الدرس التاسع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

16746 27
الدرس التاسع عشر

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلَّى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتناولُ فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالخيرات والبركات.
{أكرمكم الله ورضي عنكم شيخنا.
توقفنا في اللقاء الماضي عند قوله: (وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ)}.
نعم، نكمل إن شاء الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المصنف –رحمه الله-: (وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ، لكن إِذَا اِفْتَرَقَ مُتَصَارِفَانِ بَطَلَ اَلْعَقْدُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل الفقه، الذين به علوا وشرفوا وفقهوا، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المخلصين، وأوليائه المتقين، وأن يجعلنا من العالمين العاملين، وأن يحفظنا ووالدين وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة طلاب العلم: لا يزال الحديث موصولًا في آخر ما ذكرهُ المؤلف في باب الربا والصرف، وقد ذكرنا ما أورده المؤلف -رحمه الله تعالى- من مسائل تتعلق بباب الربا على شيءٍ من الاختصار والإجمال فيها قدر الاستطاعة، ونوهنا إلى بعض ما يتعلق بالواقع، وينزل في أحوالنا وأيامنا، ولم يزل الربا من علامات هذا العصر وبلاياه العظام، وأموره الكبار، ولا يزال المرء يطلب السلامة ويرجو النجاة، ويجتهد في الخلاص طلبًا من الله -جلّ وعلا- ألا يُدخل عليه حرامًا، وأن لا يتعرض لهذه الكبيرة، وألا يقع في هذه الموبقة.
وقد ذكرنا قول النبي : «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ» ، «اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقات» ، ولَمَّا كان هذا زمانٌ قد كثرت فيه هذه التعاملات، جاء التنبيه من النبي كما عند النسائي وغيره، «يأتي على الناسِ زمانٌ من لم يأكُلْ الربا أصابهُ مِن غُباَرِه»، فيوشك ألا ينفك الإنسان عن بعض بلاياه.
وهذا كالتنبيه للإنسان أن يَحذر تمام الحذر، ومع الحذرِ يوشك أن تأتي عليه بعض المعاملات المشتبهة، وهذا ربما مر بنا بعض مسائلهِ، وسيتبين أيضًا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من التصارف.
على سبيل المثال: لَمَّا ذكرنا الأوراق النقدية والإشكال في كون الذهب والفضة جزء منها أو لا، وما يعقب ذلك من التعامل، ودخول الربا فيه، ووجوب الفصل إذا قلنا إنها مختلطة بين ذهبٍ وفضة، إذا أراد أن يشتري بها مالًا ربويًا ونحو ذلك؛ هذه كلها لا تنفك عن مثل ما ذكرناه من الإشكالات.
بل كما تقدم معنا من الإشارة إليه أو تحفظونه أو لتحفظوه: أن البنوك وهي فكرةُ من الأفكار الحديثة التي تنامت معها الأموال، هي قائمةُ أو نشأت في الغرب، ونشأت هذه على الربا أصالةً؛ فلأجل ذلك أكثر تعاملات البنوك لا تنفك من الإشكال.
ولَمَّا اجتلبت إلينا هذه الفكرة اجتهد من اجتهد في تنزيهها، وتخليصها، والبعد والنأي بها، ولكن مع ذلك أولًا لما كانت هذه قوالب منقولة أو مستوردة كثيرًا ما يحصل الإشكال، ولما كانت قاعدة التعاملات العالمية الآن صارت مرتبطةً أو كالمرتبطة عبر أسواق وبورصات وتبادلات وتحويلات لا تنفك الدول وأهل الأعمال والناس من التعامل بها، صار ذلك أمرًا متحتمٌ فيه حصول الإشكال.
ولَمَّا نشأت هذه البطاقات -بطاقات الائتمان- التي تسمى: "الكريدت" سواء كانت في ذلك على اختلاف شركاتها "فيزا أو غيرها أو نحوها"، أيًا ما وجد منها وما يوجد، فهذه البطاقات مبناها على الربا؛ لأنَّ هذه البطاقات إقراضٌ بفائدة، وقد اجتهدت البنوك عندنا، والمصارف والجهات الحاكمة عليها، بإعادة تهيئة التعاملات بما يتناسب مع الناس، ويُسهل عليهم التعامل في بُعدٍ من التجريم والتحريم الواقع عليه شرعًا، ولكن لم تنفك كثير من هذه التعاملات عن شيءٍ من ذلك.
ولأجل هذا: كان لزامًا على الإنسان أن يَحذر تمام الحذر.
وأذكر بالمناسبة: أنَّ هذا الحديث قُرئ على شيخنا الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: «يأتي على الناسِ زمانٌ من لم يأكُلْ الربا أصابهُ مِن غُباَرِه»، فتوقف عنده كثيرًا، وتأمل وحوقل، ثم قال: أعد، فأعاده، ثم قال: اقرأ ما قال عليه الشارح، فقرأ شرح الشارع، ثم لم يزل متأثرًا بذلك كثيرًا، وهو يعلمُ ما آلت إليه الأمور، وما تسارعت إليه الأيام، من ذاك الحين إلى هذا الوقت، أضعاف وأضعاف ذلك.
والحقيقة أننا بين فئتين:
فئة جاهدة لتسهيل تعاملات الناس وموافقتها للشرع.
وجهةٌ أخرى همها أن تجد لها طريقًا يصبغها بصبغةٍ شرعية يكفي للترويج لها والتسويق.
وهذا ملحظ ينبغي الحذر منه، ولا يجوز للإنسان إلا أن يطلب براءة ذمته، والتحقق من سلامة معاملته، والتورع عن كل ما فيه شبهةٌ أو طريقٌ إلى الحرام، ولا يكفيه أن هذا قال به قائل، أو اجتهد فيه مجتهد؛ حتى يُعلم أنَّ ذلك الاجتهاد على وجهٍ واضح، وأنه ليس بقولٍ شاذ، ولا بقول عامة أهل العلم.
فعلى سبيل المثال: وجدت في أسواق التعاملات بعض الأشياء التي لا تنفك من المعاملات المحرمة، وأثيرت مسألة التطهير، والتطهير ليست على إطلاقها، بل هي لمن وقع في الحرام بغير علم وأراد التوبة، أو لمن ورث مالًا، أو لمن آل إليه مالا بوجهٍ لم يكن اختيارًا منه، ولكن أن يبتدئ الإنسان هذه التعاملات ثم يؤول إلى ما يسمونه بالتطهير، أو إخراج القدر الحرام، أو نحو ذلك، فهذا قدر لا يكون كافيًا، أو لا يوجد له أصلٌ عند فقهاءِ الإسلام على اختلاف مذاهبهم وأقاويلهم.
وينبغي الحذر، ثم الحذر، ثم الحذر، والله يتولانا برحمته، والله يعين من ولي هذه الأعمال وهذه المصارف، على أن يجعلها في قنواتها وعلى مساراتها، ولا يزالون في اجتهاد، ونرجو أن يكون في اجتهادهم توفيقًا، وأن يكون فيما وفق له من موافقة الشرع، والخلوص إلى الطريق الحق، والبُعد عن كل ما فيه شبهةٌ أو حرام.
هذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله-: (وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ)، هو قسيم باب الربا والصرف.
والصرف حقيقته هو بيع، وينطبق عليه ما تقدم، فَلِمَ ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا؟
لَمَّا كان الصرف والبيع بالذهب والفضة لا ينفك عن علة الربا، كان وجوب الحذر وتحصيل الضوابط التي مرت في باب الربا حتى لا يقع في الحرام، وحتى لا يقع في الربا كفيلةٌ بأن تُذكر في هذا الموضع، وأن تُذكر عقيب ذِكر باب الربا، حتى تتبين أحكامها، وإلا فبيع الذهب بالفضة هو بيع.
لكن لِمَ سُمي صرفًا؟
سُمي صرًفا لخصوصيته؛ ولأنه يُسمع له صريف وصوت، فلأجل ذلك سُمي: صرف الذهب بالفضة.
وهنا يتعلق الحكم بكلِ ما ذكرنا، أو على ما جرى عليه الاختيار من أن علة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية، فإنَّ ذلك لا يختص بالذهب والفضة، بل بكل الأوراق التي تأخذ حكمهما في تداول الناس وفي تعاملاتهم، ولها ثمنيةٌ سائدة ورائجة وقبولُ عام كالعملات العالمية مثل: الدولار، واليورو، ومثل: الريال السعودي وسواها.
أيًا كان فالذهب والفضة هما مما اتفقا في علة الربا.
وبناءً على ذلك، يجوز التقايض فيهما والتبايع، والتبادل والتعاقد فيهما، ولكن بشرط أن يكون في مجلس العقد، فلا إشكال إذا زاد هذا أو نقص هذا؛ لأنَّ ما اختلف جنسهُ جاز فيه التفاضل وحرم فيه التأجيل، فلم يَجُز فيه تأجيلٌ بالمرة، مع ما يجوز فيه من الزيادة والنقص.
والأوراق النقدية مثل ذلك، فكل نوعٍ منها مخصوص، فالريال السعودي يختلف عن الريال العماني، والدينار الكويتي يختلف عن الدينار البحريني، والدرهم الإماراتي يختلف عن الدرهم المغربي، وهكذا، والدولار يختلف عن اليورو، واليورو يختلف عن الروبل؛ كل واحدٍ منها جنس.
وبناءً على ذلك هي تجتمع في علة الثمنية، فيجوز فيها التبايع والزيادة والنقص، ولكن لا يجوز فيها التأجيل بالمرة البتة.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وإِذَا اِفْتَرَقَ مُتَصَارِفَانِ بَطَلَ اَلْعَقْدُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ)؛ لأنه إذا لم يُقبض صار ربا، وإذا صار ربا فهو عقدٌ فاسد، وما كان عقدًا فاسدًا فهو غير منعقد.
وهذا في الحقيقة سهل من حيث التنظير، ولكنه صعبٌ من حيث الواقع والتطبيق، والواقع أن السياسات البنكية العالمية تمنع انتقال الأموال؛ ولأجل ذلك تمر طريقة التصارف عبر قنوات البنوك، والبنوك كما يقولون وسيطة يصير فيها المقايضة والمبادلة والبيع والشراء.
وبناءً على ذلك نقول: الصرف في هذا الوقت يكون بأن تذهب إلى محل الصرافة وتعطيهم وتأخذ، لكن هذا طبعًا أسهل المعاملات وأصحها، وأبعد عن الإشكال والحُرمة، ولكن هذا لا يمثل ولا واحد في الألف، أو في العشرة آلاف، أو في المائة ألف من واقع المصارفة العالمية، سواء كان ذلك لدى الشراء من الخارج، نقل الأموال إلى أحدٍ في الخارج، سواءُ كان ذلك لقريب، أو كان ذلك عبر معاملة تجارية، أو كان ذلك لصدقة، أو كان ذلك بأي سبب من الأسباب.
إذا وضعت ريالًا سعوديًا في البنك لتنقله إلى شخصٍ في السودان، أو آخر في أمريكا مثلًا، أو غيره في إندونيسيا أيًا كان، فإنك إذا وضعت ريالًا سعوديًا لو كنت تقبضه ريالًا سعوديًا في إندونيسيا أو في أمريكا أو في السودان لا إشكال، غاية ما فيها أنها توكيلٌ لهم بنقل ذلك المال، لكن الواقع ما هو؟ لا يتأتى مثل ذلك، فإذا أعطيته ريالًا سعوديًا هنا لا يقبضه إلا بالعملة المحلية غالبًا، أو بعملةٍ عالمية في بعض الأحوال.
فالمهم أنك ستضطر إلى ماذا؟ إلى أن يكون فيها تغير، فبناءً على هذا ستكون حقيقة هذه الحوالة هي حوالةٌ وصرف.
والصرف مقيدٌ بماذا؟ بحصول القبض في نفس الوقت، وهنا لا يحصل القبض إلا بعده بمدة.
فإذا أعطيتها الآن متى يستلمها هناك؟ ولذا صار الأمر فيه إشكال، فما الذي يمكن أن يقال هنا؟ اجتهد كثير من المعاصرين باعتبار أنها أمرٌ مما عمّت به البلوى، وجاءت إليها الحاجة، ولن تتأتى خاصة المصارف العالمية إلى أن تنقاد لرغبات أُناس وربما كانوا قلة، فكيف يمكن أن تكون المعاملة صحيحةً؟
وهذا فيه إشكال خاصة أنه لو أن شخصًا قال: سأنقلها نقداً، سأذهب بها، سآخذ هذا المبلغ وأذهب مثلاً إلى فرنسا أو إلى بريطانيا أو إلى أي دولةٍ من الدول لأدفع المبلغَ بالعملة، وأسلم من ذلك، ويكون بابه باب التقابض.
المشكلة أنَّ نَقْلَ السيولة أو نَقْلَ الكاش أو نَقْلَ هذه الأموال فيه تعرض لبعض المسائلات القانونية، أو ما يسمى بالأموال السوداء، أو غسيل الأموال الناشئة، مادام أنها لم تخضع لهذه المسارات العالمية التي تعرف فيها دخول المال وخروجه، ويؤمن أن لا تكون من مخدرات، من أسلحة، من سرقة... إلى غيرها؛ فمعنى ذلك إذا وجدت هذه الأموال بأعيانها فهذا مدعاة إلى الدخول في دوائر قد تلحق بالإنسان الأذى، وهذا أيضًا مما يعظم هذا الأمر، فلذلك قلنا: إنها مما عمّت به البلوى.
وبناءً على ذلك: لأهل العلم المعاصرين مسلكانِ في أن يُكيف القبض في هذه الأحوال، بعضهم يقول: إن البنك الذي تسلم هذا المال لينقله إلى الجهة الأخرى هو بمثابة الوكيل، وبناءً على ذلك غاية ما فيها أنه يأخذ منك المال ويحصل مع البنك الآخر المصارفة في حينه ويستلمان، وتنتهي المعاملة، وبناءً على ذلك فهو كالوكيل.
ولكن في الحقيقة وفي الواقع هذا ليس بصحيح، لماذا؟ لأنه يعطيك السعر الآن وينتهي، والسعر ربما بعد اليوم الذي سيجري فيه سيتغير، حقيقةً لا يمكن أن يقال بمثل هذا.
الحال الثاني: بعضهم يقول: إن قبض هذه الأوراق لإثبات الحوالة أو لإثبات النقل هي كالقبض الحكمي.
{في نفس الوقت؟}
نعم، يعني: كأنك قبضت المال بالريال السوداني أو بالربية الإندونيسية أو بالدولار الأمريكي، واضح؟ لكن هذا أيضًا مُشكل، لو كان هذا بمثابة قبضها لكان ضياع هذا السند بمثابة ضياع ذلك المال، ولكن ضياع هذا السند ليس فيه شيء إذ يمكن استخراج بديلٍ له ونحو ذلك.
فعلى كل حال هم قالوا: إنه قبض حكمي، وتفاوتوا في أي الطريقتين أولى، ولا تنفك من وجود إشكال على ما قرره العلماء أولًا، ولكن بُدٌ من الحاجة إلى ذلك في أحوالٍ كثيرة، ولأجل ذلك ذكرنا المقدمة الأولى في أنَّ هذا شيءٌ واحد من مسارات كثيرة في جانب المعاملات واختلافها، وما جدَّ فيها من إشكالات.
{يعني شيخ الآن في الصورة الماضية أن الإنسان مضطر لهذا فتبرأ ذمته}.
براءة الذمة وعدمها تعود إلى المفتين، وبابنا نحن هنا هو باب التعليم.
والمتعلم الآن قد تعلم المسألة، هو الآن إن شاء الله يترقى في درجات العلم، ويترفع فيها، ويعينه الله -جلّ وعلا- حتى يصل إلى ما تبرأ به الذمة، وأمَّا مثلي فأنا أجبن أن أقول شيئًا بالنسبة للمسألة كإفتاء وبراءة ذمةٍ وسواها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ. وَإِذَا بَاعَ دَارًا شَمِلَ اَلْبَيْعُ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَسَقْفَهَا، وَبَابًا مَنْصُوبًا، وَسُلَّمًا وَرَفًّا مَسْمُورَيْنِ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَصْلٌ)، في بعض النُسخ زيادة (في بيع الأصول والثمار).
{عنوان لها؟}
أينعم، وهي في الكتب المطولة (باب بيع الأصول والثمار)، وأيضًا هذا الباب هو داخل في أحكام البيع، ومشمولٌ بما مر من أحكام البيع وشروطها السبعة، وما يتعلق بذلك، ولا غضاضة في هذا.
فما حاجة المؤلف -رحمه الله تعالى- أن خصها بالذكر؟
الأصول تشمل ماذا؟ تشمل ثلاثة أشياء: تشمل الدور، والأرض، والشجر
الدور: ما فيها من جُدر، وما فيها من أبواب، وما فيها من أشياء وأثاث.
والأرض: ما فيها من غِراس، وما فيها من بناء.
والشجر: ما فيه من ثمر.
فلأجل ذلك كانت هذه فيها أحكامٌ تَبعية، ولكثرة الخلاف فيه أورد المؤلف والفقهاء -رحمهم الله تعالى- أحكامًا لتوضيح ما يدخل في اسم البيع -ببيع دار أو بيع شجرةٍ أو بيع أرضٍ- وما لا يدخل في ذلك باعتبار الأصل.
إذًا هنا ذكرها لأهمية ما يتعلق بذلك وما يدخل فيه، ومثل البيع أيضًا ذكر الفقهاء الأشياء الأخرى، لو وهبك دارًا ثم بعد أن استلمت الدار جاء وقال: أنا أريد أن آخذ الأبواب. أنت دخلت دارك وسكنت فيها ونحو دارك، فهل له حق في هذا؟ تجده يقول: إنما أعطيتك الدار، ما أعطيتك الأبواب، وبناءً على هذا إذا حصل شيءٍ من هذه الاختلافات، والدار يشمل أشياء كثيرة كما سيدكر المصنف، فمنعًا لهذا الاختلاف ذكر الفقهاء هذه الأحكام.
ومثل ذلك لو أوقف، ثم إمَّا ندم، أو دخلت إليه الحسرة، أو ألحق به الشيطان الأسف... أو نحو ذلك فقد يدخل عليه إرادة نقل بعض الأشياء أو إخراجها من الحكم أو نحو ذلك، فهنا يبين الفقهاء الحكم في هذا واحد.
فذكروا ما يدخل وما لا يدخل، وما يشمله حكم البيع أو الهبة أو الوقف أو الرهن، وما لا يدخل في ذلك، فيكون الأمر واضحًا، والحكم فصلٌ، وهو أقطع للنزاع، وأبعد للإشكال، ولا يمنع من حصول بعض الإشكالات لكن هذا يضيق دائرتها قدر الاستطاعة.
{شيخنا: ذكرنا في الأصول أنها ثلاثة أقسام: "الدور، والشجر، والأرض"، هل نقول: إن الدور تدخل في الأرض؛ لأن الأرض عليها الدور، أو أنه مختصٌ بالعقارات؟}
هم يقولون: الأرض فيها بناء وفيها غراس، فأحيانًا تكون مختلفة، فالدور أخص، وأحيانًا الدور قد لا تكون الأرض فيها مملوكة، يبيع البناء وهو باقٍ في هذا البناء ما بقي البناء، فإذا انتهى رجعت الأرض إلى صاحبها، مثل أن يجعل رقبة العبد وقفًا ومنافعه يعطيها شخصًا، يهبها لأحد، فمادام هذا الشخص ينتفع بهذه المنافع ينتفع، لكن رقبة العبد ليست موقوفة، لا يمكن أن يبيعه، ولكن له أن ينتفع بخدمته، له أن يؤجره، له أن يستفيد من العبد، مثل ذلك الدار له أن تكون له منافع هذه الدار، ولكن الأرض لها، فإذا انهدمت الدار رجعت الأرضُ والعينُ إلى صاحبها.
فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: (وَإِذَا بَاعَ) أرضًا، أو (إِذَا بَاعَ دَارًا شَمِلَ اَلْبَيْعُ أَرْضَهَ)، هذا بلا شك وهو ظاهر، (وَبِنَاءَهَا، وَسَقْفَهَ)، لا يمكن لشخص أن يقول: السقف ليس داخلاً في البيع.
(وَبَابًا مَنْصُوبً)، ما معنى بابًا منصوبًا؟ بمعنى أنه لو وجد بابًا ولكنه كان متروكًا في الدار على جهة أو نحو ذلك- هذا يكون من المتاع المنقول، فلا يكون داخلًا.
(وَسُلَّمًا وَرَفًّا مَسْمُورَيْنِ)، يعني: مثبته.
{في نفس الدار؟}.
إذا لم تكن مثبتة فيفهم منه أنها تكون غير داخلة.
على كل حال، من حيث الأصل يختلف الحكم إذا اشترط أحدهما شرطًا، فإذا قال: كل ما في الدار أو العكس، قال: هذا السلم المسمور سأفكه، هذا على ما اشترطه، أو وجد عرفُ خاص، فأهل هذه البلد يتعارفون على أن الفُرش تدخل في البيع، أو أن الآلات الكهربائية مثلًا تدخل في البيع، حتى وإن كانت منفصلة، مثل: شاشة عرض التلفاز أو نحوها، أو كان فيه ما يصنع به بعض الطعام مثل: خلاط أو فرامة، أو نحو ذلك؛ فهي غير مثبتة ولا منصوبة في الجدار ونحو ذلك، ومع ذلك إذا كان العرُف.
فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يتكلم من حيث الإطلاق فهو، إذا وجد شيءٌ آخر فإنه له حكمٌ خاص فينتقل منه.
{قال -رحمه الله-: (وَخَابِيَةً مَدْفُونَةً، لَا قُفْلاً، وَمِفْتَاحًا، ودلواً، وبكرةً وَنَحْوهَ)}.
قال: (وَخَابِيَةً مَدْفُونَةً)، خابية المدفونة الذي يجمع فيها الماء مثل: وعاء أو خزان، مستودعًا له.
قال: (لَا قُفْلاً، وَمِفْتَاحًا، ودلواً، وبكرةً)، الدلو هو البئر أو نحوه، وهذا ليس مُسمرًا فيه، والبكرة أيضًا ليست ثابتة، فله أن ينقلها، والمروحة التي تحرك الهواء منها ما هو ثابتٌ في السقف، ومنها ما هو منقول، فلكلٍ حُكمه، فهي عينٌ واحدة ولكنها نوعان، ومثل ذلك الآن بعض آلات الطهي، فبعضها مسمر كالأفران أو نحوها، وبعضها مثبت في الجدار ونحوه، وبعضها منقول، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: من حيث الأصل ما كان حاله حال الثبات والدوام فهو داخلٌ فيه، وما كان حاله حال الانفصال فهو المنقول، وبناءً على ذلك لا يدخل.
وهنا لاحظ مسألة، قال: (لَا قُفْلاً، وَمِفْتَاحً)، هذا نريد أن نُنبه على مسألة مهمة، وهي: أنه هو يحكي واقعًا، ويذكر صورةً مشهورةً عنده، وهو نوعٌ من الأقفال لا يثبت في الأبواب ولا في النوافذ ونحوها، فبناءً على ذلك ما يوجد الآن من الأقفال نعم والتي في الأبواب، أو في النوافذ، أو في غيرها.. لا يعني ذلك دخولها في هذا الحكم، فإذًا يختلف الحكم بين قفلٍ وقفل.
جرت عادتهم فيما مضى أن هذه الأقفال أقفالٌ منقولة وليست مسمرةً، ولا مثبتةً في الأبواب، فبناءً على ذلك هي ومفتاحها لا تكون من حيث الأصل داخلةً في حكم البيع، ومثل هذا الدلو والبكرة، فلو وجد مثلًا عندنا في الأوعية أو في الخزانات أو في الخواب التي يُجمع فيها الماء آلة مثبتة كالغطاسات ونحوها، وممدد بها الكهرباء، وكل شيء.. هذه جرت العادة أنها داخلة وثابتة.
فإذًا هم يذكرون صورًا، فعندنا أصل وعندنا صور منطبقةُ على هذا الأصل، فلابد أن نعرف الأصل وانطباق هذه الصور عليه، وإذا اختلفت الصور فإنها لا تعود إلى ذلك الأصل، بل تعود إلى أصلٍ آخر، فإذًا يهمنا الأصل وانطباق هذه الصور على ذلك الأصل؛ حتى لا يحصل الإشكال.
فبعض الناس يقول: لا يقول أي قفل فيدخل ذلك ويطرد المسألة، لو أن شخصًا -يعني عشان تفهمون المسألة- لو أنَّ شخصًا باع داره، وكان يعمل قفالا، أي: يبيع الأقفال، وعنده غرفة فيها ألفا قفل، ويمكن أن تكون قيمة هذه الأقفال تعادل قيمة الدار.
وكانت هذه الأقفال التي في الدار من نوعٍ ذو تصميم، وفيه كلفة، وفيه من الإحكام والضبط، مثلاً هذا اشترى هذا المحل لخزانة مالية وهو يعمل في أمور الصرف فيحتاج إلى أقفالٍ مصنعةٌ خصيصًا، لو قلنا إن الأقفال لا تدخل مع أننا نراها مسمرة، والعرف يدل على ذلك، فيؤدي ذلك إلى حرج، وربما كان شراؤه لهذه الدار باعتبار ما وجد فيها من الأقفال التي لا تتأتى له في دورٍ أخرى، أو في محالٍ أخرى، أو نحو ذلك.
فإذًا لَمَّا قال المؤلف: (لَا قُفْل)، يريد بذلك الصورة المشهورة المعروفة عندهم، وهي أن الأقفال منقولةٌ وليست مثبتة، ومثل ذلك قال: (ودلواً، وبكرةً وَنَحْوهَ).
إذًا انتهى من الكلام على الدور، بدأ في الأرض.
{قال -رحمه الله-: (أو أرضاً شَمِل غرسَها، وبناءَها، لَا زرعاً وبذرَه إلا بِشَرْط، وَيصِح مَعَ جهل ذَلِك)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أو أرض)، يعني: من باع أرضًا، هذه الحالة الثانية من بيع الأصول.
قال: (شَمِل غرسَه)، غرسها هو الشجر، فلا يحق لمن باع الأرض أن يأتي وهو يريد نقل النخل الموجود بالأرض زاعمًا أنه باع الأرض بدون النخل.
يقول مثلا: أريد أن أنقل النخل الموجود في هذه الأرض، فإذا قال المشتري: لقد اشتريت الأرض بنخلها، فيقول البائع: لا، أنت لم تشتر الشجر، وانظر في عقود التوثيق أو أوراق التوثيق وصكوك الملكية فلن نجد سوى الأرض فقط، وقد يحصل خصام وشجار.
فنقول: قف أيها البائع، فأنت قد بعته أرضًا، والأرض يدخل فيها الغرس تبعًا، فصار الغرس ملكٌ له.
ومثل ذلك البناء: فلو كان فيها أبنية، بعض الأبنية ربما تصلح للنقل إما في قطاع مثلًا ما يسمونه الآن بالعرف الحديث جبسنبورد أو سمنتنبورد، أو الخرسانة مسبقة الصنع التي يمكن نقلها أو أيًا كان، وأنواع البناء كثيرة جدًا، أو أن ينقل ما يستطيع نقله منها، الخشب الذي أصلح به السقف، والأبواب، والنوافذ، نقول: لا، انتهى الأمر، هذا شامل لها وداخلٌ فيه، فلا يجوز النقل في مثل هذه الأرض.
قال: (لَا زرعاً وبذرَه إلا بِشَرْط)، أما الزرع فيقولون: ليس مما يثبت في الأرض، الزرع مثل ما سيأتينا الآن كالبُر، أو الحنطة أو الشعير، أو الأشياء التي تزرع كثيرًا مثل: الأرز، مثل: الجزر ونحوه، يؤخذ وينتهي، فهذه يقولون ليست ثابتة في الأرض فلم تدخل فيها.
هل هي من حقيقة الأرض؟ لا، هل هي ثابتة فيها؟ ليست ثابتة، بل هي منقولة، وبناءً على ذلك يقولون: وإن تعلقت بالأرض، ولكن لا يمكن حملها أو إزاحتها، فلذلك من حيث الأصل أنها لا تدخل في مثل هذه الحال.
قال: (وَيصِح مَعَ جهل ذَلِك)، العقد يكون صحيحًا، كحال من قال البذر توقعت أنت يكون لي، فنقول: لا، البيع صحيح ولكن البذر ليس لك، فالزرع وبذره ينقل للبائع، يرجع للبائع، فنقول: العقد صحيح، لكن أنت بما أنك دخلت على شيءٍ من الجهالة، فله أن يفسخ البيع، ولكن البيع صحيح.
نقول: إمَّا أن ترضى بما ذكرنا، وإمَّا أن نفسخ البيع، لكن لو تنازل البائع فهذا شيء آخر، ولكن من حيث الأصل يقول: البيع صحيح، لكن لمن لم يرض مع هذه الجهالة الفسخ، ولكن لا يجوز الإنسان أن يعلم ثم يقول: والله أنا جهلت؛ لأنه ندم على البيع وأراد طريقًا لإفساد البيع، فإنَّ هذا نوعٌ من التحايل وإسقاط الحقوق، وذلك لا يخفى على الله، فالله -جلّ وعلا- لا تخفى عليه خافية.
{قال -رحمه الله-: (وَمَا يُجَزُّ أو يلتقط مرَارًا فأصوله لمشترٍ)}.
(وَمَا يُجَزُّ أو يلقط مرَارً)، يُجز مثل ماذا؟ هي الأشياء التي كلما نبتت قطعت، مثل: النعناع، مثل: البرسيم يسمونها الرطبة التي تؤكل طريًا، وكثير من الخضروات على هذا النحو، فهذه أيضًا يقول المؤلف -رحمه الله-: (فأصوله لمشترٍ) أصوله للمشتري؛ لأنها ثابتة في الأرض، لكن الجزة الظاهرة للبائع، مادام في جزة ظاهرة يقول له أنت ما اشتريت الجزة، أنت شاري الأرض، إلا أن يكون اشترط، هذا إذا اشترط.
كل شيء بعد الاشتراط هذا يكون.
لكن نحن نتكلم من حيث الأصل، أو كان ثم عرفٌ خاص، تعارف الناس على عرفٌ خاص، فهذا إذن على ما تعرف عليه، لكن من حيث الأصل نقول: أنها أصولها للمشتري والجزة الظاهرة له.
(أو يلقط مرَارً)، مثل ماذا؟ الباذنجان، الطماطم فيها لقطة، فإذا بيعت طبعًا شجرة الباذنجان صغيرة والطماطم وهي تنتهي بنهاية موسمها، فبناءً على ذلك هي في حكم الزرع، فاللقطة ظاهرة يقولون: هي ما دخلت في حكم البيع، هذه في حكم المنفصل، فبناءً على ذلك هي لبائعها، فله أن يلقطها، لكنه يلقطها بسرعة، لماذا؟ لأن غيرها ينمو معها فربما اختلط، وسيأتي أنه إذا لم يقطعها في الآن فإن ذلك يدخلهم في الخلاف، ويُدخل عليه الفسخ، وسيأتي الإشارة إلى ذلك بإذن الله جلّ وعلا.
{قال -رحمه الله-: (وجِزةٌ ولَقْطةٌ ظاهرتان لبائعٍ)}.
مثل ما قلنا: جزة من البرسيم الظاهر، أو من النعناع، أو من الرجلة، أو مما نحو ذلك ظاهر أو جرجير ونحوها لبائع، ومثل ذلك: اللقطة من الباذنجان، من الطماطم، وما في حكمها.
(مَا لم يشرطه مُشْتَر)، مثل ما قلنا: إذا اشترط فالمؤمنون على شروطهم.
{(وَمن بَاعَ نخلاً تشقق طلعُه فالثمرُ لَهُ مُبقَّى إلى جدَادٍ ما لم يشترطه مُشْتَرٍ)}.
(وَمن بَاعَ نخلاً تشقق طلعُه)، النخل في ثمرته وتمره يمر بأحوال: أول شيء يُطلع، ثم يتشقق طلعه، ثم يلقّح، ثم يعدل، ثم يصلح، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَمن بَاعَ نخلاً تشقق طلعُه فالثمرُ لَهُ)، النبي : قال: «من باع نخلًا قد أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا للبائع، إلا أن يشترط المُبْتَاعُ».
فالتأبير ما هو؟
هو اللقاح، وذلك أن النخل والشجر فيه ذكرٌ وأنثى، فالنخل يؤخذ من فحلهِ شيء فيجعل في طلع النخل إذا تشقق فيصلح، وإلا فلا يصلح، بعض النخل مما لا يحتاج إلا إلى شيءٍ يسير، ولذلك حتى ولو لم تنقله أنت ومرت الريح، سفّت الريح من الفحل أتى عليها فصلحت الثمرة، ومنها ما يحتاج إلى معالجةٍ كثيرة فيجعل ويربط ويكثّف ويهتم به؛ حتى يطيب، وإلا يكون شيصًا، يعني: لا تصلح ثمرتها.
على كل حال: هذا هو التأبير الذي هو التلقيح.
الثمار الأخرى في الغالب أنها كلها تلقّح نفسها ولا تحتاج إلى فعل فاعل.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (وَمن بَاعَ نخلاً تشقق طلعُه)، هنا أناط الحكم بتشقق الطلع، والتشققُ هو وقتٌ للتلقيح، فإذا وُجد تمرٌ أو ثمر نخلٍ قد لقّحت فلا إشكال أنه إذا حصل بيعٌ أنها للبائع، واضح؟ وإذا بيع نخلٌ ولم يكن الطلع قد تشقق فلا إشكال في أن الثمرة للمشتري.
لكن الحكم في الثالث: وهو أنها تشققت ولما تلقّح، هذا طبعًا ترى وقت قصير جدًا؛ لأنها أصلًا بمجرد أن تتشقق ولا تُلقّح تفسد، فالوقت قصير يعني ربما يكون ثلاثة أيام وأنا لست بفلاحٍ أعرف ذلك، لكن أظن أنها إذا مرت مدة بسيطة ربما تتلف.
فهل الحكم منوطٌ بالتشقق؛ حتى ولو لم تلقّح، أو هو معقودٌ على ما جاء به النص إذا لقّحت؟
ظاهر كلام الحنابلة أنهم يقولون: إذا تشققت ولو لم تلقّح. ويقولون: قال النبي : «من باع نخلًا قد أُبِّرَتْ» يعني قد لقحت؛ لأنه كل من ما تشقق لقّح، فأضيف الشيء إلى سببه الواقع.
لكن بعض أهل العلم قال: لا، وهذه وإن كانت خلاف ما ذهب إليه المؤلف، لكن هو ظاهر النص وهو قول الأكثر: أن الحكم منوطٌ بحصول التلقيح فعلًا، وأنه إذا لقّح كان للبائع، فإذا لم يُلقّح ولو كان متشقّقا وقت عقد البيع فإنه يبقى للمشتري، خلافًا لما جرى عليه المؤلف وهو المعتمد عند الحنابلة.
القول الثاني!
عند الحنابلة بالتشقّق، نحن نقول قول القول الثاني لا، بل لا بد من حصول التلقيح، ما قبل ذلك حتى ولو تشقّق فهو في حكم الذي لم يتشقّق، فبناءً على ذلك هو للمشتري.
والعلّة في ذلك عند الحنابلة أو عند الفقهاء استناداً إلى ما جاء في الحديث، يقولون: أنه إذا لقّح أو إذا طابت الثمرة جعلها النبي : للبائع؛ لأن نفسه قد طاقت إليها وتعلّقت بها، مثل الإنسان الذي وُلد له وَلد، وهو أيضًا في حكم الذي أسرع إلى الانفصال، أسرع ما يفصل بعد أن يلقّح.
وبناءً على ذلك حُكم بهذا، أو جُعل هذا الفيصل بين المتعاقدين في شراء ذلك النخل وغيره.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَا حكمُ شجرٍ فِيهِ ثَمَرٌ بادٍ، أو ظَهَرَ من نَوْرِه كمشمشٍ، أو خرج من أكمامه كوردٍ وقطنٍ، وَمَا قبل ذَلِك وَالْوَرقُ مُطلقًا لمشترٍ)}.
قال: (ما لم يشترطه مُشْتَرٍ)، هذا قلناه، لو اشترط المشتري انتهى الحكم، إذا اشترط المشتري فهو للمشتري على كل حال.
ثم لما ذكر المؤلف -رحمه الله- تعالى حكم النخل والذي جاء به الحديث، أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يبين أن سائر الثمار كالنخل سواءً بسواء، وأن الحكم منوطُ بحال التحول ومن باع ثمرُا قد أبّرت، لا تباع حتى تزهو، أو تحلو، تبدو صلاحها، فيقولون: إذًا الحال الانتقال هو إذا بدأت في بدو الصلاح معنى ذلك أنها كالنخل التي قد أبّرت، فما دام أنها كالنخل التي أبّرت، فكذلك لو تبايع شخصانِ على مشمش أو برتقال أو شجر برتقال أو شجر تفاع وفيها ثمار، فننظر إلى هذا الثمار، فإذا كان مما بدى صلاحه، مما تكون وتحول إلى أن يكون قرب قطفه وقطعه، فيكون للبائع.
أراد المؤلف -رحمه الله- أن يُبين كيف تكون؟ يقول: (فِيهِ ثَمَرٌ بادٍ)، بعضها، بعض الشجر ثمره يبدو، يبدأ خضراء صغيرة مثل التين تبدأ خضراء صغيرة ثم تطيب، فإذًا ما دام أن الثمر قد بدأت ولو كانت خضراء لا يمكن أكلها في ذلك الحين.
(أو ظَهَرَ من نَوْرِه)، النوْر هو الذي ينفتق من زهرة ونحوها، يعني بعض الثمار تُزهر ثم تخرج الثمرة منها، فالنوْر هذا علامةُ على مثل التشقق ونحوه.
(أو خرج من أكمامه) خرج من أكمامه، بعضها تكون ملتفة على بعضها ثم تبدأ تتفتق فكذلك، قالوا: (كوردٍ وقطنٍ)، فكل هذه الصور لما ماثل النخلة في التشقق والتأبير أو التلقيح، وهو قرب قطفها وتحولها إيذانًا بحلاوتها وحصول الانتفاع بها، ويعني الإفادة منها.
قال: (وَمَا قبل ذَلِك وَالْوَرقُ مُطلقًا لمشترٍ)، ما قبل هذه الأحوال الأربعة، ثمر لم يبدو، لم يخرج من نوره، لم يخرج من أكمامه، فلا إشكال في أنه يكون للمشتري، ولا حظ فيه للبائع من وجههٍ من الوجوه، كذلك الورق؛ الورق حتى ولو كان بعض ورقه ينتفع به كورق حنا، أو ورق عنب، أو نحو ذلك، أو بعض أوراق الفواكه الأخرى التي ينتفع بها في أشياء أخرى، فنقول: أنها حكم أصلها؛ لأنها لا تنفك عنه أصالةً وباقيةٌ فيه فكانت تابعةً للمشتري في كل الأحوال.
{يعني يا شيخ عكس هذه المسألة أن كلها تكون للبائع، إحنا قلنا: (وَمَا قبل ذَلِك) كان المشتري، عكسها تكون للبائع؟}
عكسها إذا كانت الثمر بدت، عكسها نص عليها المؤلف.
{بل ذلك}.
ما قبل ذلك يعني قبل التشقق، قبل الشجر الذي بدى ثمره أو الذي خرج من نوره، أو الذي تفتق من أكمامه، فإنه يكون للمشتري.
ولعل فيما ذكرناه كفاية، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم، وأن يبلغنا الخير والهدى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزآكم الله خير شيخنا المبارك، أسأل الله أن يفتح لكم فتحًا مبينًا، وأن يزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك