ فيه من الجمع بين أن يكون في الحل وفي الحرم، ولَمَّا كان الحاج ولابُدّ أن يخرج إلى عرفة، وعرفة من الحل، فلم يُحتج إلى أن يكون إحرام أهل مكة ابتداءً من الحل، بل يُحرمون من مكانهم، ولكنهم سيخرجون إلى الحل، وسيتحقق في حقهم أنهم جمعوا بين الحل والحرم في الإحرام.
وأمَّا المعتمر فكل أنساكه متعلقة بالبيت وقريبًا منه، فإما طوافٌ بالمسجد، وإما سعيٌ بين الصفا والمروة، وهي لصيقة بالبيت قريبة منه، أو ملتصقة به في هذا الوقت، فبناءً على ذلك لن يحتاج إلى الخروج إلى الحل كالحاج، فلأجل ذلك اشتُرط أن يكون ابتداء إحرامه منه، على ما تقدم بيانه قبل قليل.
والحلق أو التقصير، فالحلق أو التقصير من واجبات العمرة على ما مرّ بيانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمن فَاتَهُ الْوُقُوف فَاتَهُ الْحَج وتحلل بِعُمْرَة وهدي إن لم يكن اشْترط)}.
فوات الحج لا شك أنه ممكنٌ، ولما كانت الأزمنة الماضية يفد الحجيج على الرواحل وما ماثلها، فيكون في ذلك أحيانا من العوارض الشيء الكثير، كان ذلك واقعًا في كل وقت أو في كل حج، وفي أحوال كثيرة، فبناءً على هذا العلم بأحكامها مهم للغاية، ولَمَّا تيسرت السبل للوصول للبيت بأيسر سبيل، ولَمَّا أيضًا أَمِنَ الناس وعُمرت الطرق إلى بيت الله الحرام، وحُفظت من العوارض، سواءٌ كان ذلك من لصوص، أو كان ذلك من سيل يمنع فعبدت الطرق، ويُسرت من الأسباب ما لا يحول بينه وبين البيت، كان ذلك قليلًا بالمرة، لكنه متوقع حصوله.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَمن فَاتَهُ الْوُقُوف فَاتَهُ الْحَج)؛ لأن «الحج عرفة»، فمن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، فبناءً على ذلك تحلل بعمرة؛ لأن الإحرام كما قلنا: لا يُنبذ، لا يُترك، ولابُدّ من أن يأتي ما يُحل الإنسان الانتقال منه؛ لعموم قول الله -جلّ وعلا-: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وأخذ من هذا صحابة رسول الله ﷺ أنه من فسد نسكه فيلزمه إتمامه لأجل هذه الآية، فعُلم من هذا أنه لا رفض للإحرام، أو أن الإنسان ترك إحرامه أنه تخلى من الإحرام ومما يلزم المحرم، لا، ليس هذا كالصلاة ولا الصيام، الصيام ممكن الإنسان يفطر وينتهي على حسب فطوره سواء كان آثمًا أو غير آثم، ومثل ذلك الصلاة.
وبناءً على هذا يقول المؤلف -رحمه الله-: إنه يتحلل بِعُمْرَة.
إذًا من فاته الحج نحكم عليه بالفوات، وعليه العمرة، ويلزمه الحج من قابل، وعليه هدي، ويكون الهدي في العام القادم إذا وَفَدَ إلى البيت.
قال: (وهدي إن لم يكن اشْترط)، أمَّا من اشترط فليس عليه شيءٌ، تحلل بعمرة ولا شيء عليه، «حُجَّي واشتَرِطْي؛ فإنَّ لك على ربك ما اشترَطْتَ» وكما تقدم معنا أنَّ الاشتراط سنة للجميع؛ لأنه أيسر للعبدِ؛ ولأنه فعل الصحابة، فيشترط الإنسان؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَمن منع الْبَيْت هدى ثمَّ حل، فَإِن فَقده صَامَ عشرَة أيام)}.
(من منع من البيت) أي: من صُدّ عنه، يعبر دائمًا أهل العلم بالصد عن البيت، أو أن يُحصر عن البيت ويُمنع من الوصول إليه، وهذا في الغالب يكون بحصول عدو ونحوه، وهل يكون بالمرض إحصار أو لا؟
هنا خلافٌ بين الفقهاء، وظاهر قوله: (وَمن منع الْبَيْت) أن المنع لا يتأتى بالمرض، وإن كان في قول آخر عند الحنابلة، وهو قول لجمع من الفقهاء أن الحصر بالمرض كالحصر بالعدو سواء بسواءٍ، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (من مُنِعَ) ما الذي يترتب عليه؟
يهدي ثم يحل، فإذا لم يوجد الهدي؟ فإنه يصوم عشرة أيامٍ؛ لأنها بدل الهدي عند فقده ثم يحل، هذا إذا لم يكن قد اشترط.
وأما إذا اشترط فإنه يتحلل مجانًا.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (من صُدّ عَن عَرَفَة) من صد عن عرفة فإنه يتوجه إلى البيت ويحل بعمرة ولا دم عليه في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصلٌ والأُضحية سنةٌ يُكره تَركهَا لقادرٍ)}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام الهدي والأضاحي، ولما كان الهدي مرتبط بالحج، والأضاحي أيضًا وقتها وقته، وكل من الهدي والأضاحي تشترك في أحكام كثيرة؛ ناسب أن يكون هذا محل ذكرها، وتفصيل مسائلها.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (والأُضحية سنةٌ) والأضحية هي ما يضحى به تقربًا إلى الله -جلّ وعلا- من الإبل أو البقر أو الغنم، ولا يدخل في ذلك غير هذا الثلاث، وهي بهيمة الأنعام، وسميت أنعامًا؛ لأن النعمة بها أعظم من غيرها، ولا يساويها غيرها فيها، وهي التي جاء عن النبي ﷺ التضحية بها؛ ولأجل ذلك أجمع أهل العلم أنها هي محل الأضحية، ولا يدخل غيرها فيها، الإبل بأنواعها، سواء كانت عربية أو بخاتيه أو من استراليا، وسواء كانت ذات سنام أو سنامين أو نحو ذلك.
البقر، والجواميس وكلها داخلة، أي: ما دخل في اسم البقر فهو فيه، والغنم من ضأن أو ماعز من هنا أو هناك أو قريبة، فإنها داخلة في هذا الاسم، ومتعلقٌ بها هذا الحكم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذه الأضحية سنةٌ، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو قول جمهور أهل العلم، ولا تجب الأضحية، فإن النبي ﷺ قال: «إذا دخل العَشرُ الأوَلُ فأراد أحدُكم أن يُضَحِّيَ»[4]، ولأنَّ النبي ﷺ ضحى عن نفسه، وعن أهل بيته، وضحى عمن لم يضحِ من أمته؛ فدل ذلك على أنه يوجد من لا أضحية عليه أو من لا يفعل الأضحية، وأما حديث: «مَنْ وَجَد سَعَةً فلم يُضَحِّ فليس منّا» فإنه حديث ضعيف.
وبناءً على هذا، لا يكلف الإنسان نفسه ما لا طاقة له به، إن قدر فعل وإن لم يقدر عُذِر، لكن هل يقترض؟ ذكر بعضهم أنه يقترض، وأنه محلٌ للوفاء وإتيان لهذه الشعيرة، لكن كل ذلك لا شك أنه مقصور على ألا يثقله ذلك أو يتعذر عليه الوفاء، فإذا كان يتعذر عليه الوفاء أو يثقله بأن يمنع نفقة واجبة عليه لولد، أو أهل أو بعض ما يلزمه كعلاج أو نحوه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولأجل ذلك قال المؤلف: (يُكره تَركهَا لقادرٍ)، من قدر عليها فيستحب له، استنانًا بسنة النبي ﷺ، ومن لم يقدر عليها فهو في سعةٍ وهو معذورٌ منها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَوقت الذّبْح بعد صَلَاة الْعِيد أَوْ قدرهَا إلى آخر ثَانِي التَّشْرِيق)}.
قال: (وَوقت الذّبح) إذًا هذه الأضحية مستحبة ولها وقت، فابتداء وقتها ما هو؟
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بعد صَلَاة الْعِيد)، فإذا كانوا في بلد ويصلى فيها العيد في موضع واحد فإذا صلوا دخل الوقت، وإذا كانوا في أكثر من مسجد فأول مكان يصلي فقد دخل الوقت وتعلق الحكم.
وأما من ذبح قبل الصلاة فليس هذا وقت لها، ولذلك أمر النبي ﷺ من ذبح قبلها أن يذبح بعدها، فهي قبل الصلاة لحم ولا قربة فيها، ولا تعلق حكم الأضحية بها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بعد صَلَاة الْعِيد أَوْ قدرهَا) إذا كانوا في مكان لا تُقام فيه صلاة كأهلِ باديةٍ في صحراء أو نحوها، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح ثم ذهب وقت يصلى فيه عادة وهي مثلًا عشر دقائق، أو اثني عشر دقائق، أو بين ذي وذاك فبعد هذا لهم أن يذبحوا ما عندهم من أضحية وما يتقربوا إلى الله -جلّ وعلا- به من نسكه.
قال: (إلى آخر ثَانِي أيام التَّشْرِيق) يعني: اليوم الحادي عشر والثاني عشر، وهذا محل إجماع أنه وقت للذبح ولا إشكال فيه، وجاء عن أصحاب النبي ﷺ.
هل اليوم الثالث عشر داخل أو لا؟
المؤلف هنا اقتصر على ذلك، وهو مشهور المذهب، وفي قول آخر لبعض الفقهاء، وهو اختيار ابن تيمية، وعليه الفتيا عند مشايخنا: أن الثالث عشر وقت لذبح الأضاحي، واستندوا في هذا إلى ما جاء في بعض الآثار ونحوها.
وعلى كل حال يتأتى من ذلك أن وقت الذبح إمَّا ثلاثة أيام، الذي هو يوم النحر ويومان بعده، وإمَّا يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
وذبحها في النهار أفضل من ذبحها في الليل؛ لأن بعض الفقهاء يقول: من إنه ليس وقتًا للذبح، وينهون عنه، أو لا يعتبرونها أضحية، فخروجًا من هذا الخلاف كان ذبحها في النهار أو لا نعم، ما الذي يترتب على فواتها؟ إذا انتهت هذه الأوقات فإذا كانت أضحية سُنَّة، أي الأضحية التي لم تتعين ونحوه، فقد فات وقتها ولا تذبح، وأما إذا كانت واجبة فتذبح قضاء، بمعنى أنه يستغفر الله -جلّ وعلا-.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَلَا يُعْطى جازرٌ أجرته مِنْهَا وَلَا يُبَاع جلدهَا وَلَا شَيْء مِنْهَا بل ينْتَفع بِهِ)}.
قال: (وَلَا يُعْطى جازرٌ) الجازر هو الذي يذبحها ويسلخها ويقطع لحمها، فهذا الجزار هو يستحق على صاحبها شيئًا، فلا يعطيه على سبيل المعاوضة منها أو أجرته منها؛ لأن هذه لله -جلّ وعلا- وبالتالي لا يجوز له بيعها.
وكذلك لا يجوز له أن يدفع أجرةً منها، لكن أجرة الجزار منفصلة، فلو أعطى الجزار شيئًا منها على سبيل الصدقة والإحسان، كان كغيره من سائر المسلمين، ولكنه لا يعطيه على كونها أجرة له، بل لا يعطيه جلدها أيضًا كما سيأتي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يُبَاع جلدهَا وَلَا شَيْء مِنْهَا بل ينْتَفع بِهِ)}.
(وَلَا يُبَاع)؛ لأن العبد أنفقها في سبيل الله -جلّ وعلا- وبذلها لله، فلم يجز أن يتصرف فيها ببيع ومعاوضة؛ لأن ذلك ينافي البذل والصدقة بها، قال: (وَلَا شَيْء مِنْهَا بل ينْتَفع بِهِ) فسواء انتفع به في نفسه، أو أهداه لغيره، أو تصدق على سواه فكل ذلك دافن فيها وهي كما يقول أهل العلم بأنها توزع أثلاثًا وسيأتي بيان ذلك فيما يذكره المؤلف بعد هذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وأفضلُ هديٍ وأُضحية إبل ثمَّ بقرٌ ثمَّ غنم)}.
سنتكلم الآن على الهدى، لكن كما قلنا في أول الحديث أنها أشياء ثلاثة التي يتعلق بها حكم الهدي والأضحية، إبل وبقر وغنم، وأفضلها الإبل؛ لأنها أعظم وأكبر خلقة وأكثر لحمًا، ثم بقر ثم غنم.
وأهل العلم يقولون: كلما عظم نفعها زاد فضلها، لكن مع ذلك لما كانت هذه من القرب لله -جلّ وعلا- فإنه يتعلق الفضل وزيادة الأجر في كمال خلقتها وجمالها، ولذلك سيأتي بعد هذا العيوب التي تمنع صحتها، فكلما كانت أجمل كانت أفضل، ولهذا النبي ﷺ جاء في الحديث أنه بكبشين أملحين؛ ولأن هذا يدل على طيب النفس بالصدقة، والفرح بها وأنه يتقرب إلى الله -جلّ وعلا- بأكمل الأشياء وأتمها، كما أمر الله -جل ّوعلا- بـقوله: ﴿أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ فيدخل في ذلك ما كَمُلَ في خلقته، وكَمُلَ في جماله، وعظم في نفعه وأثره.
ثم قال أهل العلم: إنه يكون بعد ذلك سُبع البدنة أو سُبع بعد الغنم، فما كان من غنم أو من معز أو ضأن أولى من سُبع منفصلة، لكن يجوز أن يُضحي بسُبع بدنه، لكن بشرط ليس المقصود في ذلك أن يتأتى منه جمع سُبع البدنة بشرائها من الجزار أو نحوها ثم الصدقة بها لا، فالأضحية حقيقتها أنها نحرٌ، فإذا نُحرت على أنه تُقسم بين سبعة هو جعلها لله -جلّ وعلا- أضحية جاز ذلك، وإلا فلا، فإذًا لابُدّ مع وجود اشتراك السبعة فهو جائز أن يشتركوا في أضحية واحدة إذا كانت من الإبل أو البقر، لكن بشرط أن يكون فيه نحرهن وتضحية بها.
الهدي ما هو؟
تقدم بنا الكلام على الهدى مُفرقًا، الهدي متعلق بالحج والعمرة، وهو على سبيل الوجوب كما تقدم معنا بالنسبة للمتمتع في متعته، وأيضًا بالنسبة للقارن في قِرانه، فهذا هدى واجبٌ، ويتعلق الهدي على سبيل الاستحباب بما زاد على القدر الواجب بالنسبة للمتمتع والقارن، وأيضًا يستحب للمفرد أن يُهدي، كما يستحب أيضًا للمعتمر أن يُهدي، هذا شيءٌ لا يفعله كثيرٌ من الناس، فإن المعتمر إذا أهدى معه هدي بأن ساقه، أو اشترى فذبحه فهذا مستحبٌ، ولأجل ذلك قال: (وهدي حاج بمنى ومعتمر عند المروة) فهذا بالنسبة للمعتمر.
بل ويستحب الإهداء أيضًا إلى البيت لمن كان في بلده، فيرسل مع من يذهبون هديًا بالغا إلى الكعبة كما جاءت بذلك الآية، وهو فعل النبي ﷺ أنه أرسل مع أصحابه هديًا، تقول عائشة: «فَما حَرُمَ عليه شيءٌ كانَ أُحِلَّ له»، فيجوز للإنسان أن يهدي وأن يبعث به إلى البيت، وإن تعمر هذه المحلة التي الله -جلّ وعلا- بأن يُكرّم من وفدَ إليها ومن قطنها وسكنها، ومن أقام بها، ومن جاور فيها تقربًا إلى الله -جلّ وعلا- ومن وفد فيها حاجًا أو معتمر.
وهذا شيءٌ عجيب في كثرة النعم بها، وفي حصول البركة وفد إليها، فلا يكاد يحتاج إلى شراء حاجة، ولا إلى التزود بطعام؛ لكثرة ما يكون فيها من الإحسان، وما يحصل من عباد الله -جلّ وعلا- من البذل والصدقة، وتلمُسِ الخير في البذل والعطاء، وإذا كان ذلك سمة في أهل الجاهلية، فلا أن يكون في أهل الإخلاص والإيمان والتوحيد أولى؛ استنانًا بالنبي ﷺ، وزيادة في الأجر والمثوبة، وتعظيمًا لهذا البيت، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يجزىء إلا جذع ضانٍ أَوْ ثني غَيره فثني إبلٍ مَا لَهُ خمس سِنِين وبقر سنتَانِ)}.
قال: (وَلَا يجزىء) يعني فيما تقدم، سواءٌ كان من أضحية أو هدي، فحكمهما واحدٌ من هذه الجهة، قال: (إلا جذعُ ضانٍ)، والجذع هو ما تم له ستة أشهر، والفقهاء يقولون: إذا نمى صوفه، دلّ على أنه بلغ هذا السن.
(وثني معزٍ) وثني المعز هو الذي ينبت له سِنان اثنان في مقدم فمه، وهو ما تم له سنة، ويعرف ذلك أهل الاختصاص بسهولة، ولا يستشكل عليهم الأمر البتة.
ثمّ قال: (فثني إبلٍ مَا لَهُ خمس سِنِين)، إذًا الإبل لا تنبت ثناياها التي في مقدم فمها إلا في خمس سنين، فتبرز أكثر من سائر أسنانها، فيعرف أنها تمت الخمس.
وقال: (وبقرٌ سنتَانِ)، البقر يكون ثنيًا ببلوغ سنتين، فيتميز فيها هذان السنان، فيعرف بأنها قد تمت وتجوز التضحية والهدي بها.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وتجزىء الشَّاة عَن وَاحِد، والبدنة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة)}.
(وتجزىء الشَّاة عَن وَاحِد)، فلا يمكن أن يشترك اثنان أو ثلاثة أو أربعة في شاة، بل من جهة القربى لا يمكن أن يتصور إلا واحد، فإذا كانت هدي فهذا واضحٌ، وإذا كانت أضحية له أن يدخل معه غيره فيها، لكنهم على سبيل التقرّب لا يجوز أن يشتركان في ضأن أو في غنمة واحدة، أو في شاةٍ واحدةٍ، أو في معزةٍ واحدة وهكذا.
أما البدنة والبقرة فقد جاءت السنة بأن يجزىء أن يُشترك فيها سبعةٌ كما في الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا تجزىء هزيلة وَبَيِّنَة عور أَوْ عرج وَلَا ذَاهِبَة الثنايا أَوْ أكثر أذنها أَوْ قرنها)}.
لما كان البابُ بابَ تقربٍ إلى الله -جلّ وعلا- فإنه لا يتقرب إلا بما يكون أن الله طيبًا لا يقبل إلا طيبًا، وهذا لا شكَ أنه من تعظيم شعائر الله -جلّ وعلا-، وكلما اجتهد الإنسان في أطيب هذه البهائم وأكملها كان ذلك أعظم لأجره وأتمّ عند ربه كما صحت بذلك السنة عن النبي ﷺ على ما تقدم، لكن لما كان الكمالات لا حدّ لها ويُطلب أعظمها، فإنه ينبّه على أن ثَمّ أشياءٌ إذا وُجِدَ فيها واحدٌ من هذه العيوب لم تجزئ، فهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: (أربعٌ لا تُجزئُ في الأضاحيِّ: العَوراءُ البيِّنُ عوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعَرجاءُ البيِّنُ ظَلعُها، والكسيرةُ الَّتي لا تُنقي)، فالهزيلة التي ذهب مخها حتى تبين عظامها وهذا معروفٌ عند أهل، أيضا التي بان مرضها، بعض الأمراض يلاحظ ذلك مثلا في فضلاتها وما يُخرج منها لكنه ليس مرضًا كبيرًا، لكن إذا حصل عندها ضمور أو بان ذلك في اقتراح صوفها فيعرف أهل الاختصاص أن هذا مرض بيّن، وأن مثلها يعني لا يُعبأ بها أو يعني تكون ناقص عن غيرها النقوص الظاهر، فهذا لا شك أنه مؤثرٌ فيها.
(العَوراءُ البيِّنُ عوَرُها)، قال أهل العلم: هي التي انخفست عينها أما إذا كانت لا ترى بعينها لكنها تموج فهذا عوض يسير لا يؤثر في تمام الخلقة، فبناءً على ذلك لابُدّ أن تكون بينة العور حتى تدخل فيما لا يحل، وهذا بابه باب التوسعة يعني أنه لا يُمنع إلا ما يكون يعني أنه يعظّم الله -جلّ وعلا- بأن لا يُتقرب إليه إلا بما طاب.
والعرجاء التي بان عرجها، يقولون: (العرج البين هو الذي تتأخر عن رفيقاتها إذا مشت)، ذكر بعض أهل العلم أنه يُلحق بهذه الأربعة ما ماثل ذلك أو أشد، فقالوا مثلًا: العمياء، إذا حُرمت العوراء فمن باب أولى، وذكر بعضهم مثلا العرجاء ما هو أشد التي لا تمشي هذه اجتمع فيها هزال أشد من العرج ونحوه، قالوا: (وذاهبة الثنايا) فجعلوا ذلك أيضًا داخلٌ فيه، وهذا يعني بعضهم خالف بعض الفقهاء والحنابلة أخذوا هذا من مجموع أمرين ما جاء في بعض الآثار، وأيضًا قياسًا على هذه الأمراض أو العوارض الأربعة التي ذُكرت؛ فألحقوها بها.
قالوا: أو ذهبت أذنها، أو قرنها، أو أكثره، إذا ذهب قرنها كله قطع، أو إذنها فعند الحنابلة أنه أيضًا عيبٌ ظاهر يلحق البين عوضها ونحو ذلك، وهذا أيضًا هو دون الأربعة المتقدمة، فمن أهل العلم من خالف في ذلك وأجاز التضحية بها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالسّنة نحر إبلٍ قَائِمَة معقودة يَدهَا الْيُسْرَى وَذبح غَيرهَا وَيَقُول: بِسم الله اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلك)}.
قال: (وَالسّنة نحر إبلٍ وذبح غيرها)، النحر شيءٌ والذبح شيءٌ آخر، النحر هو أن يغرز السكين في لُبتها ثم يحركها هكذا، فهذا نحرٌ، والذبح أن يمر السكين على رقبتها حتى تنقطع أوداجها والحلقوم والمريء؛ فينقطع العرقان اللذان بجانب الحلقوم والمريء الذي هو مخرج النفس ومدخل الطعام والشراب، فهذا الفرق بين الذبح والنحر، فالنبي ﷺ ذكر أن الإبل تُنحر قائمة وهو أسهل؛ لأن النبي ﷺ أمر (فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلةَ وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحةَ) قالوا: أن هذا يكون أيسر عليها في افتلات نفسها، وذهاب روحها بدون أذية وتعذيب لها.
فيقول: (معقودة يَدهَا الْيُسْرَى)؛ لأن أحيانًا من شدة ما لامسها من النحر قد تتحرك؛ فيتأذى الغير، وأيضًا يحصل بذلك أذى على من حولها.
قال: (وَذبح غَيرهَا) مثل ما قلنا يعني غير الإبل من البقر والغنم، فإنه يكون حالها ذبحًا، والسنة هنا هي سنة كمالٍ، فلو حصل العكس لم يكن في ذلك حرج ولا غضاضة، بمعنى أنها ذبحت الإبل أُمِرت بالسكين هكذا، أو نُحرت الغنم والبقر فلا بأس، طيب لو قُطعت لو بُدِأ من فوق رقبتها لا من تحتها، يجوز ولا ما يجوز؟ يجوز، ما دام أنه يحصل بذلك قطع الأوداج والحلقوم والمريء فلا حرج في ذلك، ما الذي يتأتى به من هذه الأربعة؟ هذه مذكورة في أحكام في باب الذبائح وسيأتي في حينها في آخر هذا الكتاب بإذن الله -جلّ وعلا-.
(وَيَقُول: بِسم الله) بعض الناس يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا غير مشروع، ويقول أهل العلم بأن هذا أيضًا غير مناسب، فإن هذا ليس موطنَ الرحمة؛ فيقولون: (اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلك) كما جاء بذلك الحديث عن النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَسن أن يأكل وَيهْدِي وَيتَصَدَّق أثلاثا مُطلقًا وَالْحلق بعْدهَا)}.
(وَسن أن يأكل وَيهْدِي وَيتَصَدَّق) هذا جاء عن الصحابة أنهم كانوا يتصدقون ببعض، ويهدون بعضًا، ويأكلون بعضًا، ولو حصل غير ذلك فلا بأس بشرط أن يتصدق ولو بشيء قليل، قالوا بشرط أن يتصدّق ولو بقدرِ أوقية، ولو أكلها جميعًا يقولون فإنه يشتري لحمًا فيقضي، أو يتصدق بقدر الأوقية مما اشتراه لكي يحصل في ذلك الإطعام منها والبذل فيها.
قال: (وَسن أن يأكل وَيهْدِي وَيتَصَدَّق أثلاثا) أساسٌ كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى- أنها على سبيل الأثلاث لكن أن زاد هنا أو زاد هنا أو أكثر في الصدقة أو لم يترك لنفسه شيئًا فالأمر في ذلك فيه سعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْحلق بعْدهَا) هذا ذكره بعض الفقهاء وهو محمولٌ على ما جاء في ما مثل ذلك من الهدي، وهو محل نظرٍ.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وان اكلها إلا أوقية جَازَ)}.
مثل ما قلنا قبل قليل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَحرُمَ على مُريدها أخذُ شَيْءٍ من شعره وظفره وبشرته فِي الْعشْر)}.
قال: (وَحرُمَ على مُريدها) من أراد أن يذبح أضحية فإنه يُمسك عند دخول العشر في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهذا من مفردات مذهب الحنابلة، وأصله ما جاء حديث أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إذا دخَل العَشرُ الأوَلُ وأراد أحدُكم أن يُضَحِّيَ فلا يَمَسنّ من شعَرِه ولا من بشَرِه شيئًا» هل هذا على سبيل اللزوم؟ أو على سبيل الاستحباب؟
ذهب الحنابلة إلى أنَّ ذلك على سبيل الوجوب؛ لظاهر حديث أم سلمة، وأما الجمهور فقالوا: إن ذلك على سبيل الاستحباب، والدليل على ذلك أنهم قالوا: إن حكم الهدي كحكم الأضحية سواء بسواء، والنبي ﷺ أرسل هديًا من المدينة إلى مكة مع من ذهب من أصحابه، تقول عائشة: «فَما حَرُمَ عليه شيءٌ كانَ أُحِلَّ له»، فقالوا: إن هذا في أحكام الهدي، وأحكام الهدي والأضحية سواء، فدل أن هذا ليس على سبيل التحريم والمنع، وإنما هو على سبيل الكمال والسنية.
وعلى كل حال موافقة الظاهر هنا مهمة وهو أتم للعبد وأحوط، والكلام كله هنا في أخذ شعرٍ جاز للإنسان أخذه، والناس في مثل المسألة لا يخلقهم ولا يُشكل عليهم إلا ما اعتادوه من عادة سيئة وفعل معصية مشينة، وهو أنهم إذا بقوا عشرة أيام فإن هذا يُظهر لهم شعر في وجوههم وهم يحلقونه، فنقول: إن حلق الوجه مثل هذا محرّم وفي غيره على حد سواء، فينبغي للإنسان ألا يبحث أن هذا ليس بلازم ليفعل المعصية فإن هذه المعصية محرّمة في كل حين وقت وكل حال.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.
{جزاكم الله خيرًا أعزاءنا المشاهدين نستكمل ما تبقى في مجالس قادمة إن شاء الله، لذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)}.
----------------------------
[1] رواه مسلم (1297).
[2] رواه مسلم (1297).
[3] رواه مسلم (1241).
[4] رواه البخاري.