{الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، نحيي وإياكم فضيلة الشيخ.
حياكم الله شيخنا، وأهلا وسهلا بكم}.
حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع يا شيخ فيما توقفنا عنده}.
توكلنا على الله
{قال- رحمه الله-: (وَأَنْ يُوجَدَ غَالِبًا فِي مَحِلِّهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ صَبَرَ، أَوْ أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يُفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يُبلغنا طاعته، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يَرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، وأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين.
أيها الإخوة، لا يزال الحديث موصولاً فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في (السَّلَم وَشُرُوطُهُ)، وقد ذكرنا أن السَّلَم فيه سبعة شروط، وشروط السَّلَم مُتعلقة بشروط البيع، فهي مع شروط البيع، وبناء على ذلك تكون أربعة عشر، وهذه الشروط التي ذكرها المؤلف هي أخص من شروط البيع، وبالتالي فهي تتعلق بالبيع إذا كان سَلَمًا.
كنا في الدرس الماضي أخذنا هذا الشرط، وهو الشرط الخامس، وهو (أَنْ يُوجَدَ غَالِبًا فِي مَحِلِّهِ)؛ لئلا يكون العقد على أمرٍ غالبه تكون فيه الجهالة وعدم الحصول، فيكون بابه باب المغامرة أو المقامرة، وهو ألا يتأكد من حصول الشيء، ويُفرط الإنسان في بذل ثمن على شيء يتوقع عدم حصوله، فلأجل ذلك كان الشرط عند الفقهاء أن هذا المعقود عليه والمسلم فيه يتوقع حصوله، كأن يكون وقت جذاذ التمر، فلو أنَّ شخصًا عقد على رطب في وقت الشتاء مثلا لقلنا: لا يصح ذلك؛ لأنَّ الرطب لا يتصور حصوله في فصل الشتاء عادة.
قال: (فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ صَبَرَ) يعني: إذا تعذر حتى بعد كونه غالبًا حصوله في المحل، لكن ربما قد توجد عوارض قليلة، وهذه العوارض القليلة في بعض الأحوال تكبر، أو تكثر، أو تحل في هذه البلدة، كأن يفنى البر مثلا لعاهة أو آفة أو نحوها، فلا يوجد إلا شيء قليل، فسلم إلى العاقد بعض هذه المعقود عليها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ صَبَرَ) يعني: إمَّا أن يصبر وينتظر، ويمهل المتعاقد معه حتى يجد، قال: (أَوْ أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ)، أي إذا لم يكن منه صبر؛ فإنه يأخذ رأس ماله، والصبر أولى.
أولاً: لأنه من باب حسن المعاملة، «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى»[1].
وأيضًا فيها من الإعانة على الخير، والتنازل عن الحقوق، وهذا أطيب للنفوس، وأبرك للمعاملات، وأنفع -بإذن الله جل وعلا-، وهو أعون له على العثرات في حياته، فإن من أَقَالَ عثرة، وصبر على مُعسرٍ، وانتظر غائبًا؛ فإنَّ ذلك يكون أتمَّ في أجره، وأسلم له في أموره.
فإذًا يأخذ رأس ماله، ولا يجوز له أن يتقاضى شيئًا آخر، أو أن يطلب زيادة؛ لأنها ستكون زيادة على رأس المال، وهذه زيادة غير جائزة، وصرفه إلى غيره لا يحل، كما سيأتي بعد قليل فيما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَقَبْضُ الثَّمَنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَأَنْ يُسْلِمَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي عَيْنٍ وَلَا ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ)}.
قوله: (وَقَبْضُ الثَّمَنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ) أي لا بد أن يقبض الثمن؛ لأنَّ الْمُسْلَمَ فيه مُؤجل، والثمن لا بد أن يكون حاضرًا؛ لأنه لو كان الثمن غائبًا أو غيرَ حاضرٍ وهذا غائب؛ لأفضى ذلك إلى أن يكون من بيع الدين بالدين، أن يكون من بيع الكالئ بالكالئ، ويسمى بيع: الكالئ بالكالئ، أو بيع: الدين بالدين، وهذا لا يجوز؛ لأنه يُوغل في الغرر، ويحصل بذلك سبب للمنازعة، فلما كان الأصل هو حضور البدلين والعوضين دفعًا للبلاء والمخاصمة؛ لأنَّ كل واحد يعرف ما سيأخذ؛ ولأن ذلك لا يتيسر في كثير من الأحوال، فرحمة من الله للخلق؛ فإنه أجاز أن يتأخر أحد البدلين.
وتأخر أحد البدلين -كما قلنا- إمَّا أن يتأخر الثمن، وهذا هو الغالب مثل: بيوعات التقسيط، والبيوع المؤجلة، ونحو ذلك، والأثمان معروفة ولا إشكال فيها، فلا يحتاج فيها إلى تفصيل.
والحالة الثانية التي نحن بصددها، وهي: السَّلَم وهو تأجيل المثمن، فلما كان المثمن -كما ذكرنا- العوارض فيه كثيرة؛ ضبطه الشارع بقيود، ليكون أبعد للتنازع، وأنفع للمتعاقدين، فلو أنَّ الثمن أُجِّلَ لأفضى ذلك إلى الدخول في بيع الدين بالدين، وهو مما حُرِّمَ إجماعًا.
بعض الناس، وهذا مثل الاستطراد، ولكن الحاجة إليه ملحة، أحيانًا عندك سيارة، تقول لزميلك: تشتري مني هذه السيارة؟ فيقول: نعم. أو في السوق تقول: تشتري مني هذه السيارة؟ فيقول: نعم. يقول: بعشرة آلاف أو بخمسة عشر ألفًا، أو أيا كان، ويتفقان.
ثم يقول: غدًا -إن شاء الله- نلتقي، وذلك إمَّا لحاجته مثلا في تفريغ السيارة، أو الوصول إلى داره، أو غير ذلك.
هذه الحالة الآن فيها: المثمن مُؤجل، والثمن لم يستلمه بعد. أليس كذلك؟
هل هذا يدخل في بيع الدين بالدين؟
نقول: لا. لماذا؟ لأنَّ هنا العين مُعينة، فما دام أنها عين مُعينة، فلا إشكال ما دام أنه يعطيها إياه.
ولكن إذا كانت موصوفة في الذمة فلا؛ لأنه يكون بيع دين بدين، لكن لا يكون فيهما تأجيل في الجهتين، فإذا كان فيه تأجيل في الجهتين فإنه يدخل في ذلك.
قال: (وَأَنْ يُسْلِمَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي عَيْنٍ)، يعني -كما ذكرنا- أن السَّلَمَ يكون على موصوف، وهذا الموصوف لو عُين في شيء واحد، فَعُرْضَةُ هذا الواحد للتلف وعدم الوجدان، أو عدم القدرة عليه، أو مغالاة لصاحبه فيه كثيرا، يمنع إمكان التسليم بسهولة، أو الغالب ألا يتأتى، فكما قلنا: يحصل في ذلك سبب للتعرض للغرر، أو الإشكال، أو نحوه، والتضييق على العاقد في السَّلم.
فبناء على ذلك نقول: لا يصح في العين، وإنما يصح في موصوف؛ لأنه إذا وصف أوصاف في السيارة، إذا لم تتأت في هذه، فإنها تتأتى فيما يماثلها أو يُقاربها، وإذا لم تتأت فهناك ثالثة أو رابعة.
وتذكرون أننا قلنا: إن الفقهاء ذكروا أنه لا بد من ضبط الْمُسْلَمِ فيه، ولو نظرت إلى ما ذكروه من المضبوطات، فإنها قليلة في عرف الفقهاء، وذكرنا السبب في ذلك. فلا بد أن تتنبهوا؛ لأننا نمثل بالسيارة، والسيارة عندهم فيما مضى لا يصح السَّلَمَ فيها، ولكن نحن نبهنا أنَّ ذلك بسبب أن الصناعة كانت بدائية ويدوية، فلا تتماثل الأشياء، ولذلك لم يُدْخِلُوا ما شابه السيارات من الأواني ونحوها من المصنوعات، يقولون: لأنها تتفاوت، ولكن في هذا الزمان، لَمَّا تماثلت الأشياء، وقويت الصناعة، وصارت الحرفة أكثر حزقًا، فإنَّ المتماثلات صارت كثيرة، وإن كان الفقهاء يقولون: إنها في المكيل والموزون، والمضبوطات تكون في دائرة ضيقة، ولكن هنا في أكثر تكون الدائرة فيها، وهذا من رحمة الله وفضله.
فعلى كل حال لا يصح في عين، وإنما يصح في الذمة، وهذا أحد الفروق التي بين السلم وعقد الاستصناع، فإن عقد الاستصناع يصححونه على مُعين، وربما كانت الحاجة داعية إلى ذلك في كثير من العقود في هذا الزمن، وهذا يعني أنه قد يُتَخَفَّفُ في ذلك، خاصة وأنه قولٌ مُعتبرٌ عند أهل العلم.
قال: (وَلَا ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ) أي: لا يقول أريد ثمرة هذه النخلة، أو ثمرة شجرة البرتقال هذه التي في طرف البستان، أو في وسطه، أو نحو ذلك، فإذا كانت تعجبه هذه الثمرة، يقول: هناك ثمرة كبيرة، وحجمها كذا وكذا. مع أنها أيضًا عندهم في المعدودات يضيقونها.
على كل حال دعونا نقول: هم يصححون في الثمرة المكيلة، مثل: النخل ونحوه.
إذا أمكن القول أنه خاصة مع كثرة أو وفرة الإنتاجات في النفي يمكن أن يستطاع الإيفاء بالموصوف من المعدود، لم يكن بعيدا صحة السَّلَم فيه، وإن لم تدخله الصناعة.
يعني: الآن نرى مثلا في الفواكه، ولكثرة ثمر هذه الشجرة، سواء برتقال، أو تفاح، أو نحوه، فإنهم يفرزون ما كان على حجم واحد ويجعلونه في جهة، وما كان على جودة عالية يجعلونه في جهة، فيمكن الضبط في مثل هذه الأحوال، فلو أمكن لم يكن بعيدًا على ما ذكر صحة السلم فيه، وإن كان الفقهاء لا يصححونه في المعدودات.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيَجِبُ الْوَفَاءُ مَوْضِعَ الْعَقْدِ إِنْ لَمْ يُشْترُطُ فِي غَيْرِهِ)}.
الأصل في الوفاء أن يكون في مكان العقد، ولكن إذا اشترط غيره، كأن يقال: في الرياض أو نحوه، فإنه لا بد من التوفية به حيث اشترط. ولكن قال الفقهاء أيضا: إذا كان وقت الاتفاق أو إبرام العقد في مكان لا يكونون فيه غالبًا، كما لو كانوا في طائرة مثلا أو كانوا في برية، عرض لهم الطريق فالتقيا، فانَّ هذا ليس موضع تسليم عادة، وبناء على ذلك يقولون: إنه لا بد من ذكر موضع التسليم.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مُسْلَمٍ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَا الْحَوَالَةُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ، وَلَا أَخْذُ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ بِهِ، وَلَا أَخْذُ غَيْرِهِ عَنْهُ)}.
قول المؤلف -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مُسْلَمٍ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ) فلو أنك أعطيت شخصًا عشرة آلاف ريال، وطلبت منه خمسمئة صاع من البُرَّ، ولنقل أنك ستستلمها بعد شهر، فقبل استلامك لها قلت لصاحب المتجر هذا: هل تشتريها مني؟ وذكرت له أوصافها وموعد وصولها. فيقولون: إن هذا لا يصح، وأصل ذلك عند الحنابلة -رحمهم الله- أنه جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي ﷺ قال: «مَن أسلفَ في شيءٍ؛ فلا يَصرِفهُ إلى غيرِهِ قبلَ أن يقبِضَهُ»، يعني ما دام أنه فيه شيء من التأجيل في أصله، وورد هذا الأثر فيه، فإنهم قيدوا ذلك هذا التقييد.
قال: (وَلَا الْحَوَالَةُ بِهِ) فليس الذي عليه بذل هذه الخمسمائة صاع أن يحيل بك، كأن يقول: اذهب وخذ من جاري الفلاح فإن لي عنده خمسمائة صاع.
نقول: لا. بل أنت تأخذ أصواعك منه، وتسلمها إلى من تعاقدت أنت وإياه، فلا يصرفه إلى غيره.
قال: (وَلَا عَلَيْهِ) يعني أنا لي خمسمئة صاع عندك، ويطلبني هذا ألف صاع، فأقول له: ما تطالبني به، أي: "الألف صاع"، خذ خمسمئة من فلان، وخمسمئة سأشتريها لك من السوق وأعطيك إياها. فأنت أَحَلْتَ على هذه الأصواع، فنقول: هذا غير صحيح.
قال: (وَلَا أَخْذُ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ بِهِ) فإذا أُخِذَ عليه رهنٌ أو كفيلٌ، فإنَّ المقصود من الرهن أو الكفيل أن يحصل منهم وفاء. أليس كذلك؟ والرهن إذا لم يوفَّ بالأصواع التي عليه، فسنبيع الرهن ونوفي لهذا مكان ما ذهب، ومعنى ذلك أن فيه صرفًا، فتحقق فيه أنه سيصرف إلى غير، ولذلك لم يصححوه.
ومثل ذلك الكفيل، صحيح أن الكفيل من حيث الأصل -وهذا سيأتينا بإذن الله جل وعلا- ملزم بإحضار البدن. لكن لو تعذر عليه إحضار البدن فسيؤول إلى التزام المال، ومعنى ذلك أنه سيلتزم بدل ما عجز عنه من إحضار من عليه إحضار السَّلَم، وبناء على ذلك سيؤول الأمر إلى أن يحضر هو مكان السَّلَم شيئا. فهذا دخل فيه فلا يصرفه إلى غيره، ولأجل ذلك منعوه.
قال: (وَلَا أَخْذُ غَيْرِهِ عَنْهُ) هذا هو أوضح ما يكون؛ لأنه يكون صرف للسلم عن غيره وهو ممنوع.
{أحسن الله إليكم. (أَحْكَامُ الْقَرْضِ وَالرَّهْنِ)
قال- رحمه الله-: (فصل، وَكُلُّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّ قَرْضُهُ إِلَّا بَنِي آدَمَ)}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام القرض، والقرض ليس من البيوعات، ولا بابه باب المعاوضات والاتجار ونحوه، وإنما بابه باب الارتفاق، وحقيقته الإحسان، وأكثر ما يكون من المقرض طلب مرضاة الله، والتوسعة على المعسر، ونحو ذلك، ولكن إنما ذُكِرَ باب القرض هنا؛ لأنَّ القرض يجب بَدَلُه، ففيه شبه من جهة البيع فيما يجب على المقترض من رد بدله، فلمَّا كان فيه رد البدل، صار فيه مشابهة للبيع من هذه الجهة، وإلا فحقيقة هذا العقد منبت تماما عن البيوعات من كل وجه؛ لأنه لا طلب للتجارة أو التكثر أو التكسب أو نحوه فيه، وإنما هو من باب الإحسان والإرفاق بالمحتاجين. إذًا هذا أصله.
ثم أيضًا عقود البيوعات والمعاملات من حيث الأصل هي عقود لازمة، وهذا العقد عقد جائزٌ، وبناء على ذلك قالوا: إنه ليس فيه شبه كبير من جهة البيع، ولكن إنما دخل من هذا المعنى.
وأمَّا عن تسميته فقالوا: يسمى القرض، أو يسمى السَّلَف، وأيضًا بعضهم يسميه سلمًا، وهو أخذ شيءٍ وردُّ بدله، كما لو أخذ أحدهم مالا ينتفع به ثم يرد بدله.
والقرض حكمه بالنسبة للمقرض سُنةٌ؛ لأنه يُحسن ويُوسع على المعسر، والنبي ﷺ يقول: «وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»[2]، ويقول تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة:280]، فالله -جل وعلا- أمر بالإحسان إلى المعسرين ابتداء وانتهاء، يعني: إذا كان عليه دين ولم يستطع السداد، فكل ذلك داخل في هذا. وعمومات الأدلة وما في الشريعة من التآخي وما أُمِرَ فيها من الاحسان داخلٌ في هذا، والله -جل وعلا- يقول: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:١٩٥].
وأمَّا حكمه من جهة المقترض، فيقولون: إنه مباح، ولا يدخل في باب المكروه، ولذلك مات النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي، يعني أنه اقترض منه، واستسلف من رجلٍ بَكْرًا، سواء كان ذلك على سبيل البيع المؤجل، أو على سبيل القرض، أيًا كان فإن هذا بابه باب أن تنشغل ذمة المرء بشيء عليه فلا ينفك أحد من الحاجة إلى مثل هذا، فلو كان في هذا كراهة؛ لأفضى ذلك إلى التضييق على الناس، ولم يفعله النبي ﷺ.
ولكن لا شك أنَّ الإكثار من إشغال الذمة هو سبب لحصول البلاء عليها، ودخول في التبعات، وطريق لعدم الوفاء، وسبيل لحصول الذلة على العبد في دنياه، ولذلك يقولون: الأذلاء أربعة: "الكذاب، والنمام، والفقير، والمديان"، فالمدين دائمًا يذل، يرى هذا لم يعطه، وهذا لم يعطه، والنمام خائف ودائمًا يشعر بمذلة، ومثل ذلك الكذاب، وأما الفقير فالله أعلم بحاله، والأمر في ذلك ظاهر وجلي.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَكُلُّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّ قَرْضُهُ إِلَّا بَنِي آدَمَ) يعني أنَّ الأمور التي يصح بيعها سواء كانت من الأعيان، وهذا واضح، فيجوز للإنسان أن يُقرض سيارة، أو دارًا، أو ثيابًا، أو ثمرة، أو نحو ذلك.
لكنه هنا قال: (وَكُلُّ مَا صَحَّ)، فهل هذا ما علق بالأعيان أم بالأعيان والمنافع؟
ظاهر كلامه دخولهما جميعًا، كيف ندخل المنافع في ذلك؟
كأن يكون قد اشترى منافع ثقيلة، فيقول لآخر: احمل معي هذا المتاع الثقيل مسافة على أن أحمل معك متاعك الذي تشتريه مسافة، فهو عبارة عن أخذ شيء ورد بدله، فتدخل فيه المنفعة.
ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنه مخصوص بالأعيان، وإن كانت عبارة المؤلف هنا يفهم منها: الأعيان والمنافع، فقال: (وَكُلُّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ)، والبيع يصح فيه بيع المنافع، وبناء على ذلك يدخل فيه، وهذا قول المحققين، وهو أوسع على الناس، ولا تنفك حاجة الناس من ذلك كله.
قال: (إِلَّا بَنِي آدَمَ) يعني في الرقيق؛ لأنَّ هذا يُفضي إلى أنه إذا اقترض يستباح بذلك الفرج -الاستمتاع- إذا كانت أمة، ولأجل ذلك منعوه، ولأجل هذا بعضهم خصه بالأنثى، وبعضهم قيده فقال: إذا لم تكن ذات محرم.
إذًا من جهة الأصل فبابه باب واسع، ولكن إذا كان فيه هذا المحظور الذي هو قرض الرقيق، فإما أن يمنع كله كما هي طريقة الحنابلة، أو بعضهم يخص المنع بالنساء، كما هي طريقة المالكية، ويعضهم يقول: لا، إذا أن تكون ذات محرم، لأنه هو الذي يخاف منه حصول الاستمتاع بالاقتراض ثم يردها، وهذا يكون فيه شيء من الإشكال.
وعلى كل حال، فهذا هو المفهوم من قول الفقهاء: (وَكُلُّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّ قَرْضُهُ إِلَّا بَنِي آدَمَ).
تساءلنا في أول الكلام هل القرض لازم أو ليس بلازم؟
وأول شي طبعا، يلزم القرض بإقباض المقترض، ولكن ما معنى اللزوم؟
يعني: أنه يترتب عليه أحكام القرض، من جهة أن القرض أخذ الشيء ورد بدله، وإلا فهم يقولون كما هو مذهب الحنابلة: إنَّ القرض لا يتأجل بالتأجيل، بمعنى لو أنك أقرضت شخصا قرضًا، ثم أردت أن تأخذ منه هذا القرض بعد ساعة أو بعد يوم جاز لك؛ لأنك محسن، وما على المحسنين من سبيل. فيقولون: لا يتأجل بالتأجيل، حتى لو قال: سأقترض منك هذه الساعة لمدة سنة، أو هذا الجوال لمدة شهر، أو هذه السيارة لمدة أسبوع، فاتفقتما وأعطيته هذا المتاع الذي يريده، ثم جئت بعد يوم واحد أو أقل من ذلك وقلت له: رُدَّ عليَّ القرض فيلزمه الرد.
وإن كان بعض الفقهاء يقول: ما دام أنهما اتفقا فالمؤمنون عند شروطهم؛ لأنَّ القرض المراد به الارتفاق والإحسان، وأنه لو كان لا يتأجل بالتأجيل لربما أفضى إلى ورطة على المقترض، فكونك لا تقرضه ويتعنَّى قليلا، أو يجد ما يتسلى به من قليل، أو يجد له سبيلا آخر يخلص به مما أشكل عليه، أسهل من أن تُقرضه فيظن أنه في "فرج"، ثم ترجع فتطالبه، فيكون البلاء عليه بلاءين، ولذلك ذهب ابن تيمية وبعض الفقهاء إلى أنه لا يتأجل بالتأجيل، وهذا كله في القرض الحسن.
أمَّا في البيوع المؤجلة وما في معناها التي مبناها على التكسب ونحوه، واشترط أحدهما التأجيل، فإن الأجل محفوظ، ولا يجوز المطالبة قبل ذلك الأجل.
ما الذي نستفيده من قول الحنابلة الذين يقولون: لا يتأجل بالتأجيل؟
الذي نستفيده أنَّ حقيقة القرض ردّ البدل، فلنفرض أنه اقترض هذا الجوال، وبعدما اقترض الجوال صار في هذا الجوال ندرة كثيرة، وبدلا من أن كان يساوي ألف ريال مثلا، صار يساوي عشرين ألف ريال، فإذا ردَّ بدله -مواصفات معينة ونحوها توافق هذه المواصفات- حصل بهذا المقصود، وحتى ولو كان بيده الجوال الذي اقترضه. قال له الذي أقرضه: أعطني جوالي، قال له: الواجب لك البدل، فبناء على ذلك لا يلزمه إلا البدل؛ لأن المقرض لَمَّا أقرضه رضي بالإحسان، ورضي بالبدل، ولا ينظر الإنسان إلى أنه استفاد أو لم يستفد هذا المقترض، لا. أنت إنما أعطيته لتحسن إليه، والواجب عليه رد البدل، وعليه فعل ما وجب عليه. ولكن يقولون: إذا رده فيقبل منه ذلك، وهذا سيأتينا الآن.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَيَجِبُ رَدٌّ مِثْلَ فُلُوسٍ، وَمَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ، فَإِنْ فُقِدَ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ فَقْدِهِ، وَقِيمَةُ غَيْرِهَا يَوْمَ قَبْضِهِ)}.
قوله: (وَيَجِبُ رَدٌّ مِثْلَ فُلُوسٍ، وَمَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ) الرد إمَّا أن يكون بالمثل، وإمَّا أن يكون بالقيمة، والرد بالمثل عند الفقهاء فيما ينضبط مثله، وهذا محصور عندهم في المكيل والموزون، وبناء على ذلك غير المكيل والموزون عند الفقهاء لا يكون إلا بالقيمة.
ولكن هنا شيء من الأشكال، هنا قال: (وَيَجِبُ رَدٌّ مِثْلَ فُلُوسٍ) ما هي الفلوس عند الأولين؟ الأثمان التي كانوا يتعاملون بها ثلاثة أشياء، إما ذهب وهي: الدنانير، وإمَّا فضة وهي: الدراهم، وإمَّا فلوس وهي تصنع من النحاس أو من الحديد، وتكتسب الثقة ويتعامل الناس بها لأنها من ضرب السلطان لها، فيثق الناس بهذه التعاملات، فيعرفون أنَّ هذه تساوي هذه القيمة.
والفلوس تكون معدودة، وعندهم أنَّ المعدود أصلا ليس مثليا، فلأجل ذلك يشكل قوله هنا: (وَيَجِبُ رَدٌّ مِثْلَ فُلُوسٍ). فالأصل أنها معدودة، وأنَّ الردَّ إنما يكون لقيامها، ولكن يمكن أن يكون ذلك لَمَّا كانت أثمانًا، فهي بأثمانها ومضبوطة فيمكن المثل، وهذا قد يفتح لنا بابًا، أنه في هذا الوقت أيضا قد كثرت المثليات.
مثال: استقرض رجل ساعة، فيمكن أن يأتي بنفس الساعة، سواء كان ذلك في اسمها، أو في شكلها، أو في مواصفاتها. وهكذا لو كان حاسوبًا، أو جوالا، أو ثوبا -القميص- أو عمامة، ونحوها، فأي شيء ستجد أنَّ له مِثلا. وما دام أنه كذلك فالفقهاء لَمَّا أناطوا هذا الشيء بالمثل إذا وجد؛ لأنه يعلم أن له مثلاً فينتفي معه الخلاف، ويحصل معه الاتفاق، ويرد له ما يُقابل الشيء على أقرب وجه.
ولكن لَمَّا كانت الأشياء فيما مضى لا يمكن أن يوجد مثلها، كما على سبيل المثال: استقرض شخص قِدرًا أو إبريقًا، فلو أَذِنَّا له بأن يرد مثله، فسيأتي بقدر لا يساوي ربع ثمن ذلك، لا في شكله، ولا في نحوه؛ لأنها إنما هي صناعة يدوية، وهذا الذي وجده، وكذلك في الإبريق، ولئلا يُضَرَّ بالمقرض قلنا: يرد بدله. أليس كذلك؟ ولكن الآن الصناعات كثيرة، ويستطيع أن يأتي بنفس هذا الذي اقترضه، فإذا قلنا: إنه يرد مثله كان ذلك صحيحًا، وكان ذلك مقبولاً.
لكن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: (فَإِنْ فُقِدَ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ فَقْدِهِ وَقِيمَةُ غَيْرِهَا يَوْمَ قَبْضِهِ)، فقوله: (فإن فقد) يعني: فقد المثل، كحال من اقترض مئة وسق من الشعير، على أنه سيرده بعد ستة أشهر. ولكن بعد أربعة أشهر بدأ الشعير يتناقص من السوق، حتى إذا جاء الشهر الخامس لم يجد شعيرًا.
الآن الشعير مكيل أليس كذلك؟ فيقول المؤلف: الأصل أنه يرد الشعير بشعير مثله، ولكنه الآن لم يجد شعيرًا، فيرجع حينئذ إلى القيمة، ولكن ما هي القيمة؟ هل ننظر لقيمة الشعير يوم الاقتراض؟! فكان الوسق من الشعير مثلا يوم الاقتراض بعشرين ريالا، ولكن يوم أن بدأ يُفقد صار الوسق بخمسين ريالا! فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ فُقِدَ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ فَقْدِهِ)؛ لأنه إلى يوم فقده كان يرد المثل، فلما تعذر المثل -تعذر في ذلك اليوم-، فانتقل من المثل في ذلك اليوم إلى القيمة، فكانت القيمة لحال التعثر.
ويقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَقِيمَةُ غَيْرِهَا يَوْمَ قَبْضِهِ)، وأمَّا الأشياء الأخرى التي من حيث الأصل لا مثل لها، سواء فيما مضى غير المكيل الموزون، وفي هذا الوقت ربما تكون أشياء قليلة، ولكن دعني أُورِدها كمثال قد ينطبق وقد لا، ولكنه عند الفقهاء الأولين منطبق، والآن هو منطبق من حيث الجملة.
أعواد البخور -العود القماري- الذي يسميه الفقهاء الألوة ونحوه. لو واحد عنده زواج واقترض ربع كيلو، نقول: مهما أراد أن يجتهد في أن يرد مثل ذلك لم يفعل، فإذًا هنا يقول الفقهاء: هو لَمَّا اقترضه منذ ذاك اليوم وهو يعلم أنه لن يرد مثله، فبناء على ذلك نقول: ترد قيمته. ولكن بأي قيمة؟ قيمة ذاك اليوم الذي اقترضت فيه؛ لأنك اتفقت منذ ذلك اليوم معه على أنه لا مثل له، ومعنى ذلك سيؤول إلى القيمة، فكأنك رضيت أيها المقرض والمقترض على أنك تنظر إلى قيمته في ذلك الوقت، وبناء على هذا إذا زادت القيمة أو نقصت، فنرجع إلى وقت القرض.
قد يقال: رجل أقرض ثم زادت القيمة فصار متضررًا، يعني مثلا: هو لَمَّا أقرضه "ربع كيلو" كان يساوي عشرة آلاف، والآن صار يساوي ثلاثين ألفا. فيقول: إذا ردَّ عليَّ عشرة آلاف صرت متضررًا، وكأني خسرت عشرين ألفا.
نقول: هذا صحيح لو كانت المعاملة معاملة معاوضة، ولكن معاملتك معاملة إحسان، والاتفاق جرى بينكما على البدل، حيث إنَّ القرض من حيث أصله في غير المثليات هو رد البدل، فكأنك رضيت بذلك.
ولهذا أمثلة كثيرة، وربما توجد عند الناس أحيانًا شيء من الإشكال.
والآن أكثر ما يقترض الناس ليس مثل الأزمان القديمة، ففي الأزمان القديمة كانوا يقترضون حتى الثياب ونحوها، وأما الآن فأكثرها في هذه الأوراق النقدية، فلو افترضنا أنَّ شخصا اقترض ألف ريالا مثلا لدولة ما -وليكن دولارًا- دائمًا إذا كان هناك مثال فيه شيء من السوء، لا ينسبه الإنسان إلى نفسه، ولا إلى من يحب، فإذا كنت تقول مثلا: إذا وقع حادث، فلا تقل لمخاطبك: إذا وقع عليك هذا الحادث، وأما إذا كان خيرا يتفاءل به، فلو أسندته إلى مخاطب أو إلى محبوب أو إلى حاضر فلا بأس.
لذا نقول: لو أن شخصًا اقترض من آخر مثلا عشرة آلاف دولار، وهذه الدولارات تساوي بالريال السعودي مثلا سبعة وثلاثين ألف وخمسمئة، وفجأة حصل على هذا الدول انهيار، يعني: صار لا يعادل شيئًا، فبناء على ذلك إذا رددت له العشرة آلاف دولار، فكأنك أضررت به، والآن لو صرفها لا تساوي خمسة آلاف ريال، فنقول: أنت أقرضته ورضيت بدله، فردَّ لك البدل والحمد لله. وكذلك إذا زادت القيمة
والقيمة تتزايد زيادات طفيفة وتقل كذلك، وهذا يتغافله الناس ولا ينتبهون له، ولكن إذا حصل أحيانا هزات كبيرة يتنبهون.
مسألة: قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: لو أنَّ هذه العملة انتهى التعامل بها، أي: ألغى السلطان التعامل بها، فصارت لا قيمة لها. ففي هذه الحالة يرد عليه العشرة آلاف دولار ببدلها، فكم بدلها؟
طبعا البدل يرد بقيمة اليوم الذي فيه ألغيت من قبل السلطان، فإذا كانت تعادل سبعة وثلاثين ألف وخمسمئة فترد بهذه القيمة.
إذًا الأصل أنَّ القرض عبارة عن ردِّ مثله في المثليات، ورد بدله في القيميات، والقيميات كانت في الأزمان الماضية هي الأكثر، وفي هذه الأزمنة صارت المثليات كثيرة جدا، فعلى كل حال مثل ما ذكرنا من التفصيل، إمَّا أن يرد مثله في المثل، أو قيمته في القيمي، وتعتبر القيمة من جهة اللقيمة يوم القرض، وأمَّا المثلِ إذا انعدم فإنما يتحول الى القيمة، ولكن تعتبر القيمة يوم الفقد.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ كُلُّ شَرْطٍ يَجُرُّ نَفْعًا وَإِنْ وَفَّاهُ أَجْوَدَ أَوْ أَهْدَى إِلَيْهِ هَدِيَّةً بَعْدَ وَفَاءٍ بِلَا شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَحْرُمُ كُلُّ شَرْطٍ يَجُرُّ نَفْعًا)، هذا أصل في القرض، والقرض إنما هو طلب مرضاة الله -جل وعلا-، ومن أقرض شخصًا فكانما تصدق عليه بمثليه، جاء في الحديث: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»[3]، فكان له في كل يوم مثل أجريه، وهذا الحديث دالٌ على فضل الإقراض.
إذًا الإقراض حقيقته طلب مرضاة الله -جل وعلا-، فإذا انتقل إلى أن يطلب زيادة أو مُقابلاً على القرض أو الإقراض، فإنه ينتقل من كونه إحسانًا إلى كونه استغلالاً، وهو الربا المحرم، وهو ربا أهل الجاهلية، وهذا الذي ذكرناه في أول باب الربا، أنَّ الربا نوعان:
ربا القرض، ويدخل في كل شيء، وهو أن يؤخذ زيادة عند التأجيل ونحوه، وكان أهل الجاهلية إذا حلَّ الأجل، يأتي إليه فيقول له: إما أن تقضي، وإما أن تربي، يعني: أن تزيد، فلا تزال الظروف تتعاظم عليهم القروض، ويحصل بهم الإضرار، فلما جاء الشرع منع ذلك كله، ولذلك لا يجوز ابتداء أن يقصد شيئًا من عرض الدنيا وزياداتها ونحو ذلك، ولا أن يشترط ما يجري إليه من النفع؛ لأنَّ الزيادة تكون محرمة، وداخلة فيما ذكرناه.
وهذا يحصل كثيرًا، مثل: أنا أقرضك بشرط أن تدخل أولادي للمدرسة، أو أنا أقرضك بشرط أن تفعل لي كذا، أو أقرضك بشرط كذا، فكل هذا داخل في المحرم، ولا يجوز للإنسان أن يتفق عليه، ولا أن يستغل حاجة المقترض، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة:280]، أي: نظرة فقط، ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:280]، أي: إن تعفو عنه، أو تتجاوز، أو تسمح، فإذا أمر الله -جل وعلا- بالإحسان إلى مقترض بالتأجيل إن احتاج، أو بالتنازل إن قدر المقرض على ذلك، فمن باب أولى أيضًا إذا احتاج أن يُقرضه طلبًا لمرضاة الله، لا لزيادة ولا لغيرها، ولو طلب الزيادة لكان إثما، ولأجل ذلك توسع الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في ذكر المسائل التي يكون ضمنها اشتراط نفع، وذكروا لذلك أمثلة كثيرة، فكل مسألة تضمنت نفعًا أو اشتراط نفع المقرض؛ فإنها تدخل في باب الربا، ولأجل ذلك قالوا: لو أهدى إليه هدية؛ لامتنع من قبولها، إلا أن تجري بذلك عادة بينهما، فلو أنَّ مثلاً صديقه في عمله اقترض منه عشرة آلاف، ثم بعد ثلاثة أيام من القرض جاء إليه بلبن، وقال: هذا من مزرعتنا، وهو لذيذ وكذا، وهو يعرفه من عشر سنين ولم يرسل إليه شيئا، فإنه إنما أرسل لأجل الإقراض، وكل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا، فلا يجوز له أن يقبله، قالوا: وإن قبله على نية المجازاة، أو إسقاط ذلك من القرض جاز. وإلا فأخذه له مع عدم سابق عادة بينهما فلا يجوز.
أمَّا لو اقترض الأخ من أخيه خمسة آلاف، ثم بعد ثلاثة أيام أرسل إليه كيسًا مملوءًا بالفواكه، فهذه عادة بين الإخوة فيما يعتادونه، أو بين الصاحب وصاحبه، فنقول: هذه لا يظن أن سببها ذلك، وبالتالي لا حرج عليه إذا أخذها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ وَفَّاهُ أَجْوَدَ أَوْ أَهْدَى إِلَيْهِ هَدِيَّةً بَعْدَ وَفَاءٍ بِلَا شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ) يعني: هو استسلف منه وردَّ إليه ما هو أكبر منه وأحسن فلا بأس، أخذ منه دابة هزيلة ورد إليه مثلها وهي سمينة صحيحة، فهذا من خيركم وأحسنكم قضاء، أو أهدى إليه هدية بعد وفاء بلا شرط، فلا بأس، وبناء على ذلك لا غضاضة إذا كان إذا لم يشترط، وأمَّا إذا اشترط صار من قبيل: كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا، فإذا وفاه بعد القرض؛ فإنه لا يدخل في الربا ولا يتعلق به، وإلا فلا.
طيب لو أنَّ شخصًا عرف من عادته أنه يُحسن إلى من أقرضه، فكون ذلك عادة له وأقرضه شخص، وهو يظن أنه سيرد إليه أحسن، فيقول الفقهاء: لا حرج في ذلك؛ لأنه لا يلزمه بذلك شيء، ولو لم يسمح حال المقترض برد أطيبه، فرد مثله، لم يستطع ذلك أن يطالبه، ولا سبيل له هو عليه، وبناء على ذلك يقولون: إن ذلك لا يمنع صحة القرض والاقتراض، وإن ظن أنه لطيب خلق المقترض، وما عرف عنه من فضله وإحسانه إلى من أحسن إليه أنه يرده أحسن، فلا يمنع ذلك من صحة القرض والاقتراض، ولو غلب على الظن أنه يهده أو يعطيه بعد انتهاء القرض وخلاصه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ)}.
هذا الفصل لا أدري هل يسعفنا الوقت أو لا؟ على كل حال نأخذ فيما تبقي من الوقت وإن كان قليلا.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام الرهن، وأحكام الرهن هو شروع من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في عقود الاستيثاق، فإنه لَمَّا كانت كثير من المعاملات ليست حاضرة في مجلس العقد، كما تقدم معنا، إمَّا بيوع التقسيط والأجل، أو السلم ونحوها، ففي كل هذا يحتاج إلى توثيق الإنسان حقه إلى أن يصل إليه، وأن لا يمطله من تعاقد معه، أو يبخسه حقه، وبناء على ذلك اقتضى ما يستوثق به، وفي مثل هذا يبحثون هذه الأبواب التي هي: (باب الرهن)، و (باب الضمان)، و (باب الكفالة)، وكلها دائرة في فلك واحد، وهي عقود للاستيثاق، أي: عقود التوثيق، أن يوثق صاحب الحق حقه بهذا الرهن الذي يجعله إذا تعذر الوفاء من صاحب الحق، بيع الرهن واستوفي منه، وإذا تعذرت التوفية من صاحب الحق ذهب الى الضامن وطالبه بذلك، وإذا اختفى عنه صاحب الحق ذهب إلى الكفيل، وطالبه بأن يحضر هذا عليه الدين، وأن يُوفيَ له، ويتبين من هذا الفروق بينهما، وسيتبين ذلك فيما يأتي -بإذن الله جل وعلا-.
الرهن مأخوذ من الماء الراهن، وهو: الراكد؛ لأنَّ هذا الرهن يستقر بيد المرتهن حتى يُوفَّى حقه، ومتى ما وَفَّى حقه ردَّ الرهن إلى صاحبه، وهنا سيشرع المؤلف في ذلك.
والرهن مشروع في الجملة، وقد جاءت فيه النصوص أن الله -جل وعلا- قال: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة:283]، وجاء في الحديث عن النبي ﷺ: «لبنُ الدَّرِّ يُحْلَبُ بنفَقَتِهِ إذا كانَ مَرْهونًا، والظهرُ يُرْكَبُ بنفَقَتِهِ إذا كانَ مَرْهُونًا، وعلى الذي يرْكَبُ ويَحْلِبُ النفقةَ»[4]، مما يدل على مشروعية الرهن وجوازه في الجملة.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله تعالى- في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] رواه البخاري.
[2] أخرجه مسلم (2699).
[3] صححه الألباني في "الصحيحة" (86).
[4] رواه البخاري (2512).