{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}
أهلا وسهلا، حياك الله في هذه المجالس المباركة والأوقات الطيبة التي يجب أن نستحضر فيها أنها أوقات يتعبد المرء فيها لله -جل وعلا- ويتعلم سنة رسوله ﷺ، فكانت الوصية أن نستحضر فيها نية خالصة وعبادة لله -جل وعلا.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده}.
توكلنا على الله.
{قال المصنف -رحمه الله-: (وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ فَيَرْقَاهُ حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ، فَيُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ مَا وَرَدَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يحفظنا من بليات الدنيا، والباليات في الدين، وأن يجعلنا على السنة قائمين وقاعدين وراقدين، وأن يختم بذلك أعمالنا غير مبدلين ولا مغيرين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولاً فيما ابتدأه المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب: (دُخُولِ مَكَّةَ)، وما يشرع للحاج إذا وفد إليها، والمعتمر إذا دخلها، من أعمال يبتدئها.
وذكرنا في المجلس الماضي أحكام الطواف بالبيت وما يتعلق به، إلى أن انتهى الحديث عند ركعتي الطواف وفعلهما، ثم ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك هنا، فقال: (وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ)، لماذا قال: (وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ)؟ لأنه فيما مضى كان المسجد الحرام يحيط بالكعبة من أرجائها، ثم بيوتات أهل مكة، وفيها بيوتات بعض آل طالب، ثم ممرات يسيرة، إلى أن يصل إلى الجبل الصغير الذي هو بإزاء أبي قبيس، والذي هو ابتداء السعي، والذي هو منسك من مناسك العمرة والحج، وفيه السعي بين الصفا والمروة.
فمن يفد إلى البيت في هذه الأوقات بعد توسعة المسجد الحرام، ثم بُني المسعى، كانا ملتصقين، أي أن المسجد الحرام كان ينتهي إلى حدود السعي، فهذا البناء وإن وجد كهيئة بناء البيت، إلا أنه كان منفصلا عنه، وله أحكام تخصه، وهذا هو الأشهر عند المحققين المتأخرين من علمائنا، أنه لم يدخل في البيت، وهذا ظاهر أيضًا ما فعله حكام هذه البلاد المباركة، لما أمروا بالتوسعة فإنهم جعلوا من البيت إلى الوصول إلى المسعى ممرات، ورفعوا بناءً صغير في حدود المتر، ثم جعلوا عليه سياجًا حديديًا كذلك؛ ليتبين الناس أن هذا هو ابتداء المسعى، وهذا انتهاء المسجد الحرم، طبعًا في التوسعة الأخيرة ربما تغيرت وصارت ممرات فقط للدخول إلى المسعى، ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لا يزل حكمها منفصلًا، وأنه لا بد أن يبقى هذا الانفصال مهما قلنا؛ لأن هذا منسك، وهذا المنسك له أحكام، ومن أحكامه أنه يصح سعي الحائض فيه وسواها، ومن المعلوم أنه إذا أُدخل في البيت فمعنى ذلك أن الحائض ممنوعة من المسجد؛ فيترتب على ذلك أن تُمنع من الدخول إلى المسعى، وذلك لا يمكن أن يكون.
من جهة ثانية: الطواف بالبيت لا بد أن يكون في المسجد الحرام؛ وبناء على ذلك لو طاف الطائف ثم اضطره زحام أو شيء إلى أن يجوز من جهة المسعى، فيعني ذلك أنه خرج من المسجد الحرام، وبالتالي لا يصح في تلك الحال ما يكون من طوافه؛ لأنه لم يكن طوافًا بالبيت أو في المسجد الحرام.
إذًا، إذا خرج إلى الصفا وأقبل عليه ورأه، فإنه يقول ما قاله النبي ﷺ: «﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158]، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، فإذا أقبل عليه، فإنه يرقاه حتى يرى البيت فيكبر الله -جل وعلا- قائلًا: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، وقالوا: (يهلله، فيقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، يقولها ثلاث مرات ويدعو.
هل الدعاء السابق يكون مرة أو مرتان أو عقيب كل تهليلة؟
المشهور في المذهب، أنهم نصوا على دعاء واحد، وقال بعضهم: أنها ما بينها فتكون مرتين، ومنهم من يقول: عقب كل تهليلة يدعو. وعلى كل حال الأمر في ذلك يسير، وهذا موطن من مواطن الدعاء التي في الحج، فإن مواطن الدعاء التي في الحج تتأكد في ستة مواطن:
- على الصفا، وعلى المروة، وفي يوم عرفة، وفي المشعر الحرام بعد طلوع الفجر، وعقب رمي الجمرة الصغرى والوسطى، وفي الطواف.
فهذه مواطن يتأكد فيها الدعاء، وترجى فيها إجابته، ويحصل للعبد فيها من الخيرات والرحمات ما يُرجى -بإذن الله جل وعلا-أن تُكفر سيئاته، وتقضى حاجته الدنيوية والدينية، ويبلغ عند الله -جل وعلا- مبلغًا، والله الكريم المتفضل على عباده بالجود والعطاء والإحسان، سبحانه من رب كريم.
الارتقاء على الصفا سُنة، ولكن الابتداء من الصفا، قالوا: بأن يلزق كعبه به، فيستوعب ما بين الصفا والمروة، هو لازم من واجبات السعي، فلو قَصَرَ عن ذلك ولو قليلًا؛ فإن سعيه لا يكتمل، وهذا يحصل أحيانًا في وقت الزحام، الناس يقصرون؛ فيدورون من أولها.
وابتداؤه الآن مع ذهاب بعض معالم الجبل بالتيسير على الناس، وجعل هذا البلاط ونحوه، ففي الحقيقة لا تزالُ المعالم واضحة جلية بممر العربيات، فمر العربيات التي يحمل عليها الزمنة والضعفة ونحوهم، هو من الابتداء إلى الانتهاء تمامًا من كل وجه، فما بعد ذلك من الرقي أو الدوران أو الصعود أو نحوه، إنما هو في القدر المسنون، وكلما راق ليرى البيت ونحوه، فقد فعل ما يستحب له؛ فيكون ذلك مُستحبًا، ويكون ذلك مندوبا.
فإذًا هو يكبر الله -جل وعلا- ثلاثًا ويقول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ويدعو على نحو ما ذكرنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثمَّ يَنْزِلُ مَاشِيًا إِلَى الْعَلَمِ الْأَوَّلِ فَيَسْعَى شَدِيدًا إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ يَمْشِي وَيَرْقَى إِلَى الْمَرْوَةِ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ عَلَى الصَّفَا)}.
إذًا، بعد ذلك ينزل ماشيًا، والمشي يراد به أن تكون حركته حركة مطمئنة، أي: ليس فيها استعجال ولا سعي شديد، قال: حتى إذا جاء بين العلمين؛ الذي هو بطن الوادي، فإن فيه سنة محفوظة عن النبي ﷺ تأسيًا بأمنا هاجر، لَمَّا كانت تُسرع الخطوات فيما بينهما، فكان النبي ﷺ يُسرع، حتى تبدو ركبته من شدة سعيه صلوات ربي وسلامه عليه، فكان ذلك مُستحبًا لمن مشى، ولمن كان قادرًا من الرجال ونحوهم، ويُستثنى من ذلك: النساء، والأطفال، والضعفاء، ومن كان راكبًا.
والظاهر هنا أنه جعل ابتداء السعي الشديد من العلم، وهم ينصون في بعض كلامهم أنه يبتدأ قبلها بستة أذرع، حتى يستوعب ما بين العلمين بالسرعة الشديدة التي جاءت في السنة النبوية، وهذا من تدقيق الفقهاء -رحمهم الله تعالى- وحسن طلبهم للسنة على وجه التمام والكمال، فليس ذلك تكلفًا، وليس في ذلك تدقيقًا أكثر مما يجب، بل إنما هو طلب لبراءة الذمة، واستقصاء لِما جاء عن النبي ﷺ من السنة، وهو القائل: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ»[1].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَمْشِي وَيَرْقَى إِلَى الْمَرْوَةِ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ عَلَى الصَّفَا)}
الطواف والسعي كله لإقامة ذكر الله -جل وعلا-، فيستحب له فيه أن يذكر الله، وحتى لو قرأ القرآن، ومثل ذلك ما جاء من بعض الأدعية عن السلف وعن الصحابة: "اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم"، ويسبح أو يقرأ أو ما سوى ذلك، ويقول ما قاله حتى يرقى إلى المروة.
والمروة جبل صغير أيضًا يقابل جبل الصفا في الجهة الأخرى، فإذا وصل إليه توجه للبيت كما توجه إليه في الصفا وكبر ثلاثًا.
وقال: (التهليلة ثلاثًا ودعا) سواء دعاء واحدًا، أو دعا بين ذلك على ما ذكرنا، وينبغي للإنسان أن يُعنى بهذه المواطن، وألا يفرط فيها، وألا يكون همه انتهاء النسك، أو الخلاص من الإحرام، لأنَّ بعض الناس يقول: انتهينا من العمرة في ساعة، وبعضهم يقول: ساعة ونص، وليس هذا هو المقصود ولا المطلوب، وإنما المراد اقتفاء سنة النبي ﷺ، وتحري تلك المواطن وما فيها من العبادات، وما فيها من إجابة الدعاء، فلا تفوتن عليك، وإن أقوامًا لتتوق نفوسهم إلى بيت الله الحرام، حتى إذا وصلوا إليه خرقوا أعمالهم، وإن أقوامًا يأتون إلى البيت مرارًا وتكرارًا، إما لسهولة ذلك أو لقربهم منه، لكنهم إذا أتوا لم يحسنوا ما جاء عن النبي ﷺ من السنة، فلربما فعلها عشر مرات أو أكثر من ذلك، على حين أنه في كل مرة لا يزيد إلا تخففًا أو ترخصًا، وربما قلنا إخفاقًا أو نقصًا وخرقًا لما يجب فيها.
إذًا، يقول على المروة ما قاله على الصفا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يَنْزِلُ فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ إِلَى الصَّفَا)}.
إذا وقف على المروة فقال ما ورد فإنه يمشي، و(قول ما هو) يراد به ما ورد في السنة، ولو لم يفعله فإنه لا يمنع صحة سعيه، سواء التي على الصفا أو التي على المروة، هذا من جهة.
من جهة ثانية: إذا وُجِدَ زحام شديد، فإن ما يكون من الرفق بالناس، ومنع ازدحامهم، وما يترتب على ذلك من أذيتهم، وفيهم الكبير والصغير، وكذا، وربما كان الناس على شيء من التعب والإرهاق، خاصة إذا كانوا قد وفدوا في شدة حر، أو أمضوا ساعات طويلة وهم يمشون من عرفة أو من مزدلفة إلى منى، إلى أن وصلوا إلى البيت، وفي أحوال الناس ما هي محل للشفقة والرحمة؛ فإذا ترك شيئًا من هذا، لم يكن بعيدًا أن يكون قد فعل الأكمل؛ لأنَّ ما يتعلق بالشفقة بالناس وعدم المشقة عليهم، أعظم من تحصيل السنة، قياسًا على ترك استلام الحجر الأسود لئلا تحصل منه أذية لغيره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يَفْعَلُهُ سَبْعًا، وَيَحْسِبُ ذَهَابَهُ وَرُجُوعَه)}.
إذًا السعي من المروة إلى الصفا كالسعي من الصفا إلى المروة، سواء بسواء في سائر الأحكام، سواء في موضع المشي الذي يمشي فيه، وموضع السعي الذي يسعى فيه شديدًا، وما يقال فيه من أذكار وأدعية، وما يملؤه من ثناء على الله -جل وعلا- وابتهال ودعاء.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَفْعَلُهُ سَبْعًا، وَيَحْسِبُ ذَهَابَهُ وَرُجُوعَه)، يعني من الصفا إلى المرة سعية، ومن المروة إلى الصفا سعية أخرى؛ وبناءً على ذلك إذا قلنا بهذا، فإنه سيكون ابتداؤه بالصفا وانتهاؤه بالمروة، وهذا قول عامة أهل العلم، وشذَّ في هذا ابن حزم -رحمه الله تعالى- فإنه جعل الذهاب والعودة سعية واحدة؛ فأوجب أربعة عشرة سعية، وهذا خلاف قول عامة أهل العلم -رحمهم الله تعالى.
وهذا يُشكل على الناس كثيرًا في هذه الأوقات، فلربما أرهقوا أنفسهم وأُتوا من حيث جهلوا؛ ولذلك لم يزل أهل العلم خاصة في المناسك، لكثرة الاشتباه فيها، أن يوصوا أن يكون مع الإنسان صحبة من أهل العلم، الذين يرشدونه ويدلونه لِمَا فيه التمام والكمال، والاكتفاء بالسنة، وعدم تكليف النفس ما لم يأمر به الله، وليس عليه دليل ولا سلطان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَتَحَلَّلُ مُتَمَتِّعٌ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِتَقْصِيرِ شِعْرِهِ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا حَجّ)}.
قال: (وَيَتَحَلَّلُ مُتَمَتِّعٌ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِتَقْصِيرِ شِعْرِهِ)، فإذا طاف المتمتع وسعى، فهذا طواف وسعي عمرته، وبعد الطواف والسعي يكون الحلق أو التقصير، وهنا قال: (بِتَقْصِيرِ شِعْرِهِ)، ولم يقل بالحلق، مع أنَّ الحلق من حيث الأصل هو أفضل من التقصير، لكن هذا فقه من العلماء -رحمهم الله تعالى- أيما فقه، فإنه لَمَّا كان المتمتع يحصل له حلقٌ أو تقصيرٌ مرتين، مرة في العمرة، ثم يعقبها مرة أخرى في الحج، والوقت بينهما متقارب، فقالوا هنا بالتقصير لماذا؟ لأنَّ الحج أعظم وأشرف؛ ولذلك قالوا: ليترك ذلك لحجه، وإلا من حيث الأصل لو كان الوقت طويلًا بالمرة، أو كانت عمرة منفردة عن الحج، أي ليست في وقت الحج، فلا شك أن الحلق أفضل له.
قال: (وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا حَجّ)، إذًا من معه هدي -كما تقدم معنا- أن القارن وأن المتمتع الذي معه هديٌ، فإنه لا يحل، ويبقى على إحرامه.
ما الذي يُفهم من ذلك؟ هل المتمتع قسمان؟ من معه هدي فإنه يبقى ويسمى متمتعًا، ويحل في يوم النحر بعد فعل أعمال الحج، وحصول الذبح.
هذا يُفهم، وهو قول لبعض الحنابلة أنه متمتعٌ ساق هديًا، فلا يحل إلا بذاك، وبعضهم يقول: إنه يكون قارنا، كما كان النبي ﷺ، وعلى كل حال هل يترتب على ذلك فرق؟
هذا محل نظر، ولا يظهر أنه يترتب عليها فرق، وأن يكون بينهما اختلاف في الأعمال أو ما سواها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْمُتَمَتِّعِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ)}.
وهنا قبل أن نأتي إلى هذه المسألة التي ذكرت، قالوا هنا: إنَّ الإحلال من الإحرام لا يتعلق بذبح الهدي في أي موضع إلا في هذا الموضع، بالنسبة للقارن أو المتمتع الذي ساق هديًا، فإنه لا يَحِلُّ إلا أن يذبح هديه؛ ولذلك في الحج، يُحل المفرد والمتمتع بأحد اثنين من ثلاثة، بماذا؟
الثلاثة هي: رمي جمرة العقبة، والحلق، والطواف. فإذا أتى باثنين من هذه الثلاثة حصل له الإحلال من إحرامه، فلا يدخل فيها الهدي، مع أن المتمتع عليه هدي، والمفرد إذا تبرع بهدي استحب له ذلك، ولكنها لا تدخل في أعمال الحل، فاستُثني من ذلك هذا الموطن.
وهنا مسألة لكن لا يُماثلها ما لو ساق هديًا في عمرة منفصلة، يعني لو أن شخصًا في شهر ربيع الأول ذهب إلى مكة، وساق معه هديًا مُهدىً إلى البيت، فإن هذا الهدي مسوقٌ لعمرة منفصلة، فمعنى ذلك: أنه إذا طاف وسعى وَحَلَقَ، حَلَّ ولو لم يذبح الهدي بعد، فلا يتعلق إحرامه بذبح هديه ذاك، بل يحل ويذبح الهدي، وهنا يقولون: وذبح ما بمكة عند المروة، وكانوا يذبحون عند المروة، ولكن أنى لهم ذلك الآن؟ ومقتضيات ترتيب الناس، وعدم أن تجعل في مواطنها لئا يُؤذى الناس مما يتبقى من آثار ذبح وغيرها.
قال: (وَالْمُتَمَتِّعِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ) بالنسبة للمتمتع والمعتمر متى يقطع التلبية؟
يقطع التلبية إذا رأى البيت وبدأ في الطواف؛ لأنه يكون قد شرع في أعمال ينشغل بها في إحرامه، فيبأ فيما انشغل فيه ويترك التلبية، وأما القارن والمفرد، فمعنى ذلك أن التلبية لا تزال مشروعة في حقهم إلا أن يحلو من إحرام الحج في اليوم العاشر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصلٌ في صِفَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، يُسَنُّ لِمُحِلٍّ بِمَكَّةَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى)}
يقول المؤلف: (فصلٌ في صِفَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)، وهذا شروع في أحكام الحاج والمعتمر، سواء كان في ذلك من احتاج إلى ابتداء إحرام، وهو المتمتع الذي كان قد حلَّ من إحرامه، أو بالنسبة للقارن والمفرد في ابتداء أيام الحج، وما يُشرع له فعله فيها، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (يُسَنُّ لِمُحِلٍّ بِمَكَّةَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ)، والمحل بمكة من هو؟
يشمل المتمتع الذي حل فإنه يحرم بالحج؛ لأن حكمه حكم أهل مكة، ومثل ذلك أهل مكة الذين قصدوا الحج وأرادوه، فإنهم يحرمون بالحج من محلهم بمكة؛ ولذلك يقول: (يُسَنُّ لِمُحِلٍّ بِمَكَّةَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ)، من أين يحرم؟
يحرم من محله الذي هو فيه، فإذا كان يسكن حول المسجد الحرام، فيحرم من هناك، وإذا كان ساكنًا بالعزيزية، فمن حيث هو، ففي أي موضع كان موطن إقامته ومحل وجوده فعل ذلك، فيبتدئ الإحرام.
ويفعل عند الإحرام ما فعله في المرة الأولى: من التجرد من المخيط، ومن الاغتسال، ومن التطيب، ومن التخلص من ظفر، ونحو ذلك مما قد يحتاج إليه أثناء إحرامه، وهذا بالنسبة للسؤال من أين يحرم؟ ولذلك قال النبي ﷺ: «حتى أهل مكة من مكة»، فكان المتمتع في حكم أهل مكة؛ لأنه صار مُقيمًا بها في ذلك الحين، قياسًا على قوله: «هُنَّ لَهُنَّ ولمن مر عليهن من غير أهلهن»، فهذا الذي أقام بمكة، وصار كأهل مكة، فكان حكمه حكمهم، وهذا إنما هو في الحج، وأما العمرة فسيأتي الكلام المتعلق من أين يحرم المعتمر؟
وقلنا هنا -أي في الحج- يحرم من مكانه، وإن كان بعض الفقهاء ينصون على أنه يكون من المسجد الحرام، من تحت الميزان، ولا أعرف شيئًا يعتمدون فيه على هذا الذي ذكروه ونصوا عليه -رحمهم الله تعالى-.
قال: (يُسَنُّ لِمُحِلٍّ بِمَكَّةَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ)، يوم التروية هو اليوم الثامن، وهو اليوم الأول الذي تبدأ فيه أعمال الحجاج، وسُمي يوم التروية؛ لأن الحجاج كانوا يرون الماء ويتزودون به لأيام مناسكهم، والناس فيما مضي كانوا في ضيق من الحال، وشدة من التهيؤ والتيسير، فكل شيء كان منوطًا بالشخص، فيما يهيئ لنفسه من ماء، وما يصلحه من مكان للإقامة، كخيمة وخباء وسواء، وما يصلحه من طعام، وكل ذلك عليه، واليوم قد هيأ الله -جل وعلا- من أسباب التيسير والتسهيل على الحجيج، وإمكان حصول إنابة الغير، والتكفل بذلك بأبخس الأثمان، وكل ما أنفقه الإنسان في هذا، فهو نفقة مخلوفة، وعمل بر وتقرب وطاعة لله -جل وعلا-، فلا يكن من الإنسان في مثل هذه الحال شيءٌ من الامتعاض أو التسخط أو التشكي أو سواه.
وقد مر بنا ما يتعلق بالحلاق، أنه إذا حلق رأسه فلا يُماكس الحلاق، ويقول له بأقل أو بأكثر، لماذا يقولون: لئلا يظهر منه تشكي أو ثقل فيما يبذله لله -جل وعلا- من مال أو سواه.
{أحسن الله اليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْمَبِيتُ بِمِنًى، فَإِذَا طَلَعْتِ الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ)}.
قال: (وَالْمَبِيتُ بِمِنًى)، معنى ذلك أن الحجيج الذين في مكة سيخرجون وينتقلون إلى منى، ومنى هي ما بين الجبلين الكبيرين، وهي الآن ملتصقة بمكة، يعني: محاذية لها، ويفصل بينهما هذا الجبل، ووجدت في أثنائه مداخل تيسر على الحجاج الوصول إلى مكة، وفي آخرها من جهة جمرة العقبة أيضًا ممر مسهل، دخلت بعض مباني مكة إلى حدود منى.
وظاهر كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- أن الخارج من مكة لا يحتاج إلى طواف وداع ولا سواه، وهذه لها فائدة سيأتي الحديث عنها.
المبيت بمنى في يوم الثامن هو مبيت سنة، وسيأتي توضيح ذلك وبيانه، والنبي ﷺ وصل إلى منى قبل الظهر، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات بها، وهذا بيات سنة، فمن حصل منه فذاك، ومن فات عليه فلا شيء عليه، واقتضى ذلك أيضًا لما ازدحم الحجيج وتكاثر الناس تيسيرًا عليهم للوصول إلى عرفة، الذي هو أعظم ما في الحج، وهو ركنه؛ لقول النبي ﷺ: «الْحَجُّ عَرَفَة» فاضطر بعض الناس إلى التوجه إلى عرفة مباشرة، أو يخرجون في ذلك ليلًا -قبل الصباح-، وكل هذا ما دام أنه لتيسير أمر الحجيج فنقول فيه ما قلنا فيما مضى سابقًا، أنه ينوي به الإنسان التيسير على نفسه، والتيسير على غيره، وترك سنةٍ منعًا لزحام الناس، وتسهيلًا لأداء النسك على وجه الكمال؛ لأنه لو نحرك كل الناس في صبيحة يوم التاسع إلى عرفة، فقد يؤدي ذلك إلى تعطل الحركة، وقد يمنع بعض الناس من الوصول إلى عرفة في وقتها، وبالتالي يفوت عليهم الحج، فما يكون من ترك أو تفويت أو التبكير بالخروج إلى عرفة قبل الوقت المستحب الذي جاءت به السنة، قد تفوق مصلحته، وتعظم فائدته لمصلحة هي أتم، فمن نوى ذلك على وجه التخفيف وإرادة التيسير على الخلق؛ فإنه لربما يكون في ذلك أجره أعظم مما لو جلس وفعل ما صحت به السنة عن النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِذَا طَلَعْتِ الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ، وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ مِمَّا وَرَدَ)}
(فَإِذَا طَلَعْتِ الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ) يعني من بات يوم الثامن -ليلة التاسع- بمنى، فإذا طلعت الشمس عليه، يعني من اليوم التاسع، فهذا إذًا هو اليوم الثاني من أيام الحج، فيقول: إذا طلعت الشمس سنَّ له أن يذهب وأن يتحرك إلى عرفة، وهذه سنة النبي ﷺ، فإنه لَمَّا طلعت الشمس أفاض، وخرج إليها.
قال: (وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ) طبعًا المؤلف -رحمه الله تعالى- على ما ذكرنا أن هذا مختصرٌ بالمرة، وإلا فإنهم يذكرون أنه إذا وصل إلى عرفة استراح، بمعنى أنه لا يكلف نفسه كثيرًا من الاجتهاد أو الابتداء في الأعمال أو نحوها، بل هو موطن واستراحة وتقوية للنفس، وإعانة لِمَا يشرع له في وقتها من الاجتهاد والإقبال على الله -جل وعلا-، ولذلك ضربت للنبي ﷺ قُبة بنمرة، فاستراح بها إلى قبيل الزوال.
ونمرة معروفة الآن، وبها المسجد الموجود الآن، وجزء منه في عرفات وجزء منه في نمرة، والمشهور عند الحنابلة أن مسجد نمرة من حدود عرفات وداخلة فيها، وعند جمع من أهل العلم والتحقيق أنهم جعلوها في حكم الخارج؛ ولذلك الذين يأتون إلى مسجد نمرة فيكونون في الصفوف المتقدمة، فإن هذه الصفوف تكون خارج عرفة على القول الآخر، ولذا ينبغي له أن يحتاط إلى نفسه، وأن يدخل ليكون قد وقف بيقين.
فإذًا، إذا زالت الشمس يخطب الإمام الناس خطبة كما خطب ﷺ خطبة عظيمة بليغة قصيرة، كان فيها من تحريم دماء الناس، وأعراضهم، وأموالهم، والتنبيه على ما يتعلق بأحكامهم، ففيها ذكر البيوتات، وإقامتها على وجه صحيح، وفيها الأموال والابتعاد عن الربا وغير ذلك، كانت خطبة بليغة، وليس هذا موطن ذكرها، لكن على طالب العلم أن يراجعها فإن فيها كلامًا عظيمًا، ولو لم يكن فيها إلا هذه الجملة «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت».
ثم يُصلي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، والجمع والقصر شيئان منفصلان، فأما القصر فهو للسفر، فمعنى ذلك أن من لم يكن مسافرًا كمن كان من أهل مكة وما جاورها من الديار أو القرى القريبة، فإنه لا يجوز له يقصر، وقد جاء في الحديث، وقد حسنه بعض أهل العلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «يا أهلَ مكَّةَ، أَتِمُّوا صلاتَكم؛ فإنَّا قومٌ سَفْرٌ» فأمرهم بالإتمام، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وهو أن القصر لأجل السفر، فمن لم يكن مُسافرًا لم يكن له أن يقصر.
ثم الجمع، بعض أهل العلم يقول: لا يجمع إلا المسافر، وبعضهم قال: وهذا هو الذي عليه الأكثر أنه يجمع فيها حتى لغير القاصر، فيجمع المسافر لأجل سفره، ويجمع غير المسافر لأجل الحاجة التي يحتاجون إليها، وهي: التفرغ للدعاء.
فبناءً على ذلك: المسافرون يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ويصلي أهل مكة ومن حولهم ممن أحرموا بالحج مجموعة، أربعًا أربعة.
إذا هذا ما تتعلق بأحكام الصلاة، والجمع والقصر بعرفة.
ثم بعد ذلك يشرع العبد في الاجتهاد والدعاء، والنبي ﷺ وقف عند الجبل، ولم يقف على الجبل، ولم يرد عنه أنه صعد الجبل، فلا يكلف الإنسان نفسه، ولا يعرضها للهلكة، بل وقف عند الجبل أمام ممر، وقريب من الجبل، وقال: «وَقفْتُ هاهنا، وجَمْعٌ كلُّها مَوقِفٌ»[2]، فحيث وقف الحجيج من أطراف عرفة وأجزائها حصل لهم بذلك المقصود، فيستقبل العبد القبلة ولا يزال داعيًا لله -جل وعلا-، ويجتهد إلى غروب الشمس.
والرسول ﷺ رفع يديه داعيًا، حتى إذا سقط زمام ناقته رفعها بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى، وهذا اليوم العظيم الذي صيامه يكفر السنة الماضية والآتية.
لماذا لا يستحب للحاج صيام يوم عرفة؟
ليتقوى على الذكر والعبادة، فلا ينبغي للإنسان أن يضيع ثانية، فضلا عن أن يضيع دقيقة، وهو موطن مشهود، كما قال الله -جل وعلا- في كتابه: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، وهو يوم عظيم، فما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عباده من يوم عرفة، فأكثر ما يكون عتقاء النار، «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة»[3]، وما رئُي الشيطان أحقر ولا أذل من في يوم عرفة؛ لكثرة ما يكون من غفران الذنوب، وتكفير السيئات، ومضاعفة الحسنات، وقبول توبة التائب، وحصول الخيرات والرحمات للعباد.
وذُكِرَ من أحوال العباد والسلف من الإقبال والاجتهاد ما ترق معه القلوب، وتصلح معه النفوس، وأعظم ما في ذلك ما جاء عن حكيم بن حزام: أنه ربما جاء ذلك اليوم معه مئة عبد فيعتقهم في يوم عرفة، فيضج الناس بالبكاء والخشية لله -جل وعلا- فيقولون: يا رب هذا عبدك، أعتق أعبُدًا فأعتقنا من النار)، فالله -جل وعلا- أعظم في رحمته، ورحمته وسعت كل شيء -سبحانه وتعالى-.
الله وعد عباده في ذلك اليوم، وإنما الأمر أن يحرص العبد وأن يجتهد، وأن يقبل على الله -جل وعلا- ولا يضيع.
ومن أعظم ما ذكر في هذا ما ذكره ابن قدامة أيضًا من الدعاء الذي يكون في يوم عرفة، وهو دعاء أعرابي، ولكن كان بليغًا عظيمًا أورده العلماء في كتبهم، فكان فيما ذكره من هذا الدعاء أنه قال: "اللهم إني تقربت بأحب الأشياء إليك وهو توحيدك، وتركت أبغض الأشياء إليك وهو الشرك بك، فاغفر لي ما بين ذلك".
وعلى كل حال يقول المؤلف -رحمه الله-: "فيكثر من الدعاء بحاجته، وحاجة إخوانه وأهله، وحاجة المسلمين وولاة أمره، أكثر ما يكون حاجة إلى صلاحهم، وحصول الخير فيهم، واستقرار بلدانهم، وذهاب البلاء، والفتن، وانقطاع الخوف والذعر والتطاحن والتقاتل، إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها الناس، وطلب إعانتهم على الطاعة، وصلاحهم من الشهوة، وبُعدهم عن هذه الفتن والمغريات.
فإذا دعا لعباد الله -جل وعلا- كان ذلك أرجى أن يحصل الخير لنفسه، وكُتب له أجر العباد كلهم، وكان بعض السلف ربما كتب مئة اسم، يدعو لمن أوصوه بالدعاء، وكلما دعا لشخص شطب عليه، لعلمهم أن هذا يوم لا يضيع، ووقت لا يفوت، وأن ما يحصل فيه من الخير لا محالة، وذكر في ذلك أشياء كثيرة.
قال: (وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ مِمَّا وَرَدَ) يعني: كما جاء «وخَيرُ ما قُلتُ أنا والنَّبيُّون من قَبلي: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه، لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ» فينبغي هنا أن نعاهد أنفسنا على ألا نضيع دقيقة حيث بلغنا ذلك الموقف، فإن الحسرة والندامة أن يبلغ الإنسان هذا الموطن وهو طالما اشتاقت إليه نفسه، وغضبت في ذلك في كل سني حياته، حتى إذا وصل إلى ذلك الموطن ضيعه وفوته بالأحاديث، أو بالأكل أو بالنوم، أو باللعب، وأعظم من ذلك أن يكون بمعصية أو سيئة، كما لو شرب الدخان أو سواه، أو غيبة، أو نظر في بعض ما لا يحل عبر هذه الجوالات، أو سماع ما حرم الله -جل وعلا-.
كل ذلك مما ينبغي للإنسان أن يتوقاه، ولذلك جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إنَّ هذا يومٌ مَن ملَك فيه سمعَه وبصرَه ولسانَه؛ غُفِرَ له»، فعلى كلٍ، هو يوم مشهود، ويوم فيه من الرحمة، وحصول المنة من الله -جل وعلا- ما هو عظيم، والله -جل وعلا- من عباده قريب.
أسأل الله -جل وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يجعلنا ممن سبق إلى هذه الرحمات، وفاز بهذه الدعوات، وأجاب الله -جل وعلا- ما وقفنا فيه من هذه المواقف، وما دعونا فيه من الدعاء، وغفر لنا ما كان من الخلل والتقصير.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقْتُ الْوُقُوفِ: مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ إِلَى فَجْرِ النَّحْرِ)}.
قال: (وَقْتُ الْوُقُوفِ: مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ)، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، أن بداية الوقوف من ابتداء يوم عرفة، أي: من أوله، من الفجر إلى الفجر، فيكون إذًا طيلة النهار وطيلة الليل، وهنا مسألة وهو أنه لا يختلف أهل العلم أن انتهاء وقت الوقوف بعرفة هو طلوع الفجر من يوم النحر، كما لا يختلفون أنه من زوال الشمس إلى ذاك وقت للوقوف، لكن ما قبل هذا هو محل خلاف، فالحنابلة يطلقون أنه داخل في الوقوف؛ لأن النبي ﷺ قال: "من وقف فيها أي ساعة من ليل أو نهار"، فجعلوا ذلك يشمل حتى ما كان قبل الزوال، ونظر إلى هذا بعض أهل العلم فقالوا: "إن النبي ﷺ ما زال بنمرة، وصلى الظهر ودخل عرفة"، فهو إذًا من الزوال، فقالوا: هذا مقيد لذاك الحديث، فهنا حصل الخلاف، وعامة أهل العلم أو جمهور أهل العلم وربما نُقل فيه إجماع ولكن هو محل للنظر، وقد خالف الحنابلة في أن ابتداء الوقوف من الزوال.
على كل حال يجتهد الإنسان أن يكون وقوفه بعد الزوال لئلا يعرض وقوفه إلى الإشكال، وألا يدخل في أداء هذا الركن فيفوت عليه الحج.
{أحسن الله إليكم.
وقال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةَ بِسَكِينَةٍ وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ العِشَاءَيْنِ تَأْخِيرًا وَيَبِيتُ بِهَا)}.
قال: (ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ) إذًا هم يقولون: يحصل الركن في الوقوف بعرفة بأن يقف بها الإنسان ولو لحظة، والواجب في ذلك إلى غروب الشمس، فمن خرج منها قبل الغروب فقد أخل بالواجب، وسيأتي ذلك بإذن الله -جل وعلا-، لكن من وقف بالليل فقد أدى ما عليه حتى ولو لحظة واحدة لم يقف نهارًا فإنه يكن قد أدى ما عليه ولا شيء يحتاجه لجبران ذلك.
إذا غربت الشمس فإن الحجيج يخرجون وينفرون إلى مزدلفة، تأسيًا بالنبي ﷺ، فإنه لما غربت الشمس تحرّك، فيكون دفعهم بهذا فيه شيء من السكينة والوقار، وعدم الإسراع الذي يضر بالناس، ولذلك كان النبي ﷺ يقول: «يا أَيُّها الناسُ! عليكم بالسكينةِ والوَقارِ، فإنَّ البِرَّ ليس في إِيضاعِ الإبلِ»[4]، يعني ليس في الإسراع؛ ولأنه لما كان الحجيج جميعا مجتمعون في هذا المكان كانوا في وقته ليسوا بالقليل، كانوا مئة وأربعة عشر ألفًا في ذلك الوقت، ولم تكن الطرق مهيأة، ولا السبل ممهدة، ليس بأقل مما هو موجود الآن ثلاثة ملايين أو مليونين أو ما قارب هذا، فإنه مع ما تيسر الناس من وسائل نقل واجتماع في هذه السيارات التي تتحرك بسهولة وما فيها من تهيئة وراحة، رُبما يقال: إن ذاك أشد من هذا.
فإذًا هو موطنٌ يُحتاج فيه إلى الوصية بالسكينة وعدم الإسراع، وبعض الناس في الحج يتلذذ بأن يبلغ ما بلغ ولو أذى من آذى، وليس هذا هو المطلوب، وليس هذا هو المأمور به؛ ولذلك كان النبي ﷺ قال في أعظم موطن: (السكينة السكينة)، فإذا وجد فجوة النص إذا وجد فراغ أسرع؛ ليسهل على الناس فيكون أسرع لوعودهم وأقرب إلى وصولهم إلى مزدلفة.
بناءً على ذلك يؤخرون صلاة المغرب، ويجعلونها أول وصولهم، فقال: (ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةَ)، مزدلفة تبعد عن عرفة قرابة ثمانية كيلو أو تسعة، ويتبين هذا بأنه يضيق الجبلان ويكون فيهما ممر يسمى بين المأزمين (يعني بين الجبلين) ثم يصل تنفرش الأرض قليلا، ويكون الجبل عن جهة المشرق، جبل كبير يسمى سبيل، وإلى جهة الغرب تلال صغيرة تحيط بها، ويحدها من الشمال واد محسر الذي حُسر فيه الفيل، فهذه هي حدود مزدلفة التي هي منسك من المناسك، ومشعر من المشاعر، وهنا يعلم أن عرفة خارج من الحرم، ومزدلفة داخل فيه، فهذا ما يتعلق بمزدلفة من حيث مكانها، وما يتعلق بها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَبِيتُ بِهَا)}.
قال: (وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ العِشَاءَيْنِ)، فإذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء، ويقول أهل العلم أنه أول شيء يبدأ به الصلاة حتى قبل حل رحله، سنانًا بسنة النبي ﷺ، ويكون ذلك بأذان وإقامتين، وهنا قال: تأخيرًا، وذلك أنه إذا مشى إلى هذه المدة فالغالب أنه يخرج وقت المغرب قبل أن يصل، لكن الآن مع تيسير الوقت وسرعة الوصول بالسيارات يمكن بعض الناس الذين انطلقوا أول الغروب ولم يكن أمامهم أحدٌ أن يصلوا في دقائق خمس، فهل في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى وقت العشاء أو يصلون أول وصولهم؟ ظاهر كلام المؤلف أنه تأخيرًا، لكن هل هذا مقصود منه تحصيل حاصل؟ والمقصود أنه لما كان الناس لا يصلون فيما مضي إلا وقت العشاء، فيُصار إلى ما جاء في السنة أن النبي ﷺ أول شيء بدأ به هو الصلاة وهذا هو الظاهر، فأول شيء يبدؤون به الصلاة إذا وصلوا إلى مزدلفة، فلو وصلوا في أول وقتها في وقت المغرب صلوها، وإن وصلوا إلى العشاء صلوها فيه، يستثنى من ذلك حال واحدة وهو أن يتأخر بهم الطريق حتى يخافوا خروج وقت العشاء، وهو منتصف الليل فهنا يقول أهل العلم أنهم يقفون فيصلون في الطريق؛ لأن تحصيل مصلحة الوقت الذي هو من شروط الصلاة ولوازمها، أولى من تحصيل السنة في مكان المغرب والعشاء الذي كان يفعله النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
نكتفي بهذا القدر}.
إذًا أحكام المبيت في مزدلفة تكون في ابتداء الحلقة القادمة، أسأل الله لنا ولكم والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرا أعزاءنا المشاهدين، سنكمل ما تبقى في مجالس قادمة إن شاء الله إلى ذلكم، الحين نستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] رواه مسلم (1297).
[2] أخرجه مسلم (1218).
[3] بن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي.
[4] صحيح الجامع.