الدرس الرابع والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الرابع والعشرون

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابتهِ ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات)، للإمام ابن بلبان الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحهِ فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله شيخ عبد الحكيم}.
حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{الله يبارك فيكم ويسلمكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند فصلٍ في الجوار، فهل نبدأ على بركة الله؟}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا حَصَلَ فِي أَرْضِهِ أو جِدَارِهِ أو هَوَائِهِ غُصْنُ شَجَرَةِ غَيْرِهِ أو غُرْفَتِهِ لَزِمَ إِزَالَتَهُ وَضِمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ بَعْدَ طَلَبٍ، فَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ فِي اَلْغُصْنِ وَلَوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَهُ قَطْعُهُ بِلَا حُكْمٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عبادهِ الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يحفظنا، وأن يحفظ المسلمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا، ولجميع أهل الإسلام والمؤمنين يا رب العالمين.
لا يزال الحديث موصولًا فيما استهللنا به المجلس الماضي (فصلٌ في أحكام اَلْجِوَارِ)، وذكرنا أنَّ الجوار مأمورٌ بالإحسان فيه والقيام بحقهِ، وأنه لَمَّا كانا يتجاوران ويتقاطعانِ في أشياء كثيرة، بُدٌ من أن ينشأ في النفوس شيء، أو أن يحصل في ذلك تنازعٌ أو تداخلٌ أو ما سواه، مما ينزغ فيه الشيطان نزغته، ويُكبر الثغرة فيه وفرجته؛ أراد الشارع أن يُنظم ذلك، وأن يُبين لكل ذي حقٍ حقه، وأن يجمعهما.
ومناسبة ذلك: بعد باب الصلحِ لأن يصطلحا ولا يختلفا، وإن أبيا إلا أن يعرف كل واحدٍ حقه، فإن ذلك مدونٌ عند الفقهاء، معلومٌ عند العلماء، مبينٌ على أدق تفصيلٍ وأظهر ما يكون من البيان.
فيقول: (وَإِذَا حَصَلَ فِي أَرْضِهِ أو جِدَارِهِ أو هَوَائِهِ غُصْنُ شَجَرَةِ غَيْرِهِ)، يعني أن الإنسان تنبت شجرته فتمتد جذورها حتى تدخل على جاره، فهذه ربما يكون فيها أذيةٌ على الجار بأن تُشقق عليه الأرض، وربما كان فيه بعض أساسات بناء، أو كان فيها مثلًا حاجةٌ إلى أن يزرعها، وهذه ربما تفسد زراعته... ونحو ذلك.
ومثل هذا إذا كان في (هَوَائِهِ غُصْنُ شَجَرَةِ)، فمعنى ذلك أنها يمكن أن تَحْتُ من أوراقها، وأن تخدش عينًا، أو تُحيط بالمكان بما لا يمكن الإفادة منه... إلى غير ذلك من الأشياء التي تحصل.
فكل ذلك: إن لم يتفقا أو يتأتيا أو يتواضعا أو يتسامحا؛ فهذه زيادة، وهذه الزيادة داخلةٌ على حق الجار، فيجب إزالتها؛ لأن عند الفقهاء: من مَلك القرار فقد مَلك الهواء، فمالك هذا القرار يملك ما فوقه، فما دخل عليه يجب أن يُرد ويعاد.
كما أنه يملك ما نزل في أرضه، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي قال: «من ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ»؛ بمعنى قال أهل العلم أن في هذا إشارةٌ إلى أن ما نزل من الأرض وانخفض منها أو دخل فيها، فإنه تابعٌ لمن مَلك سطحها، فسواءٌ كان هواء في غصن شجرةٍ أو نحو ذلك.
(أو غُرْفَتِهِ)، يعني بعض الناس إذا بنى ما علا من البيت، أخرج في ذلك عيدانًا أو مثلًا سَلك فيه مسالك الآن الخرسانة أو نحوها، بأن يجعل لها جسورًا تمتد، فبناءً على ذلك تكون هذه الغُرفة بعضها في بيت جاره.
فنقول: من أنه إذا اشتكى من ذلك الجار لزمت الإزالة، ولم يَجْز له أن يبقيها؛ لأن هذا اعتداءُ على حقه، وافتياتٌ على بيتهِ؛ لأن من مَلك قرارًا مَلك هواءً.
ولذلك قال: (وَضِمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ بَعْدَ طَلَبٍ)، فهذه الغُرفة، لو أن شخصًا من أهلهِ مرَّ فضرب في سقفها فأدمت رأسهُ، أو فقأت عينه، ضمنها صاحب الغرفة، لكن بشرط أن يكون بعد المطالبة؛ لأنه قبل المطالبة كالإشارة إلى الإذن والمسامحة.
فبناءً على ذلك لم يتعلق به حق، فإنما يتعلق الحق بإظهار عدم الرضا، فإظهار عدم الرضا هو الذي يعتبر أنه أبان عن عدم رضا واعتداء جاره، فتعلقت به حقوق الضمان وما يتبع ذلك من غُرم، وجنايةٍ، وسواها.
قال: (فَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ فِي اَلْغُصْنِ وَلَوَاهُ)، يعني: في الغصن بذاته لم يُجبر، لماذا؟
يقولون: إنَّ الغصن ليس هو من فعله، ليس هو الذي مده، هو امتد بنفسه، وليس مثل الغرفة، الغرفة هو الذي بناها فيلزم ويُجبر، ولا مناص عن ذلك، لكن الغصن يقولون: هو هذا، قال: أزل هذا الغصن، فالأصل أنه يُزيله، لكن لو تعنت، وقال: لا، ولا كذا.. فنقول: ليس عليك أن تُلزمه به؛ لأنه ليس هو الذي مده، لكن أيضًا ليس لك أو ليس عليك أن تبقيه في أرضك، فليس لك أن تصرفه عنها.
فإذا كان صرفهُ أو ليهُ عن أرضهِ من مسئولياتي؛ لأنني أبعدها عن أرضي، فكان ذلك لازمًا عليّ، فإن لم يمكن كأن يكون قويًا أو صلبًا أو نحو ذلك فله قطعه؛ لأن هذا معتدي ويُصرف بالأقل فالأقل، إذا أمكن ليه لواه، إذا لم يكن ليه فهو اعتداءٌ، والاعتداء ينفي الضمان ويوجب الإزالة والإتلاف.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَجُوزُ فَتْحُ بَابٍ لِاسْتِطْرَاقٍ فِي دَرْبٍ نَافِذٍ، لَا إِخْرَاجُ جَنَاحٍ وَسَابَاطٍ وَمِيزَابٍ إِلَّا بِإِذْنِ إِمَامٍ مَعَ أَمْنِ الضَّرَرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مُلْكِ جَارٍ وَدَرْبٍ مُشْتَرَكٍ حَرَامٌ بِلَا إِذْنِ مُسْتَحَقٍ)}.
قبل أن نأتي إلى هذه المسائل، قال المؤلف: (بِلَا حُكْمٍ)، يعني: أن المسائل المتقدمة لا يحتاج فيها إلى حكم حاكم، ولا ترافعٍ، ولا مداعاة، بل للإنسان أن يزيلها؛ لأنها ليست محل اختلاف، والحكم فيها ظاهرٌ، والحق فيها جليٌ، فلا يفتات فيها، ومن أفتيت عليه في ذلك، جاز له أن يزيلها، وأن يمنع ما دخل عليه من اعتداء، أو أي أذى من جاره.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَجُوزُ فَتْحُ بَابٍ لِاسْتِطْرَاقٍ فِي دَرْبٍ نَافِذٍ)، الدروب فيما مضى إما دروب نافذة أو غير نافذة، فالدروب النافذة هو ممر يمكن أن يذهب الناس منه ويجيئون، فلا إشكال، لو أنَّ شخصًا له دار، أو بيت، وأراد أن يفتح فيها بابًا فله ذلك؛ لأن هذا من المنافع المشتركة، فيجوز للناسِ أن يشتركوا في ذلك، هذا له بابُ أو بابين، وهذا له باب أو ثلاثة أبواب، الأمر في ذلك متسع.
وهذا إنما هو في أصل الشرع من حيث الإذن المطلق، أمَّا إذا كان فيه تنظيمٌ مخصوص من الإمام أو من يقوم مقامهُ من الجهات المنظمة لذلك، مثل: البلديات ونحوها، فهما على ما نظموا عليه؛ لأنهم يرعون في ذلك المصلحة العامة بوجهٍ أتم، فبناء هذا في دربٍ نافذ.
الدرب غير نافذ: هذا في بعض الأحوال لا يجوز، وفي بعض الأحوال يجوز له، فإذا كانت المنفعة من حيث الأصل مقصورةٌ على أهل دارين هم الذين فتحا هذه الفرجة فلا يكون ذلك بدون إذنهما، فبناءً على هذا الدرب غير النافذ لا يكون إلا فتح الباب فيه إلا مقيدًا.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لَا إِخْرَاجُ جَنَاحٍ وَسَابَاطٍ)، الجناح ما هو؟ يعني أن يُخرج مثل بعض الدار، أو شيءٍ من الخشب، أو نحو ذلك. ويبنى عليها أو نحوه، فتكون مقيدةً لمنفعة الناس من الطريق، ربما تضطر بعض الناس إلى أن يخفض رأسه، أو إذا كان على دابته أن يتوقى ذلك، أو نحوها.
والساباط يقولون هو أن يُسقف الممر بين الدارين المتقابلتين، فهذا فيه ضررٌ كثير على الناس؛ لأنه يَحد من انتفاع الناس واستفادتهم من ذلك، ومثل ذلك الميزاب الذي هو مخرج المياه، تصريف ما اجتمع من مياه الأمطار ونحوها في سطحٍ ونحوه.
فلما كانت هذه الأشياء مقيدةً لنفع الدروب والطرق ونحوها، لم يجز فعل شيءٍ منها إلا بإذن الإمام؛ ولأن مثل هذه الأشياء إنما فُعلت في غير ملكك، أنت امتددت إلى ما المسلمون مشتركون فيه من الطرقات والمنافع وغيرها، والمنظم لذلك والمرتب لمنافعها هو الإمام، فهو الذي يقدر فيما يكون في ذلك من النفع، وما يكون فيه من الضرر، وما يكون فيه من الأذى، وما لا يكون ونحو ذلك وآليته.
طبعًا هذا فيما مضى كان بالأمور اليسيرة أو مما ذكروا، الآن وجدت بعض أو أشياء كثيرة منظمة لهذه الأشياء، وهي مبنيةٌ على ما ذُكر هنا من الحاجة، ومن عدم الإضرار بالغير، ومن دخول الشيء في ملكه من عدمه وإمكان تحصيل ذلك بدون ضررٍ على أحدٍ سواه.
فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (بِإِذْنِ إِمَامٍ) أو نائبه، مثل: البلديات أو الجهات المنظمة، (أَمْنِ الضَّرَرِ)، على الغير.
إذا حتى لو أذنت الجهة لكن فيه ضرر، فإن ذلك لا يكون كافيًا في خلوص التبعة أو عدم المسائلة لمن فعل ذلك.
مثل هذا الآن في كثير من ذلك: الدَّرج الذي يُجعل في مدخل البيوتات ويمتد في الطريق، بعضه قدرٌ مأذونٌ فيه؛ لأنه يحتاج إليه عموم الناس ولا تضييق عليهم، ويأذن فيه الإمام، وبعضه يكون ممتدًا ويكون ربما عائقًا في الطريق أو مضيقًا له فلا يكون.
مثل ذلك أيضًا ما يُجعل من مزلقان لدخول مركبةٍ أو سيارةٍ أو نحوها، فبعضه قدرٌ مأذونٌ فيه لا أذية فيه ولا إشكال، وبعضها يمتد فربما تعثرت بعض السيارات، أو أضاقت الطريق عليها، أو حبست مياه الأمطار؛ فكانت تجتمع في مثل هذا المكان فتؤذي الجيران الذين قبله أو نحو ذلك.
فالمهم: إذا حصل بشيءٍ من ذلك ضرر أو لم يحصل في ذلك إذن إمام، فيلحق الإنسان التبعة، فيلزم إذا أن يكون فيه إذنٌ من الإمام، وأمنٌ من الضرر في مثل ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وفعلُ ذلك في مِلْكِ جارٍ ودَرْبٍ مُشتَرَكٍ حرامٌ بلا إِذْنِ مُسْتَحِقٍ)}.
قال: (وفعلُ ذلك في مِلْكِ جارٍ)، إذا كان مثلًا مزرعتان إحداهما لك والأخرى لجارك، وربما لو أردت أن تَخرج إلى الجهة الخلفية لاحتجت في ذلك إلى وقتٍ طويل، أو إلى مسافةٍ بعيدةٍ جدًا؛ لكون المزارع ملتصقةٌ بعضها ببعض، فيحتاج الإنسان أحيانًا أن يخرج من خلال مزرعة جاره.
فنقول: إن هذا محقوقٌ للجار، فإن أذن فبها ونعمة وإلا فلا، فلا يُفتات عليه ويحرم عليك أن تفعل ما يكون عليه فيه أذية، ولذلك قال: (بلا إِذْنِ مُسْتَحِقٍ)؛ لابد أن يكون فيه إذن، وأن يكون مستحقًا.
مثل ذلك قال: (وفعلُ ذلك في مِلْكِ جارٍ ودَرْبٍ مُشتَرَكٍ) محرمٌ، أحيانًا بعض الناس يحتاج إلى أن يمرر مثلًا أسلاك الكهرباء، هذه ربما يكون فيها ضرر على الجار، ربما يكون فيها أثر، فلا يجوز أن يكون شيءٌ من هذا بدون إذنه، ومثل ذلك أن يجعل ممرًا للمياه، فإنه لا يخرج إلا على سطح جاره، فنقول: لا يجوز ذلك بدون إذن، لكن إذا أذن فكان ذلك على ما اتفقا عليه.
{ثم قال- رحمه الله-: (وَكَذَا وضع خشب إلا ألا يُمكن تسقيف إلا بِهِ وَلَا ضَرَر فَيجْبر)}.
قلنا: (ودَرْبٍ مُشتَرَكٍ)، كما قلنا هذا الدرب غير النافذ، والدرب المشترك، فإذا كان يريد أن يفعل شيئًا في هذا الدرب المشترك فإنه لا يفتات عليهم، بل لابد أن يستأذن أهل ذلك الدرب وأن يطلب إذنهم؛ لكونهم المستحقين لمنفعتهِ المشتركين في هذا الدرب وما يترتب عليه.
قال: (وَكَذَا وضع خشب إلا ألا يُمكن تسقيف إلا بِهِ)، الأصل أن الإنسان يضع خشبهُ على جداره، لكن في بعض الأحوال يتعذر عليه ذلك، خاصة في الأبنية القديمة فإن الإحداث فيها أو الزيادة أو النقصان تكون فيها من الخطورة ما فيها، فكونهُ يعتمد على جدار جارهِ لا يجد غير ذلك، المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إن ذلك جائزٌ بشرطه (ألا يُمكن تسقيف إلا) بذلك، وأن يضطر إليه، وأن لا يضطر إليه فلا يجد شيئًا سواه.
أما إذا وجدت مثلاً آلات تسقف لك دارك بدون ما تحتاج إلى مثل هذه الخشب لتجدد الآلات، وتنوع استخداماتها، أو غير ذلك من الأشياء، فلا يجوز لك، ولا يلزمه الإذن.
لكن إذا تعينت حاجتك، وتعين جدار جارك، ولم تجد شيئًا سواه، فإنه لا يجوز له أن يمتنع لِمَا جاء في حديث أبي هريرة: «لا يمنعُ أحدٌ جارَه أن يغرِزَ خشبه في جدارِه، ما لي أراكم عنها مُعرِضين، واللهِ لأرميَنَّ بها بين أكتافِكم»، يقولها أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-إشارةً إلى وجوب الاستسلام والانقياد لأمر النبي في الإحسان إلى الجار عند اضطراره إلى هذه الحال.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا ضَرَر فَيجْبر)}.
(وَلَا ضَرَر فَيجْبر)، أيضًا إذن الجار لجاره مقيدٌ بألا يكون ضررٌ عليه، فلو كان عليه ضرر كأن يكون الجدار لا يحتمل، ويخشى أن يكون فيه سقوطٌ أو أن يكون في ذلك دخول لهذه الخشبات، وهذا يتعذر عليه معه الانتفاع بداره، لكونها منخفضة، فيوشك أن تضرب في رؤوسهم، أو يستعملونها كمستودع يجعلون فيه أشياء رفيعة، فهذه تحول بينهم وبين الاستداعِ فيها ونحو ذلك، فكيف ما كان، المهم مدام أن فيه ضرر فلا يُجبر حتى ولو احتاج إلى ذلك الجار.
أما إذا لم يوجد الضرر فيحصل الإجبار، ويجب عليه الاستسلام والانقياد لأمر النبي والإحسان إلى الجار.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَسْجِد كدار)}.
(وَمَسْجِد كدار)، مسجد وإن كان وقفًا، لكن أحكامه أحكام الدار إذا تجاورا، فمن احتاج إلى أن يغرس خشبه في جدار مسجدٍ جاز بشرطه، ألا يجد طريقًا أخرى يعني بأن يضطر إلى ذلك، وألا يوجد ضررٌ عليه في تلك الحال، فيغرس الخشب في جدار المسجد وإلا فلا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ طَلَبَ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ أَوْ سَقْفٍ اِنْهَدَمَ شَرِيكَهُ لِلْبِنَاءِ مَعَهُ أُجْبِرَ كَنَقْضٍ خَوْفَ سُقُوطٍ، وَإِنْ بَنَاهُ بِنِيَّةِ اَلرُّجُوعِ رَجَعَ، وَكَذَا نَهْرٌ وَنَحْوُهُ)}.
(وَإِنْ طَلَبَ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ أَوْ سَقْفٍ اِنْهَدَمَ شَرِيكَهُ لِلْبِنَاءِ مَعَهُ أُجْبِرَ)، لو كانا شخصين مشتركين، لو كانا شخصين اشتركا في مثلًا بناء حائط، ثم انهدم بعض هذا الحائط، فاحتاج إلى البناء، فقال أحدهما أنا أبنيه، قال الآخر: لا.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: مدام أنهما شريكان فيلزمهما البناء.
ولذلك قال: (وَإِنْ طَلَبَ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ شَرِيكَهُ لِلْبِنَاءِ مَعَهُ أُجْبِرَ)، ومثل ذلك لو كان قد سقف سقًفا مثلًا وجعله مستودعًا، ثم سقط بعض ذلك السقف، وهو مشترك بينهما، فأحدهما لا يعبأ بها أو لا يهتم أو نحو ذلك، والآخر محتاج، فإن سقفه هو فكأنه أحسن إلى جاره وتضرر هو، وإن لم نجبر الجار فإن ذلك يفضي إلى أن يبقى، هذا غير منتفعٍ به.
فيقول الفقهاء -رحمه الله تعالى-: مادام أنهما يشتركان، فإن الممتنع يجبر منهما، فيسقفان الدار أو المستودع أو هذه المحل التي ينتفعان منها، ولا يجب أن ينفرد بذلك أحد، ولو كان هو المستفيد منها.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (كَنَقْضٍ خَوْفَ سُقُوطٍ)، ومثل ذلك لو كانت لهما هذا الجدار أو هذه الدار، وتصدعت الجدار، وخافا أن تسقط على أحدٍ فتهلكه، فقيلا لهما أزيلاها، أحدهما مسافرٌ في بلدٍ بعيد ولا يهتم ويعرف أنه لن يطالب، قال: لا لن أفعل، نقول: مادام أن هذه دار فيلزم، وأنتما تشتركان فيها فيلزمكما على حدٍ سواء، فبناءً على ذلك نقول: من أنهما يشتركان في نقضها؛ لئلا تسقط فتؤذي المسلمين فيموت تحتها دابةٌ أو إنسانٌ أو غير ذلك.
قال: (وَإِنْ بَنَاهُ بِنِيَّةِ اَلرُّجُوعِ رَجَعَ)، يعني لو كان مسافر وما استطاع الوصول إليه، ويخاف في النقض أن يسقط، أو خاف في تركه ساقطًا من أن يُبنى، فمثلًا نقضه لئلا يسقط على أحد، والنقض يحتاج إلى عمال، ويحتاج إلى فلوس، ويحتاج إلى كذا.. فنقض بنية الرجوع، قال: كلف ثلاثة آلاف سيكون عليَّ ألف وخمسمائة وعليَّ ألف وخمسمائة، نقول: له أن يرجع، لا إن فعل ذلك متبرعًا.
ومثل ذلك لو بنى السقف، قال: الآن بيجي المطر وأنا تحته لي علف الدواب وبعض أسمدةٍ ونحوها تحتاج إلى أن تُسقف؛ لئلا تتضرر بالماء وتفسد، فسقفها، ولما سقفها سقف الذي يتعلق به والذي يشترك معه فيه غيره، فنقول: إذا رجع هذا الشخص له أن يطالبه مادام قد نوى الرجوع، أما إذا نوى التبرع أو لم يحدث في نفسه الرجوع، ثم لما رجع هذا وجد بينهما شيءٌ من الحزازة، فقال: أطالبه! نقول: لا يجوز؟
إذًا لا تجوز المطالبة إلا أن تكون نية الرجوع حاضرةً عند ابتداء البناء، أو فعلِ ذلك على سبيل النيابة عن الغير.
قال: (وَكَذَا نَهْرٌ وَنَحْوُهُ)، هذا ذِكر أمثلة كثيرة، وفيما توسع من الكتب يذكرون ما هو أكثر من ذلك بكثير، والناس بحاجة إلى مثل هذه الأمثلة.
ما معنى (وَكَذَا نَهْرٌ وَنَحْوُهُ)؟ يعني لو أنهما فيه جدولٌ يشتركان فيه، احتاج هذا النهر إلى توسعةٍ في ممره؛ حتى يصل إلى البيوتات كلها، أو كان فيه بعض قذرٍ يحتاج إلى تخليصه منه، أو وجدت فيه شوائبُ تمنع وصول الماءِ إلى من بداخل أو من هم في نهاية الجدول، أو سوى ذلك، فإنهم جميعًا يشتركون فيما وجب، ويلزم كل واحدٍ أن يدفع قسطه، ولا يختص أحدٌ بالتبعات في ذلك.
ومثل هذا قالوا: لو احتاجوا إلى آلة لسحب الماء أو لتسهيل وصوله، كأن ينخفض مستوى النهر فيأتيانِ بمضخةٍ تضخ ليزيد أو يحفران قليلًا لينخفض مستوى جدولهم، فيعود الماء إليه كما كان، أو نحو ذلك من الأشياء.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ: وَمَنْ مَالُهُ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ حَالًّا وَجَبَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَلَبِ بَعْضِ غُرَمَائِهِ)}.
هنا (فصلٌ) وهذا الفصل معقودٌ في الحَجر، والحَجر بمعنى المنع، ومنه سمي الِحجر حِجرًا لأنه بمعنى العقد؛ لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما يكون فيه السفه، وهو منع مالكٍ من التصرف في ماله، أو في مالٍ وذمته.
فيقول أهل العلم: أن الحَجر نوعان:
1. حَجر سفهٍ.
2. وحَجرٌ لحظ غيره.
وحجر السفه مثل: الصغار، المجانين، الأيتام... ونحو ذلك.
حجر لحظ الغير هو المفلس إذا كان عليه ديونٌ للغير، فيحجر عليه لأجل الغرماء؛ فلئلا يُفوت عليهم قضاء ديونهم، أو بعضها بقدر ما يتحصل لهم في ذلك.
والنبي حجر على معاذ بن جبل وباع ماله، وفي ذلك أيضًا قَصصٌ مشهورة في قصة جابر وغيرها؛ كل ذلك يدل على هذا؛ ولأن الله -جلّ وعلا- قال: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء:5]، كل هذا يدل على ماذا؟ على مشروعية الحجر على من لا يُحسن التصرف في المال، أو من تعلق بمالهِ حق حدٍ سواه.
وهذا من الشارعِ هو ضبطٌ للتصرفات، ومنعٌ للسفه والمغامرات؛ لأن المال يتأتى في أيدي السفهاء والصغار من إرثٍ وسواه، فلو خُلي بينهم وبينه لأتلفوه في أيام، مع كونهِ نفعهُ يبقى لهم طول حياتهم، وكونهم لا يقوموا بهم إلى أن ينتفع به أبناؤهم، وقد يضيعونه بفعل السفه، وعدم معرفة أثر المال وقيمته، فمنع الشارع من تعاطيهم له، وأقام عليهم الأولياء ليقوموا عليهم بالمصالح، وليحفظوا لهم المال.
ويكون في ذلك تحصيل المنفعتين:
الإنفاق عليهم من أموالهم، وعدم إحواجهم إلى غيرهم.
ومنع إتلافها، واللعب بها بما يفوت منفعتها عليهم إذا كبروا واحتاجوا إليها في بناء بيتٍ، أو نكاحٍ، أو تزويج ولدٍ، أو سوى ذلك من نفقةٍ وغيرها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَمَنْ مَالُهُ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ حَالاًّ)، إذًا هذا هو في النوع الأول من أنواع الحجر، وهو من يُحجر عليه لحظ غيره، قد يكون الرجل عاقلًا، وقد يكون الرجل من أتم الناس فهمًا، وقد يكون من أحسن الناس معاملةً، ولكن لا تأتي الأمور على ما يريد، فتكالبت عليه الديون وأرهقته المطالبات.
فالمهم: مادام أنَّ ماله لا يفي بما عليه حُجر عليه، ولا اختلاف في هذه الحال بين أن يكون من أكمل الرجال عقلًا وديانةً، أو كان دون ذلك، فمادام أن عليه دينا، وماله الذي عنده لا يفي بهذا الدين، فإنه يُحجر عليه.
وهنا قال: (وَجَبَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ)، والوجوب هنا لتحقيق مصلحة الغرماء، ولئلا يفتات عليهم؛ ولأن السلطان قائم على الناس بإعطاء كل ذي حقٍ حقه، ومنع أحدٍ أن يتسلط على الغير بإتلافه.
فهذا المال الذي بيد المفلس، وإن في الظاهر ملكه، إلا أنه لَمَّا كانت عليه الديون، فإنه في الحقيقة مال غيره، فالشارعُ أمر بالحجر عليه، ليأخذ هذا المال ويعطيه من المال له حقيقةً، ويعود إلى من له من الغرماء، ولذلك قال: (وَجَبَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَلَبِ بَعْضِ غُرَمَائِهِ)، يعني: لا يشترط في الَحجر أن يطلب في ذلك جميع الغرماء.
وأيضًا هنا مسألة: وهو أنه لَمَّا كانت هذه من المسائل التي لا يستطيع الإنسانُ أن يعرفها، فإنَّ الحجر على شخص لا يتأتى بدون حُكم حاكم، أي: لابد من حكم الحاكم؛ لأنه هو الذي يستطيع أن يُحصي أمواله، وأن يعرف ديونه، وأن يقرر في تلك الحال: هل هو مستحقٌ للحجرِ لكون ما عنده لا يفي أو لا؟! وبناءً على ذلك يتركه ويُؤمر بالوفاء.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَسُنَّ إِظْهَارُهُ) يعني: يُسن الإظهار، يقال: إن فلانًا مفلس، إن فلانَا محجور عليه، لماذا؟ حتى لا يتضرر الناس بالتعامل معه، فقد يأتي من يظنهُ على الحال التي أَلِفه عليها من، كثرة مال أو حسن تعامل، أو نحو ذلك؛ فيبيع ويشتري معه بمؤجل، فيفضي في ذلك إلى أن يُدخله في ورطة، وأن يلحق به في ذلك شيءٌ من اللوعة؛ وكأن يقول: كيف تعاملت معه وأنا لم أعرف بإفلاسه! وكيف تعاملت مع هذا المحجور عليه وأنا لم أدر؟
فإظهار ذلك حسن، وفي هذا الوقت الآلية في إعلان هذه الأمور وبيانها، ووجود بعض التنظيمات المشرعة لها مسهلةٌ للوصول إلى هذا المعنى، وإن كان لا ينفك كثيرٌ ممن عرفوا بالتلاعب بأموال الناس، واللعب بذممهم بذمم أنفسهم، وتحميلها ما لا تحتمل من الأموال، ويسلكون في ذلك مسالك رديئة وخفية في إظهار ما هم فيه من النعمة، مع ما هم عليه في الحقيقة من المطالبة، فيُظهرون ذلك إما ببيتٍ فسيح، أو بسيارةٍ فارعة، أو بإظهار بعض أعطياتٍ جزلة.
وعلى حين أنه في الحقيقة أسوأ ما يكون، هذا نوعٌ من المكر، والخديعة، والظلم، والعدوان، لا يمنع صاحبهُ من التبعة عند الله، ولا يحول بينه وبين أن تَعظم سيئتهُ وتشتد بين يدي الله -جلّ وعلا- مطالبته.
ينبغي للإنسان أن يتقي الله في ذمته، فلا يحمل عليها ما لا تطيق، ولا يُدخل على نفسه ما يرهقه، ويزيد من همهِ، ويفسد عليه طعم حياته.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ إِظْهَارُهُ وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَا إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ، بَلْ فِي ذِمَّتِهِ فَيُطَالَبُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ)}.
إذًا هذا شروع من المؤلف-رحمه الله- فيما يترتب على الحجر:
الأول: قال: (وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ)، إذًا مالهُ الذي بين يديه هو لا ينفذ، لو أعطى منه لم يجز عطاؤه، ولو باع فيه أو اشترى لم يجز.
{كامل المال ولا فقط المال المحجور عليه؟}
ما دام أعلن إفلاسه، فإنه يحجر عليه في جميع ماله، وبالتالي لا يجوز له أن يتصرف في قليلٍ أو كثير، والتصرف بيد السلطان، أو من يقيمه مقامه من القاضي ونحوه.
(وَلَا إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ)، ما معنى (وَلَا إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ)؟
يعني لا يأتي ويقول: هذه السيارة هي لأخي فلان، هو أقر على ماله، لكن هذا الإقرار هو مفضٍ إلى الإضرار بالغُرماء، فكأن الغرماء لَمَّا كانوا سيقتسمون السيارةَ والمال الموجود في البنك ومزرعته.. ونحو ذلك من أغراضه، السيارة أخرجها، أراد أن يحميها، فهو متهمٌ في هذا، حتى ولو كان كذلك في الحقيقة، ما دام أنَّ هذا من مالهِ، ولم يثبت سواه، فإنه يدخل فيما يتعلق به الحجر، ويلحقه به تبعته.
قال: (بَلْ فِي ذِمَّتِهِ)، إذا تصرف يتصرف في ذمته، أما أمواله فلا، فلو قال الشخص: تبيعني، في ذمتي لك مائة ألف؟ قال: أنت مفلس، والآن قال: أنت تعرف أني مفلس، لكن أنا قادرٌ على البيع والشراء، وحُسن إدارة الأموال، والعود إلى ما كنت، وهذا كان بسبب كذا وكذا، وأنت تذكر أنه قبل خمسة عشر عامًا حصل لي نفس ذلك، واستطعت أن أجمع من الأموال أضعاف هذا.
المهم: ما دام في ذمته فلا بأس، لكن في المال لا، لئلا يُضر بالغرماء.
قال: (بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ)، فإذا فُك الحجر عنه، وبقي له مال، فله أن يتصرف.
وما تصرف في ذمته من أموال ونحوه: ليس لذلك الذي تعامل معه في الذمة أن يُشارك الغرماء، يعني لو قال مثلًا، قال له: أنا أشتري منك في ذمتي، قال: أنت الآن مفلس، قال: لا أنت تعرف أني بغتني، أنا عندي صفقة كذا، وعندي كذا، فعامله على أن يؤديه بعد شهرين، وبعد شهرين لم يكن الغرماء قد انتهى أمرهم في توزيع مالهم من الأموال، وجاء هذا يطالب، نقول: لا، أنت ليس لك في هذا المال حق، أنت دخلت على بصيرة وعاملته في ذمته، فحقك بعد فك الرهن، هذه الأموال للغرماء الذين دخلوا قبل الحجر عليه، أما من دخل بعد الحجر عليه فكأنه تقحم ما يعلمه، فيتحمل تبعة ذلك، فيقول المؤلف إذًا (فَيُطَالَبُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ)، أما قبل ذلك فلا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ سَلَّمَهُ عَيْنَ مَالِ جَاهِلِ الْحَجْرِ أَخَذَهَا إِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا)}.
هذه مسألة مشهورةٌ عند الفقهاء، وهي مشهور المذهب عند الحنابلة التي هي قول الجماهير، خلافًا للحنفية أنه من وجد ماله عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به، من وجد عين ماله، فلو أن شخصًا مثلًا قبل أن ُيحجر عليه باعه سيارة، وهذه السيارة بحالها، وهو لم يستلم منها ريالًا، فيقولون: أنه أحق بماله، مادام أنه..
• أول شيء: ألا تكون مثل ما يقول.
• ألا يكون تصرف فيها.
• وألا تكون تغيرت.
• وألا توجد فيها زيادةٌ متصلة.
فذكروا فيها شروطًا سبعة، وأن يكون جاهلًا بالحجر، فإذا كان كذلك في هذه الحال هو أحق بها، ولا يكون أسوة الغرماء، يقولون: لأن لا يزال هو متعلقٌ بعين ماله، وهو أولى بها.
مثل أيضًا بشرط أن لا يكون رهنها، أن لا يكون وهبها، أما إذا تعلق بها حق الغير فلا يجوز في مثل هذه الحال، وبشرط أيضًا أن تبقى في مِلك المفلس، فلم تزل عنه، ولم تنتقل منه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَعِوَضُهَا كُلُّهُ بَاقٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ)}.
أن يكون العوض كله باقٍ في ذمة المفلس، أما إذا كان قد سدد بعض وبعض لم يُسدد، فلا، يصير هو أسوة الغرم، لكن مادام حقه باقٍ في ذمة المفلس كاملًا هو أحق به.
{ثم قال: (وَيَبِيعُ حَاكِمٌ مَالَهِ وَيُقْسِمُهُ على غُرَمَائه)}.
هذا هو الحكم الثالث بالنسبة للمحجور عليه لمال غيره، أن الحاكم يبيع ماله، سواءً إمام المسلمين أو من يقوم مقامهُ من القضاة ومن في حُكمهم أو من يؤل الأمر إليهم.
فبناءً على هذا: يبدأ الحاكم في بيع ماله بالطريقة التي هو أنسب لها، وفي سوق أهلها؛ ليكون أحظ لصاحب المال المدين وأنفق للسلعة وأنفع أن تبلغ مبلغها.
فبناءً على ذلك: يبيع ما عندهُ من سيوف وأغراض في سوقها، وما عنده من جلدٍ وأُدمٍ ونحوه في سوقها، ونحو ذلك.. بما تصل إليه من أفضل سعرٍ وأقومه، فهذا هو الذي.
ثم يقسم على الغرماء، فما تحصل من مجموع ما باعه قسمه بين الغرماء، فإذا كان مثلاً عليه خمسمائة ألف، ثم باع ما له وصار خمسمائة ألف، فالحمد لله يعطي كلًا حقه، لكن إذا كان عليه خمسمائة ألف، ثم باع جميع ما لديه فكان أربعمائة ألف، فيكون النقص على كل واحد بنسبة عشرين في المائة، فالذي له مائة ألف يأخذ ثمانين ألف، والذي له عشرة آلاف يأخذ ثمانية آلاف، والذي له خمسين ألف يأخذ أربعين ألف، وهكذا.
{قال: (وَمن لم يقدر على وَفَاء شَيْء من دينه أَوْ هُوَ مُؤَجل تحرم مُطَالبَته وحبسه وَكَذَا ملازمته)}.
(وَمن لم يقدر على وَفَاء شَيْء من دينه أَوْ هُوَ مُؤَجل تحرم مُطَالبَته)، إذًا من له دينٌ لكنه مؤجلٌ لم يحل، فإنه ليس له أن يطالب؛ حتى ولو كان في تلك الحالة مفلس، يقول الحال الأخرى لن نجد، يقول: ما دام أن دينك لم يحل، فإن حقك لم يثبت، فيكون مؤجلًا إلى حينه، باقيًا إلى وقته، فإذا حلَّ الأجل جازت المطالبة، فإذا كان ذلك قبل قسمة أمواله دخل مع من دخل، فإذا كان ذلك بعد قسمة المال، فإنه يُعطى مما يتجدد له من مال.
إذا لم يكن عنده مال فلا يجوز أذيته، ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:280]، أمر الله -جلّ وعلا- بالعفو، فإن لم تعفو فلا أقل من فعل الواجب، والواجب أن لا تطالبه، وأن لا تلازمه؛ لأن ملازمته كالبقاء أمام بيته، أو إتيانه كل يومٍ في مسجده وملاحقته أذيةٌ له وإذلال، وهو معسرٌ لا يستطيع السداد.
فبناءً على ذلك: لا يجوز فعل شيءٍ من ذلك.
فالحكم إذًا لمثل من لا يستطيع: أنه لا يطالب بشيءٍ من ذلك.
بقي هنا أن نقول: أن المفلس إذا بيع ماله انقطعت مطالبته، ما عاد يطالب؛ حتى يتجدد له مال ففي ذلك يمكن أن توجد مطالبةٌ أخرى.
{(أَوْ هُوَ مُؤَجل تحرم مُطَالبَته وحبسه وَكَذَا ملازمته)}.
نعم، انتهينا من هذه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يَحِلُّ مُؤَجَّلٌ بِفَلَس وَلَا بِمَوْتٍ إِنْ وَثَّقَ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ مُحْرِزٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ، وَإِنْ ظَهَرَ غَرِيمٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ)}.
(وَلَا يَحِلُّ مُؤَجَّلٌ بِفَلَس وَلَا بِمَوْتٍ إِنْ وَثَّقَ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ)؛ إذًا لا يحل مؤجلٌ بفلس، لو أن شخصًا مفلس، فكان لشخصٍ دين ٍمؤجل فإنه لا يحل، فيبقى على أجلهِ كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- فبناءً على ذلك لا يدخل بحصتهِ مع الغرماء الذين لهم ديونٌ حاّلة، وإنما يقتصر إذًا في القسمة بين من لهم ديونٌ حاّلة، أما من لهم ديونٌ مؤجلة فإنها لا يحل لهم المطالبة؛ حتى يأتي أجلها ويحل وقتها.
قال: (وَلَا بِمَوْتٍ)؛ كذلك لو مات المفلس فالديّن المؤجل يبقى على أجله، لكن الموت يخرب الذمة، خَربت ذمته؛ لأن المال إما أن يتعلق بذمة الشخص أو برهن، فيقولون: إذا مات هو من حيث الأصل لا يتعجل؛ لأن لهم حق في هذه السنة التي بقيت، لكن لما خربت ذمتهُ نصير إلى بدلها، فنقول للورثة: اجعلوا له رهنًا، فإن جعلوا له رهنًا بقيّ حقهم في الأجل على ما هو عليه.
وإن لم يجعلوا رهنًا، ففي هذه الحالة ما الذي يصير؟
أنه لما لم يوثقوا الوفاء في حينه، وقد خَربت ذمة الميت بموته أو المدين بموته، فإنه فله أن يطالب في تلك الحال.
فبناءً على ذلك إذًا: إما أن يوثقه برهنٍ محرز، يعني أن يكون مكافئ للدين، (أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ)، يقول: إذا لم يوفوك أنا أعطيك.
لكن هنا استثنى بعض أهل العلم استثناءً، وهو أنهم يقولون أنه إنما يوفى أو إنما يلزم أن يجعل رهنًا مقابلًا للدين في حال أن تكون التركة أكثر من ذلك، أما إذا كانت التركة أقل من الدين فلا يلزم الورثة إلا أن يوثقوا بقدر ما عندهم من التركة.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: (وَإِنْ ظَهَرَ غَرِيمٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ)، يعني أحيانًا إذا ظهر فلس شخص يتداعى الناس إليه، لكن ربما يكون شخصٌ قد مات فلم يعلم ورثتهُ أن لهم على فلان مال، فلا يأتون إلا بعد ذلك بوقت أو يكون شخصٌ مسافرًا فلا يعلم، حتى إذا قيل إن فلانًا أفلس وكذا وكذا، قال: أنا أطالبه.
فهذا المسافر الذي حضر وله حقٌ في هذه الأموال يعود على الغرماء بقسه منها، فإذا كانوا مثلاً كما في المثال السابق: أحصينا من الديون خمسمائة ألف، والمال أربعمائة ألف، ثم جاء شخصٌ له مائة ألف، فبناءً على ذلك: يكون قسمة المال بدل أن يكون كل واحد أخذ ثمانين بالمائة وبقي له عشرين في المائة، سيكون آخذًا لثلثي ماله، فنأخذ من كل واحدٍ بهذا القدر ونعطيه صاحب المائة ألف بقدره؛ حتى يتسقا في حصةٍ متناسبة، كلٌ بحسب دينه، بقدر الثلثين، ويكون النقص عليهم بقدر الثلث.
وهكذا لو جاء دائنٌ آخر، أو رابع، أو خامس، ودينهُ مستحقٌ في تلك الفترة، هذا قيدٌ مقيد، فيكون الأمر كذلك على ما قلنا.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ: وَيُحْجَرُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيه لِحَظِّهِمْ)}.
هذا الفصل في القسم الثاني من أقسام الحجر، وهو المحجور عليه لحظ نفسه، السفهاء والمجانين والأيتام والصغار، فالله -جلّ وعلا- يقول: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء:5]، الصغير حتى يبلغ، المجنون حتى يفيق، والسفيه حتى يعقل، حتى ولو كان كبيرًا؛ لأن الله -جلّ وعلا- قال: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء:5].
فمن كان كبيرًا في سنه، غير عاقلٍ في بيعه وشرائه، يشتري بعشرة آلاف ريال ما يُشبع به جوعة بطنه التي لا تساوي إلا عشرين ريالًا، هذا يفني ماله، هذا يفسد على نفسه، فلا يُمكن من ماله فيفسده، ويجب أن يولى عليه من يُحسن تعامله، ويُقيم ماله، ويُحسن إليه بأن يضعه في الموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيذهب ويتزوج امرأة ومهر مثلها مائة ألف ويعطيها مليون ريال! فيفسد على نفسه وهو سفيه لا يعرف، ليس بابه باب إحسان، هو لا يُحسن التصرف، فنقول: أما إذا كان بابه ذا، ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ [النساء:20]، فأمر الله -جلّ وعلا- بالإحسان، فلا حد لذلك.
لكن إذا كان مبدأه السفه، وتبذير المال، وعدم الإحسان فيه، فإنه يُحجر عليه في ذلك.
{السكران هل نقول يأخذ مثل هذه الأحكام؛ لأنه في نفس علة المجنون؟}
السكر طبعًا لا يطول، فلا نقل: لا يحجر عليه، ولكن كلام أهل العلم في تصرفات السكران حال سُكره هل هي نافذة ومؤاخذٌ بها أم لا؟ يعني لو باع سيارته في حال سكرهِ وهي تساوي مائة ألف، فباعها بخمسة آلاف!
وإذا طلق زوجته، لا يخلو فإن كان السُّكر بعذر كأن يكون مثل شرب خمر لدفع غِصة، أو من حيث لا يشعر، أو أُكره على ذلك؛ فلا شك أنه غير مؤاخذ، ولا تنفذ هذه التصرفات، ولا غضاضة عليه.
ولكن إذا كان ذلك بفعله وفساد نفسه -نسأل الله السلامة- فمن أهل العلم من قال: إنه يؤاخذ بتصرفاته معاقبةً له، وكأنه هو الذي تسبب على نفسه بذهاب عقله، فكأنه هو الذي قصد إفساد يعني تضييع ماله أو نحو ذلك.
وبعضهم يقول: حتى ولو! فإنه في هذه الأحوال معاقبٌ بما جنى من الجريرة، وفعل من الكبيرة، لكنه يُحفظ فيما فوّت من معاملة أو غيرها، ويحفظ له في ذلك حقه، والأمر في ذلك محتملٌ، والله الموفق.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله}.
آمين وإياك، بارك الله فيك.
{والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طِيب وحُسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك