الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الأول

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في (المستوى الرابع) من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للعلامة محمد بن بلبان الدمشقي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ. حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، وحياكم الله.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم تفضل بالله.
{قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (فصل. يُسَنُّ صَوْمُ أَيَّامِ اَلْبِيض وَالْخَمِيس وَالْاِثْنَيْنِ، وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَشَهْرِ اَللَّهِ اَلْمُحْرِمُ، وَآكَدُهُ اَلْعَاشِرُ ثُمَّ اَلتَّاسِعُ، وَتِسْعِ ذِي اَلْحِجَّةِ، وَآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا.
وَأَفْضَلُ اَلصِّيَامِ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم ممن أقام منار العلم، وانتفع به، وعمل بما علم، ووفقه الله -جل وعلا- للإخلاص، وأعانه على الثبات، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولأزواجنا، ولجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة طلاب العلم، في هذه الجادة التي نسأل الله -جل وعلا- أن نكون ممن استقام عليها، واستقى من معينها، واستفاد من منازلها، وأن يجعل ما نبلغ فيها الغايات، ونحقق فيها الأمنيات، وأن الخير والهدى أبد الدهر يا رب العالمين.
لم يزل الحديث موصولاً -أيها الطلاب- في (كتاب الصيام) وهو كتاب عظيم، ومن القربات التي يتقرب بها العبد لله -جل وعلا-، وتقدم معنا ما يتعلق بالصيام من حيث أصله، والصيام فيه ووجوب ذلك، وما يتعلق بالمفطرات والمسائل المتعلقة بهذا، وقد تقدمت هذه المسائل بجملتها وتفاصيلها، إلى أن انتهينا إلى أحكام القضاء وما يتعلق به.
وهذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك على طريقة أهل العلم، أنهم إن انتهوا مما وجب ألحقوا به ما يستحب، وذلكم أصل صحيح في أن المستحب يتمم الواجب ويكمل نقصه، كما في سنن الرواتب وصلوات النفل، وصيام الحج النفل، وصدقة التطوع مع الزكاة المفروضة، وغير ذلك، وكذلك الصيام النفل مع صيام الواجب.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يُسَنُّ صَوْمُ أَيَّامِ اَلْبِيض) ، وهذه العبارة من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيها إجمال، فهو جمع بين مسألتين:
أولاهما: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء كانت البيض أو غيرها، وهذا هو منصوص المذهب، وهو الذي جاءت به السنة، ففي الصحيح عن أبي هريرة وأبي بكر: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ» ، ويستحب أن تكون تلكم الأيام هي الأيام البيض، والأيام البيض هي الأيام وسط الشهر، "الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر" كما جاء ذلك عند الترمذي، حينما أوصى النبي بصيام ثلاثة أيام، قال في تمام ذلك: وهي: «اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر»، وسميت بيضًا لأنَّ لياليها تبيض لاكتمال نور القمر وبهائه، فيستحب للإنسان أن يصوم هذه الأيام الثلاثة، وكمال ذلك وتمامه أن تكون الأيام البيض.
وعبارة المؤلف قد يفهم منها الاقتصار على هذه الأيام فحسب، وهذا ربما لم يكن مقصودًا، وإنما حمله على ذلك شيء مما بنى عليه هذا الكتاب، وهو أن سماه أخصر المختصرات.
ثم قال: (وَالْخَمِيس وَالْاِثْنَيْنِ) ، الخميس والاثنين مستحب صيامهما، وهما من الأشياء التي اشتهرت عند العوام، وجرى عليها عمل كثير من الصوام العباد، واستحباب صيامهما.
أمَّا الاثنين فلا إشكال فيه، فقد روى ذلك مسلم في صحيحة، أنَّ النبي قال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ» فأحب أن أصومه.
ويوم الخميس أيضًا جاء ذلك في الحديث الذي عند أهل السنن، وإن كان في أسانيده مقال، ولكن استحباب صيامه هو قول عامة أهل العلم، قال: «تُعْرَضُ الأعمالُ على اللهِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فأُحِبُّ أنْ يُعرضَ عملي وأنا صائمٌ» ، ولا شك أنَّ استحباب صيامهما ظاهر في السنة، ومعتبرٌ عند أهل العلم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ) ، أي أنَّ صيام ستة أيام من شوال مستحب، وهي تعتبر من الصيام الذي تعلق بالواجب، ولذلك بعض أهل العلم يعتبرها مثل الراتبة، كما أن الراتبة للظهر قبلها وبعدها، فيقولون: إن صيام شهر شعبان هو الراتبة قبل صيام رمضان، وصيام ستة من شوال هي الراتبة بعده.
وجاء ذلك أيضًا عند مسلم في صحيحه، من حديث أبي أيوب قال: قال : «مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ»، أو «فكأنما صام الدهرَ» ، والمقصود بالدهر هنا: العام، وذلك أنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فإذا صام ثلاثين يومًا -وهو شهر رمضان- وأتبعه ستًا من شوال كان صيامه ستًا وثلاثين يومًا، أي: ثلاثمائة وستين في الأجر والمثوبة.
والذي يظهر أن اختصاص صيام الست من شوال أنَّ الحسنة بعشر أمثالها في الجملة، ولكن يظهر من هذا الحديث أنها بمكان صيام الفرض، أو ملحقة به، فيعظم أجرها على ما سوى ذلك من النفل.
قال: (وَشَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ) هذا أيضًا جاء في الصحيح، واستحباب صيام شهر المحرم ظاهر، وهو أيضًا من الأشهر الحرم، التي حرمها الله -جلا وعلا- فكان صيامه من الصيام المؤكد، ولذلك جاء في الحديث أنَّ «أَفْضَل الصِّيَامِ بعْدَ رَمضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المحرَّمُ» ، وثبت عنه كما قلنا قبل قليل أنه كان يصوم شعبان إلا قليلا، وقد ذكر أهل العلم التفاضل في ذلك، وابن رجب -رحمه الله تعالى- على طريقته في نظره وحُسن استنباطه وجمعه بين الآثار والمرويات، قال: إن هذا على جهة الاستقلال هو أفضل شهر، وأمَّا على جهة التابع وتعلقه بشهر رمضان فشهر شعبان -جمعًا بين الأحاديث- على ما مر بيانه قبل قليل.
ثم قال: (وَآكَدُهُ الْعَاشِرُ ثُمَّ التَّاسِعُ) العاشر هذا ظاهر؛ لأنَّ صيام العاشر من شهر الله المحرم جاء فيه حديث بخصوصه، وفيه فضل بعينه، فإنَّ صيامه يكفر سنة كاملة من الذنوب والمعاصي، والمقصود بذلك عند أهل العلم: صغائر الذنوب لا كبائرها، فإنَّ الكبائر لا بد فيها من التوبة عند الله -جل وعلا-، ولأجل ذلك كان صيام العاشر هو آكد ما يكون في شهر الله المحرم، فإن صام معه التاسع فذلك يحصل به مخالفة اليهود، فإنَّ النبي قال: «لئِنْ بَقِيتُ إلى قابِلٍ، لأَصومَنَّ اليومَ التاسِعَ» ، يعني: مع العاشر، فهو من منصوص على استحباب صيامه تحصيلا للمخالفة، فإذًا فيه تنصيص عليه، وفيه كذلك معنى المخالفة، ولأجل ذلك كان بعد العاشر.
ماذا عن الحادي عشر؟
قال بعض أهل العلم: إن صامه مع العاشر حصل به المعنى الثاني، وهو المخالفة، ولكن التنصيص -لا شك- أنه جاء في اليوم العاشر على وجه أتم، وأمَّا حديث «صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا» ففيع مقال وحديث مسلم أصح في هذا وأظهر في الاحتجاج والاعتماد، وعلى كل حال، فصيام يومًا قبله أو يومًا بعده يحصل به تمام المخالفة، والاستنان بالنبي .
هل تستحب صيام هذه الأيام الثلاثة؟
لم يظهر من المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه أشار إلى شيء من ذلك أو اعتباره، وعلى هذا أظن جمهور أهل العلم، وجاء عن بعض أهل العلم -وأظن أنَّ أكثر من شُهِرَ عنه ابن القيم رحمه الله تعالى- بصيام هذه الثلاثة أيامـ وهو مما نقل عنهـ وربما اشتهرت بذلك الأقاويل تبعا لِمَا نُقِلَ عن ابن القيم.
قال: (وَتِسْعِ ذِي اَلْحِجَّةِ) صيام تسع ذي الحجة جاءت به أصول كثيرة:
أولها: حديث ابن عباس المشهور، والذي يحفظه الناس أجمع، أنَّ النبي قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْر» ، والعمل الصالح يشمل كل الصالحات، ومن أعظم الصالحات ما يكون فيها من الصيام كما يكون فيها من: الذكر، والتسبيح، والصدقة، والإحسان، إلى آخر ذلك.
ثانيها: قول النبي : «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» ، فجنس الصيام في هذه الأيام مَشروعًا، فإذا كان مُعتبرًا في بعضها، فهو أقرب ما يكون إلى اعتباره في بقيتها، إلا اليوم العاشر لِمَا جاء من النهي عنه، وهذا معلوم بإجماع أهل العلم لكونه عيدًا، وبناء على ذلك هو داخل أيضًا في هذا.
أمَّا ما جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي ما صامها أو نحو ذلك، فهذا لا يعني عدم مشروعية ذلك؛ اعتبارًا بالدلائل الثابتة في استحباب الصيام واعتباره، ولأجل ذلك لم يزل كلام السلف متتابعًا في التأكيد على صيامها، ومن كان من أهل العلم لا يرى جواز النفل قبل انتهاء العبد من القضاء؛ فإنهم مع ذلك يقولون: ويستحب أن يقضي في هذه الأيام، على أقل الأحوال أن يوافق قضاؤه هذه الأيام، فيكون لقضائه مزية فضل، باعتبار خصوصية هذه الأيام وفضلها.
ولكن من قال: إنه يجوز التنفل بالصيام قبل القضاء، وأن القضاء فيه توسعة إلى رمضان الآتي؛ فإنه لا شك أن يجمع الخيرات، فيصوم نفلًا هذه الأيام ثم يصوم القضاء بعدها.
ثم قال: (وَآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ) هذا ظاهر، وذكرنا الحديث الذي في الصحيح، وأنه يكفر السنة الحاضرة والماضية، فلا إشكال في ذلك، وهذا يكون لغير الحاج، وأمَّا الحاج فإنه لا يستحب له الصيام، استنانًا بالنبي ، ونحن أمة الاتباع، فنتبعه في كل الأمور قليلها وكثيرها، وهو أمر بالصيام لغير الحاج ونهى عنه الحاج، ولذلك لَمَّا أشكل على الناس أنَّ النبي صام أو لم يصم، قُدِّمَ إليه لبن فشرب منه، فعرف الناس أنه لم يصم.
وقال أهل العلم: وفي هذا إعانة للحاج على زيادة الابتهال والتذلل لله -جل وعلا- والوقوف والدعاء، وهو أحوج ما يكون إلى أن يكون في حال قوة، فيكون مفطرًا لا صائمًا؛ لئلا يتعب عن المقصود الأول في هذا اليوم وهو: زيادة الدعاء، والذكر لله -جل وعلا-، والتعرض لرحماته ونفحاته.
وبناء على ذلك ينبغي أن يكون الحاج غير صائم، وبهذا جاء النص، وفعل النبي .
ثم قال: (وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ) ، والذي جاء في الصحيح أنه صيام داود، فيصوم يومًا ويفطر يومًا، ويستثنى من ذلك الأيام المنهي عن صيامها، كأيام العيد ونحوها، ولكن ينبغي هنا أن يُعلم أنَّ من سلك صيام يوم وفطر يوم، فإنه يلتق ما سواه، بمعنى: أنه ما إذا كان يوم فطره يوم الاثنين فلا يقول أصوم يوم الاثنين؛ لأنه وافق صيام يوم الاثنين، وصيام يوم الاثنين مستحب! لا، إذا كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فما كان يوم فطره يُفطره ولو كان يوم اثنين، أو كان يوم خميس، أو كان يومًا من الأيام البيض، أو نحو ذلك من الأيام المستحبة.
فإذا كان يوم صيامه فيصم، حتى إن كان يوم الجمعة، فإنه يصومه ولا يعتبر هذا تخصيصا للجمعة، فالمنهي عنه تخصيصه باعتباره يوم الجمعة، وهذا صام يوم الجمعة لماذا؟ لا لكونه يوم جمعة، ولكنه صادف ما انتهجه من صيام يوم وفطر يوم، فيوم الجمعة استوى مع يوم الاثنين، ويوم الجمعة استوى مع يوم الأحد؛ كونه يفطر يومًا ويصوم يومًا، ولم يكن فيه نوع تخصيص.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَكُرِهَ إِفْرَادُ رَجَبٍ وَالْجُمْعَةِ وَالسَّبْتِ وَالشَّكِّ، وَكُلِّ عِيدٍ لِلْكُفَّارِ، وَتَقَدُّمُ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ مَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً فِي الْكُلِّ) }.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- لَمَّا ذكر ما يُستحب صيامه؛ أردف ذلك بما يكره، فصيام رجب كان عادة من عادات أهل الجاهلية، ولذلك عند عامة أهل العلم أنَّ صيام رجب كله منهيٌ عنه، فيفطر فيه أيامًا، أو يصوم بعضه، أو نحو ذلك، مخالفة لأهل الجاهلية، وعدم موافقة لهم.
وإفراد الجمعة أو تخصيصه منهي عنه، وكما قلنا: إن محل ذلك هو تخصيص يوم الجمعة، والدليل على حديث جويرية المشهور، حينما قال النبي لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا يَومَ الجُمُعَةِ وهي صَائِمَةٌ، فَقالَ: «أصُمْتِ أمْسِ؟، قالَتْ: لَا، قالَ: تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَدًا؟ قالَتْ: لَا، قالَ: فأفْطِرِي» ، فكان ذلك نهيًا عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، ولذلك قال المؤلف: (وَالْجُمْعَةِ) .
وأمَّا السبت فقد جاء في بعض الأحاديث، وهي أحاديث لا يدخل عليها علة من جهة استقامة أسانيدها، «لا تصوموا يومَ السبتِ إلَّا فيما افتَرَضَ اللهُ عليكم، فإنْ لم يَجِدْ أحَدُكم إلَّا لِحاءَ عِنَبةٍ أو عودَ شَجرةٍ فلْيَمضُغْه». فذكره بعض أهل العلم على سبيل النهي، وفي ذلك كلام طويل، وبعضهم ربما قال بشذوذ الحديث، والتوسعة فيه باعتبار أن الحديث ليس فيه الإفراد، وحديث جويرية جاء فيه: صوموا يوما بعده، فدلَّ ذلك على أنه ليس هناك غضاضة في صيام يوم السبت.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَالشَّكِّ) صيام يوم الشك منهي عنه، كما في الحديث أن النبي قال: «مَنْ صَامَ اليَومَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمَ» .
ما اليوم الذي يشك فيه؟
اليوم الذي يشك فيه وقع فيه اختلاف بين الحنابلة، وجمهور أهل العلم، فإذا جاءت ليلة الثلاثين من شعبان ولم يُر الهلال، فهذا اليوم الثلاثين -يوم شك- بلا إشكال، وبناء على ذلك لا يصام لا عند الجمهور ولا عند الحنابلة.
لو كان ليلة الثلاثين من شعبان يوم غيم أو قتر، فأصبحوا على اليوم الثلاثين، هل تصام أو لا تصام؟
عند الجمهور على أنها يوم شك فينهى عن صيامه، وعند الحنابلة أن هذا إذا كان فيه قتر أو فيه مانع أو فيه شك في أن يكون من رمضان، فقالوا: الاحتياط الصيام، لأن هذا آت عن بعض أصحاب النبي ، وأيضًا (فقدروا له قدره) قالوا: إنه من قدره، وهو التضييق، ولقول الله -جل وعلا-: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق:7].
فَمُحَصَّل الكلام أنَّ يوم الشك منهي عن صيامه، لكن تحقيق المناط في يوم الشك بالنسبة إلى الحنابلة مع الجمهور فيه شيء من التباين، فهم يقصدون يوم الشك الذي ليلته ليلة صحو، وأمَّا إذا كانت ليلته ليلة غيم وقتر؛ فإنهم يأمرون بصيامه، إمَّا على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الوجوب خلافا لجمهور أهل العلم، وخلافًا لِمَا عليه الفتوى من مشايخنا، ولِما عليه قول كثير من أهل التحقيق.
والأمر في ذلك على كل حال ما دام أنه آتٍ عن الصحابة فلا غضاضة على من صامه لكونه فيه قتر.
ولكن في الجملة فهذا لا يكاد يأتي على قول الحنابلة في هذه الأوقات، أو قد يندر. لماذا؟
لأنَّ الحنابلة أصل قولهم في دخول الشهر، أن رؤية أهل بلد رؤية للدنيا كلها، والدنيا في هذا الوقت فيها تواصل، يعني يتواصل أهل المشرق مع أهل المغرب في ثوان، ويستحيل عادة أن تكون الدنيا كلها فيها غيم وقتر، وبناء على ذلك -يعني بالنسبة لهذا القول في هذا الزمان- قد يكون محدودًا، يعني يكون الإنسان منقطعًا عن هذه البلدان أو عن هذه التواصلات، وهذا يكاد يكون قليلاً أو نادرًا جدًا.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَكُلِّ عِيدٍ لِلْكُفَّارِ) هذا أيضًا منهي عن صيامه، لِمَا فيه شيء من تعظيمه ونحو ذلك.
قال: (وَتَقَدُّمُ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ) ؛ لأنَّه جاء في حديث ابن عباس في الصحيح أنَّ النبي قال: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضَانَ بصَوْمِ يَومٍ أوْ يَومَيْنِ، إلَّا أنْ يَكونَ رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذلكَ اليَومَ» ، يعني لا يقول أحدهم: قد يكون غدًا رمضان فأحتاط وأصوم، فنقول: لا، هذا لا يكون؛ لأنَّ الإنسان متعبد بالشرع، ولا ينبغي أن يُدخل الشكوك والأوهام إلى أعماله وقرباته وطاعاته، لكن لو وافق يوم خميس وهو يصوم يوم الخميس أو وافق يوم الاثنين كذلك أو كان ممن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فكان يوم الثلاثين مما يوافق يوم صيامه، فيصوم ذلك اليوم ولا غضاضة عليه.
قال: (مَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً فِي الْكُلِّ) مثل ما قلنا إذا كان ممن يصوم ذلك اليوم فيصومه على أنه يوم صيامه الذي اعتاده، لا لكونه يوما يسبق رمضان فيخاف أن يكون منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَحَرُمَ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ مُطْلَقًا، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ إِلَّا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقِرَانٍ) }.
العيدان: هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وبإجماع أهل العلم لا يجوز صيامها، ولا يختلف في ذلك أحد من أهل العلم، فلو أصبح شخصًا صائمًا يوم عيدٍ قلنا له: فعلت ما يحرم عليك، فكما أنَّا نتعبد لله -جل وعلا- بالصيام، فإننا نتعبد لله -جل وعلا- بالفطر إذا ما أمرنا بذلك.
وقول المؤلف -رحمه الله-: (وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) ، أيام التشريق هي: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، التي تتبع يوم النحر، أو عيد الأضحى، وسميت أيام تشريق؛ لأنه يشرق فيها اللحم ويقطع، وجاء في الحديث أنَّ النبي قال: «هي أيَّامُ أَكْلٍ وشُربٍ وذِكْرٍ للَّهِ عزَّ وجلَّ»، فلا تصام، (إِلَّا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقِرَانٍ) واستثني من ذلك من كان عليه هدي -تمتع أو قرآن- ولم يكن قادرًا على الهدي، أو لم يجد هديًا، فهنا يصوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، إمَّا أن يصومها قبل ذلك، يعني: اليوم السابع والثامن والتاسع، أو اليوم السادس والسابع والثامن، وهذا أرجى عند الحنابلة، أو يصوم أيام التشريق إذا احتاج إلى ذلك ولم يجد غيرها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ مُوَسَّعٍ حَرُمَ قَطْعُهُ بِلَا عُذْر أَوْ نَفْلٍ غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ كُرِهَ بِلَا عُذْر) }.
قال: (وَمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ مُوَسَّعٍ حَرُمَ قَطْعُهُ بِلَا عُذْر) ، مثل: قضاء رمضان فهو فرض، أو دخل في صيام كفارة، وهو أيضًا فرض، أو دخل في صيام نذر، وهذا فرض كذلك، فـ قوله: (وَمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ مُوَسَّعٍ) كحال من نذر أن يصوم لله يومين، دون أن يحدد أو كان عليه كفارة فشرع في صيامها، أو شيء من قضاء رمضان، فنقول: لا يجوز له أن يقطع ذلك، لأنَّ قطعه محرم، ويجب عليه الإتمام والإكمال، وهذا قول عامة أهل العلم، لا يختلفون فيه، إلا أن يُعذر، أي إلا أن يوجد له عذر شرعي يحمله على الفطر، والعذر الشرعي مثل أن يلحقه مرض، أو يلحقه سفر، أو غير ذلك من الأعذار التي تبيح له ترك الصيام والانتقال إلى القضاء.
قال: (أَوْ نَفْلٍ غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ كُرِهَ بِلَا عُذْرٍ) إذًا يقابل الحرمة وعدم الجواز ما يُكره ولا يحرم، وهو من دخل في صيام نفل، فهل يلزمه إتمام ذلك أو لا؟
المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لا غضاضة عليه أن يبطل ذلك العمل وينقضه، والدليل على ذلك أنَّ النبي دخل وهو صائم، وكان قد أهدي إلى عائشة حَيسٌ، «فدعا بِهِ، فقالَ: أما إنِّي قد أصبحتُ صائمًا، فأَكَلَ» ذلك على أن من أصبح في نفل صائمًا، فله أن يفطر ويقطع صيامه ولا غضاضة عليه في ذلك، وهذا يكرهه أهل العلم؛ لأنَّ الأولى به إتمام هذه العبادة، ولا يلزمه القضاء، بل إن شاء قضى، وهذا داخل في قضاء النفل، والمسارعة في الخيرات، وتكميل ما اعتاده من أعمال القربات، ولكنه لا يلزمه شيء من ذلك.
والمؤلف -رحمه الله تعالى- وجمع من الفقهاء على أن قطع النفل دون مسوغ يعد مكروهًا.
قال: (غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ) أمَّا الحج والعمرة، فإنَّ المستقر عند أهل العلم عامة أنَّ من دخل في نفلها، وجب عليه إتمامها، ولا يجوز له إفساد إحرامه، وأصل ذلك أنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]، وعلى ذلك قول أصحاب رسول الله ، ولم يقل أحد ممن يُعتد بقوله أنَّ من أحرم جاز له أن يرفض إحرامه، إلا قول ابن حزم، وقول شذاذ لا يلتفت إلى قولهم. والله أعلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (أَحْكَامُ الِاعْتِكَافِ وَلَوَاحِقِه
وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ إِنْ أَتَى عَلَيْهِ صَلَاةٌ)
}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في الاعتكاف، والاعتكاف من العبادات المستقلة، ولكن لَمَّا كان اعتكاف النبي في عشر رمضان الأخيرة، وهو آكده جرى الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أن يذكروا ذلك بعد كتاب الصيام، وإلا فالمشتهر عند أهل العلم أنه ليس من لازم الاعتكاف أن يكون الإنسان صائمًا، ولا يصح في ذلك ما نقل عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
إذًا الاعتكاف من السنن العظيمة التي فعلها النبي ، وهي أعظم ما تكون صلاحًا للمرء، وهي تخلية لقلبه من التعلق بالدنيا وزهرتها والرغبة فيها، بأن ينقطع العبد في المسجد رغبة فيما عند الله -جل وعلا-، يتنقل بين العبادات، ويتزود من الطاعات.
وأصل الاعتكاف من: عَكَفَ على الشيء إذا لزمه، فهو لزوم المسجد مدة معلومة لطاعة الله -جل وعلا-، أو تقربًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، وهو من السنن المحفوظة عن النبي ، فلقد اعتكف رسول الله في عشر رمضان الأولى، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثم قال لأصحابه: «مَن كانَ اعْتَكَفَ مع النبيِّ ، فَلْيَرْجِعْ، فإنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُهَا، وإنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، في وِتْرٍ في العشر الأخيرة» ، واعتكف النبي في عشر رمضان الأخيرة، ولَمَّا فاته الاعتكاف في عشر رمضان الأخيرة، كما جاء في القصة المشهورة التي جرت لأزواجه، خرج من معتكفه، وقضاها بعد ذلك، وهذا يدل أيضًا على أنَّ الاعتكاف لا يختص بعشر رمضان الأخيرة، كما قال به بعض المتأخرين، ولكن عامة أهل العلم على خلاف ذلك.
إذًا السنة ظاهرة في استحباب الاعتكاف، وآكد ما يكون عشر رمضان الأخيرة، وابتداؤها قبل غروب الشمس من ليلة واحد وعشرين؛ لأن بعض الناس يروي الحديث الذي جاء عن النبي أن النبي دخل معتكفه صبيحة واحد وعشرين، فيفهمون من هذا أنَّ هذا ابتداء الاعتكاف، وهذا ليس بصحيح، بل اعتكف النبي العشر كاملة، ومقتضى ذلك أن يكون قد دخل قبل بدايتها، وبداية ليالي العشر قبل أيامها، وهذا لا إشكال فيه عند أهل العلم.
إذًا ما معنى الحديث؟
الحديث يدل على أنَّه دخل معتكفه يعني: المكان الذي أُعِدَّ لاعتكافه، وهو المكان الذي يستريح فيه، فهو دخل فيه بعد الليل؛ لأنه كان يعمر الليل بالعبادة والذكر، فلمَّا أراد أن يستريح بعد طلوع الفجر وصلاتها؛ دخل معتكفه. فهذا هو المقصود من الحديث.
والاعتكاف لا يختص بوقت محدود، وهذا هو القول المشهور من المذهب عند الحنابلة، وقول جمهور أهل العلم، وذلك خلافًا لبعض الفقهاء، الذين يقيدونه بيوم وليلة، والتقييد بيوم وليلة له أصل من جهة الاستدلال، فإنَّ عمر لَمَّا قال: إنِّي نذَرْتُ أنْ أعتكفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ في الجاهليَّةِ، فقال رسولُ اللهِ : «أَوْفِ بنَذْرِكَ» ، وهذا أقل ما ثبت، فهم جعلوا ذلك أصلا عندهم في الاعتكاف، وأن الاعتكاف هو اللزوم لمدة طويلة.
لكن نقول: إن مطلق الاعتكاف هو اللزوم، وهذا يتأتى بأي شيء، وجاء عن النبي أنه أمر بالاعتكاف وحثَّ عليه، وجاء عن يعلى بن أمية عند ابن أبي شيبة أنه قال: «إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف» ، فمن هذا أخذ أهل العلم أنَّ الاعتكاف يكون في القليل وفي الكثير على حد سواء، ومتى ما نوى المسلم عند دخوله المسجد ذلك.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ) .
المسجد ما هو؟ وغير المسجد ما هو؟
هذه المسألة دائمًا ما يدخل فيها إشكال عند الناس، فالمسجد ليس من لازمه أن تقام فيه الصلوات الخمس، بل لو وجد مسجد في عرض الصحراء، أقيم من ألف سنة، لم يصل فيه مسلم لاعتبرناه مسجدًا، ولو وجد مكان يُصلي فيه الناس ألف سنة، ولكن لم تُحَبَّس أرضه أو توقف؛ فإنه مُصلى وليس بمسجد. فما يكون من أماكن يُصلي الناس فيها عادة -في أماكن أعمالهم أو في بعض أسواقهم- ولم يكن مسجدًا أوقفت أرضه؛ فهذا ليس بمسجد، وبناء على ذلك كان الاعتكاف مكانه المساجد، ﴿وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187]، فلا يدخل في ذلك المصليات، فلو كان للإنسان مصلى في عمله، أو كان لامرأة مُصلى في بيتها، أو نحو ذلك، فهذا ليس محلا للاعتكاف، لأنَّ محل الاعتكاف هو المسجد، خلافا لمن قال من بعض أهل العلم: للمرأة أن تعتكف في مصلى بيتها.
وبناء على ذلك، إذا أراد الإنسان أن يعتكف فعندنا مساجد تقام فيها الجماعة، ومساجد لا تقام فيها الجماعة، فإذا لم يكن معك من يقيم الجماعة؛ فإنك لا تعتكف في هذا المسجد، لكن لو افترضنا -وهذا ليس بداخل في كلام المؤلف- لو افترضنا أنَّ اثنين أرادا أن يعتكفا في مسجد، أقيم في ناحية مزرعة، أو في مكان خال، أو نحو ذلك، لكنه مسجد. نقول: نعم ولا إشكال؛ لأنه لم تنقطع الجماعة عنهم، باعتبار أنهم اثنين فأكثر. وأما لو كان واحدًا فلا، ولا بد أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة. لماذا؟
لأنَّ الاعتكاف مُستحب، ولا يتأتى أن يحصل الإنسان من المستحب، ويفوت ما هو ألزم منه وهو الجماعة، والتي هي فرض عين في الأصح، أو على قول من قال من أهل العلم: إنها فرض كفاية، وبناء على ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ) ، وهذا كما قلنا: قول عامة أهل العلم، ويستثنى من ذلك من لا تلزمه الجماعة كمريض لا يلزمه السعي إلى المسجد، ولو أنَّ امرأة اعتكفت في مسجد لا تقام فيه الجماعة نقول: لا غضاضة، ما دام أنها في مسجد.
إذًا، متعلق الحكم هو من تلزمه الجماعة، ولا يتأتى للإنسان أن يعتكف فيفوت الجماعة التي هي أولى وألزم، وأفضل للإنسان أن يحافظ عليها، ولو فات عليه الاعتكاف.
فإذا قال المؤلف -رحمه الله- (وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ) ، وهذا يخرج من لا تلزمه كما قلنا: المريض، والمرأة، ومن هو في حكمهما.
ماذا عن الجمعة؟
قال أهل العلم: إنه ليس بلازم أن تقام فيه الجمعة. لماذا؟ لأنَّ الجماعة متكررة، فهو دائر بين أمرين، إما أن يخرج كثيرًا فيفوت عليه حقيقة الاعتكاف وهو اللزوم والثبات، وإمَّا أن تمتنع الجماعة فيكون ما حصله من الاعتكاف أقل مما فات عليه من الجماعة.
أمَّا الجمعة فقالوا: إنها لا تعود إلا في الأسبوع مرة، فلو خرج إليها لكان يسيرًا، ومساجد الجمعة أيضًا لا تكون إلا مرة أو مسجد في الغالب في البلد، خاصة في الأزمنة القديمة، فيشق على الناس أن يجتمعوا في هذا المكان، وربما كان بعيدًا عن أماكن سكناهم، وبعض ما يحتاجون إليه من بيوتاتهم، من: طعام، وشراب، وسواه.
قال: (إِنْ أَتَى عَلَيْهِ صَلَاةٌ) أمَّا إذا كان يعتكف مثلا من الضحى إلى قبل الظهر، أو بعد العصر إلى قبيل المغرب، فهذا لو اعتكف في مسجد ليس فيه جماعة فلا غضاضة؛ لأنه لا يترتب عليه المحظور، وهو فوت الجماعة عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَشُرِطَ لَهُ طَهَارَةٌ مِمَّا يُوجِبُ غُسْلاً) }.
قال: (وَشُرِطَ لَهُ طَهَارَةٌ مِمَّا يُوجِبُ غُسْلاً) يعني: أنَّ المعتكف لا يمكن أن يكون على حدث من حيض أو جنابة أو مثل ذلك مما يلحق به النفاس أو نحوه. فلا بد أن يكون على طهارة من الحدث الأكبر، وهذا أيضًا لا يختلف فيه بين أهل العلم، ويفهم منه أنه لو انتقضت طهارة الإنسان وهو معتكف، فلا يلزمه أن يذهب ويغتسل، بل يتوضأ مباشرة، ولو بقي ساعة أو نصف ساعة في المسجد لم يحدث وضوءًا حتى إذا أتت الصلاة أو أراد أن يصلي أو أراد أن يقرأ القرآن أو نحو ذلك، أو نَشِطَ بعد أن كان قد كسل، فلا بأس، فكونه على حدث أصغر وهو باق في المسجد، لا يعني ذلك انقطاع اعتكافه، لكنه لا يتأتى يكون جنبًا، ويبقى وقتًا دون أن يغتسل. لماذا؟
لأنَّ الجنب والحائض ممنوعان من البقاء في المسجد، فكيف إذا كان معتكفا؟
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ نَذَرَهُ أَوْ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ -فَلَهُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ، وفِي أَحَدِهَا فَلَهُ فِعْلُهُ فِيهِ، وَفِي الْأَفْضَلِ، وَأَفْضَلُهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ) }.
قال: (وَإِنْ نَذَرَهُ) نذر ماذا؟ نذر الاعتكاف، فالضمير راجع إلى الاعتكاف.
(أَوْ الصَّلَاةُ) طبعًا هذه مسألة ملحقة باعتبار أنَّ الفقهاء يذكرون المسألة وما يماثلها عند وجود سببها، إذا نذر الإنسان الاعتكاف، فمعنى ذلك أنَّ الاعتكاف انتقل من كونه مستحبًا إلى كونه واجبًا، فمعنى ذلك: لا يتأتى له الخلاص أو براءة ذمته إلا بفعل الواجب، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ نَذَرَهُ أَوْ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ -فَلَهُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ) أي: في أي مسجد، وبعضها يقوم مقام بعض.
فإذا قال: سأعتكف في هذا المسجد، ثم أعتكف في المسجد الذي يليه من الجهة الأخرى أو العكس، فلا بأس بذلك، ولا يكون قد فوت نذره أو أخل به؛ لأنَّ المساجد أماكن عبادة تستوي على حد سواء، وهذا فيه إشارة إلى ماذا؟
بعض الناس ربما قال مثلا: نذرت لله أن أعتكف في المسجد الفلاني في مكة، أو في المسجد الفلاني في القصيم، أو في المسجد الفلاني في أي دولة من الدول الأخرى، فنقول: لا، تعتكف حيثما كنت، والنبي قال: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجدٍ: المسجدُ الحرامُ، ومسجدي هذا، والمسجدُ الأقصى» . ما معنى الحديث؟
أي: لا تشد الرحال إلى مكان يتعبد لله فيه إلا إلى هذه الأماكن؛ لأن هذا استثناء مفرغًا، فالمستثنى منه يشمل الجميع، وبناء على ذلك نقول: هذا الذي سينتقل من الرياض إلى مكة لا ليعتكف في المسجد الحرام، ولكن ليعتكف في هذا المسجد أو ذاك، وكانت هذه نيته!
لا يجوز له المسير؛ لأنه شَدُّ رحلٍ لأجل مكان غير الأماكن التي تُشد لها الرحال، فالمساجد يقوم بعضها مكان بعض.
وهذا بالنسبة للنذر وبالنسبة للصلاة، فلو قال واحد: نذرت لله أن أصلي مثلا في المسجد الجامع الذي بجوار بيتي؛ فأدركته الصلاة بجوار جامع آخر في جهة أخرى، فصلى فيها؛ فقد حصل منه الوفاء بنذره سواء بسواء؛ لأنَّ المساجد في حكم واحد، ولا يفضل بعضها على بعض، إلا ما جاء في المساجد الثلاثة على ما هو معلوم ومستقر.
طيب لماذا قال المؤلف- رحمه الله تعالى- (وَإِنْ نَذَرَهُ) ؟
(وإن كان أمرًا مستحبًا) الأمر المستحب كأن المؤلف -رحمه الله- والفقهاء يقولون: هو أمر مستحب حتى ولو فات عليك هذا الأمر المستحب، فغايته أنه فاتك الفضل ولم يلحق بك إثم، ولم يلحق ذمتك تبعة، ولم تكن مسؤولاً عند الله -جل وعلا-، وفيه إشارة إلى ألا يحرج الإنسان نفسه، فمتى ما تيسرت له العبادة فعلها، ونشط إليها، وجاهد نفسه فيها، ومتى ما فاتته، وهي من الأمور المستحبة، أو غير اللازمة؛ فإن الإنسان لا يكلف نفسه، وإذا تعلق به ما هو أوجب أو ألزم أو أولى، كمن يحب أن يعتكف ويسعى إلى ذلك، لكنه تنقطع حاجة أهله الذي به طعامهم وشرابهم، فلا شك أن حاجة الأهل أولى مما يفعله من الاعتكاف، «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» .
فإذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا لَمَّا أشار إلى هذا المعنى أشار إلى أن أمور المستحبات حتى ولو لم توفَّ بما رغبت فيه من المستحب، غاية ما في ذلك أنه فاتك مستحبًا ولا غضاضة، ولكن الواجب يتعلق بالتبعة، فأراد المؤلف أن يبين ما يتأتى به وتزول به التبعة بكل حال، ولا شك في ذلك ولا إشكال.
قال: (وفِي أَحَدِهَا فَلَهُ فِعْلُهُ فِيهِ، وَفِي الْأَفْضَلِ) يعني: حتى هذه الثلاثة هي أفضل مما سواها، وبعضها أفضل من بعض، فأفضلها المسجد الحرام، والتي الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، ثم مسجد رسول الله والصلاة فيه بألف صلاة، ثم المسجد الأقصى التي الصلاة فيه بخمسمائة صلاة.
وبناء على ذلك من نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى، ليس عليه حاجة أن يغلب نفسه وربما يتعرض للمهالك خاصة ما يتعرض له المسجد الأقصى في أَنِهِ هذا، بل يذهب إلى مسجد رسول الله ويعتكف فيه، وقد أدى ما عليه وزيادة، أو يذهب إلى المسجد الحرام ويعتكف فيه وقد أدى ما عليه وزيادة وحصل أجورا عظيمة، قد لا تتأتى بحال من الأحوال فيما سواه من المساجد.
بناء على ذلك: من نذر أن يعتكف في مسجد رسول الله فله أن يعتكف فيه، وله أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لكونه أفضل، وبناء على ذلك، من نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا يتأتى له بنذره إلا أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضلها، وما غيره دونه ولا يساويه في الفضل، ولا يقاربه، فبناء على ذلك لا يمكن أن يفي بنذره إلا أن يعتكف، حيث نذر وهو في المسجد الحرام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَفْضَلُهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ، وَلَا يَخْرُجُ مَنِ اعْتَكَفَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً إِلَّا بِشَرْطٍ) }.
قال: (ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ) ثم سكت، لماذا؟
لأنَّ هذا معلومًا، يعني بعد مسجد رسول الله المسجد الأقصى، فما دام أنه بنى عبارته على الاختصار، وهذه طريقة الفقهاء، فالكلمة الواحدة تشمل أحيانًا أكثر من مسألة، وبمفهومها وأحيانًا بمنطوقها حتى بما تركه وأهمله، فُهِمَ بما سبقه وتقدمه، وهذه طريقة الفقهاء، ولذلك ليست قراءة كتب العلم كقراءة غيره، مما يحتاج فيه الطالب إلى مزيد نظر، وتأمل، وتدقيق فيما حرره الفقهاء، وأنا أقول: حرره الفقهاء ولا أقول: كتبه الفقهاء؛ لإنَّ الفقهاء جرت عادتهم -رحمهم الله- على التحرير، بأن يخلصوا كل كتبهم مما لا فائدة فيه، أو مما لا يقصد معناه، أو سوى ذلك، وما ذكروه فالغالب والعادة المستقرة المستديمة إلا ما ندر، أن يكون للمذكور معنى وقيد معتبر لا يتجاوز إلا بفهمه ومعرفته واعتباره.
بعد ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلَا يَخْرُجُ مَنِ اعْتَكَفَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) ، وهذه في أحكام المعتكف، في الخروج وغيره، وهي من الأحكام المهمة اللازمة، فالمعتكف الأصل بقاؤه في المسجد، والخروج بالنسبة إليه على أحوال ثلاثة، أشار إليها المؤلف في الجملة كلها، اثنان منها على شيء من الظهور والوضوح، وواحد منها بالمفهوم.
أولها: هو المفهوم. قال: (وَلَا يَخْرُجُ مَنِ اعْتَكَفَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) فما لا بد للإنسان منه مثل: أن يأكل، أن يحضر له طعامًا، ليس كل الناس يمكن أن يكون عنده خادم يحضر له الطعام، وليس بلازم أن لو أُحضِرَ إلى المسجد طعامٌ أن يأكل من صدقات الناس، يعني: ما يكون مما يترفع عنه، أو لا يحب أن يأكل من أموال الصدقة وسواها.
فبناء على ذلك، له أن يخرج فيحضر طعامه، وأمَّا إذا وُجِدَ له غلامٌ، أو ولدٌ، أو زوجةٌ، أو صديقٌ، وتفضل ورضي بذلك؛ لأنه لو لم يرض لا يلزمه، فيحضر له طعامه، فالحمد لله، ويتأتى له ذلك ولا غضاضة عليه.
لكن إذا ما احتاج الإنسان إليه، ولا بد له منه، كقضاء حاجة، أو طعام، أو مثل ذلك، كشيء شرعي، كصلاة جمعة؛ فإنه يخرج منها ولا تقطع اعتكافه بلا إشكال.
الحالة الثانية: وهي الحال التي لا يمكن للمعتكف أن يخرج لأجلها، وهي التي تنافى الاعتكاف، مثل: البيع والشراء، وخوض الأسواق، والذهاب للهو واللعب، أو غير ذلك، فإنَّ الاعتكاف أصله منافيًا لذلك، ومناقض له، فهذا انغماس في الدنيا، والاعتكاف ابتعاد عن الدنيا وانشغال عنها، للتفرغ للعبادة، وذلك قطع عن العبادة، وبالتالي: لا يتأتى لمعتكف أن يخرج لنحو ذلك البتة. فهذا هو الذي يفهم لِمَا لا بد منه.
ثم قال: (وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً إِلَّا بِشَرْطٍ) وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي يمكن أن يخرج، ولكن لابد أن يكون خروجه مشروطًا، وليس من أمور الدنيا، لكن ليس مما لابد له منه، فقد يحتاج إليه.
وبناء على ذلك، له أن يخرج بشرطه، وهذا جاء عن علي -رضي الله تعالى عنه- اعتبار الشرط في ذلك، وعلى هذا مذهب الحنابلة، وكذا جرى عليه جمع من أهل العلم، في أن ما اشترطه العبد فإنَّ له ما اشترط.
مثال: إنسان مثلا عنده والدته يحتاج إلى أن يعودها، أو يطمئن عليها، أو أن يسقيها دواء، فيحتاج إلى الخروج ونحو ذلك، أو مثل ما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَشْهَدُ جِنَازَةً) أي: إن مات فلان، فشرط أن يخرج لأجل جنازته، لكونه شيخه، أو قريبه، أو عمه، أو جده، أو نحو ذلك، فلا غضاضة في هذا، فإذًا هذا يصح مع الشرط.
فتبين بذلك الأحوال الثلاثة، ولعلنا -بإذن الله جل وعلا- ما دام أنك تشير إلينا بانتهاء الوقت أن نجعلها أيضًا في مستهل اللقاء القادم.
أسأل الله -جل وعلا- أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من المسابقين إلى الطاعات، الموفقين للاعتكاف وعمل القربات، وأن يزيدنا ولا ينقصنا، وأن يبلغنا فيها التمام والكمال، لا النقص ولا الإخفاق، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وبهذا نكون قد انتهينا من حلقة هذا اليوم، ألقاكم -بإذن الله تعالى- في حَلْقات مُقبلة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك