الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

10850 27
الدرس الثاني عشر

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، ومستمعينا في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم محمد العجلان.
أهلا وسهلا بك يا صاحب الفضيلة}.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياك الله.
{حياكم الله نستأذنكم في القراءة}.
نعم، توكل على الله.
{قال -رحمه الله-: (وَعَلَى الْإِمَامِ مَنْعُ مُخَذِّلٍ وَمُرْجِفٍ، وَعَلَى الْجَيْشِ طَاعَتُهُ وَالصَّبْرُ مَعَهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، الذين إذا عطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يعصمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا، فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، من مسائل تتعلق بكتاب "الجهاد" فقال: في معرض ما قال: (وَعَلَى الْإِمَامِ)، أي لَمَّا كان الجهاد مَنوطًا بالإمام ومُرتبطًا به، لا يفتات عليه فيه، وكان على الإمام على سبيل الوجوب أن يقوم بكل ما يتعلق به من قيام الجيش وأداء مهامه، ونصوا في ذلك على ما يُحتاج إلى النص فيه.
فإنَّ هذا متضمنٌ أن يقوم على كل ما يُحتاج القيام فيه، من الحفاظ عليهم ومن تعبئتهم، وتزودهم والقيام بهم.
قال: (وَعَلَى الْإِمَامِ مَنْعُ مُخَذِّلٍ وَمُرْجِفٍ) والمُخَذِّل والمرجف من أعظم ما يكون فتًا في العضد وسببًا للبلاء.
فالمخذل الذي يُخَدِّلُ الجيش، ويذكر أنه يمكن أن يَهلكوا، ويمكن أن يحصل عندهم نقص، ويمكن أن ينكشفوا، وأنَّ أسلحتهم ليست قوية.
والمرجف هو الذي يُظهر القوة في العدو ويمجدهم، حتى يدب الضعف إلى المسلمين، ويدخل الخوف إلى قلوبهم.
وهذا في العلم الحديث هو الإعلام وإظهار الشائعات وما يتعلق بها، ولا شك أن ما يسمى بالإعلام الحربي، وهو من أعظم وأكثر ما يكون سَندًا للقوات أو تبعة عليها؛ ولأجل ذلك تتفنن الجيوش في إصدار بعض المقاطع المرئية مثلًا في فتكهم بعدوهم، أو إظهار قوتهم أو نحو ذلك، أو استعراض ما لديهم من قدرات، وهذا يظهر فيما يسمى بالمناورات العسكرية، والمناورات العسكرية أصلها صحيح، واعتبارها شرعي، وهي إظهار القوة والقدرة وزرع الهيبة في قلوب الأعداء، وهو داخل في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾ [الأنفال:60]، فيحصل بذلك من إظهارها شيء كثير.
فإذًا هذا الإعلام وما ينفق فيه وما يحتمله من معنى ومحتوى، وداخل فيما ذكره الفقهاء، وهو حقيقة يَقْوَى به الجند، وتثبت بذلك قلوبهم وأقدامهم، ويستعينون بالله على عدوهم، وإذا تفقد الإمام كل من دخل إليه الضعف فمنعه من أن يداخل الجيش، فإنَّ ذلك منع أن تستشري مثل تلك الشائعات أو الفتة في تلك القلوب.
وتمام ذلك أن يشتهر هذا إلى عموم الناس، فإنهم إذا اطمئنوا في بيوتاتهم سكنوا وارتاحوا وباعوا واشتروا وقامت البلدان، ولم يتأثروا بما يكونوا في أطرافها من بلاء، أو ما جُروا إليه من معارك وغيرها.
فإذًا مثل هؤلاء خطر على الجيش، وسبب لحصول البلاء عليه.
قال: (وَعَلَى الْجَيْشِ طَاعَتُهُ) وهذا يدل على أنَّ الإمام له مهام، والجيش عليه مهام، فطاعة الإمام والقائد هي أصلٌ في حصول النصر، وضد ذلك بضده.
متى ما وقعت المخالفة حصلت النكسة وحصل بسبب ذلك البلاء، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:59]، وأعظم ما يكون في مثل تلك المواطن، وما حصلت النكسة، ولا البلاء العظيم، ولا الشر الكبير في غزوة أُحد، إلا بمخالفة الأمر، فإنه في جبل الرماة، والذي طُلِبَ من بعض المسلمين ألا يفارقوه، وألا ينزلوا منه البتة، حتى إذا ظنوا أن المعركة قد انتهت، وأنها قد استوت انتصارًا ونصرًا للمسلمين، تركوا أماكنهم، فالتفَّت عليهم سرية من الكفار، بقيادة خالد بن الوليد آنذاك، أي: قبل إسلامه، فانكشف المسلمون من خلفهم، فحصل ما حصل من البلاء، وتبع ذلك ما تبعه مما عرف في السيرة! فكل ذلك كان لمخالفة ولي الأمر.
والله -عز وجل- يقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46]، وهذا لا شك أنه من أهم ما يجب الاستمساك به، حتى ولو ظنَّ الإنسان أن رأيه أتم، وأنَّ وجهته أصح، وأنَّ ما عَنَّ له أسلم، فإنما يحصل بالاجتماع، مع ما قد يكون من رأي وسط أو دون ذلك، أتم مما يكون من الاختلاف وتفرق كلمة المسلمين، وذهابهم مذاهب متفرقة.
قال: (وَالصَّبْرُ مَعَهُ)، الصبر هو أصل النصر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، والمعارك ملؤها تحديات كثيرة، يكل الجسم وتتعب النفس، وتتعرض للمخاوف سواء في ذلك مسير في ليل، أو سماع أصوات العدو، أو قربهم منهم، أو إحاطتهم بهم، أو حتى الثبات على موقف واحد لئلا يتحرك فينكشفوا للعدو، أو ما يكون من مجالدتهم ومسايفتهم ومقابلتهم بأن لا يركنوا حتى ولو طال الوقت، وكذلك الصبر على قلة الأكل والمئونة، يعني كل ما يتصور الإنسان أن يدخل فيه الصبر هو داخل في المعارك بكل تفاصيلها وأحوالها وإنما ذكرنا شيئًا من الأمثلة فيها.
وأعظم ما يكون هو الصبر على المجاهدة في قبول التوجيه الانقيادي له مع ما يكون في الإنسان من ظن أن ذلك ربما لا يُجدي، أو أنَّ ما عنده أتم أكمل.
إذًا الصبر من الأمور العظيمة، ويحصل به النصر والفتح -بإذن الله جل وعلا-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بِالِاسْتِيَلَاءِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الحَرْبِ، فَيُجْعَلُ خُمُسُهَا خَمْسَةَ أَسْهَمٍ، سَهْمٌ لله وَرَسُولِهِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي القُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَالمُطَّلِبِ، وَسَهْمٌ لِليَتَامَى الفُقَرَاءِ، وَسَهْمٌ لِلمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ)}.
قال: (وَتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ)، الغنيمة هي ما يملك من مال الحربي في أرض المعركة قهرًا في حال الحرب، وحال القتل والمدافعة والمواجهة، وهذا أصلٌ في أنَّ طلب الغنيمة مما أباحه الله -جل وعلا- للمجاهد في سبيل الله.
لكن لا شك أنه يجب أن يكون رغبةُ وقصدُ وتوجهُ المجاهد إنما هو مرضاة الله -جل وعلا-، وما يكون من مصالح أخرى فبالدرجة الثانية وبالرغبة التابعة لا الأصيلة ولا السابقة، وإلا دخل في قول الله -جل وعلا-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود:15-16]، وأول من تسعر بهم النار ذكر منهم، المجاهد الذي يجاهد لا يريد إلا أن يقال عنه: شجاع أو قوي أو نحوه، فهذا مثال على الرغبة في شيء من حظوظ الدنيا وشهواتها، السمعة، أو الذكر الطيب ونحوه.
وكذلك من طلب مالا، أو من طلب شيئًا من حطام الدنيا، فقد التفت عن النية، ولذا لابد أن تكون النية خالصة لإرادة إعلاء كلمة الله، وطاعة لله وطاعة لرسوله ، وما يَقَرُّ في قلبه من سوى ذلك فهو على سبيل التبع.
وحتى حصول ذلك فلا شك أنه لا يستوي من حَصَلَ على الغنيمة واجتمع له هذا العوض الكبير كمن لم يحصل له شيء من ذلك، لذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح أن النبي قال: «مَا مِنْ غازِيَةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ فيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، ويَبْقَى لهمُ الثُّلُثُ، وإنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لهمْ أجْرُهُمْ»[1]، فلا يستوي من لحق به البلاء ودخل في أرض المعارك وتعرض للهلكة والموت، وسلم بنفسه، ولم يدخل عليه من حطام الدنيا شيء، كمن حصل له الثانية، فلا شك أنهما يستويان في أنهما جاهدا، ويستويان في أنهما أديا هذه الشعيرة، ورفعا لواء الإسلام، ولكنهما يختلفان في قدر ما تُعجلت لهم من الغنيمة، ودرجات الفضل والأجر والمثوبة عند الله -جل وعلا-، لكنَّ الغنيمة مأذون بها، وتقسم على قسمه الله -جل وعلا- وقسمه رسوله .
قال: و(تُمْلَكُ الْغَنِيمَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا فِي دَارِ حَرْبٍ)، أي: من حرب الكفار، وأمَّا إذا حصل قتال بين المسلمين فلا تكون فيها غنيمة، ولا يكون فيها تملك لتلك الأموال التي غُلب عليها من أموال المخالفين، من أهل البغي أو الخروج أو سواه.
قال: (فَيُجْعَلُ خُمُسُهَا خَمْسَةَ أَسْهُمٍ)، إذًا يحفظ خمسها، وهو ما يُسمى في العِلم الحديث: عشرون بالمائة، تؤخذ على جنب، وتفصل من الغنيمة، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال:41]، فَجُعِلَ هذا الخمس وهو: عشرون بالمائة، ثم يقسم على خمسة كما جاءت بذلك الآية، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال:41]، فجعله الله -جل وعلا- لهم، وذكره الفقهاء على ما قسمه الله -جل وعلا- في كتابه، وجاء في آية سورة الأنفال.
قال: (سَهْمٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ)، والمقصود بهذا السهم، سيأتي بيانه، وأين يبذل، وإلا فلا يعطى لله، والله -جل وعلا- غني عن عباده، ولذلك قال -سبحانه وتعالى-: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا﴾ [الحج:37]، يعني: ما تذبحون من القربان، وما تتقربون به إلى الله -جل وعلا- من الذبائح، فالله غني عنه، ﴿وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾، وما يكون من عبادتكم وتنسككم وإخلاصكم لله -جل وعلا-.
قال: (وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ)، فيدخل في ذلك بنو هاشم والمطلب على حد سواء، وإن كان الذي يمنع من الزكاة إنما هم بنو هاشم فقط، فأصل ذلك أنه قال: «إنَّما بَنُو المُطَّلِبِ وبَنُو هَاشِمٍ شَيءٌ واحِدٌ»[2]، فلأجل ذلك ذكرهم الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيمن يدخلون في هذا السهم.
قال: (وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاءِ) على ما جاءت بذلك الآية، وأمَّا لو كان يتيما ولكنه كان غنيًا، فلا حظَّ له فيه، واليتيم من مات أبوه ولم يبلغ، فمن ماتت أمه لا يعد يتيمًا في الآدميين، ومن مات أبوه وبلغ؛ فإنه قد دخل مداخل الرجال، وَصُفَّ في مصافهم، فلم يلحق به هذا الوصف، ولم يدخل في هذا السهم.
قال: (وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ) يعني: الذين لا يجدون بعض حاجتهم.
(وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ) فيما مضى كان ابن السبيل الذي انقطع به الزاد في الطريق أثناء السفر من أعظم المعضلات؛ لأنه لا يستطيع الوصول إلى ماله، ولا الوصول إلى أهله، ولا يعرفه أحد، فيتعرض للمهانة والمذلة كثيرًا، فلأجل ذلك جعل له الشارع اعتبارًا، وجعل له حقًا، سواء في الزكاة، أو في السهم الذي هو سهم الله ورسوله الذي هو خمس الغنيمة، فكان ذلك من أعظم ما يُبذل فيه المال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ فِيمَنْ يُسْهَمُ لَهُ إِسْلَامٌ)}.
أي لابد أن يكون مُسلمًا، وأما لو كان غير مسلم فلا يستحق شيئًا مما ذكر في الأقسام الخمسة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ: لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ عَرَبِيٍّ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى غَيْرِهِ اثْنَانِ. وَيُقْسَمُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ وَيُرْضَخُ لِغَيْرِهِمْ)}
قال: (ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ)، مسائل الغنيمة فيها صعوبة في هذا الزمان، واختلفت عمَّا كان في سالف الأيام، فشهود الوقعة فيما مضى كان واضحًا، فهو ميدان واحد يجتمع فيه الجيشان من هنا وهناك، يُعرف أطرافه، وتعرف حدوده، ولكن في هذا الزمان اختلف الحال، فالواقعة قد يكون فيها من في مواجهة العدو ومقابلته، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون في ذلك أيضًا مواقع أخرى بعيدة، سواء كانت في البر أو كانت في البحر، أو كانت في أبراج المراقبة البعيدة، وربما بعدت عن ذلك خمسمائة أو ستمائة كيلو أو أكثر من ذلك، وهي محل للاستهداف، وداخلة في تتبع العدو، خاصة مع تجدد هذه الأسلحة وغيرها.
على كل حال إذا اتسعت معنا الواقعة ومكانها فلا يمنع أن يدخل فيها كل من كانت له مشاركة وأثر في هذه المعركة ومباشرة لأحداثها، وأيضًا تعرض لِمَا يكون فيها من الخطر، وما يتوقع فيها من الهلكة.
ولكن لا شك أنه من حيث النظر ليس من السهولة التفريق أو معرفة من يدخلون في اسم الشهود للواقعة ممن لا يدخلون.
لأنه يوجد بعض الجهات التي قد يمتد إلى معونة أو حصول أو تزويد أو غيره، لكنهم لا يدخلون في اسم الواقعة، وقد يوجد العكس أيضًا، فهم في التزويد ونحوه، ومراكز معروفة أيضًا محل للاستهداف، ولا تخرج عن دائرة كونها أهداف للعدو وما يكون من إرادة قطع الصلة بينهم وبين جيوشهم، لينقطع عنه الزاد ويحصل عليهم أو يشتد عليهم البلاء.
لكن في الوقائع في أعيانها يحتاج من أهل النظر والعلم من يميز هذا عن ذاك، فيحكم لكل بحكمه، ويدخل كل واحد فيما يستحقه، مما جعله الله -جل وعلا- له، وجعله له رسوله .
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ عَرَبِيٍّ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى غَيْرِهِ اثْنَانِ) والتفريق بين الفرس العربي وغيره، أن من كان راكبًا عليه يفرض له سهمان آخران، فيكون له ثلاثة أسهم، ومن كان على غيرها سهم واحد، وهذا ليس من باب التعنت أو ما يسمى بالعنصرية أو غيرها، كل هذا لا، ولكن لما كانت الأفراس العربية لها من الإقبال والشكيمة التي يحصل بها أثر في المعركة ما لا يحصل لغيرها، جُعِلَ لها أثر زائد وقدر مخصوص، وهذا حكم الله، وحكم رسوله .
والأصل في مثل ذلك هو ما جاء به النص، فما الذي يمكن أن نقوله على ما ذكره فقهاء الحنابلة، وإن كان في ذلك أشياء أخرى، لكن لَمَّا كانت هذه مسائل مخصوصة، وتناط بمن تناط به من له الولاية، فلا يُحتاج إلى كثير تفصيل فيها، ويُجعل تفصيل ذلك في أعيانها بحسبه.
وما سوى ذلك من المراتب، والآن جدت أشياء كثيرة، سواء كان من الطائرات وهي أعظم ما تكون فتكًا، وفيها أيضًا من الخطورة، ويتعلق بها أيضًا من إنجاح العدو ومنع انكشافه، والدفاع عنه، وكشف العدو واستهدافه عن بعد، أشياء كثيرة، مثل ذلك: الدبابات والمدرعات، وأنواع كثيرة صارت من الأشياء التي لها أثر.
لكن على ما ذكره الفقهاء أنَّ هذا مخصوص بما جاء به الدليل وسمي فيه، ولا يمكن نقله إلى غيره، إمَّا لعدم اتضاح القدر الذي يمكن أن يكون هو مناط للمسألة، أو سوى ذلك.
ولهذا قالوا: لو ركب فيلًا، أو بعيرًا، أو سواه، لم يكون له حكم أو شيء في هذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُقْسَمُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ مكلف وَيُرْضَخُ لِغَيْرِهِمْ)}.
قال: (وَيُقْسَمُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ مكلف)؛ لأنه هو الذي يتعلق به حكم الجهاد أصالة، فلأجل ذلك لو سندهم من سندهم من الصبيان أو النساء، بأي سبب من الأسباب، فلا يدخلون في اسم الغنيمة من حيث هي، ولكن يُرضخ لهم، والرضخ: دون السهم، أي: يعطى شيئًا يُرَضَّى به، والإمام يُقدر ذلك بحسبه، ولكنه لا يبلغ مبلغ السهم.
ولكن للإمام أن يجعل ذلك بحسبه، وينظر فيه بما يُقدره.
قال: (لِحُرٍّ مُسْلِمٍ)، فمعنى ذلك أنه لو شارك الكافر في قتال مع المسلمين؛ فإنه لا يكون له شيء من الغنيمة، وهذا أيضًا على شيء من الاختلاف، فمنهم من قال: أنه إذا أذن له الإمام بالمشاركة للحاجة إليه -طبعًا مشاركة الكافر محوطة بالخطر- لأنه لا يوثق به، أو ربما يحصل منه خيانة، أو غير ذلك.
لذلك قالوا: إنه إذا احتيج إليه أو اضطر إليه؛ جاز، فأيًا كان حكم هذه المسألة، وقد جاء في الحديث «إنَّا لا نَستعينُ بمُشرِكٍ»[3]، هل هذا دليل على منعها؟ أو أنها خاصة بتلك الحال، فدل على أن الأحوال الأخرى يجوز فيها؟
قال أهل العلم: إنه يمكن أن يُستفاد منه، ولكن في كل حال بحسبها.
هل لهم من الغنيمة غنيمة أو لا؟
إذا لم يقل من أن لهم من الغنيمة فإنه يرضخ لهم كما يرضخ للنساء والصبيان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِذَا فَتَحُوا أَرْضًا بِالسَّيْفِ خُيِّرَ الْإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ضَارِبًا عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ)}.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِذَا فَتَحُوا أَرْضًا بِالسَّيْفِ) يعني: بالقوة والعنوة والقهر، فهذه الأرض إلى الإمام، أي: له التصرف فيها، إمَّا أن يجعلها داخلة في الغنيمة فيقسمها بين الجيش، وإمَّا أن يجعلها وقفًا، كما جعل عمر أرض الشام والعراق والسواد، وقفًا على المسلمين، وهذا خلاف بين الحنابلة وبين غيرهم.
فمنهم من يقول: إن هذا إلى الإمام، وأن الإمام هو الذي يُناط به هذا الحكم، فيفعل فيها ما شاء.
ومنهم من قال: هي داخلة في اسم الغنيمة ولا تختلف عنها، كما هو مذهب الشافعية وبعض الفقهاء، وقالوا: إن ما حصل من الوقف، إنما هو من المسلمين أنفسهم أوقفوها، وإلا فهي من حيث الأصل حق لهم، وتخصهم باعتبار أنها كانت غنيمة، ولها ريع فتدخل في حكمها.
وعلى كل حال هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، أنَّ الحكم إلى الإمام، وأنَّ له أن يقفها كما له أن يقسمها.
قال: (ضَارِبًا عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ)، الخراج هو ما يخرج منها من ثمر، وما يكون لها من زرع وغيره، فهذا خراج يُضرب بينه وبين من يَستعملها، فإذا كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرهم، كما قاسم النبي أهل خيبر، وهذا الحكم مستقر على حسب ما يتفقان عليه، يأخذون ما يقابل عملهم، ولبيت المال ما يكون سوى ذلك، مقابل امتلاكه له أو وُقِفَ عليه من أرض خراجية يُقصد ما يخرج منها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- (وَمَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِلَا قِتَالٍ كَجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ وَعُشْرٍ فَيْءٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا خُمُسُ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ)}.
قوله: (وَمَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِلَا قِتَالٍ)، وهذا يمثلون له بقولهم: يعلم المشركون بنية المسلمين الهجوم عليهم، فيهربون تاركين بلدانهم. وهذا لا يدخل تحت اسم المعركة، بمعنى أنه لم تكن تحصل بينهم المواجهة، ولم تدخل الجيوش في اسم الخطر، وبالتالي فلا تتعلق بالغنيمة.
وهذا المال قد ترك من الكفار الحربيين، فهو لبيت مال المسلمين، ولذلك يقولون: إنه يكون فيئًا، يصرف في مصالح بيت المال، مثل ما يجعل للقضاة، أو يجعل للائمة، أو تقام به خدمات المسلمين، من شق الطرق وخلافها، إلى غير ذلك من أبواب كثيرة.
قال: (بِلَا قِتَالٍ كَجِزْيَةٍ) الجزية هي التي تؤخذ من أهل الذمة، وسيأتي كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- عنها بعد قليل.
قال: (وَخَرَاجٍ)، والخراج هو الذي يُؤخذ -كما ذكر المؤلف- من الأرض الخراجية، والتعشير الذي يكون أيضًا من اتجار المشركين في بلاد المسلمين، فإنه يُؤخذ منهم العشر، وَيُجْعَل في البيت، فهذا فيئٌ لمصالح المسلمين.
وينظر الإمام فيه باعتبار الأولى فالأولى، وهذا كما قلنا في المسألة السابقة، هو إليه لا يتجاوز الإمام ولا يعترض عليه فيه، وما يظنه الناس في بعض الأحوال أنه هدرًا أو إنفاقًا فيما دون حق، فهم لا يحسنون أو يدركون حقيقة الأمر، ولذا نقول: لا ينبغي الافتيات عليه، ولا التأليب عليه، فلربما قد رأى في ذلك مصلحة خفية، وهذا من أعظم ما يكون من الخير والأجر والمثوبة، وإن كان ذلك باجتهاد منه ولم يحالفه الحظ؛ فلكل مجتهد نصيب، وله أجر واحد، وإن كان في ذلك مُفرطًا فإن الأمر متعلق فيما بينه وبين الله -جل وعلا-، ولذا فلا يفتات عليه؛ لأن ما يحصل من التأليب، أو ما يحصل من الإنكار، أو ما يحصل من الممانعة من الشر، وإفساد قلوب الناس، وحصول الفرقة في بلاد المسلمين، أعظم مما يحصل من الخير.
إذًا ليس لأحد أن يفتات عليه، وليس لأحد أن يظهر البغيضة والامتعاض، ويسري في هذا حادث الناس، ويتلقى ذلك العدو، ويعيد توظيفه، ويدخل على المسلمين بمداخل سيئة، تكون عاقبتها على الإسلام وأهله وخيمة من كل وجه.
إذًا لابد أن تحفظ هذه على وجهها، وكم من الأمور التي قد يكون في ظاهرها ما يكون فيه بلاء أو شر أو نقص، ولكن تكون عاقبته حميدة مما تحصل به من المصلحة الكبرى، فربما فاتت بعض النفقات، وربما حصل في ذلك تقصير في بعض الواجبات، ولكن ما حُفِظَ من بيضة الإسلام واجتماعهم لاستبقاء الخيرات الأخرى لهم، فذلك خير كثير.
وهذا قِوام الدنيا في كل شيء، يعني: إذا جئت إلى البيت أو إلى الشركة أو إلى المستشفى أو إلى غير ذلك.
في البيت على سبيل المثال، كلٌ يعلم أن البيوت الذي يُقيمها الوالد والوالدة، ويقطعون قطعًا أنهم في بعض الأحوال لا يدير الوالد الأمور على الوجه الأكمل، فإن ذهبوا ليعترضوا فربما فسد عليهم ما هو أكثر، وهو اجتماع شملهم، وصلاح أمر الأسرة، وما بينهم من الصلة والمودة، وما في بيتهم من السكون والطمأنينة.
وإن رضوا، رضوا بفتق يسير، أو بخلل محتمل، لتحصيل مصلحة أكبر.
وكم من النساء التي شَغَّبَتْ على زوجها، فما حصل بالطلاق، ويُتم الأطفال، وفساد البيوت، ونقص المعيشة أكثر من ذلك بكثير.
ومثل ذلك: الشركات، فأحيانًا تكون الشركة رابحة، ولكن فيها بعض الممارسات الخاطئة من المدير أو المسئول أو خلافه، فإذا فُتِحَ هذا الباب أو حُرِّكَ هذا الملف مثل ما يقولون: عاد على أصل الشركة بالاهتزاز، إمَّا خسرت هذا القائد الذي يقودها باحترافية، ويستطيع جمع الأموال، والإفادة منها، ونحو ذلك، وإن كان عنده بعض الأخطاء، سواء كانت اختلاسات، أو بخطأ أو باجتهادات أو بخلافه.
وهكذا المستشفيات، مع أن هذه المستشفيات أماكن يُطلب فيها رعاية المرضى وطلب شفائهم، وهو مكان تَنتفي فيه الرغبات الشخصية؛ لأنها مكان إعانة ومساعدة وضعف، وأحوال فيها من الأنين والشكوى ما الله به عليم.
لكن لابد أن يحصل فيها ثغرات، فهل يمكن لأحد أن يقول: لابد أن نسد هذه الثغرات حتى ولو انهدم هذا البناء، فلا يستطيع أحد أن يجد سبب شفائه، ولا يطلب في ذلك ما يكون فيه تخفيف معاناته. فلا يمكن أن يقال هذا.
والواقع شاهد بذلك أيما شهادة، فكلُّ البلاد التي مَرَّت عليها ما يُسمى بالخريف العربي، وهو خريف أيما خريف بل هلاك، راموا أشياء كانت ناقصة في بلادهم، فَهُدِّمَتْ عليهم البلاد برمتها، فبلاد انهدمت فلم تقم إلى الآن، وبلادٌ قامت على شيء من الضعف، وتردي الأحوال، ونقص في الأموال، وربما حصول للخوف وانتشار للشر وأهله، إلى أشياء كثيرة الله بها عليم.
كل ذلك إنما مبناه عدم الفقه، وتسلط بعض الغوغاء، واستغلال ذلك من جهات أخرى، وتجميع هذه الجماعات الفاسدة، التي أخرجت ما أخرجت من مكنون نفسها من البلاء، فحصل بذلك الشر الكثير.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَكَذَا خُمُسُ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ)}.
خُمْسِ الْغَنِيمَةِ الذي هو لله ولرسوله، يصرف في هذه المصارف، وكما تقدم أن الله -جل وعلا- غني عن أن يكون له نصيب يستعين به أو يحتاج إليه، فإنَّ الله هو الغني، ومن سواه فقير، وإن الله هو المعطي، ومن سواه محتاج، والله -جل وعلا- المتفضل على عباده ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة:4].
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ. وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَنْ لَهُ كِتَابٌ أَوْ شُبْهَةٌ وَيُقَاتَلُ هَؤُلَاءِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَغَيْرُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقْتَلُوا)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في أحكام أهل الذِّمَّةِ، وأهل الذِّمَّةِ هم من يُقَرُّون على بقائهم على دينهم في بلاد المسلمين، مُقابل ما يبذلونه من الجزية، بشرط أن يكونوا أهل كتاب أو شبهة كتاب، وهم: اليهود والنصارى والمجوس.
وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو قول الشافعية أن عقد الذمة مخصوص بهؤلاء.
وقال من قال من الفقهاء كالإمام مالك: إنها تجوز لكل من كان على غير الإسلام من المشركين والنصارى واليهود والبوذيين وغيرهم على حد سواء.
ومنهم من فرَّق بأن العجمي دون العرب وغير ذلك، فعلى كل حال سواء قلنا إنها على سبيل العموم، أو كانت على سبيل التخصيص -كما هو قول المؤلف رحمه الله تعالى- إنما هم في اليهود والنصارى ومن لهم شبهة كتاب.
وعقد الذمة من أعظم العقود التي عُرفت على مَرِّ التاريخ في سماحة الإسلام وسعته واستيعابه للغير، وما يسمى بلغة العصر: "التعايش" على أصلٍ صحيح.
ولقد عاش اليهود في زمن النبي معه في المدينة على حال من الطمأنينة والاستقرار والأمان بما لا يعرف له مثيل، ومثل ذلك في عصور مختلفة من عصور الإسلام، كان النصارى سواء في الأندلس أو في غيرها تحفظ لهم إرادتهم وبقاؤهم على دينهم، ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، فلا يتعرض لهم باضطهاد، ولا يطلب منهم بإكراه، ولا يحملون على شيء لا يريدونه من الاعتقاد، أو التوحيد، أو اعتناق الإسلام والملة..
ولكنهم بهذا العقد يلتزمون أحكام المسلمين على ما سيأتي تفصيله من المؤلف -رحمه الله-، على أن يحافظ المسلمون عليهم، وأن يدافعوا عنهم كما يدافعون عن أنفسهم، باعتبار هذا العقد الذي عُقِدْ، وباعتبار الجزية التي دُفعت، ولذلك حتى ما وجد في هذه العصور الحديثة من وجود المسلمين في بعض بلدان الكفار، حتى ولو ذُكِرَ ما ذُكِر من التساوي أو العدل أو غيرها، إلا أن الممارسات تُكَذِّبُ كثيرًا من هذه الأنظمة، والوقائع فيها بون شاسع في التعاطي مع أحداث كثيرة، ومَا خَفِيَ كان أعظم.
ولكن هذا العقد الذي ذكره، وسطره علماء الإسلام على اختلاف قرونهم ومذاهبهم، فيه من الدقة، وفيه من اعتبار الحقوق، وفيه من القيام بحقهم مَا لَا يُقاربه ولا يماثله نظام ولا دستور ولا قانون.
{قال -رحمه الله-: (وَيُقَاتَلُ هَؤُلَاءِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَغَيْرُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقْتَلُوا)}.
مبدأ عقد الذمة أنَّه إذا قام سوق الجهاد، ووصل إلى بلد، فهم مدعوون إلى الإسلام أو دفع الجزية -إما أن يسلموا أو يعطوا الجزية أو يستمروا في القتال حتى يُنْهَكَ فيهم القتل وإراقة الدماء- فإذا أسلموا فالحمد لله، وهذا هو التمام والكمال، وإذا قالوا: لا نقاتلكم ولا تتعرضوا لنا، قلنا لهم: إن أعطيتم الجزية قبلنا منكم، ﴿حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29]، فاقبل منهم إحدى ثلاث، ذكر منها أخذ الجزية، كما في حديث ثوبان.
وبناء على ذلك ذكر المؤلف كيف يمكن أن يُبتدأ عقد الذمة أو يحصل ابتداء.
قوله: (وَغَيْرُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقْتَلُوا) إذا قلنا إن عقد الذمة إنما هو مخصوص بهؤلاء لا غير، فَمَنْ سواهم، مثل: اليهود والنصارى ومن لهم كتب، أو المجوس الذين لهم شبهات كتاب، فإنهم إذا قام سوق الجهاد بشروطه وقيوده، فإما أن يُسلموا أو يُقتلوا، ولا يطلب منهم غيره.
وإذا قلنا بالقول الآخر، وهو قول له اعتباره ووجاهته، فإن حكمهم يكون حكم الأولين في أنهم تقبل منهم الجزية، ويعقد لهم عقد الذمة. لِمَ فرقوا؟
ما جاء من قوله: «فادعُهم إلى إحدى ثلاثِ خلالٍ أو خصالٍ، فأيَّتُهنَّ أجابوكَ إليها فاقبل منهم وَكفَّ عنهُم»[4]، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال:39]. فالكلام بين هذا الخصوص والعموم، هل هذا يتوجه إلى حال وهذا يتوجه إلى حال؟ أو هذا ناسخ لذاك؟ هذا مثار للفقهاء وليس هذا محل لبحثه.
{قال -رحمه الله-: (وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مُمْتَهَنِينَ مُصَغَّرِينَ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ صَبِيٍّ وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَفَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنْهَا وَنَحْوِهِمْ)}.
قال: (وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ)، يدل على أنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- لَمَّا قرر حُكم الذمة وأحكامها، فإنما قِوامها بالجزية، فأراد أن يُبين ما يتعلق بها، فقال: (وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مُمْتَهَنِينَ مُصَغَّرِينَ)، يعني: صاغرين؛ لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29].
قال أهل العلم: هل الصغار قدر زائد على دفع الجزية، أو هو نفسه دفع الجزية؟ فمن أهل العلم من قال: هذا قدر زائد، وبناء على ذلك يُطلب منهم أن يُطال وقوفهم حتى لا ترتفع نفوسهم فيقاتلوا أو ينقضوا العهد أو كذا، يعني: إشعارهم بأهمية بقائهم على العقد، وتوفيتهم بالوعد، حتى يبقى لهم ما يبقى من الحفظ والأمان والموافقة على دخولهم في عموم دولة الإسلام، والحفاظ عليهم فيها.
ومنهم من يقول: إن إعطاء الجزية هو الصغار بحقيقته، وبالتالي فلا يحتاج إلى شيء من زائد، فالمؤلف ظاهرٌ من كلامه أنه يُحتاج إلى أمر زائد، وأنَّ هذا هو معنى الصغار، وهو شيءٌ زائدٌ مضاف إلى أخذ الجزية منهم.
قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ صَبِيٍّ وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَفَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنْهَا وَنَحْوِهِمْ)، هذا أيضًا ظاهر فيما ذكرناه من سماحة الإسلام، وظهور رحمته ورأفته وعدله، فليس أحد يمكن أن يمنع من أنه يؤخذ منهم على كل حال، ويطلب منهم في كل وقت، ولا فرق بين صغير ولا كبير، وهذا لا يختلف فيه الحال، سواء كانوا أغنياء، أو مالكين لثروات، أو عندهم من القدرات ما عندهم، والحكمة في ذلك أن هؤلاء ليسوا أهل قتال، فلمَّا لم يكونوا أهل قتال فلا تُؤخذ منهم الجزية، أي بالنسبة للصبي والعبد والمرأة.
وإنما تؤخذ الجزية ممن كان مقاتلًا، فما يدفعها هو مُقابل ما يدفع عنه من القتال، ويمنع منه من المواجهة.
وأما الفقير والعاجز عنها، فهؤلاء فقراء وعاجزون، فأدركتهم رحمة الإسلام، فهم مُقرون على ما هم فيه من العهد والأمان، ومعفو عنهم فيما يجب عليهم من بذل الجزية وإعطاء المال.
ومثل ذلك طبعًا الراهب في صومعته، وما مثلهم على قول المؤلف ونحوهم.
{قال -رحمه الله-: (وَيَلْزَمُ أَخْذُهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ مِنْ نَفْسٍ وَعِرْضٍ وَمَالٍ وَغَيْرِهَا)}.
المؤلف -رحمه الله تعالى- دخل في تفاصيل الأحكام التي تلزمهم وما لا يلزمهم، فما يعتقدون حرمته يؤخذون به، ولذلك في قصة عبد الله بن سلام في رمي المحصن، سألهم عمَّا يجب عليهم، وفي ذلك أحاديثٌ كثيرة، فكلٌ ما يكون محرمًا عندهم يلزمون ويُطالبون به، ولا يُؤذن لهم في تجاوزه وتعديه؛ لأنَّ هذا حكمهم كما هو حكم أهل الإسلام.
نأتي إلى المسألة الأخرى، أمَّا ما يعتقدون حله؛ فإن لهم أن يتعاطوه، ولكن فيما بينهم، وإذا كان محرمًا عند أهل الإسلام فلا يُظهروه.
على سبيل المثال: هم يشربون الخمر ويستبيحون ذلك، فليس علينا أن نمنعهم من ذلك أو أن نتابعهم فيه، فإذا كان ذلك بينهم فلا بأس، ولكنهم لا يظهرونه، ولا يجاهرون به، لأنَّه محرم عندنا أهل الإسلام.
 فأي رحمة أتم، وأي إنصاف أظهر من هذا الذي قرره الشرع، وسطره علماء الإسلام؟
لو كان المجوس مثلاً يُجيزون نكاح المحارم، فليس علينا منهم شيء، فإذا تزوج الرجل أخته، أو أخذ الرجل عمته، لا نتعرض لهم، ولكن لو ارتفع إلينا، فإنما يطلب حكمنا ولا نحكم به إلا بحكم الإسلام، فلا نُقِرُّه على شيء من ذلك.
فإذا ارتفع إلينا، وأراد أن نعقد لهم عقد نكاح، فنقول: هذا لا يجوز عندنا، ولا يمكن أن نعقده، لكن إن عقده هو فيما بينه وبين خاصته أو في دائرته، فلا يُلتفت إليهم ولا يُتعرض لهم.
{قال -رحمه الله-: (وَيَلْزَمُهُمْ التَّمَيُّزُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ رُكُوبُ غَيْرِ خَيْلٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ)}.
أي: ما دام أنهم أهل ذمَّةٍ في ضيافة أهل الإسلام، فعليهم أن يحترموا حق الضيافة، فما لأهل الإسلام الذين هم أصل البلاد والقائمون بها، ولهم الولاية والحكم، فإنهم لا تذهب خصوصية أهل الإسلام ولا يداخلونهم، خاصة أن لهم أحكامًا تخصهم.
فربما ظُنَّ أنَّ هذا فعل مسلم وهو ليس كذلك، ولهذا قالوا: إنه يلزم التمييز، سواء كان ذلك في هيئة لباسهم، أو كان ذلك في شعرهم وجذه، أو كان ذلك في طريقة ركوبهم، فيركبون على جهات لا على جهتين، أو غير ذلك مما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
{قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ تَعْظِيمُهُمْ، وَبُدَاءَتُهُمْ بِالسَّلَامِ)}.
المسلم يعلو ولا يُعلى عليه، وحق أهل الإسلام أن تحفظ لهم منزلتهم، ويحفظ لأولئك منزلتهم، فلا يُتعرض لهم بالإهانة، ولا يكون من أهل الإسلام لهم شيء من الظلم أو العدوان عليهم أو أخذ الأموال أو سواها، لكنهم لا يَرقَونَ إلى أن يكونوا مثل المسلمين وفي منزلتهم.
والسلام له خصوصية عند أهل الإسلام، فلا يبتدئون به.
سؤال: لكن هل هذا شامل لجميع التحايا، أو هو خاص بقول الإسلام: السلام عليكم؟
المشهور خصوصية السلام، وأمَّا التحايا الأخرى، مثل: صباح الخير، أو أهلًا وسهلا، أو نحو ذلك فعند جمع من الفقهاء لا يدخل فيه هذا الحكم، ولا غضاضة في ذلك، وإن كان قول ابن تيمية وغيره -فيما أظن- جميعها على حد سواء.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ تَعَدَّى الذِّمِّيُّ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ كِتَابَهُ، أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ كَأَسِيرٍ حَرْبِيٍّ)}.
قوله: (وَإِنْ تَعَدَّى الذِّمِّيُّ عَلَى مُسْلِمٍ)، هذه الأحوال التي ينتقضُ بها العهد، فإذا (ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ كِتَابَهُ، أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ)، فإنه من ضمن ما يؤخذ عليهم العقد، ألا يتعرضوا لدين المسلمين، وألا يتعرضوا لحرماتهم؛ لأنَّ تعرضهم لذلك ناقض للعقد، وهذا حكم أهل الذمة، الذين يعيشون عند المسلمين.
أمَّا المعاهدين -والمؤلف لأجل أن الكتاب يعني فيه اختصار، لم يتعرض لهم- فالمعاهدين الذين بينهم وبين أهل الإسلام عهد، فإنما العهد بيننا وبينهم بحسب ما دُوِّنَ فيه من شروط، ولكن أصله إنما هو على ترك القتال، وأما إذا زيد فيه شروط -كما في صلح الحديبية وفي سواه- فهذا كله عهد بحسبه، أي: بحسب قوة المسلمين وضعف غيرهم أو العكس، وما يحتاجون إليه أحيانًا كالإبقاء على جريان هذا النهر مثلا، أو الإمداد بشيء من الأطعمة أو غيرها، أو النفط أو ما سواه أيًا كان ذلك، فهم على ما اتفقوا عليه.
فإذا انضم إلى ذلك بعض الأشياء التي تعلق بصيانة معتقده أو سواه فهو كذلك، ولكن من حيث الأصل أن العهد لا تعلق له بشيء من هذا، فما يحصل عندهم في بلدانهم، أو ما يكون منهم من بعض ممارساتهم لا نلتفت إليه، ولا يحاسبون عليه، ولا يكون ذلك نقضًا للعهد، وهذا بخلاف أهل الذمة الذين يعيشون بين المسلمين.
وهذا هو الإشارة إلى ما تقدم من الكلام فيما مضى، في بعض الوقائع التي تحصل فيها اختلاف وتداخل المجتمعات وإرادة غيظ بعضها لبعض، وما يتبع ذلك أحيانا من ممارسات سوء وبلاء تغيظ المسلمين وتعتصر لها قلوبهم.
قال: (انْتَقَضَ عَهْدُهُ)؛ لأنَّ هذا من الأمور العظيمة، وهذا بخلاف ما إذا جاءت منهم مخالفة مثلاً في طريق، أو شيء من المخالفات التي توجب تعزيرًا، فإنه لا ينتقض بها عهده، ولكنه يؤخذ بها، ويؤخذ على يده ألا يفعلها.
قال: (فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ كَأَسِيرٍ حَرْبِيٍّ)، يعني: إمَّا أنه يُسْتَرَق؛ لأنه أضاع حرمة نفسه، ولم يوفِّ بعهده، فهو الذي جرَّ على نفسه الويلات، ودخل في السوء والبلاء، وإمَّا أن يجعله مُهدر الدم، فيقتل بسبب ذلك ويستباح دمه، وهذا كله للإمام.
فلو أنَّ أحدًا المسلمين سمعوا شيئًا من ذلك ووصل إليهم، فغاية ما يلزمهم أن يوصلوه إلى الإمام، فإن ثبت ذلك عنده أخذه بما يراه من الحكم الذي قرره الفقهاء، وجاءت به الأدلة، وإن لم يستقر عنده، فيتحرى في ذلك ويتتبع فيما يأتي، ويمنع وقوعه فيما يستقبل.
{أحسن الله إليكم. نكتفي بهذا القدر}.
أسأل الله -جل وعلا- أن يُتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يجعلنا وإياكم هُداة مُهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
وقبل أن ننتهي نشير إلى أنَّ العهد والمستأمن ودخوله إلى بلاد المسلمين، أو دخول المسلم إلى بلاد الكافرين، يحتاج إلى إضاءة، ولعلها أن تكون في مُستهل الدرس القادم لأهميتها وما يترتب عليها في الواقع.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.
{جزاكم الله خيرا أعزاءنا المشاهدين، ونستكمل ما تبقى في مجالس قادمة -إن شاء الله- وإلى ذلكم الحين، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------
[1] أخرجه مسلم (1906).
[2] رواه البخاري (3140).
[3] رواه مسلم (1817).
[4] خرجه مسلم (1731).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك