الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

16746 27
الدرس الحادي عشر

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاةٍ وأتم تسليم. أما بعد؛ فأهلًا وسهًلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلسٍ جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، حيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم باستكمال ما توقفنا عنده}.
{قال -رحمه الله-: (وَتُسَنُّ الْعَقِيَقَةُ وَهِيَ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي أَحَدَ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ لَا تُعْتَبَرُ الْأَسَابِيعُ، وَحُكْمُهَا كَأُضْحِيَّةٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد؛ فأسأل الله جلّ وعلا أن يُتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من أهل مرضاته، وأن يُجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
أيُّها الإخوة طلاب العلم وطالباته، لا يزال الحديث موصولًا في أحكام الذبائح والأضاحي والهدي، والمؤلف -رحمه الله تعالى- لَمَّا أنهى ما يتعلق بالأضحية والهدي، أعقب ذلك بالحديث عن العقيقة.
والعقيقة من العَق، وهو: القطعُ، وهي الذبيحة التي تُذبح عن المولود في يوم سابعٍ، أو في أربعة عشر، أو إحدى وعشرين.
وعلاقة ذكرها هنا: أنها ذِكْرُ الشيء عند ذِكر ما يُقاربه، يعني: هي ليس لها تعلق الحج، وليس لها تعلقٌ بما تقدم، ولكن لَمَّا كانت أحكامها مُشتبهةً أو مُشابهةً أو مُقاربةً لأحكام الهدي والأضاحي من جهة ما يُذبح سنًا، وما يتعلق به من بهيمة الأنعام، ونحو ذلك؛ ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
 قال: (وتُسَنُّ العَقيقةُ)، أي أنَّ العقيقة سُنة، وذلك لأن النبي قال: «يُعَقَّ عن الغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وعن الْجَارِيَةِ شَاةٌ»[1]، كما جاء ذلك في الصحيح، وهذا على سبيل السنة والاستحباب، فإن تأتَّى للإنسانِ قدرةٌ وفعل ذلك فالحمد لله، وإن قَدِرَ الإنسانُ ولم يفعل، فإنما فاتته السنة، ولكن لم يفتهُ شيءٌ واجب ولا أمرُ لازم، وإن لم يقدر الإنسان فلا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها.
لكن هل ينوب الولدُ عن أبيه في فعل العقيقة؟
الظاهر أنها متعلقةٌ بالأب، وأنها من الأحكام المتعلقة بالأب شُكرًا لله جلّ وعلا على ما أنعم من الذريات، وتفضل من الولد، ونحو ذلك.
فإذا كان الغلامُ قد كَبُر ولم يُعق عنه، فليس له ابتداءً أن يعق عن نفسهِ، لكن يمكنُ أن يبذل لوالده مالًا فيطلب منهُ أن يعق عنه؛ لأن العقيقة ليس لها وقتٌ بعد ذهاب الأسابيع الثلاثة الأولى.
قال المؤلف –رحمه الله تعالى-: (وَهِيَ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ)، هذا كما جاءت به السنة وصرح به الحديث، على ما تقدم بيانهُ قبل قليل، والغلام اسمٌ للذكر، والجارية اسم للأنثى.
قال: (تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ)، اعتبار هذا التحديد في وقت الذبح جاء في أثر عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها ذكرت أنه يُذبح يوم السابع، وقاس عليه الفقهاء على سبيل القضاء اليوم الرابع عشر، واليوم الحادي والعشرين، وذكروا في ذلك ما ذكروه من أثر.
ثم ليس فيه حدٌ معين، وليس لها وقتٌ بعد ذلك، ولكن يبقى أصل استحبابها، فكان مطلقًا، إن فعله بعد ذلك في الشهر الأول، أو فعله في السنة الأولى، أو فعله بعد سنتين، تأخر في ذلك إلى ما هو أكثر من ذلك، فلا غضاضة، ولكن لا شك أن المبادرة إلى فعل السنة والاستعجال إليها هو الأولى.
وموافقة هذه الأوقات التي جاءت بها الأثار، ورويت عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- فهي أتم وأكمل، وهو الذي تتابع الفقهاء عليه -رحمهم الله تعالى-.
قال: (وَحُكْمُهَا كَأُضْحِيَّةٍ)، يعني: ما يُستحب فيها وما يُطلب، فلا تكون إلا ما تم لها ستة أشهر من الضأن فيكون جذعًا، أو ثنيٌ من المعز، وهو ما تم له سنةٌ، وتذبح كما تذبح الأضحية.
لكن هنا ذكر بعض الفقهاء -رحمهم الله تعالى- وجاء ذلك في الآثار أنها تذبح جُدُولًا، يعني: تُقطع على أعضاء، فلا يكسر فيها عظمٌ.
وقال أهل العلم: إنَّ ذلك على سبيل التفاؤل بسلامة الولد، وحصول كماله.
{قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْجِهَادِ
هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِلَّا إِذَا حَضَرَهُ أَوْ حَصَرَهُ أَوْ بَلَدَهُ عَدُوٌّ، أَوْ كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا فَفَرْضُ عَيْنٍ)
}.
كتاب الجهاد هذا من أعظم الكتبِ، وقد جاء القرآن والسنة بتعظيم أمره والأمر به، وما يتعلق به من أجرٍ عظيم وفضلٍ كبير، ولو لم يكن إلا قول الله -جلّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الصف10-11]، فكان الجهاد أعظم تجارةٍ، وأعظم ربحًا، وأعظم إقبالًا على الله -جلّ وعلا.
وجاء عن النبي أنه قال: «وَذِروةُ سَنَامِهِ»[2]، يعني: الجهاد في سبيل الله، فكان من أعلى ما يشع من البر والطاعة، وذكره المؤلف –رحمه الله تعالى- هنا باعتبار أنه عبادةٌ من العبادات، فكان ذكره في آخرها، وبعض الفقهاء يذكره في آخر كتب الفقهِ، وهو ترتيبٌ له اعتباراتٌ ونظرٌ وتأمل، وهو في ذا أو ذاك مناسبٌ لِمَا يُذكر.
فلما يغلب على كتاب الجهاد المعاملة مع الكفار، والأمان، والخَراج، وما فيه من تلك الأحكام، فيذكرونه أو يأخذوا حكم المعاملات فيجعلونه في آخرها.
على كل حال: إذا تحدثنا أو تكلمنا عن كتاب الجهاد، فقد تواردت بذلك الأحاديث والدلائل على فضله، وصُنفت في ذلك مُصنفات، حتى بلغت مجلدات، وما ذاك إلا لفضلهِ وعظيم منزلته.
لكن! هذا الجهاد الذي شرعه الله تعالى، وجاء عن رسوله ، وتتابعت على ذلك عصور أهل الإسلام على مر التاريخ، فأشرق بذلك فجر الإسلام، ونُشرت الملة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، كان على أصولٍ صحيحة ومنهاجٍ قويم، لم يكن فيه ظلمٌ، ولا اعتداءٌ على من لا يجوز الاعتداء عليه، ولا نقضٌ للعهود، ولا تجاوزٌ للحقوق، كل ذلك مما جاءت به الشريعة، ورسمته على أدق ما يكونُ من التفصيلات والبيان والتوضيحات.
فلما خَلَفَت الخلوف وتغيرت الأيام، ونشأ الجهلة والغوغاء الذين أَلْبس عليهم الشيطان لَبوسًا، فرفعوا اسم الجهاد، وحقيقة فعلهم أنه انتهاكٌ للحرمات، وفعلٌ للبلاء، ونقضٌ للعهود، وأنواعٌ كثيرة من الشرور والآثام، فسمو عملهم باسم الجهاد، فتداعى إلى ذلك أهل الأهواء، وقليلي العلم، ومن في نفوسهم محبة، ولكنهم لم يسألوا، ولم يستنيروا أهل العلم، فدخلوا في أشياء أفسدت على المسلمين دينهم وحياتهم، وتغير وجه الإسلام بما أظهروه من شناعة، ومن أفعال سيئة، ومن أعمال ليس فيها إلا إراقة الدماء بغير حقهِ، وإفساد معايش الناس على غير وجه، وأنواعٌ كثيرة من الأهواء والظلمات والبليات، فليتنبه لذلك.
هذا اللواء الذي جاءت به الشريعة، إنما هو لواء الجهاد الذي رُسم أساسه وغايته، فإنما هو مع الإمام لا مع أحدٍ سواه، ومع من جعل الله -جلّ وعلا- له ولاية، فلا ينوب عنه غيره فيه.
 وإذا تقررت هذه المسألة، فقد انتهت كثيرٌ من المسائل، وهذا أصلٌ في الشريعة أن كل شعيرةٍ، فإنما تُناط بمن تليق به، ويتعلق به حكمها، فلا يجوز لأحدٍ أن يفتات على أحد.
فعلى سبيل المثال: الولي في النكاح الأبُ أو الأخ أو الابن أو العم أو الخال، على تراتيب معروفة عند الفقهاء، فلو جاء الجار أو الرجل البعيد ليطّرح ولاية الأب ويتقدم بها، فيزوج هذه البنت ذا أو ذاك بغير ما رجوعٍ إلى من له ولايةٌ ومن له استحقاق، أتنتظم حياة الناس ويصلح بذلك أمرهم ويتعلق بحكم الولي ما يتعلق به من أثرٍ تام، ومن كمالٍ فيما يتطلبه الشارع في تحقيق المراد في هذه الشعيرة؟ الإجابة: لا.
ولو أنَّ أحدًا من الناس نظر في أقضية المسلمين، فقال: أنا لها ونَصب نفسه قاضيًا، والآخر نصب نفسه قاضيًا، وآخر هناك نصب نفسه قاضيًا، فهذا يقول: إن هذا مخطئ وهذا عليه حقٌ، وذا يقول: إن هذا مخطئٌ، وهذا عليه حق، فتضيع وتطيش أمور الناس.
أمَّا إذا كانت ولاية القضاء لمن ولاه الله، وهو من له ولايةٌ على المسلمين، واستناب فيها من يقوم، وانتظم الحكم، فإذا حكم فيها هذا لم يكن لآخر أن يحكم فيها بغيره، ونُفذت الأحكام وأُخذ الحقُ ممن عليه، وأعطي ممن له، وهكذا.
مثل ذلك شعيرةُ الجهاد، وإنما هي إلى ولي الأمر، يقوم بها، ويتعلق بها شرطه، وهو موكولٌ إليه هذا الأمر، فإن قام به على الوجه الذي ينبغي فذاك، وإن لم يقم به فلا يخلو الحال:
إمَّا أن يكون ذلك بسببٍ صحيح، وهو علمه بعدم قدرة المسلمين على ذلك، وعدم وجود ما يَسنده من الزاد، وبه من الأمر، ويحتاج به من القوة والعتاد فيكون معذورًا، وإن كان غير ذلك فلست أنت الذي تخلفه في هذا، ولست أنت الذي تحاسبه عليه، وهي من الولايات والوظائف التي تتعلق بالإمام، فيحاسبه الله -جلّ وعلا.
أمَّا أن يُفتات فلا، فإذا قام هذا ورفع راية الجهاد، وقام هذا هنا ورفع رايةً للجهاد، فلا قُوتل من يستحق القتال، ولا انتظم الناس في جيشٍ واحد تقوى به شوكتهم، ويؤدى به حق الجهاد، ويُحفظون من الانتهاكات أو التجاوزات أو غيرها.
وكل هذا وغيره كثير اجتمع في مسالك هذه الفئات الضالة التي امتلأت قلوبهم بالأهواء، وحصل بسبب ذلك البلاء، ولم تأت فتنةٌ في هذا العصر بأعظم من هذه الفتنة، التي شُوه بها الدين، وتَسلط بها الكفار، وحصل بسبب ذلك من اضطهاد المسلمين، والتسلط عليهم ما الله به عليم.
ونهاية الأمر: أنها مسالك شخصية لم يعدو الحال أنهم يلفتوا الأنظار إلى حالة، لكن لا تسأل بعد ذلك عماَّ حصلت عليه من البلية على بلاد المسلمين عامة؛ فلأجل ذلك كان هذا من الأمور المهمة التي يجب أن نعرف حُكمها، ونتحقق ما يتعلق بها.
الجهاد مع ولي الأمر، مع إمام المسلمين، لا يقوم به غيره، ولا ينوب عنه أحدٌ سواه، ولا يفتات عليه فيه، إذا قامه فالحمد لله، وإذا أناب من يقيم به كان كما لو أقامه، وإذا أمسك عن ذلك فهو الذي يُقرر ويُقدر الأمر، ويعرف ما لديه من القدرة، وإذا فرط فتفريطه عليه يغفر الله له أو يحاسبه، هذا ليس إليك، هذا ليس إلى أحد.
وبعض الناس يقول: كيف؟ هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا.. لا يدرون الناس مثلًا إذا كان ليس لديه قدرة، هل من المصلحة أن يقول أو أن يُظهر أو أن يُبين، كأن يقول: عندنا في الجيش إشكاليه في كذا، وعندنا في السلاح نقصٌ في كذا! فيكشف أمره للعدو فيتسلط عليه الأعداء، ويزدادون طمعًا فيه!
فإذًا هذه أمورٌ إلى الإمام يقدرها ويحكم بها، ولا حاجة إلى أن يدخل فيها الدهماء والعوام والغوغاء، ومبدأ الأمور هو ذاك.
ثم إنَّ الجهاد كما عرفه الفقهاء –رحمهم الله تعالى- قتال الكفار خاصةً؛ لإعلاء كلمة الله، فكونه قتال للكفار خاصة، فلا يدخل في ذلك قتالٌ آخر، ولو كان قتالًا مشروعًا، كدفعِ أهل البغي، أو قتال فئةٍ من المؤمنين اعتدوا أو ظلموا أو غير ذلك؛ لأن هذا قتالٌ مشروع ولكن له أحكامٌ تخصه، وسيذكرها الفقهاء في قتال أهل البغي، وما يتبع ذلك وفي دفع الخوارج وغيرهم، وله تفاصيل أخرى.
لكنه قتال الكفار خاصة لإعلاء كلمة الله، ما معنى هذه الجملة وهي مهمةٌ للغاية؟ يعني: أن الجهاد في سبيل الله -جلّ وعلا- ليس لذات الجهاد، فليس المقصود أن تُراق الدماء، أو أن يحصل على المسلمين البلاء، لكن بحسب ما يترتب عليه.
فإذا كان يتأتى بالجهاد إعلاء كلمة الله، فلترخص لأجل ذلك النفوس، وليحصل بسبب ذلك من الشهادة ما حصل، ونقص أحيانًا في الأموال، وأشياء أخرى معروفةٌ فيما يحصل في المعارك وغيرها.
أما إذا كنا ابتداءً نعلم أنه لا يتأتى هذا المقصود، ولا نصل إلى هذه الدرجة، ونعلم أنه تُكسر سيوفنا دون أن يكون هناك إعلاء لكلمة الله، أو تركز راية التوحيد، وينتشر دين الله -جلّ وعلا- في أصقاع المعمورة فلا يقام الجهاد.
وهذا هو الفرق بين ما يقام على أصلٍ صحيح، وبين ما يفتات فيه على الإمام، فالإمام يُقدر ذلك بحسب النظر، لكن لَمَّا لم يكن هذا المعنى ظاهرًا لدى هذه الفئات الضالة، والجماعات المنحرفة، التي شوهت الإسلام وغيرت وجهه، فإنَّ الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة يقومون ضد دولة أو ضد جهةٍ كاملة، فما يفتأوا حتى يقتلوا، ويحصل عليهم البلاء، وربما اُستجر في ذلك غيرهم، وربما انتهك بذلك حرماتهم، ولا تسأل عما يحصل تبعًا لذلك من الشيء الكبير.
ما الفائدة؟ لا فائدة البتة، وكله غيابٌ لمعنى الجهاد في حقيقته.
قال المؤلف –رحمه الله تعالى-: (هُوَ فرضُ كِفَايَة)، فأي شيءٍ يُقصد هنا: هل هو الجهاد بالمال، أو الجهاد بالنفس؟ كل هذا إنما هو يتوجه أصالةً إلى الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال إنما يُذكر تبعًا؛ ولأهمية هذه المسألة سنذكر ما يتعلق بالجهاد في المال، حكمًا قبل الكلام على الجهاد بالنفس.
فالجهاد بالمال جاء في كتاب الله -جلّ وعلا- في آياتٍ كثيرة، فأحيانًا يُبتدئ: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة:41]، وفي بعضها تقديم الجهاد بالنفس على المال.
وفي هذا كلامٌ للمفسرين في أهمية المال، وأنه أصلٌ لقوام الجهاد بالنفس، ونحو ذلك، وأحيانًا هذا هو الأصل والمال تبعُ له، فيقدم الجهاد بالنفس.
لكن هنا ما حكم الجهاد بالمال؟
في قول أكثر الفقهاء والعلماء أنه مسنونٌ ومستحب، وأنه لا يرقى إلى درجة الوجوب أو التعين، وربما نُقل التعين عن قلةٍ من أهل العلم، ومن أشهر من ذكر ذلك أو انتصر له ابن تيمية –رحمه الله تعالى- فجعل ذلك يدخل في حكم الوجوب في مواضع، ولحقه بعض المتأخرين.
على كل حال: ما الذي نُحب أن نصل إليه؟
في الحقيقة يمكن أن نصل إلى مسألة هي كثيرةُ الترداد، وخاصةً إذا حصلت بعض الأفعال المشينة التي تُغيظ المسلمين من الكفار، مع ما احتف ببلاد المسلمين من الضعف وأشياء كثيرة، وحصول التواصل عبر هذه المنصات، وعبر وسائل الإعلام والشاشات، فتنقل مثل تلك الأعمال سواءُ كانت صورًا أو إحراقًا لمصحف أو سوى ذلك.
وغيرة المسلمين على هذا تدعوهم مثلًا إلى ما يسمى بالمقاطعة، وبالمبادرة بإظهار الامتعاض من هذه الدولة، وعدم الحرص على ما يصدر منها، وما يُصدر من سلعها حتى تتضرر، ومن ثم تقف عن الإساءة إلى المسلمين.
وهذا من حيث هو ابتداءً لا شك أنه أمرٌ طيب، لكنه من حيث هو تدبير وتطبيق لا ينبغي أن يُجعل -كما ذكرنا سابقًا- لأحد المسلمين؛ لأن هذا أيضًا يتعلق به مصالح، وقد تفوق المفاسد التي تحصل تبعًا لذلك من تصرفات أحد المسلمين إلى أن يكون بلاء على الإسلام وأهله.
فلأجل هذا من حيث الأصل أن يفعل الإنسان ما يليق به فالأمر جيد، وإذا نمى في نفسه أنه يحب أن يشتري من أخيه أو من بلده أو مما جاوره أو من ديار المسلمين فهذا هو الأصل، وهذا من تمام الإخوة، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، ويحصل في ذلك ازدهارٌ لأسواق المسلمين وزيادتها.
لكن أن يتداعى الناس إلى هذا فيكون في ذلك اجتماع، ويكون في ذلك اتخاذٌ لموقف يستدعي من الجهات الأخرى استدعاء موقفٍ مقابل، قد يكون أشد وأنكى، فإن ذلك لا ينبغي أيضًا أن يصدر من أحد الناس أو من جماعاتٍ أو توجهات، وإنما هذا أيضًا مناطه ولي الأمر.
لماذا مناطه ولي الأمر؟
لأنه لا يخلو أن هذه المقاطعة إما أن ترجع إلى الجهاد بالمال، والجهاد من حيث أصله هو منوطٌ بإمام المسلمين، فكان تعلقها بذلك، وإما أن لا تكون مناطها أو تعلقها بالجهاد، وإنما هي من تدابير أمور الناس، ومن باب السياسة الشرعية، وما يُطلب به دفع ذي شر، أو جلب خيرٍ للمسلمين وأسواقهم وأهليهم، فنقول أيضًا: هذه مما يقدرها ولي الأمر فتكون منوطةً به.
فلا ينبغي الافتيات والناس لا يعرفون، يعني على سبيل المثال:
بعض الدول يمكن أن تكون عندها بعض الأدوية -لا أريد أن أسمي جهةً ولا أحب أن أدخل في تفاصيل مخصوصة- لكن يمكن أن تكون مشتهرةً بدواء يحتاجه عموم الناس، وما يتعلق بمثل هذه الأعمال ربما، -وقد درسنا أشياء كثيرة من هذه لا يتعلق بها كثير من إشكال؛ حتى ولو أُظهر في بعض وسائل الإعلام العامة شيءٌ من ذلك أنها تضررت أو كذا، فهذه أحيانًا جهات منفصلة عن ذا وذاك.
وأصلًا هي لها مآرب في تأجيج مثل هذه الخلافات، وتصوت لمثل هذه البؤر التي يحصل بسببها بلاءٌ أو شر، أو تتداعى الأمور إلى تقابلٍ وسوء، وربما تكون أيضًا من بعض التوجهات والجماعات التي تستغل مثل هذه المواقف لسحب واستجماع غَيرة المسلمين، لتلفت الناس إلى نفسها، وأنها هي الحامية للإسلام، وهي المدافعة عنه، وهي التي تغار على أحكامه، وهي التي لها مواقف في مثل ذلك، فتسجل موقفًا وليس لها حقيقة.
لكن من له الولاية يعرف ما الذي يترتب على ذلك، فإذا كان لديها مثلًا علاج لا يوجد عند غيرها، أو غالبه عند غيرها بنسبة ستين أو سبعين في المائة ويحتاجه الناس حاجًة ملحة، ولهذا أمثلةُ لكن لا نحب أن ندخل في التفصيل، ثم مُنع عن المسلمين وعن دخول بلادهم، من أين سيؤتى بهذه الأدوية؟ وكم سيكون تداعي الناس أن الجهات المسئولة أو أنها سيئة أو إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة.
ثم في الواقع نجد أنَّ كثيرًا من هذه التداعيات للمقاطعة، والتي لم تصدر من جهةٍ مسؤولة لم يكن لها أثرٌ جيد، وبالعكس يمكن أن تكون لها تداعيات سيئة؛ فلأجل ذلك لا ينبغي.
ثم إذا قامت مثل هذه الأشياء في كثير من الأحيان يتوجه المقاطعة إلى تجار المسلمين، يكون اشترى البضاعة وملأ مخازنه بها، ثم تأمروا بمقاطعتها، كونها في أصلها صُدرت من هناك لا يعني أنها الآن في مِلك تلك الجهة، ولا تضرر عليها.
ولذلك حتى من جهة الحقيقة هو لا يستطاع إلا السيطرة من جهة مسؤولة هي التي تعرف أمور التصدير، وإصدار التصاريح لدخول هذه البضائع، والتعاون مع هذه الشركات، وغير ذلك، فلأجل ذلك كل هذه الافتياتات تكون إلى بلاء
ومثال آخر تَبنته الحكومات وكان له أثر بالغ، مهما صار من تذبذب أو ارتفاع أو غيره؛ أو قُدرت المصالح في خفضه أو تغيير الموقف فيه، إلا أنه كان له أثر بالغ وهي مقاطعة دولة إسرائيل وما يتعلق بها، وهذه معروفة لكل دولة، وتتبنى جامعة الدول العربية مواقف معروفة ولها امتدادات، كما قلنا تختلف بعض المواقف باختلاف أحوال معينة، لكن في كل ذلك كان له أثر.
ومتى ما رأى الإمام أنَّ المصلحة في ترك ذلك أو زيادته أو إنقاصه فهو الذي سيقدر المصلحة، وهو الذي سيتخذ الرأي، وهو الذي أُنيط به هذا عند الله -جلّ وعلا-؛ فلأجل ذلك كانت هذه أمور معلومة.
وسيأتينا أيضًا أنَّ الكفار ليس يُطلب منهم أن يتبنوا شعائر الإسلام، أو أن يحفظوها، أو أن يعظموها، فليس بعد الكفر ذنبٌ، يمكن؛ وهذا بحسب -وسيأتينا- بحسب ما يكون من قوة الدولة، ويكون من التعهد فيه، لكن ليس بلازم، أهم شيء في عقود العهد والأمان أن يُحفظ اعتداؤهم أو هجومهم على المسلمين، ويُحفظ من المسلمين الهجوم عليهم.
لكن ما فيه من تسوية الله -جلّ وعلا- بخلقه في العبادة ونحوه ليس بعده ذنب، وليس بعد ذلك تشويهٌ للعبادة والتوحيد والإيمان، فلا ينظر إلى مثل هذه الأشياء وتتخذ وسيلة.
فعلى كل حال: بنود الاتفاقات لها اعتبارات، وكل دولة تنظر في ذلك فيما تزيد من الأمور في عهد الأمان بحسب ما يليق به الحال وتراه مناسبًا بحسب موقفها وقوتها، وما يحتاج إليه في ذلك الحال.
لكن كل اعتبارات أو افتياتات أو تصرفات فردية فلا فائدة فيها، وإنما تجر ويًلا وبلاءً وشرًا، فيتنبه لذلك أيما تنبه.
والعجيب وهذا وقفت عليه فعلًا، في إحدى هذه المواقف، وقد ذهبت أنا إلى هذه البلد وتحققت من ذلك، أنها لَمَّا حصل ما حصل وتداعى الناس إلى هذا، وكانت أكبر تداعيات المجتمعية التي تبنتها جهات وجماعات في الدعوة إلى المقاطعة ونحوها.
وأيضًا استضاف الإعلام بعض المقدمين في تلك الدولة وهم مسلمين وذكروا وتكلموا، ولَمَّا ذهبت إلى تلك الدولة والتقينا عبر دراسات وجهات وأيضًا راصدين من المسلمين، وإذا كلام بعض من تصدى لهذه يتكلم في خارج البلد أو عبر القنوات العربية بكلام، ويتكلم عبر القنوات الداخلية بالكلام.
إذًا كل ذلك يُعيدنا إلى ما ذكرناه سابقًا: أنَّ كثيرًا من هذه الأمور إنما ما هي استغلال وتوظيف من جماعاتٍ وجهات؛ لإبراز أنفسهم عبر أنهم وكلاء على الإسلام، والحافظين لحماه، وهم الذين يَغارون عليه، وأن سواهم ما هم إلا كذا وكذا وكذا، ولا تسأل عن الأوصاف السيئة التي يلقونها، ووالله ليس الأمر كذلك وليسوا هم بأحق بهذا الوصف، ولا أقدر عليه، ولا هم في الحقيقة فاعلون له، فلذلك يُتنبه لذلك أيما يكون من التنبيه.
وقبل أن نعود إلى قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (هُوَ فرضُ كِفَايَة)، نقول: المسألة الأولى تحتاج إلى بسط، ولكني أحببت الإشارة إليها لمسيس في الحاجة إليها، ولا يُرى شيءٌ من الكلام الذي يصب في عين هذه المسألة خاصةً، أنها إذا طُرحت هذه المسائل إنما تنحو منحى الغيرة، فأكثر ما يكون في ذلك من الامتعاض، وأيضًا محاولة لملمة المشاعر أو شيئًا مما يجري في هذا، لكنه لا يُفيد شيئًا، ولابد أن تُوقف الأمور عند حدها، وتُعلم ما يتعلق بها من حُكمٍ وتوضيحٍ وبيان.
إذًا كما قلنا: نعود إلى قوله: (هُوَ فرضُ كِفَايَة)، يتعلق الكلام بالجهاد بالنفس وهو كذلك، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقيين، سواءٌ في ذلك كان دعاءٌ من الإمام لاستجماع المسلمين الذين تنطبق عليهم الشروط، وهي: المسلم، البالغ، العاقل، الحر، الصحيح، القادر، أو كان ذلك عبر من جُعلت لهم هذه الوظائف، وأُجريت عليهم الرواتب والمسيرات، وهي ما يسمى: وزارة الدفاع أو ما شابهها، وهذا له أصلٌ صحيحٌ في الإسلام، فكل ذلك كان موجودًا.
وفي الأصل كان الإمام يدعو إلى الجهاد، ويجتمع الناس وينطلقون، ثم لَمَّا ازدهرت دولة الإسلام في عهد عمر الفاروق –رضي الله تعالى عنه وأرضاه- دُوِّن الديوان وجُعلت الأسماء ورتبت.
فكان هذا أصل وأساس ما يسمى بوزارة الدفاع أو الجيش الذي يحفظ حمى البلد، وينافح عنه.
وإذا كان بهذا أو بذاك فهو صحيح.
وفي هذا ينبغي أن يقال: إن ما ينفق في وزارات الدفاع، وما يُبذل فيها من الأموال، وما يُدفع فيها من الميزانيات، فإنَّ ذلك من أعظم ما يكون من الجهاد في سبيل الله، وما تُنفق فيه أموال بيت المال.
وحسبنا أن نعلم: أنه بمثل ذلك يُعلم أن الإمام وولي الأمر قائمٌ على الاستعداد والتحصيل والتحصين لِمَا يكون من الدفاع والحفاظ، وما يكون من حماية بيضة الإسلام وأهله.
فكل نفقةٍ في ذلك هي من أعظم النفقات وأجلها؛ لأنها من النفقة في سبيل الله، وهي من الجهاد بالمال الذي هو أصلٌ كما قلنا للجهاد بالنفس، وهو أيضًا قِوامه الذي لا يقوم إلا به.
فعلى كل حال: هو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، أمَّا إذا قام به البعض ولم تحصل بهم الكفاية وانكشف المسلمون، فإنه يجب أن يَسندهم من تحصل بهم الكفاية، ويمنع في ذلك تسلط المشركين وهجومهم على المسلمين.
قال: (هُوَ فرضُ كِفَايَة، إلا إذا حَضَرَهُ، أو حَصَرَه، أو بَلَدَه عَدوٌّ، أو كَانَ النفيرُ عَاماً فَفرضُ عينٍ).
 إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- يتكلم عن الأحوال التي يكون فيها الجهاد فرض عينٍ.
إذا حضر الجندي صف القتال، فلا يجوز له أن يَنْكِس إلا متحرفًا لقتالٍ أو متحيزًا إلى فئة؛ ولأن النُّكوس في هذه الحال هو أعظم ما يكون بلاءً على الإسلام وأهله؛ لأن ذلك يفت العضد، ويحصل به من الضعف على المسلمين ما هو ظاهرٌ بيّن، وهذا معلومٌ عبر التاريخ، وفي مواطن ليست بعيدة، حُصر فيها حتى في العهد القريب، لَمَّا جاءت بعض الجيوش وحصرت ما حصرت في الجزيرة العربية، فإنما كان مبدأُ تسلطها وضعف الجيش، إنما كان بأن ضعف واحدٌ أو اثنان أو ثلاثةٌ أو أكثر، فإذا ضعف من يتعلق به أو عُرف بقوته وشكيمته وهو قائدٌ ونحوه، تتابع غيره، فحصل بسبب ذلك الشر الكثير؛ ولأجل ذلك إذا حضر تعلق بهم، ولم يجز له أن ينكس.
(أو حَصَرَه، أو بَلَدَه عَدوٌّ)، يعني أنه يتعين بالمحصور وبالمحضور الذي حضر بلده العدو الوجوب العيني، أمَّا من سواهم فلا، وهذا أيضًا كثير ما تتعلق به بعض الجهات أو الجماعات الفاسدة أنها لا يحتاج الآن إلى إذن الإمام، وأن هذا من قبيل كذا، هذا لم يتعلق به الحكم.
لو كان صحيحًا واستتمت شروط الجهاد، فلا يمكن أن يقال لآحاد الناس الذين في الشرق أو في الغرب فيأتون من أصقاع من المعمورة ويقولون إن الجهاد صار فرض عين، لا يتصور ذلك، ولذلك كانت من الأخطاء الشائعة أنه حصل وهو على ذلك المسار، أن منهم من اجتمعوا وقرروا واعتبروا أنهم مَجْمَعٌ للعلم وكذا، وقرروا أنه فرض عين.
والعجيب أنه لم يذهب أحدُ منهم ولا من حولهم لمتعلق هذا الحكم الذي هو فرض عين، مما يدل على أنهم أخطأوا في الأولى وفي الثانية أيضًا، وليس الخطأ في الثانية بأعظم من الخطأ في الأولى، وهو الحكم بأن الجهاد فرض عين على الإطلاق، ولم يأت على مر التاريخ أنه يكون فرض عين على عموم أهل البسيطة والأرض على حدٍ سواء.
فإذا من حضره العدو، وهنا مسألةٌ مهمة وهي: حتى من حضره العدو إذا وُجِدَ من ولي الأمر توجيه حتى في حال حضوره، فلا يزيد الأمر على التوجه إلى الأمر، يعني: هو من حيث الآصل صحيح أنه فرض عين، لكن يمكن أن ينتقل إلى غيره.
بمعنى -وهذا نص عليه الفقهاء- لو أنَّ العدو حصر هذه البلد، وعرف الإمام أنه لا قوة ولا قدرة عليهم على حفظ هذه البلد، فبدلا من أن يُنهك المسلمون بالقتل والبلاء وإراقة الدماء، أمرهم بالرجوع، فأن تفوت الأرض وأن تذهب البلد، خيرٌ من أن تذهب دماء المسلمين وبلدانهم، فأمرهم بالتراجع لتُحفظ غيرها، ولئلا يستمكن الكفار من المسلمين في هذه وما بعدها، فإنَّ ذلك يجب عليهم أن يرجعوا، ولا يجوز لهم أن يسترسلوا، ولو حصل منهم ذلك لكان في ذلك إراقةٌ لدمائهم، وكان في ذلك مخالفةٌ لولي أمرهم، وكان عليهم تبعة ما يتبع ذلك من تسلط الكفار على ما وراءها من البلدان.
قال: (أَوْ كَانَ النَّفيرُ عَاماً)، فإذا أمر الإمام بالنفير العام، وطلب من لديه قدرة أن يأتي فلا مناص عن ذلك، ويجب النَّفير وتجب الاستجابة، وأن يسرع الناس إلى ذلك، وهذا أمر ولي الأمر، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ويتداعون إذا جاء داعي النصرة والاجتماع والدفع عن الإسلام وعن أهله.
{أحسن الله إليكم.
قال –رحمه الله-: (وَلَا يتَطَوَّع بِهِ مَنْ أحدُ أبويه حُرٌّ مُسلمٌ إلا بإذنه)}.
(وَلَا يتَطَوَّع بِهِ)، يعني الجهاد ما زاد عن فرض الكفاية فهو سُنة، فإذا مثلًا حصلت الكفاية بعشرة آلاف فما زاد عن ذلك فهو سنة.
يقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: (وَلَا يتَطَوَّع بِهِ) يعني: فِعلُ هذا القدر المسنون لابد أن يكون بإذن الوالد أو الوالدة أو بشرطهما إذا كانا مسلمين وكانا حُرَّين؛ لأنَّ لهما ولاية عليه، ولا يجوز أن يكون الجهاد إلا بإذنهما.
وفي ذلك القصص المشهورة: لَمَّا جاء ذلك الصبي إلى النبي قال: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ»[3]، فأمر بأن يكون قيامه على والديه وهو أولى.
فما الذي يُستفاد من هذا الحديث؟
أنَّ الجهاد فيهما والبر لهما، وطاعتهما مقدمةٌ على الجهاد في سبيل الله، فلا يمكن أن تنتقل إلى الآخر إلا بإذن الأول، وفيه أيضًا أمر بالإذن في الحديث الآخر وهو معلوم بيّن.
فإذا لا بد من إذنهما جميعًا، فإذا امتنع أحدهما لم يجز للإنسان أن يفتات ولا أن يتقدم، وكل ما حصل من الجماعات في الوقت الحاضر من المسير أو الزج بالمسألة إلى أنها فرض عين؛ حتى يخرجوا من أنه لا يلزمك الاستئذان، ولا يلزمك كذا، ولا يلزمك كذا، ولا يلزمك كذا، وحصل بسبب ذلك من البلاء ما الله به عليم.
فإذًا هذا أمرٌ مهم، وهنا قال: (وَلَا يتَطَوَّع)، يعني على سبيل الحرمة والإثم، على سبيل الذنب والمعصية، وهي متعلقةٌ بالوالدين فتكون كبيرةً وإثمًا.
{قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ رِبَاطٌ وأقلُه سَاعَةٌ، وَتَمَامه أربعون يَوْمًا)}.
(وَسُنَّ رِبَاطٌ)، الرباط هو ما يُرابط به المسلمون في اتجاه الكفار حفظًا أن يبغتوهم، أو أن يهجموا عليهم من حيث لا يشعرون، وهو من أعظم الشعائر وأجلها عند الله -جلّ وعلا-، ولذلك جاء: «رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا»[4].
ومثل ذلك: من يقومون على حفظ بُلدان المسلمين من السموم والمخدرات، ويسهرون لذلك في البراري والقفار، وفي الأودية وفي الجبال، وما يُدفع من الشر أيضًا من تسلط الظلمة، وأهل الأهواء، ومن أرادوا فسادًا بالبلاد والعباد، فكل ذلك هو نوعُ رباط، وحفظٌ لبيضة الإسلام، ولراية التوحيد، وللولاية والجماعة، وذلك أعظم ما يكون أجرًا، وأفضل ما يكون عند الله -جلّ وعلا- مثوبةً وفضلًا.
فهذا هو الرباط في سبيل الله -جلّ وعلا-، فإذا كان بإزاء الكفار وتعلق به الحفظ، وقاموا على ذلك، وهذا لا حد له ينتهي فيه، فهو مستمرٌ باستمرار، مادام أنَّ ثمَّ خطرٌ حيث يمكن أن يَقدم هؤلاء الكفار وينالوا من المسلمين في بلدانهم أو في مقدراتهم أو في أنفسهم، فإن الرباط باقٍ وفضله عظيم وأجره كبير.
قال: (وأقلُه سَاعَةٌ، وَتَمَامه أربعون يَوْمًا)، كما جاء ذلك في بعض الأحاديث.
فما الذي نحب أن يُقال هنا؟
مَنْ مَنَّ الله -جلّ وعلا- عليه بأن يكون على شيءٍ من ذلك، فإنه قد منَّ الله عليه بمنةٍ عظيمة، وإذا كانت المنن يتفاضل الناس فيها أو يتفاخرون بكثرة المال، أو بكثرة الولد، أو بما يؤتى الإنسان من وظيفة، أو ما يؤتى من سيارة، أو غير ذلك من مظاهر هذه الدنيا ومتعها، فإنما يمن الله -جلّ وعلا- به على العبد من أن يُبلغه مثل تلك الأعمال أو الوظائف، أو أن يدخل في مثل هذه الشعائر، فإنَّ ذلك فضلٌ عظيم وأجره كبير.
ويَقرب من ذلك -وإن لم يكن رباطًا بمعني الرباط، لكنه لا يبعد عنه ويمكن أن يكون مثله- ما يكون أيضًا من القوات التي تتأهب لحفظ الحجيج، وحفظ سلامتهم، وأيضًا حتى ما يكون مما يُجرى من تنظيمهم، وعدم حصول البلاء عليهم؛ وكل ذلك يُرجى أن يكون قريبًا من الرباط في سبيل الله -جلّ وعلا-.
ويظن به أن يبلغ خاصةً أننا نعلم أنه قد صارت مثل تلك الميادين وتلك الأوقات ساحةً مستهدفة من جهات لبث الذعر، ولإراقة الدماء، ولإرادة الإفساد، ولتشويه الإسلام، ولحصول الوقيعة بين بلدان المسلمين أو مجتمعاتهم، فكلما وُجِدَتْ هذه وهي كثيرةٌ في هذا الوقت، كانت الجهات التي تعمل والمتأهبة، والتي تترصد، والتي تتبع منع ذلك وتسعى فيه؛ حتى يحج المسلمون إلى بيت الله الحرام وهم آمنون مطمئنون، مِنْ أعظم ما يكون من الرباط في سبيل الله -جلّ وعلا- وملحقًا به.
{أحسن الله إليكم.
نكتفي بهذا القدر}
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم، وأن يجعل ما قلناه في ميزان الحسنات، وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يُجنبنا الغي والشر والفساد، وأن يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزآكم الله خيرًا، أعزاءنا المشاهدين، سكنوا ما تبقى في مجالس قادمةٍ إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------
[1] رواه الترمذي وأحمد.
[2] رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي
[3] أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549).
[4] رواه البخاري (2892).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك