{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أمَّا بعد، فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلاً وسهلاً بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياكم الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأبقى الله هذه الجادة على خير وهُدى، وكثر سالكيها، ونفعهم بها في الدنيا، ونفعهم بها يوم القيامة.
{أحسن الله إليكم.
توقفنا في محظورات الإحرام عند قوله -رحمه الله-: (وَالطِّيبُ، وَقَتْلُ صَيْدِ الْبَرِّ، وَعَقْدُ نِكَاحٍ، وَجِمَاعٌ، وَمُبَاشَرَةٌ فِيمَا دُونَ فَرْجٍ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من نعمه، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يبلغنا الثبات على دينه، والاستقامة على أمره، والسلامة من الفتن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولاً فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في (محظورات الإحرام) ، وهي من المسائل المهمة التي يكثر حاجة الناس إليها، والعلم بما يدخل فيها، والتنبه إليها وتوقيها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَالطِّيبُ) يعني أنَّ الطيب من محظورات الإحرام، وهذا محل اتفاق وإجماع بين أهل العلم، وذلك أنَّ مبنى الإحرام على ترك الترفه والتشعث والانقطاع عن متع الدنيا وشهواتها، ومن ثم الإقبال على الله -جل وعلا- بإتيان العبادة وفعلها، والنبي ﷺ في حديث جابر لَمَّا ذكر الذي وقصته دابته قال: «ولَا تُحَنِّطُوهُ، ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» فمنع ﷺ من تطييبه حال كونه يُغسل ويكفن؛ لأجل إحرامه.
فالطيب لا إشكال في أنه من محظورات الإحرام، والطيب معلوم ومعروف، وهو ما يُتخذ لتحسين الرائحة، وللناس فيه أنواع كثيرة، وهذه الأنواع منها ما هو معروف مُشتهر، ومنها ما هو جديد لم يعهد، وتعاهد عليه الناس وتتابعوا عليه. فهذه أمرها ظاهر لا إشكال فيه، ولكن ثَمَّ أشياء تكون لها رائحة طيبة، يحصل فيها إشكال في إلحاقها بحكم الطيب من عدمه، وهي أكثر ما تكون فيما يستعمله الناس الآن من منظفات، سواء لليدين أو للبدن أو للشعر أو الدهان وغيرها.
والحنابلة -رحمهم الله تعالى- ذكروا أنَّ (الطِّيب) يكون طيبًا بأمرين: فالطيب هو ما كانت رائحته طيبة، واتخذه الناس طيبًا، بمعنى أنَّ ثَمَّ أشياء تكون لها رائحة طيبة، ولكن لم يعهد الناس اتخاذها طيبًا، مثل: النعناع، أو رائحة الكثير من الفواكه المجردة التي لم تنقل إلى كونها طيبًا، أو لم تستخلص منها رائحة الطيب، أو تجعل ضمن هذه المستحضرات! هذه روائح طيبة، ولكن لم يعهد الناس التطيب بها.
إذًا، بل لا بد أن تكون الرائحة طيبة، ويتخذه الناس طيبًا، فإذا كان كذلك فهو داخل في هذا الحكم، وممنوع منه المحرم، ولا يجوز له تعاطيه.
ولَمَّا كانت عامة المعقمات أو ما يستعمله الناس للتنظيف الآن، من هذه المستحضرات واشتهرت أنواع التسويق فيها، فكان من أكثر ما يكون في ذلك إلحاق روائح عطرية بها، وجملة منها منصوص على أنها معطرة، ومعروف أيضا في تداول الناس، وفي تعاطيهم أن هذه رائحة كذا، وهذه رائحة كذا، وإذا جاءوا يشترونها يطلبون هذه لأنها هي الرائحة التي يحبونها، فهذه داخلة فيما يجتنبها المحرم لا محالة، وهي من ضمن ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، قالوا: (أو يدهن بمطيب) . فإذا كان الدهن مُطيبًا؛ فإنه يمنع منه.
وهذه المنظفات وهذه الأدهان إذا دخلت عليها آلات أو مستحضرات التعطير؛ دخلت في حكمها.
ومنها أنواع قد تكون فيها رائحة محبوبة أو معتادة أو مقبولة عند الناس، ولكنها ليست من الروائح العطرية، وهذه قليلة للغاية، والحقيقة لا يتأتى لنا أن نأتي فنقول: إن هذا الاسم من هذه المنظفات أو هذه الرائحة من هذه الروائح لحصول كم هائل وتفاوت كبير فيها.
ولأجل ذلك لما كان الحكم الغالب على أن هذه منظفات وهذه أدهان الغالب أنها معطرة، فنقول: على المحرم أن يجتنبها ما دام يُعرف فيها هذه الروائح العطرية.
فإذا تيقن أنه لا رائحة عطرية فيها، وأن الرائحة التي فيها إنما هي رائحة مقبولة، لئلا ينفر منها الإنسان حال استعمالها، فلا بأس باستعمالها.
على سبيل المثال: ذلك المسحوق الأبيض المعروف بالبودرة، والذي يستعمل للجلد لتخفيف الاحتكاك أو نحوه، منه شيء الذي يتحدث عنه معتادًا قد تكون فيه رائحة مقبولة، لكن لا يعرف أنه طيب.
وتوجد منها أنواع أخرى يستخدمها الناس أيضًا لنبذ رائحة العرق مشمولة على عطر، فلأجل ذلك -كما قلت لكم- هذا باب واسع، والغالب فيه الآن أنه معطرٌ، ويقل أو يندر أن توجد منه نوع لا رائحة عطرية فيه، فلأجل ذلك على المحرم أن يتوقاها جميعًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَتْلُ صَيْدِ الْبَرِّ) }.
الصيد المأكول البري المتوحش، هذا الذي لا يجوز اصطياده، ومحرم على الْمُحرم فعل شيء من ذلك، سواء الاصطياد أو القتل أو الإيذاء، فلا يجوز للمحرم، والنبي ﷺ في حديث الصعب بن جثامة المشهور أنَّهُ أهْدَى لِرَسولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا وحْشِيًّا، وهو بالأبْوَاءِ، أوْ بوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عليه، فَلَمَّا رَأَى ما في وجْهِهِ قالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أنَّا حُرُمٌ» ، وعرف ﷺ أنه قد صاده لأجله.
وأما أبو قتادة، فلم يكن محرمًا، بينما كان الصحابة محرمون، وكانوا قد أبصروا حمارًا وحشيًا، فقالوا: وددنا أنه قد رآه، فهم لا يريدون إعانته على اصطياده؛ لأنَّ الصيد ممنوع على المحرم، ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ [المائدة:96].
وقد أدخل في هذا أهل العلم ما تولد من صيد بري، ومن حيوان إنسي، تغليبًا لجانب الحظر، ويستثنى من ذلك صيد البحر، فصيد البحر بالنسبة للمحرم ليس فيه شيء، ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ [المائدة:96].
إذًا قتل صيد البر المأكول المتوحش باعتبار أصله، كل ذلك ممنوع على المحرم، ويخرج من هذا أن لو أكل الإنسان الحيوان الإنسي، مثل: الإبل، والبقر، والغنم، أو الدجاج، أو ما ألفوه، وكذلك لو توحشت هذه الحيوانات الإنسية، فإنها لا تدخل في حكم الصيد والعكس بالعكس، فلو استأنست بعض هذه الصيود فإنه لا يمنع من كونها أن تكون محرمة وممنوعة على المحرم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَقْدُ نِكَاحٍ، وَجِمَاعٌ، وَمُبَاشَرَةٌ فِيمَا دُونَ فَرْجٍ) }.
عقد النكاح أيضًا، لا يجوز في حق المحرم؛ لأن عقد النكاح هو مبدأ التمتع واللهو ونحو ذلك، وهذا هو المقصود الأعظم من النكاح، والمحرم حاله حال تباعد عن ذلك، ولأجل ذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح أنَّ النبي ﷺ قال: «لَا ينكِحُ المحرِمُ ولا يُنكِحُ ولا يخطُبُ ولا يُخطَبُ» ، ولأجل ذلك مُنع المحرم من عقد النكاح، سواء كان زوجًا، أو زوجة، أو وليًا، أو وكيلاً فيه، ففي كل هذه الأحوال لا يجوز للإنسان أن يعقد النكاح حال كونه مُحرمًا.
هل يدخل في ذلك الخطبة؟
الخطبة يكرهونها، ولكنهم يقولون: لا يترتب عليها شيء، وهي ليست من الدخول في عقد النكاح حقيقة، وبناء على ذلك قالوا: إنها مكروهة، ولكنها لا تبلغ أن تكون يمنع منها.
الرجعة، يعني لو أنَّ شخصًا قد طلق زوجته طلقة أو طلقتين وهي لا تزال في العدة، فأراد مراجعتها فيقولون: إن هذا استبقاء للنكاح واستدامة له، وبناء على ذلك لم يكن ممنوعًا منه المحرم، كما هو بالنسبة للنكاح.
فإذًا لا يمنع منه باعتبار أنه استدامة للعقد واستبقاء له، وهذا يحتاج إليه كثيرًا، مثل: شخص يعرف أنه لا يحل من إحرامه إلا بعد انتهاء عدتها، ويخاف أن تفوت عليه زوجته، فنقول: يجوز لك أن تراجع امرأتك حتى وإن كنت محرمًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- (وَعَقْدُ نِكَاحٍ، وَجِمَاعٌ، وَمُبَاشَرَةٌ فِيمَا دُونَ فَرْجٍ) }.
أمَّا الجماع فهذا ظاهر، وهو الإدخال في فرج أصلي، قبلا كان أو دبرا، فلا يجوز للإنسان أن يفعل ذلك حال كونه محرمًا، وهذا أيضًا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم، ولا يختلفون فيه، ولأنه أعظم ما يكون من الترفه، فإذا كان قد مُنِعَ من الطيب وعقد النكاح، فلا بد أن يكون الجماع ممنوعًا من باب أولى.
قال أهل العلم: (ومقدماته كذلك) ، ولذلك قال: (وَمُبَاشَرَةٌ فِيمَا دُونَ فَرْجٍ) ؛ لأنه يحصل بها أيضًا الترفه، ويحصل بها التمتع، وهي مقدمة إلى الجماع، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:107]، والرفث عند أهل العلم هو الجماع، ويدخل في ذلك ما يكون من مُقدماته، من: تقبيل، ومضاجعة فيما دون الفرج، كمفاخزة ونحوها، فإنها داخلة في هذا، ويمنع منها المحرم حال إحرامه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَفِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعرَاتٍ، وَثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ فَأَقَلَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَفِي الثَّلَاثِ فَأَكْثَرَ دَمٌ) }.
بعد أن عَدَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- المحظورات التسع السابقة؛ أراد أن يُبين ما الذي يجب حال وقوع المحرم في واحد من هذه المحظورات، فقال: (فَفِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعرَاتٍ، وَثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ فَأَقَلَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ) يعني: أن الفدية واجبة في المجموع، وبناء على ذلك، إذا كان الإنسان قد قطع شعرة أو شعرتين وحصل منه المحظور، ولكن لم يبلغ ما تجب فيه الفدية، فلأجل ذلك جاء عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنهم أوجبوا فيها حفنة طعام، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أن في كل شعرة طعم مسكين، وهو مد بُر، أو نصف صاع مما سواه، وبعض أهل العلم يُطلق أنه يتصدق بشيء، فيجعل ذلك أوسع قليلا.
وعلى كل حال، وعلى طريقة الفقهاء -رحمهم الله- أنهم يضبطون الأشياء ويبينون حدودها حتى يكون ذلك أنفع للمكلف، وأتم لبراءة ذمته، فلأجل ذلك قالوا: طعام مسكين، وهو مُد بُرٍّ، أي: ربع الصاع.
فبناء على ذلك يتصدق بهذا، ويكون سببًا للفكاك من هذا؛ لأن الله -جل وعلا- أوجب الفدية في حلق الشعر، الذي هو مجموع الفدية، فالفدية واجبة في المجموع، وحلق شعرة أو شعرتين داخل في المحظور أيضًا، فلا هو داخل في عموم الفدية، ولا هو مُتخلص من المحظور، فلأجل ذلك هب الصحابة أخذًا معنى الفدية إلى إيجاب هذا الشيء القليل فيه.
ومثل ذلك أيضًا: تقليم ظفر أو ظفرين، مثل: قطع شعرة أو شعرتين، فإذا كان أكثر من ذلك؛ وجب فيه الدم، والدم هي عبارة عند الفقهاء في المحظورات يقصدون بها أحد ثلاثة أشياء، على ما سيأتي في باب الفدية، أنها: إمَّا صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.
وليس المقصود بالدم هنا هو أن يذبح شاة لا محالة، فإن هذا إنما يكون في ترك الواجب، الذي هو ترك مثل: ترك الإحرام، أو ترك المبيت بمزدلفة، أو ترك رمي الجمار.
إذًا ترك الواجب فيه دم، الذي هو ذبيحة لا غير، وأما فعلُ محظور من المحظورات المتقدمة، سوى ما يأتي بيانه أو تخصيصه، فالأصل أنَّ فيه أحد هذه الأشياء الثلاثة، وسيأتي تفصيل ذلك، منها ما لا يجب فيه شيء، وهو عقد النكاح؛ لأنهم يقولون عن عقد النكاح: هو لا ينعقد فوجوده كعدمه، فلأجل ذلك لم تجب فيه فدية، وسيأتي ما يتعلق بإفساد الحج والعمرة بالجماع، وتفصيل ما يجب فيه بإذن الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِلَاصِق، وَلُبْسَ مَخِيطٍ، وَتَطَيُّبٍ فِي بَدَنٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ شَمٍّ، أَوْ دَهْنٍ الْفِدْيَةُ) }.
قال: (وَفِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِلَاصِق) سبق معنا أن تغطية الرأس محظور من محظورات الإحرام، وقد تقدم هناك أن قلنا: إنَّ تغطية الرأس إن كان بملاصق فلاشك أنه داخل في المحظور، وإذا لم يكن بملاصق فلا يخلو إمَّا أن يكون ثابتًا كخيمة أو شجرة أو نحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه ولا حرج، وإمَّا أن يكون بمُتحرك أو منقول كأن يظلل بثوب، أو بمظلة شمسية، أو بسيارة، أو نحو ذلك، فهذا مختلف فيه، ومشهور المذهب -وإن كان المؤلف هنا على خلاف المذهب- مشهور المذهب أنه داخل في الممنوع، واعتمدوا في ذلك على ما جاء عن ابن عمر، قال: "أضح لمن أحرمت له" يعني: من الإضحاء، وهو مواجهة الشمس ومقابلتها، ولكن ما عليه أهل التحقيق، كما مر بنا في المجلس الماضي، وهو قول في المذهب، وهو الذي صار عليه المؤلف هنا، وقول الجمهور: أنَّ غير الملاصق لا يعتبر محظورًا من محظورات الإحرام، وفيه ما يدل على ذلك أيضًا في السنة، أن النبي ﷺ ظُلل بشيء من شدة الشمس لما كان في يوم النحر، فدل على أن تغطية الرأس بغير الملاصق غير ممنوع، وأمَّا تغطية الرأس بالملاصق فيها الفدية، وسيأتي بيانها بإذن الله -جل وعلا- وهذا مخصوص بالملاصق، كما قلنا على الخلاف المتقدم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلُبْسَ مَخِيطٍ) }.
ما معنى (لُبْسَ مَخِيطٍ) ؟ هو ما فصل على عضو من أعضاء البدن، سواء كان فيه خياطة أو لا خياطة فيه، وبعض الناس يتوقى ما فيه خياطة، وليس هذا هو مقصود الشارع، بل مقصود الشارع هو ما فصل على عضو من أعضاء البدن، وهذا إظهار المسلم في حال الإحرام بحال التنسك والتخلص حتى من الألبسة المعتادة، أو الألبسة التي يستريح بها، أو يتجمل بها، أو ما هو أكثر من ذلك.
فلأجل ذلك لبس المخيط المقصود به: المخيط على عضو، وبعض الفقهاء يعبر بالمحيط يقولون: ما حاط بعضو من الأعضاء، ولذلك قالوا: بإزارٍ ورداء. أليس كذلك؟
ومع هذا قالوا: ولا يعقد رداءه، ومعنى هذا أنه حتى الآن الذي يشبك الرداء بمشبك، أو يجعل له أزرارًا كما يفعل البعض، فهذا ينقله إلى حكم المخيط المحدود.
والعكس بالعكس، وهذا أشرنا إليه في المرة الماضية، أنه لو كان عنده رداءان صغيران لا يحيطان ببدنه، فضم بعضهما إلى بعض وخاطهما، ثم جعلها على هيئة الرداء لم يمنع أن يكون ذلك لباسا صحيحا، ولم يكن عليه في ذلك محظور، وأمَّا الإزار فيعقد؛ لئلا يسقط فتتبين عورته.
ومما يدل على أن هذا الأمر محدود بهذا الحد فلا يتوسع فيه؛ لأنه كما قلت أيضًا: إن بعض الناس الآن صاروا يتوسعون، ويلبسون ما يسمى بهيئة التنورة، والذي يسميه السابقين النقبة، وتخاط على ذلك، وتجعل عليها أحيانا تسويقًا فتوى معينة أو كذا، هذه في الحقيقة داخلة في المخيط الممنوع عند أهل العلم إجماعًا فيما تقدم.
فلا ينبغي أن نتوسع فيه، ناهيك أنهم يجعلون فيها أماكن تحفظ فيها الأشياء ونحوه، ولأجل ذلك حتى الحزام الكبير يمنعون منه إلا للحاجة. وهو الهميان إذا أرادوا أن يضعون فيه يعني ما نفقة ونحوها. لا بد لهم منها من أول ما فيه إلا أن يحفظون نفقتهم مع ولو تركوها قليلا لذهبت أو تسورت عليها يد اللص وغيره.
وبناء على ذلك يعلم ما يتعلق بهذه الأمور علما تامًّا، والعجب أن الناس في هذا الزمان لا تطول مدة إحرامهم، لما سخر الله -جل وعلا- من وسائل الوصول إلى بيته في أسرع وقت وأسهله. ومع ذلك يتبرمون من هذه الألبسة ويتضايقون، فإذا علم الإنسان أنها هي مقتضى الاستنان بسنة النبي ﷺ، وأن هذا هو المقصود الأعظم، وهو التخلي عما ألفته وتترفه وتتمتع به من ألبسة ونحوها، وأنك تتعبد لله بذلك، فينبغي للإنسان ألا يذهب هنا أو هناك ليتكلف، فيجد ما يلائم من هذه المشابك أو هذه النخبة أو خلافها.
حتى في الخفاف، وخفاف الناس الآن يلبسونها كثيرًا، فالخفاف أيضا مما فصلت على عضو فيمنع منه، ومثل ذلك الجوارب أيضًا، لا يجوز للمحرم أن يلبسها.
طيب إذا كان الخف أنزل من الكعب، فقد جرى في هذا الخلاف، ولكن مشهور المذهب، وقول جمع من أهل العلم، أنه داخل في الممنوع، وهو في حكم الملبوس على عضو معين، فينبغي للإنسان أن يتوقاه قدر استطاعته؛ لأن الواجب على العبد أن يتوقاه لا محالة، ولا يلبس ذلك إلا استثناءً، فمن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين. وقد أذن بذلك النبي ﷺ.
واختلف الفقهاء هل تقطع أو لا تقطع؟ وآخر الأمرين ترك قطعهما لئلا تفسد ولبسهما على ذلك، وهذا حال استثني فيه المحرم من جواز لبس المخيط.
ولبس المخيط هو مخصوص بالرجل، وأمَّا المرأة فحل لها أن تلبس ما شاءت، وسيأتي بيان ذلك -بإذن الله -جل وعلا-- وبيان ما تمنع من النقاب والقفازين.
قال: (وَتَطَيُّبٍ فِي بَدَنٍ، أَوْ ثَوْبٍ) هذا من المحظورات، فلا يتطيب في ثوبه كما لا يتطيب في بدنه، واستثني من ذلك من تطيب في البدن قبل إحرامه، فله استدامته، ولكن لا يمسه قصدًا، ولا يحركه فينقله من مكان إلى مكان، وإلا أعتبر كأنه قد استجد له طيب.
ومثل ذلك لو كان ثمَّ طيب في الثوب، الذي هو الإزار أو الرداء قبل الإحرام فهو مكروه كما تقدم، ولكن بعد الإحرام يمنع منه، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن خلعه لم يجز له أن يلبسه؛ لأنه يلبس ثوبًا مطيبًا حال إحرامه، وهو ممنوع من ذلك، فلأجل هذا يتوقاه الإنسان.
وذكر بعض أهل العلم حالة مستثناة في الطيب، وهو أنه إذا أراد أن يشتري طيبًا للتجارة، فَشَمَّه لهذا القصد، فبعضهم يقول: إنَّ هذا لا يقصد منه الترفه، وبالتالي يدخل في المأذون فيه، ولكن ينبغي للإنسان أن يتوقى ذلك إلا أن يحتاج إليه.
هل يدخل في التطيب ما يكون في طعام أو شراب؟ لأن بعض الأطعمة الآن يوضع فيها بعض الطيب وهو الزعفران، الزعفران منصوص على النوع طيب عند المتقدمين. ولم يزل كذلك أيضا عند جمع من المتأخرين، فإذا وضعت في طعام كأرز أو في قهوة أو في مشروب آخر أو غيره.
فيقولون: هذا الاستعمال لا محالة، فما دام أنه استعمال للطيب فيمنع منه حال الإحرام، وهذا هو الأظهر في قول أهل العلم.
قال: (أَوْ شَمٍّ) كما قلنا: إن شمَّ الطيب إلا أن يكون لغير التغافل كالتجارة.
قال: (أَوْ دَهْنٍ) تطيب بدهن كما تقدم قبل قليل، وهذا داخل في المحظور فتكون فيه الفدية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا مَأْكُولًا بَرِّيًّا أَصْلًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ) }.
إذًا الصيد الذي يمنع منه المحرم لو فعله ما الذي يجب عليه؟ هل عليه فدية؟
يقول المؤلف: لا، الصيد فيه الجزاء، ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ [المائدة:95]، فبين الله -جل وعلا- أنَّ فيه الجزاء.
يقول المؤلف -رحمه الله-: ما دام صيدًا، ومأكولاً بريا لا بحريًا -كما تقدم- أصلا بأن لا يكون قد توحش أو نحوه، فعليه الجزاء، والجزاء منه ما هو ما له مثل، ومنه ما لا مثل له، وسيأتي -بإذن الله -جل وعلا-- تفصيل ذلك في باب الفدية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْجِمَاعُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فِي حَجٍّ، وَقَبْلَ فَرَاغِ سَعْيٍ فِي عُمْرَةٍ، مُفْسِدٌ لِنُسُكِهِمَا مُطْلَقًا، وَفِيهِ لِحَجٍّ بَدَنَةٌ، وَلِعُمْرَةٍ شَاةٌ، وَيَمْضِيَانِ فِي فَاسِدِهِ، وَيَقْضِيَانِهِ مُطْلَقًا إِنْ كَانَا مُكَلَّفَيْنِ فَوْرًا، وَإِلَّا بَعْدَ التَّكْلِيفِ، وَحَجَّةِ الإسْلامِ فَوْرًا) .
قال: (وَالْجِمَاعُ) الجماع محظور من محظورات الإحرام -كما تقدم- ما الذي يجب على من فعله؟ يقول أهل العلم: إن الواجب عليه خمسة أشياء، وهي:
أولاً: أنه فسد حجه الذي هو فيه، ووجب عليه المضي في ذلك الحج، كما جاء عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وهذا هو مفهوم الصحابة من قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]، فأمر بإتمامهما على الإطلاق، سواء كانا في ذلك قد تمَّ على وجه صحيح أو على وجه فاسد، فيمضيان فيه، ويجب فيه القضاء.
ويقول أهل العلم: إنهما يتفرقان في القضاء، إذا وصل إلى المكان الذي قد جامع فيه يتفرقان، قالوا: بأن لا يجمعهما مكان واحد، ويهتفان فيه، لكن لا يبعد عنها أبعاد لأنهما لا ينفكان من أن يصطحب أحدهما الآخر في سفرهما، وأن يكونا في تنقلهما وفي إمساكهما، ولكن لا يضمهما مكان واحد، ولا يتحدثان فيسترسلان فيه. والنقطة الرابعة هذه مندوب إليها وسنة، وأمَّا الخامسة أن عليه البدنة على ما سيأتي.
لكن متى يكون الجماع مفسدًا أو ليس مفسدا؟
هذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، وهو: (الْجِمَاعُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فِي حَجٍّ) ، فلو حصل من الإنسان جماع في يوم عرفة، أو قبل يوم النحر، أو في يوم النحر قبل أن يتحلل التحلل الأول، ففي هذه الأحوال الثلاثة نقول: إن حجه قد فسد، ولا يصح منه ذلك الحج، وإن كان يلزمه المضي في فاسده، والبقاء على ذلك الإحرام، وإتمامه على الحال التي هو فيها، خلافًا لمن يقول من أهل العلم: إنه يمكن أن يتحلل بعمرة، ويبدأ إحرامًا جديدًا، ويكون صحيحًا في ذلك.
إذًا ما دام أنه قبل التحلل الأول؛ فإن الحج فاسد.
ما التحلل الأول؟
سيأتينا -بإذن الله- وهو أن يفعل اثنين من ثلاثة أعمال يوم النحر، وهي: رمي الجمرة، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، هذه الأفعال الثلاثة إذا فعل اثنين منها؛ فقد تحلل التحلل الأول، ولم يبق عليه إلا التحلل الثاني، والتحلل الأول لا يمنع فيه من لبس ولا طيب ولا سواه إلا شيئًا واحدًا وهو الجماع ومقدماته.
طيب متى يكون في العمرة مفسدًا لها؟
قالوا: (قَبْلَ فَرَاغِ سَعْيٍ فِي عُمْرَةٍ) يعني: من أحرم بعمرة، وحصل منه ذلك قبل طوافه، فهذا مفسد للعمرة إجماعًا، ويمضي فيه، ومن حصل منه بعد طوافه وقبل سعيه فهذا مفسد له في قول جماهير أهل العلم.
ومن فعله بعد السعي وقبل أن يحلق فهنا يقولون: غير مفسد لها.
إذًا ما دام أنه قبل تمام السعي، فهذا هو الذي نحتاج إليه الآن، ويكون مُفسدًا للعمرة.
ما الذي يوجبه فساد هذه العمرة؟
يوجب ذلك قضاء العمرة، ويلزمه فيها بدنه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (مُفْسِدٌ لِنُسُكِهِمَا مُطْلَقًا) يعني: بالنسبة للحج قبل التحلل الأول، وبالنسبة للعمرة قبل تمام السعي.
(وَفِيهِ لِحَجٍّ بَدَنَةٌ) ، وذلك حكم الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم-، وهذا أيضًا تعظيم لأمر الحج؛ لأن الجماع انتهاك له أشد ما يكون، وهنا ينبغي للحجيج خاصة أن القوافل تجتمع، وأن الناس يقتربون من بعض، أن يتوقوا أسباب الفتنة، فمهما كان الإنسان فيه من عبادة، ومهما تلبس فيه لله -جل وعلا- من النسك؛ فإن ذلك ليس بمنأى أن يلعب به الشيطان، وأن تدخل عليه الأهواء والرغبات، وكم سمعنا في الحج الكثير من الأحداث والأمور العظام، وانتهاك حرمة الحج وإفساده ما الله به عليم.
لِمَ يقال هذا الكلام؟
يقال هذا الكلام لأنَّ بعض الناس يلعب بهم الشيطان، فيقول: الناس في حج، وإذا اجتمع مع ذلك ضيق مكان أو حاجة إلى اختلاط في دورات مياه أو غير ذلك، سهل على الناس أسباب الفتنة، وأبعد عنهم الشيطان داعي الشر، فظنوا أنهم بمنأى منه، حتى إذا وقعوا في البلاء عضو أصابع الندم، و "لَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ". لحق بهم ما لحق من إفساد هذه النسك العظيم، وتعريض أنفسهم لهذا الأمر الكبير، فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَفِيهِ لِحَجٍّ بَدَنَةٌ) وهذا حكم الصحابة.
قال: (وَلِعُمْرَةٍ شَاةٌ) قالوا: لأن الحج باب أعظم من العمرة.
هل المقصود بذلك الشاة التي هي دم يذبح؟ أو أن المقصود فدية أذى التي هي مخير فيها بين ثلاثة أشياء؟
بعضهم يطلق ثم يحصل في ذلك شيء من الارتياب في معناه، لكنهم يفسرونها بأنها فدية أذى، وبعضهم يخصها بالدم.
قال: (وَيَمْضِيَانِ فِي فَاسِدِهِ، وَيَقْضِيَانِهِ مُطْلَقًا إِنْ كَانَا مُكَلَّفَيْنِ فَوْرًا) القضاء واجب لا محالة، ولكن متى يجب القضاء؟
الأصل أنه فورًا، فإذا فسدت حجته هذه السنة وجب عليه أن يحج من قابل، وإذا فسدت عمرته وجب عليه أن يسرع إليها متى ما أمكنه، فيأتي بعمرة القضاء والتي يقضي بها ما فسد من عمرته الأولى.
قوله: (وَإِلَّا بَعْدَ التَّكْلِيفِ، وَحَجَّةِ الإسْلامِ فَوْرًا) ولكن قالوا: والى بعد التكليف إذا كان الذي أفسد حجه صغيرًا، كما لأنه يمكن أن يكون منه جماع، فيقولون: إنه بعد التكليف وبعد حجة الإسلام؛ لأن حجة الإسلام أسبق، ووجوبها أعظم، وبناء على ذلك كانت ألزم على غير المكلف تتعلق بذمته، متى ما بلغ وجبت عليه حجة الإسلام، ثم فعل هذه الحجة، حجت حجة القضاء فورا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يَفْسُدُ النّسكُ بِمُبَاشَرَةٍ، وَيَجِبُ بِهَا بَدَنَةٌ إِنْ أَنْزَلَ وَإِلَّا شَاةٌ، وَلَا بِوَطْءٍ فِي حَجٍّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي، لَكِنْ يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ فَيُحْرِمُ مِنَ الْحِلِّ لِيَطُوفَ للزِّيَارَةِ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ، وَيَسْعَى إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى، وَعَلَيْهِ شَاةٌ) .
قال: (وَلَا يَفْسُدُ النّسكُ بِمُبَاشَرَةٍ) أي أن النسك لا يفسد بمباشرة دون الجماع، فإذا كان منه ضَمٌّ مثلا أو تقبيل، أو اجتمعت أشياء من ذلك، ولكنه لم يصل إلى الأمر الأعظم الذي هو دخول ذكره في فرجها، بتغييب الحشفة أو قدرها؛ فإنه لا يكون بذلك قد فسد نسكه، لكنه فاعل لمحظور من محظورات الإحرام، فيقول أهل العلم: إن كان قد أنزل، فمعنى ذلك: أنه قد حصل منه استفراغ لشهوته، وترفه أكثر، فأوجبوا عليه بدنة، وأما إذا لم يكن كذلك فحصل منه مجرد التمتع، وتفريغ ما في النفس من شوق أو سواه، فيقولون: إنه تجب عليه شاة.
قال: (وَلَا بِوَطْءٍ فِي حَجٍّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي) إذًا هنا النهى عما يتعلق بالجماع قبل التحلل الأول، وأيضًا والإنزال المباشرة دون الجماع.
طيب ما بعد التحلل الأول -كما قلنا- ما بعد التحلل الأول هو يعني أن يكون قد فعل الاثنين من ثلاثة، هنا يقولون: إنَّ الوطء في مثل هذه الحال لا يفسد الحج؛ لأن الشرع في أعمال التحلل وهو أقرب إلى أن يكون حلالا من إلى أن يكون محرمًا، فحجه صحيح لا محالة، وبناء على ذلك ما الذي يجب عليه؟
يقولون: عليه شاة، هذا من جهة ما يجب عليه. ومن الجهة الأخرى، يقولون: إن الإحرام الذي هو فيه فسد، بمعنى أنه لا بد أن يحرم من الحل، وهذه في الحقيقة فيها شيء من الإشكال، فبعضهم يقول: إن طواف الإفاضة إنما هو طواف دون إحرام، ولكن يقولون مقتضيات الإحرام باقية، بعضها متعلقات الإحرام باقي بعضها، فعلي كل حال الذي ذكروه هنا أنه يذهب إلى الحل في حرم ثم ليفعل ذلك بإحرام صحيح لا ليس فيهما يفسده، فلأجل ذلك قالوا: إنه يحرم إلى الحل، ولكن هذا مُقيد في ماذا؟
فيما إذا لم يكن تحلله الأول كان بطواف، وأما إذا كان بطواف ما عاد عليه طواف أصلا هو، فبناء على ذلك لا يحتاج إلى هذا إلا أن يكون محتاج إلى طواف الإفاضة، كما قلنا من هذا عندهم إنه لئلا يكون طوافه للإفاضة بإحرام قد فسد، أو حصل مع يفسده، فلأجل ذلك أمر بهذا، وهذا محل بحث ونظر من بعض الفقهاء، وربما تأتي من الفتاوى ما هي مخالفة لذلك، ولها وجهة نظر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِحْرَامُ امْرَأَةٍ كَرَجُلٍ إِلَّا فِي لُبْسِ مَخِيطٍ، وَتَجْتَنِبُ الْبُرْقُعَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَتَغْطِيَةَ الْوَجْهِ، فَإِنْ غَطَّتْهُ بِلَا عُذْرٍ فَدَتْ) }.
وإحرام امرأة كرجل، فهذا يدخل فيه كل ما تقدم، سواء كنا من حلق شعر، أو تقليم أظفار، أو مس طيب، أو جماع، أو عقد نكاح، أو فيما دون الفرج، وكل ما تقدم مثل الرجل سواء بسواء إلا في لبس المخيط وتغطية الوجه، فهي يجوز لها أن تلبس من المخيط ما شاءت، فليس عليها أن تلبس ثيابًا معينة، وليس لها ثياب مخصوصة لإحرامها -كما تقدم معنا- وبناء على ذلك تلبس ما شاءت، ولكن تجتنب البرقع والنقاب؛ لأنه بمعناه، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين.
كثير من النساء اللاتي اعتدن لبس النقاب، إذا حرمت يشكل عليها كيف تفعل، فهل إذا غطت هذا النقاب يذهب حكمه أو لا يذهب؟ الحقيقة أنه ما دام أنه يبقى له أثر أو ظهور يعني بأنه يتمايز هذا عن ذا، فلا يزال حكمه باقيًا.
وأمَّا لو افترضنا أنه قد انتهى حكمه، كأنه قطعة واحدة فانتهى حكم القفاز، يعني كأنها قطعة سوداء، فمثلا بعضها مقطع من جهات، ولكن لا يعتبر نقابا ولا برقعا، فبناء على هذا لا تلبس البرقع أو النقاب، ولا بد أن تتخلص منه بما يحصل به ستر وجهها إذا احتاجت، وامتناعها عمَّا لا يحل للمحرمة حال الإحرام، وهو لبسهما.
والقفازان أيضا ممنوعة منه المرأة، في كما جاء بذلك الحديث، وهما ما يلبسان على اليدين، وأحيانا فيما مضي يلبسونها لاتقاء الحرث، ويلبسونها أيضا لكمال الستر، وهو أكثر ما يكون في هذا الوقت، ولكن يمكن ستر يديها بأن تجعلها داخل ثيابها دون إبدائها.
قال: (وَتَغْطِيَةَ الْوَجْهِ) لا تغطي المرأة وجهها إلا إن احتاجت إليه، لِمَا جاء في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- في أنهن لَمَّا كن محرمات كن يكشفن وجوههن، تقول: «حتى إذا حادانا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها». فيكون تغطيتها لوجهها إنما هو على سبيل الاحتياج، وعلى سبيل ما يعرض لها من سبب، وإلا فالأصل أنها لا تفعله.
قال: (فَإِنْ غَطَّتْهُ بِلَا عُذْرٍ فَدَتْ) ، بخلاف الرجل فليس له إحرام في وجهه.
طيب بالنسبة للبس الكمامة، لبس الكمامة بالنسبة للرجل ما دام أن تغطية الوجه له لا شيء فيها، فلا إشكال في أنه لا غضاضة عليه إن لبسها حال إحرامه، ولكن المرأة الذي يظهر والله أعلم أنها أقرب ما تكون إلى هيئة النقاب، فإذا كانت شبيهة بالنقاب فتأخذ حكمه، فتكون المرأة في تلك الحال ممنوعة منه.
طيب إذا احتاجت إلى لبس الكمامة، فنقول: لا يمكن أن تلبس الكمامة، ولكن تغطي بقية وجهها بما يمنع أن تكون كهيئة منتقبة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْفِدْيَةُ.
يُخَيَّرُ بِفِدْيَةِ حَلْقٍ وتَقْلِيمٍ وَتَغْطِيَةِ رَأْسٍ رجل، وَطِيبٍ، بَيْنَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ) }.
هذا فيما يجب في فداء من فعل محظورًا من محظورات الإحرام، ولَمَّا كان المكلف مأمور بإتمام حجه؛ لقول النبي ﷺ: «والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ» ، أو «منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ» ، ومن الفسوق فعل المحظورات التي نهى الله -جل وعلا- عنها، ولذلك فقد شرع الله -جل وعلا- لمن احتاج إلى ذلك أن يأتي بفدائها، وهذا أصله ما جاء في حديث كعب بن عجرة، لَمَّا تأذى مما أصابه من القمل، ولم يستطع أن تزول منه إلا بحلق شعره؛ أَذِنَ له النبي ﷺ بذلك، وقال: «صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِن طَعَامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ» ، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ الكفارة في المحظورات، سواء كان بحلق الشعر، كما في الحديث، أو ما ماثله على سبيل عموم المعنى ودخولها في كونها جميعا محظورات الإحرام، وهذه الفدية على سبيل التخيير.
فينظر الإنسان فيما كان عليه، فمن كان لا يجد سعة من المال فالصيام أيسر عليه صام، ومن وجد سعة في ماله ولا يجد ذبيحة لقلة البائعين أو لصعوبة الوصول إلى ذلك، أَطْعَمَ ستة مساكين، ومن أراد أن يذبح ويتكثر من الأجر، وينفع الخلق، ويستكمل التخفف مما ألم به من المحظور، فيفعل واحدًا من هذه الثلاثة.
{أحسن الله إليكم. نكتفي بهذا القدر}.
طيب نجعل هذا الفصل (الْفِدْيَةُ) من بداية الدرس القادم، حتى يكون الكلام متسقًا.
أسأل الله لنا ولكم دوام التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم ممن تمسكوا بالعلم، واستمسكوا بحبله واستناروا في طريقهم به، وتعبدوا الله -جل وعلا- على علم، وهدى، وبصيرة، وعلى جادة ملؤها الهداية والتقوى، والاستقامة على البر والطاعة والقربة لله -جل وعلا-، وأن يتولانا وإياكم برحماته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله خيرا. أعزاءنا المشاهدين نستكمل ونتم ما تبقى في مجالس قادمة -إن شاء الله- وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.