{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}
حياك الله.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في القراءة فيما توقفنا عنده}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةَ بِسَكِينَةٍ وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ العِشَاءَيْنِ تَأْخِيرًا وَيَبِيتُ بِهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلي آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، لا يزالُ الحديثُ موصولًا لِمَا ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في صفة الحج والعمرة، وقد ذكرنا أعمال يوم الثامن وأعمال يوم التاسع من حيث الوقوف بعرفة، ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةَ)، وذكرنا ما يكون من الدفع بسكينة، وعدم إسراع، ولا زحام، إلا أن يجد فجوة فيسرع إليها، يلبي الحج في ذلك الحال حتى إلى مزدلفة، وذكرنا موضع مزدلفة، والنبي ﷺ قال: «وقفت ها هنا وجمع كلها موقف»، ووقف النبي ﷺ عند الجبل الصغير، إذا دخل مما بين الجبلين على اليسار، وهو الآن الذي عند المسجد، فالمسجد الذي في مزدلفة بُني في موطن المشعر الحرام، وهو الذي يستحب الوقوف عنده، كما فعل النبي ﷺ، وقال: «وقفت ها هنا وجمع كلها موقف».
وحيثما نزل الحجيج في هذه البقعة حصل بذلك الواجب، وأدوا بذلك المقصود، ولا يتكلف الإنسان في أن ينتقل إلى المشعر الحرام، خاصة إذا خاف تعبًا أو تضييع رفقة، أو لحقه في ذلك كلفة شديدة، خاصة بعد وقوفه واجتهاده بعرفة، وما ينتظره أيضًا من أعمال يوم النحر، والتنقل بين الأنساك.
ذكرنا بعدها ما يفعله أول وصوله، وهو (وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ العِشَاءَيْنِ تَأْخِيرًا) يعني: أداء المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ويكون جمعًا وقصرًا، والقول فيها كالقول في الجمع والقصر بعرفة، فالجمع للحجيج كلهم، سواء كانوا مسافرين لأجل السفر أو كانوا غير مسافرين لأجل العذر والحاجة، كأهل مكة وما قاربها من الديار، ولكنهم لا يقصرون على ما تقدم، خلافًا لمن قال: إنَّ القصر نسكٌ من الأنساك، وهذا خلاف المشهور في قول أكثر أهل العلم.
ثم قال: (وَيَبِيتُ بِهَا)، يعني ينزل بها ويبيت، والسنة أن يبيت بها، والمبيت سيأتي حكمه، وهو من الواجبات التي يجب على الحاج فعلها في أوسط أقوال أهل العلم، بين من قال: هو مستحب، وبين من قال: هو ركن من الأركان، فإن النبي ﷺ فعلها، وقال: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ»، ورخص للضعافَ ومن في حكمهم أن يخرجوا بعد منتصف الليل، فدل على أنَّ هذا واجب، وأنَّ ما قبله ليس فيه رخصة، ولذا كان فعل التمام ما ذكره المؤلف من الجلوس إلى الفجر لمن تسنى له ذلك وقدر عليه.
إذًا المبيت من أعمال الحاج، ولعلك تلحظ هنا أنه ليس ثم في مزدلفة كثير عملٍ أو نسكٍ يشتد على الحاج، والله تعالى أعلم أنَّ هذا داخل فيما جاءت به الشريعة من التيسير، فإن الحجيج لَمَّا كانوا بعرفة، وكان منهم الاجتهاد والعمل، ثم ما يكون بعد ذلك في يوم العيد من أعمالٍ كثيرة من الرمي، والانتقال إلى الذبح، والحلق، ثم الذهاب إلى مكة للطواف والسعي لمن كان عليه السعي، ثم إلى منى، فكان من الله -جل وعلا- لطفًا بالعباد أن يستريحوا بمزدلفة؛ ليكون ذلك تيسيرًا لِمَا لحقهم من الجهد بعرفة، وإعانةً لِمَا يستقبلونه من الأعمال في يوم النحر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَرَقَاهُ وَوَقَفَ عِنْدَهُ، وَحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَ وَقَرَأ: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ الْآيَتَيْنِ، وَيَدْعُو حَتَّى يُسْفِرَ﴾ )}.
إذًا هو مبيتٌ من وصول الحاج، متى ما وصل، سواء وصل أول الوقت أو أوسطه إلى الصبح، يجلس فيذكر الله -جل وعلا- ويدعوه، وهذا من مواطن الدعاء، وهذا هو الذي فعله النبي ﷺ، ويخرجُ منها حين يُسفر جدًا قبل طلوع الشمس، وهذا هو التمام.
وخروج الحاج قبل طلوع الشمس هذا من النبي ﷺ مخالفة لأهل الجاهلية، لأن الحج كان موجودًا عندهم، وكانوا يقفون بمزدلفة حتى تطلع الشمس، وشُهر عنهم أنهم يقولون: "أشْرِقْ ثَبيرُ": يعني: لتشرق الشمس من ورائك، "كيما نُغيرُ"[1]، يعني لنمشي، وكان النبي ﷺ مخالفًا لهم، فيخرجون قبل طلوع الشمس؛ مخالفةً لأهل الجاهلية.
إذا قلنا: إنَّ هذا هو التمام -كما تقدم- فليعلم أنه بعد منتصف الليل يخرج الضعفة ومن في حكمهم ومن معهم، فإذا كان فيها كِبار السن أو الضعفاء من النساء ومن معهم من أطفال ونحوه، فإنهم ينفرون منها، ومن معهم يكون له حكمهم، وهذا تخفيف من الله -جل وعلا- وتيسير، فيكون هذا هو الأولى في حقهم والمستحب لهم.
فإن وُجِد شخصٌ أراد أن ينفر وليس معه ضعفة، فالمشهور عند أهل العلم أنه ما دام أنه بقي معظم الليل أو حتى منتصف الليل؛ فإنه يجوز له أن ينفر ولا شيء عليه في ذلك، ولكن يكون قد فَوَّتَ السنة، وهو البقاء إلى طلوع الفجر، والدعاء في وقت الدعاء، كما تقدم معنا، فإذا أراد الرخصة فله أن يترخص، ويكون قد أدى الواجب الذي عليه.
وإذا أراد الكمال والتمام وليس هو من الضعفةِ ولا معهم في رفقتهم، فإنَّ الأولى أن يبقى إلى طلوع الفجر، ولا يفوت الأفضل والأكمل.
وأما الخروج قبل منتصف الليل فلا، لا لضعيف، ولا لامرأة، ولا سواها، ومن خرج فإما أن يعود، وإما أن يكون عليه دم، وسيأتي ذلك -بإذن الله جل وعلا- في محله.
طبعًا يصلي الفجر في وقته، والنبي ﷺ قد جاء عنه أنه صلى الوقت أبكر مما كان أو قبل وقته، والمقصود بذلك ليس هو قبل دخول الوقت كما يفعله بعض الناس، وكما يُفهم عند قول بعض الفقهاء، وإنما المقصود بذلك أنه يُبكر بها في أول وقتها، هذا هو المقصود، والصلاة لها من الأهمية ما لها فيجب أن يتوقى.
هذا إذا ما يتعلق بالصلاة، ثم يذكر الله ويدعوه على ما تقدم، ويستحب للحجيج أن يجمعوا الجمار كما جاء عن ابن مسعود وغيره أنهم كانوا يتزودون بالحصى من مزدلفة، فإذا أخذها من مزدلفة أو أخذها من الطريق كما جاء عن النبي ﷺ أو من منى أو من الحرم فلا بأس، ولكن كان الأكثر أنهم يتزودون من مزدلفة، والآن مع رصف منى وما وُجد فيها من تهيئة للتسهيل على الحجيج ربما يتعذر معها أو يصعب فيها وجود أحجار وحصى وجمار؛ فلأجل ذلك هذا مما يؤكد أن يتزودوا لأنفسهم بالحصى من مزدلفة، وهنا سيأتي ما يتعلق بالحصى، وهو أنه ما بين الحمص والبندق، لا يصغُر عن ذلك ولا يكبر عنه، وإياكم والغلو، يعني: لا يجيء واحد ويتساهل فيأخذ الصغير، ولا يجيء واحد ويأخذ شيئًا كبيرًا؛ لأنها إنما هي إقامة شعائر الله -جل وعلا-، ولكن لا ينبغي التساهل في ذلك، وقد أدركت بعض مشايخنا أنه كان يُتعب نفسه في جمع الجمار، فينظر فيها وفي حجمها ثم إذا اشتبه هل هي من الأرجل أو الحصى دقها قليلًا لينظر هل تتناثر أجزاؤها أو لا؟ وما دام أنك في نسك، وأنك ترجو كماله، فلا بد أن تتعب نفسك فيه، وأن تلازم السنة، وأن تحمل نفسك عليها، وألا تتساهل في ذلك.
ومما ورد في الأزمنة الأخيرة مع الرفاهية وغيرها، أن بعض من يستأجرون لتهيئة أماكن الحجيج، وأماكن تنقلهم، يأتون لهم ببعض الحصى، وهذه الحصى لا بأس فيه أن يستنيب الإنسان من يجمع له الحصى، ولكن إذا لم يكن مما يجزئ ويحصل به المقصود فلا، وهذا ملحوظ، فإن أولئك لا يعبئون بكونه صغيرًا أو كبيرًا فتوجد منه صغارٌ جدًا، قطعًا أنها لا يحل بها الرمي ولا يصلح.
فإذًا من المهم أن يجتهد في أن يطلب حصى يصح به الرمي ويحصل به المقصود، سواء جمعه بنفسه، أو جُمع له، أو استناب غيره فيه، وهذا موضع جمعها.
فإذا تحرك الحجيج ووصلوا إلى وادي مُحَسِّر فإنهم يسرعون جدًا إذا أمكن ذلك لعدم وجود زحام، ووادي محسر هو الفاصل بين منى وبين مزدلفة، ويضيق في بعض المواطن حتى يكون ستين ذراعًا، ويتسع في بعضها حتى يكون أكثر من ذلك بكثير، يُسرع الحجيج إذا وصلوا إليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثمَّ يَدْفَعُ إِلَى مِنَى، فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّرًا أَسْرَعَ رَمْيَةَ حَجَرٍ، وَأَخَذَ حَصَى الْجِمَارَ سَبْعِينَ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمِّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ)}.
قال: (ثمَّ يَدْفَعُ إِلَى مِنَى)، بعد أن يؤدي ما عليه من المبيت بمزدلفة، سواء كان ذلك إلى ما بعد منتصف الليل للضعفة ومن في حكمهم، أو من أراد الترخص مثلهم؛ لأن من معهم في حكمهم، أو من بقي إلى طلوع الفجر ودعا الله -جل وعلا-؛ فإن الحجيج يدفعون إلى منى، وهذا هو اليوم العاشر، وهو يوم الحج الأكبر، فالحج عرفة، ولكن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، لماذا؟
قال أهل العلم: لأن أكثر أعمال الحج تفعل فيه، ففيه أربعة أعمال:
أولها: رمي جمرة العقبة، وهي تحية منى، ما معنى تحية منى؟
التحية معناها: أول شيء يفعل عند اللقاء؛ ولذلك كان قول: "السلام عليكم" هو أول شيء تقابل به صاحبك؛ فلذلك سمي: تحية، فأول شيء يفعله الحجيج إذا وصلوا إلى منى هو: رمي جمرة العقبة، وجمرة العقبة، وتسمى جمرة العقبة، والجمرة الكبرى هي آخر الجمار من جهة منى، وأولها جهة مكة.
فإذا جاء الحاج من جهة منى ماشيًا على رجليه تأتيه الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وسُميت جمرة العقبة؛ لأنه كان بجوارها وملاصقًا لها جبل صغير يسمى: عقبة، وكان في وادي، فالحجيج إذا وصلوا إلى جمرة العقبة يزدحمون، فيحتاجون إلى أن يلتفوا من خلف العقبة ثم ينزلون في بطن الوادي ثم يرمون الجمرة، ولَمَّا جاءت هذه الحكومة وفقها الله -جل وعلا- التي رعت الحج، وسعت عليه، مهدت ذلك كله، وسهلت للناس أشياء كثيرة، كان فيها من الهلكة، والضيق، والأمر الكثير.
ومن المعلوم أنَّ الناظر في الجمار الآن يراها متسعة جدًا كهيئة الصورة البيضاوية أو نحوها، وهذا يبدو في ظاهره أنها أوسع مما ذكره الفقهاء، أنه ستة أذرع، ولكن الحقيقه أنه هو هو ولم يتغير شيئًا، بمعنى أنه تيسيرًا للناس لئلا يزدحموا، جعلت هذه الهيئة كهيئة السفينة الكبيرة لكنه يصب في مكان واحد الذي هو متقرر عند الفقهاء، وهو ستة أذرع حول الشعار الذي هو في الجمرة يحيط بها من كل جهة.
وكان الناس يعانون في أول الأمر من ضيق المكان، هذا من جهة، ثم أنه أسرع ما يكون إلى الامتلاء، فإذا رموا جمارهم تدحرجت وخرجت وهذا يؤدي إلى حرجٍ كبير، فلما جُعلت على هذه الهيئة التي فيها مزلقان ويصب في مكان واحد ويؤمن خروجه، ثم يسهل تفريغه والتنظيف حتى يستطيع الحجيج الذين جاءوا بعد ذلك في أن يرمونه في موضعه كان ذلك أعظم ما يكون من التسيير والتسهيل على الحجيج.
لِمَ نقول هذا؟
لأن بعض الناس يظن إذا قرأ ما نص عليه الفقهاء، ورأى ما هو موجود ولم يعرف كيف فُعل هذا، يظن أنه قد غُيرت هيئته، وهي لم تتغير، وإنما جُعل كهيئة السفينة ثم كله يصب في المكان الأول الذي هو ستة أذرع من كل جهة، كهيئة الدائرة.
طبعًا جمرة العقبة لا تكتمل الدائرة؛ لأن جهة الجبل فيها، فهم جعلوها على تلك الهيئة لكن سهلوا لها ما يتعلق بفعل الحجيج إذا أرادوا أن يرمونها ويصلون إليها.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (ثمَّ يَدْفَعُ إِلَى مِنَى، فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّرًا أَسْرَعَ رَمْيَةَ حَجَرٍ)، وهذا لِمَا ذكرنا أنَّ محسر هو الوادي الذي حُسر فيه الفيل، الذي جاء به أبرهة لهدم الكعبة، فكان ذلك موطنًا من المواطن التي يُسرع فيها، وعذّب فيها هؤلاء فكانت هذه هي السنة.
قال: (وَأَخَذَ حَصَى الْجِمَارَ سَبْعِينَ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمِّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ) يعني: يتزود من الحصى، والسبعون بالنسبة لمن يجلس إلى اليوم الثالث عشر فيتأخر، فهي الجمار التي يرمي بها، وأما من تعجل فلا يحتاج إلا إلى تسعٍ وأربعين.
هنا قال: سبعين أو تسع وأربعين ولم يزيدوا لماذا؟ لِمَ لم يقل يأخذ أكثر احتياطًا؟
أولًا: لئلا يفتح الإنسان على نفسه باب الوساوس والأفكار، ولا يستحب له أن يزيد عن القدر الواجب، ولئلا يعوزه ذلك إلى أن ينقل الحصى خارج الحرم؛ فإنه كما جاء عن السلف والصحابة ومن بعدهم، وذكر ذلك الفقهاء: أنه يُكره إخراج حصى الحرمِ إلى خارجه.
كما قلنا: (أَكْبَرَ مِنَ الْحِمِّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ)، كم يصير محيط الدائرة تقريبًا؟ يمكن أن يكون "سنتيمترًا" تقريباً، أظن أنَّ الحمص معروف والبندق يأتي به الإنسان وينظر إلى ما قاربه.
قال: (فَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا بِسَبْعِ حصياتٍ) هذا بالنسبة لأحكام الرمي في اليوم العاشر، أنه إنما تُرمى جمرة العقبة، بخلاف اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، تُرمى الجمار كلها مرتبة على ما سيأتي.
فلما قال: (وَحْدَهَا) ينيبه إلى أنه يختلف حكم اليوم العاشر عن اليوم الحادي عشر والثاني عشر، والذي تُرمى فيه الجمار الثلاث كلها.
قال: (يَرْفَعُ يُمْنَاهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطِهِ)، فبمعنى أنه يرمي، فبناءً على ذلك يقول الفقهاء: لو وضعها فإنه لم يؤدِ شعيرة، ولم يقم بالقربة والطاعة، ولم يتسن بالنبي ﷺ، فلابد من رميها؛ حتى يحصل بذلك المقصود.
وهذا الرمي للجمرات، إنما هو لإقامة ذكر الله -جل وعلا- وهو أعظم ما يكون في الامتثال والاقتداء، والحاج يشعر بالاستسلام والانقياد، والطاعة لله -جل وعلا- ولرسوله، فهو أُمر بالتجرد من المخيط فتجرد، ولبس الرداء والإزار فلبس، والطواف بالبيت فطاف، والوقوف في النهار بعرفة فوقف، والرمي هنا فرمى.
كلها من حيث التفسير النظري أو العقلي، ليس لها تفسير، ولا تقول مثلا: لو فعل كذا لكان أحسن من كذا، ليس لها تفسير، لماذا؟ لأن الله -جل وعلا- أراد من العبد أن يكون عبدًا مُتعبدًا لله بما أمره، فهذا غاية في الانقياد.
فتأمل هذه الأعمال وهذه الأفعال وما الذي معها، يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، أنا مطيع لك في هذه الأحوال كلها، فهو أعظم ما يكون في الامتثال والاقتداء وإظهار العبودية لله -جل وعلا-.
هنا مسألة مُهمة، وإن كانت خارجة عن مدار البحث النظري الفقهي، ولكنها من الأهمية بمكان، لقائل أن يقول، وهذا يثارُ من الشُبه: يطوف بالبيت، يطوف بالكعبة، هل المسلمين يتقربون إلى هذه الأحجار؟
نقول: لا، الطوف ليس طوافًا بالكعبة مكانًا، ولكنه تقرب لله -جل وعلا-، وهو كالوقوف بعرفات، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وتعظيم هذا المكان حيث عظمه الله -جل وعلا- وأمر بتعظيمه؛ لأنه مكان عبادة، وليس وجهة للعباد، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾، فهي قبلتنا وهي علامة وحدتنا، وهي توجهنا في صلاتنا، ولذلك قال النبي ﷺ: «من صلى صلاتَنا واستقبل قبلتَنا وأكل ذبيحتَنا فَهو المُسْلِمُ، له ما لِلْمُسْلِمِ، وعليه ما علَى المُسْلِمِ»[2] فإذًا هذه كلها قربات لمن؟ لله -جل وعلا- وهذا المكان معظم بتعظيم الله له أن كان مكان عبادتنا، وليس شيء يطلب دفع الضر به، ولا البركة منه، وإنما هو الامتثال والاقتداء؛ ولذلك قال عمر المقولة المشهورة لما قال في الحجر الأسود: (وإنِّي أَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، وَأنَّكَ لا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وهو الحجر الأسود الذي نزل من الجنة، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ).
فإذًا كل هذه الأعمال ملؤها الامتثال والاقتداء بالنبي ﷺ ما فعله فعلناه، وما تركه وتركناه، ولذلك سيأتينا أنه يرمي جمرة الجمرة الصغرى فيدعو والجمرة الوسطى فيدعو، ثم يرمي جمرة العقبة فلا يدعو، فكان الاقتداء في ترك الدعاء في جمرة العقبة كالاقتداء بفعل الدعاء بعد الجمرة الصغرى والوسطى سواء بسواء، وهذا غاية ما يكون من الامتثال والاقتداء ولا بُد من أن يستشعر ذلك. وإنَّ كثيرًا من أصحاب الشُبه ليغرون ضعفاء المسلمين بمثل هذا الشبه؛ إرادةً لإضعاف دينهم، ولفتهم إلى ما التشكيك وتحريك الشيطان في قلوبهم من الوساوس والأفكار، وكل ذلك لا ينبغي للمسلم أن يٌصغي إليه ولا أن يقف عنده، وأن يعرف حكمة الله -جل وعلا- حيث أمر بهذه العبادة وشرع تلك الأنساك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا بِسَبْعِ، يَرْفَعُ يُمْنَاهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطِهِ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَرُ، وَيَحْلِقُ، أَوْ يُقَصِّرُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ)}.
قال: (وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ)، هذا هو المستحب، الله أكبر الله أكبر، وهذا التكبير سنة، فلو نسيه الإنسان أو تركه لم ذلك بمؤثر في حجه أو مانع من كماله وتمامه، ولكنه هو المستحب والأتم، فينبغي للإنسان أن يحرص على ذلك، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يشرع مع ذلك تسمية، فلا يقول: (بسم الله والله أكبر)، كثيرٌ من الناس اقترن بالتكبير تسميةٌ، وليس هذا موضعها، وهذا أيضا يرجع إلى ما قلناه قبل قليل نحن نقتدي بالنبي ﷺ.
في أول الطواف يقول: (بسم الله والله أكبر) أول طوفة وليس كل طوفة، أول ما يبتدئ الطواف لكن ذاك موضع استحبت فيه التسمية، وهذا لم تستحب فيه، فكل بحسبِ ما ورد فيه، وجاءت عن النبي ﷺ فيه السنة والاقتداء.
قال: (ثُمَّ يَنْحَرُ، وَيَحْلِقُ) ينحر الهدي أو يذبحه بحسب الحال، فالمهم أنه يبدأ في أعمال الهدي، لأن النحر للإبل والبقر، والذبح للغنم سنة، وسيأتي ذلك أيضًا في أحكام الذبح في الأضاحي، وهنا إشارةٌ إلى أنَّ الأولى بالحال أن يسوق بذلك بنفسه وأن يفعله بيده، والنبي ﷺ ساق معه من الهدي مئة من الإبل، ونحر بيده الشريفة ثلاثة وستين، ثم أعطى عليًا ليكملها، فمن تثنى له ذلك فليفعل، ومن أناب شخصًا أو جهة أو نحوه، فمادام أن الشخص موثوقٌ؛ لأنه يكثر في هذه الأوقات التلاعب واستغفال دهماء المسلمين بأخذ أموالهم بزعم أنه يقوم بمثل هذه الأعمال، ثم لا يقومون بها، فيجب على لإنسانِ أن يتأكد ولا تبرأ ذمته، لابُد أن تعطي لمن تثق أنه يؤدي هذا المنسك، فإنه في ذمتك ولا تبرأ ذمتك إلا بفعله أو توكيل من تبرأ به الذمة وتحصل به الثقة.
قال: (ثُمَّ يَنْحَرُ، وَيَحْلِقُ، أَوْ يُقَصِّرُ)، إذا نحر فيحلق أو يقصر، والحلق أفضل من التقصير، ثم لاحظ هنا دقة الفقهاء -رحمهم الله- قالوا هنا يقصر، كما تقدم معنا، هنا قال: (يَحْلِقُ، أَوْ يُقَصِّرُ)، يحلق ابتدأ بها؛ لأنها هي الأكمل والأولى، والنبي ﷺ حلق، ودعا للمحلقين ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ فقال في الثالثة: والمقصرين، فجعل ذلك آخر الأمرين، فمن كان قادرًا على ذلك ولا يلحق به شيء فهو الأولى والأتم، وإن ضعف أو كان له ما يمنعه بأي سبب فذهب إلى التقصير فلا غضاضة عليه، وهو أحد الأمرين المشروعين، وليس هناك قدرًا مُعينًا من التقصير، فيقصر من جميع شعره لا من كل شعره، يعني: من جميع رأسه، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، خلافًا لبعض الفقهاء الذين يقولون: من الجهات أو ثلاث شعرات وغيرها.
بل التقصير من جميع الشعر، والنبي ﷺ أمر بذلك، وقال: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ»، وحتى من أفتى بأن يأخذ بعض شعراتٍ من رأسه؛ فإن الأولى بحقه أن يؤدي النسك بيقين، وأن يقتدي بنبيه، وأن يذهب عنه الشك، وليرتفع عليه الخلاف، فيفعل الأتم والأكمل، وهذا غاية في الاستسلام والانقياد، وقد قال النبي ﷺ: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ»، فسواء قصر قدر أنملة أو أقل منها أو نصفها أو ما قارب ذلك فلا بأس ولا غضاضة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَحْلِقُ، أَوْ يُقَصِّرُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ، وَالْمَرْأَةُ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ)}.
المرأة قدر أنملة، فالأنملة هي الفواصل التي تكون في الأصبع، ففيه ثلاث أنامل، والمرأة تأخذ من ضفيرتها، فإذا كان لها ضفيرتان أخذت من كل ضفيرة، فيحصل بها ذلك؛ لأن المقصود هو الأخذ من جملة الرأس لا أن يكون من كل شعرة؛ لأن الإنسان لو طلب في هذا التقصير لا يستطيع، بل حتى الحلق، قد ينسى شعرة أو بعض الشعرات لم يتبين لها، فإذًا المطلوب هو من جميع رأسه، لا من كل شعرة بعينها.
قال: (وَالْمَرْأَةُ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ)، هذا الذي قد سمي عند الفقهاء التحلل الأول، وهو الذي يحصل باثنين من ثلاثة، فقد حصل ذلك بماذا؟
برمي جمرات العقبة وبالحلق وبالتقصير، ولا يُفهم من هذا أنَّ الهدي له مدخل في ذلك، لكنه الآن بذكر الصفة على الترتيب الأولى، لكن من جهة تعلق الحل والتحلل فإنما هو متعلق برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، ثم قد حل له كل شيء، ما معنى هذا؟ جاز له أن يرتدي ملابسه، وأن يتطيب وأن يأخذ من ضفره، ثم يفعل ما يفعله الحاج في أنه قد ذهب أو حل له كل ما حظر عليه، إلا النساء، فالنساء وما يتعلق بالجماع ومقدماته؛ فإنه لا يحل له فعل شيء من ذلك حتى يتحلل التحلل الثاني كما جاء في حديث عائشة، «حل له كل شيء إلا النساء».
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ، ثُمَّ يَسْعَى إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى، وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسُنَّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ زَمْزَمَ لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ، وَيَدْعُوَ بِمَا وَرَدَ)}.
قال: (ثُمَّ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ)، بعد أن يحلق وقد حل، وقد ذكر أهل العلم أن السُّنة في ذلك أن ينزع ثيابه، وأن يتطهر وأن يغتسل وأن يتطيب وأن يلبس أحسن ثيابه، ثم يخرج إلى الطواف، فطواف الإفاضة بالثياب، وما يحصل من الحجاج من أنهم يطوفوا بالإحرام، إما أنها مشقة عليهم أن يذهبوا، أو استغلالًا للوقت؛ لأن يأتي قبل أن يُزحم المطاف أو نحو ذلك، فهذا لا بأس به.
لكن لا يظن أن للإحرام حكمًا، ولذلك بعضهم يأتي فيضطبع فنقول: هذا ليس بصحيح، لأنَّ طواف الإفاضة من حيث الأصل، لا يكون بإحرام، فإذا طفت بإحرام فكأنك طفت بأي ثوب، فبناء على ذلك لا تضطبع، لكن إن حصل لك وتسنى لك أن تلبس ثيابك المطيبة وأن تتجمل له، فهذا هو الأفضل والأكمل والأتم.
فإذا يقول المؤلف: (ثُمَّ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) يسمى طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وطواف الحج، كلها مسميات لشيءٍ واحد، وهو الطواف، وهو الركن من أركان الحج، الذي لا يتأتى حج المسلم إلا بفعله، وسيأتي ذلك -بإذن الله جل وعلا-.
هنا قال: (الذي هو ركن) وسيأتي الكلام عليه، (ثُمَّ يَسْعَى إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى)، يسعى يعني هذا لا يخلو، إما أن يكون الحاج متمتعًا فعليه سعي لا محالة؛ لأنَّ سعيه الأول لماذا؟ لعمرته، وإن كان الحاج قارنًا أو مفردًا، فإن لم يكن قد سعى مع طواف القدوم، فعليه طواف الزيارة وسعيه، وأمَّا إذا كان طاف طواف القدوم وسعى معه؛ فإن هذا السعي هو تقديم لسعي الحاج، وقد جاز ودلت عليه السنة فيكون عليه طواف.
فإذًا الأصل في الحجيج، من كان متمتعًا فلا شك أن عليه طواف وسعي، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وهو الأصح، أنه لا يكفيه سعي العمرة، خلافًا لقول بعض الفقهاء، وإن كان هو قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
أمَّا القارن والمفرد فحالهم أحد حالين: إن كان سعى مع طواف القدوم لم يبق عليه سعيٌ، وإن كان لم يسع مع طواف القدوم فإنه بعد طواف الإفاضة يسعى، وهذا إشارة إلى أن السعي لا بد أن يكون عقيب الطواف، وما جاء في الحديث: "سعيت قبل أن أطوف"، فإن هذه الرواية عند أهل العلم متكلم فيها، وبناءً على ذلك لا يُشرع للإنسان أن يُقدم السعي على الطواف، وهذا بين الطواف والسعي فحسب.
وأما الأعمال المتقدمة التي مرت بنا، فيجوز فيها التقديم والتأخير، يعني: أعمال يوم النحر: أربعة، ثلاثة منها يتعلق بها الحل من الإحرام وواحد لا تعلق به، لكن مع ذلك ترتيبها على هذا النحو: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح والنحر لمن كان عليه ذبح، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، فمن قدَّم بعضها على بعض فلا بأس، بمعنى أنَّ هذا الترتيب الوارد في أعمال يوم النحر إنما هو على سبيل السنة والاستحباب، والنبي ﷺ لَمَّا سُئل عن ذلك اليوم فقيل: "طفت قبل أن أرمي"، قال: «افعل ولا حرج»، ومن قال: إنه ذبح قبل أن يرمي، قال: «افعل ولا حرج» فما سُئل عن شيء يومئذ قُدم ولا أُخر إلا قال: «افعل ولا حرج» حتى ولو حلق شعره قبل أن يرمي؛ لأنه نسك.
فهذه الأعمال تقديمها وتأخيرها فيه سعة، فإذا فعل اثنين من ثلاثة فقد حلَّ الأول، إذا رمى وحلق، أو رمى وطاف طواف الإفاضة، أو طاف طواف الإفاضة وحلق، فيكون هنا قد حصل له التحلل الأول الذي يحل له كل شيء إلا النساء ومقدماتها، ومن فعل الثلاثة كلها حل التحلل الأكبر أو التحلل الثاني الذي يجيز له كل شيء، ويعيده كما كان قبل إحرامه، حلَّ له كل أمر مما أباحه الله، من إتيان زوجة والتمتع بها وغير ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَسْعَى إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى، وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسُنَّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ زَمْزَمَ لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ، وَيَدْعُوَ بِمَا وَرَدَ)}.
قبل أن نأتي إلى سن أن يشرب ماء زمزم، هنا السعي بعد الطواف، الموالاة بينها سنة، لكن لو فرقها؟ طاف ثم تعب، أو طاف ثم فقد أبا له، أو ذهب يبحث عنه، ثم وجد تعبًا فأخره إلى صباح اليوم الآخر، نقول: لا حرج، لكن السنة أن يكون سعيه بعد طوافة مباشرة.
قال: (وَسُنَّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ زَمْزَمَ) بعد الانتهاء من الطواف والسعي هذا فعل النبي ﷺ شرب من ماء زمزم ويتضلع يعني أن يشرب فيكثر من شربه حتى تختفي أضلاعه لكثرة الماء الذي شربه، فقال: «لِمَا أَحَبَّ»، يعني: أن ينوي به ما أحب من الخير، وذلك أنَّ النبي ﷺ قال: «ماءُ زَمزمَ لما شربَ لَهُ»[3]، وقال: «ماءَ زمزمَ مباركةٌ، إنها طعامُ طُعمٍ، وشفاءُ سُقمٍ»، فما يشربه الإنسان من ماء زمزم لإرادة حصول الولد أو ذهاب سقم أو الشفاء من سرطان، أو طلب حصول الرزق، أو أن يتزود من العلم، أو أن يبلغ فيه مبلغًا، أو أن يصلح له ولد، أو غير ذلك من الأشياء أو يطلب ذلك كله، وقد ذكر عن جمع من السلف كثير أنهم شربوا ماء زمزم لأشياء؛ فحصل لهم ما طلبوا.
الحافظ المزي في الحفظ، والذهبي، وذكر عنهم أنهم شربوا ماء زمزم لقوة الحفظ؛ فرزقوا ذلك، فينبغي للإنسان أن لا يفوت هذه الفضيلة، وأن يتعرض لهذه الرحمة، وإذا أراد أن يشرب ماء زمزم فيسمي الله -جل وعلا- ويطلب ما أراد، ويتوجه إلى الكعبة، وهذه سنة وأتم في حاله.
قال: (وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ، وَيَدْعُوَ بِمَا وَرَدَ) لما ذكرناه قبل قليل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثمَّ يَرْجِعَ فَيَبِيتُ بِمِنًى ثَلَاثَ لَيَالٍ)}.
يقصد أن الحاج الذي وفد إلى مكة لا يبقى بها بعد الطواف، بل يرجع إلى منى، فمستقر الحجيج في منى، فيستقر بها، والأولى أن يرجع بعد انتهائه مباشرة، والنبي ﷺ فعل أعمال يوم النحر في الضحى، وانتهى منها كلها، يعني: رمى بعد طلوع الفجر، أسفر جدًا، ثم تحرك إلى الجمرة العقبة فرماها، ثم ذبح ثلاثًا وستين بيده، طبعًا هذه لا تأخذ وقتًا، بعض الناس يقول كيف هي لا تأخذ وقتًا كثيرًا؟ يعني يمكن للمتمرس الحاذق أن تأخذ بالكثير خمس دقائق إذا كانت مربوطة ونحو ذلك؛ لأنه ليس المعنى أنه يذبحها ويسلخها وكذا، بل كان ينحرها ثم يكون ما يكون من تكميل ذلك إلى غيره.
ثم حلق، ثم لبس ثيابه وخرج إلى المسجد بمكة فطاف، ورجع بعد ذلك إلى منى، فصلى بها الظهر، لذلك قالوا: إن المستحب أن يُصلي بها الظهر، فيصلي بها: الظهر، والمغرب، والعشاء، ويبيت بها في أيام العيد، يوم النحر، واليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واجب من واجبات الحج، وسيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-.
لكن هنا ينبغي التنبيه إلى مسألة: وهي أنَّ الحاج ليس عليه صلاة عيد، حتى لو ذهب إلى مكة وهم يصلون العيد، وصل إليها في ذلك الوقت، فنقول: إن طاف وهم يصلون فلا بأس ولا حرج، ولكن من حيث الأصل أن بعض الحجيج يتكلف في أن يصلي.
ولو قلنا: إنه ترك المطاف للحجيج بأن يطوفوا وألا يمنعوا، وبناءً على لو أراد واحد يصلي نقول: لا تصلي في المطاف لئلا تمنع الحجيج من أصل فعله، ومما شرع لهم، ومما أمروا به ابتداء، لم يكن ذلك بعيدًا، لكن هل الأولى به أن يصلي؟ أو أن يطوف؟ حقيقة يعني فيما يظهر لي وهو محل بحث أنه إذا كان لا ينقطع عن الطواف فالأولى له أن يطوف والصلاة لأهل مكة وإمامهم ولا شيء عليه في ذلك.
لكن في بعض الأحوال فيما أعرف أنه يقف إلى الطواف مع ازدحام الناس بالصلاة فيتعذر عليه إكمال طوافه فلو عليك في هذا فصلى فلا غضاضة في ذاك لكن ليس هو الأولى.
إذًا قال: (فَيَبِيتُ بِمِنًى ثَلَاثَ لَيَالٍ)، وهذا المبيت واجب، لم يخفف إلا لعذر، والعذر كما جاء عن النبي ﷺ أنه رخصّ للسقاة والرعاة، فأمروا أن يبيتوا بمكانهم، فيؤخذ في هذا من كان في حكمهم، من كان في مصلحة الحجيج، من كان عليه مشقة بالغة، خفف فيه بعض أهل العلم في سقوط المبيت عنه كحال الرعاة والسقاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَرْمِي الْجِمَارَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ)}.
إذًا (وَيَرْمِي الْجِمَارَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ التَّشْرِيقِ) أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، سٌميت تشريقًا من تشريق اللحم وهو تقطيعه وذلك؛ لأنها تُذبح الهدي فيها، وتُذبح فيها الأضاحي، ويقطع الناس لحومهم، بحيث يحفظونها من العفونة، بأن ييبسوها عند الشمس بطريقة معروفة، إلى غير ذلك من الأشياء، فمن هذا أُخذت تسمية هذه الأيام بأيام التشريق، وهي كما جاء في الحديث: «أيامُ أكلٍ وشرب وذكر لله جل وعلا».
بالنسبة للحجيج هم يبيتون بمنى ويرمون الجمار، متى يكون رمي الجمار؟
من الزوال، والزوال هو أذان الظهر، من أين أخذ ابتداء هذا الوقت؟ أن النبي ﷺ جلس على الجمرة ينتظر، حتى إذا قالوا: "زالت الشمس؛ رمى"، ولذلك جاء، قال كنا نتحين، يعني: ننتظر إلى أن يأتي الحين الذي ترمى فيه الجمار، فبناءً على ذلك وهو القائل: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ» فعُلم أن هذا هو وقت الابتداء، ومحل الشروع فيه، وأنه لا يكن قبل ذلك.
قال: (بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ) هذا أول وقت وأتم ما يكون، من حيث الأصل أن الصلاة في أول وقتها هي الأكمل والأفضل، لكن في هذا الموطن لَمَّا بدأ النبي ﷺ بالرمي قبل الصلاة كان هذا بخصوصه أولى في حق الحاج، أن يبتدأ بالرمي، ثم إذا فرغ من رميه صلى، سواء في طريقه أو في محله الذي يقيم فيه، ويستقر فيه بمنى.
قال: (بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ) متى ينته وقت الرمي؟
نقول في مثل هذا: إنه يرمي بعد الظهر، بعد العصر، وذكر بعض أهل العلم أنه يرمي بالليل إلى طلوع الفجر، فلو رمى بعد المغرب، بعد العشاء لجاز ذلك، وإن كان من حيث الأولى عندي أنه إذا لم يستطع الرمي بعد الظهر أو بعد العصر، فإنه يؤخر رمي الجمار حتى يرميها مع اليوم الثاني نهارًا أولى من أن يرميها ليلا، لكن على كل حال الفتيا في الرمي ليلًا، جائز.
حكم الرمي قبل الزوال، لأن هذه من المسائل التي كثُر فيها الكلام.
أولًا: من حيث الأصل، تعرفون أنه كان الرمي قبل الزوال بدأت الفتيا بالرمي قبل الزوال، ولَمَّا حصل ازدحام على بعض الناس، ثم حصل في ذلك وفيات ونحوه.
لكن لَمَّا جاءت حكومة المملكة العربية السعودية -أعزها الله- فوسعت ممر رمي الجمار؛ فإنه لم يكن ثمّ ازدحام بها، لكن بقيت هذه المسألة التي وجد لها سببٌ لبحثها في وقت، بقيت متداولة كثيرة، فنقول: من حيث نظر الفقهاء فإن هذا هو الذي جاءت به السنة، ولكن قال بعض أهل العلم: الزوال استنادًا إلى قول الله -جل وعلا-: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:203]، واليوم اسم للنهار، وجاء على سبيل الإطلاق فقالوا: إنه جائز في أي جزء من أجزاء النهار حتى ولو قبل الزوال استنادًا إلى هذه الآية.
محل الكلام هو في اليوم الثاني عشر، والذي ذكر فيه الفقهاء الكلام في الرمي قبل الزوال أو بعده، أما يوم الحادي عشر فيكاد هنا يقولون من قول واحد أنه بعد الزوال.
من الذي قال: إنه قبل الزوال؟
هو قول لبعض السلف، وقول عند بعض فقهاء الحنفية، وعند فقهاء الحنابلة، لكن المشهور من المذهب عند الأئمة الأربعة أنه بعد الزوال، ولكن على كل حالٍ توجد بعض الفتاوى لأهل العلم اعتبارًا بمنع ما يكون من ازدحام الحجيج ونحوه، فما يتعلق بالفتوى فهي لأهلها، وما يتعلق ما ينزل في المناسك من أمور وما يجد من أشياء تناط أهل الفتيا في ذلك، وأمرُ الحج لأن الحج له إمرة، والمملكة لا تزال قائمةً بهذا الأمر، فيتولى ذلك أمير مكة، فتُجعل إلى هذا، ويعمل الناس حيث انتهى إلى ذلك فُتيا العلماء في تلك الأوقات بحسبها وما يجد فيها.
{أحسن الله إليكم، نكتفي بهذا القدر؟}.
طيب ربما بقيت بعض المسائل في مسائل رمي الجمار، لعلها بإذن الله -جل وعلا- أن تكون تفاصيل رمي الجمار وصفة ذلك واحدة بواحدة في المجلس القادم.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة على الخير والرشاد، وأن يجعل الإخلاص ملء قلوبنا وأقوالنا وأعمالنا، وأن يجعل هذه المجالس لله خالصة، ولقصد ما عند الله -جل وعلا- ثابتة، وألا تنحرف قلوبنا، أو تزيغ نفوسنا، وألا نريد بذلك غير الله -جل وعلا-، ولله نعمل ونقول: وعليه نتوكل، ومنه نستمد الإعانة، وعلى الله التُكلان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله خيرًا أعزاءنا المشاهدين، نستكمل ما تبقى في مجالس قادمة إن شاء الله، وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------
[1] أخرجه البخاري (1684).
[2] رواه البخاري (393).
[3] أخرجه ابن ماجه (3062)، وأحمد (14849).