الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

16741 27
الدرس الثالث

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام. أمَّا بعد، فأهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ عبد الحكيم محمد العجلان. أهلا وسهلاً بكم صاحب الفضيلة}.
أهلاً وسهلاً، حياكم الله.
{أحسن الله إليكم. أستأذنك باستكمال ما توقفنا عنده}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- في كتاب الحج والعمرة: (وَشُرِطَ لِامْرَأَةٍ مَحْرَمٌ أَيْضًا، فَإِنْ أَيِسَتْ مِنْهُ اسْتَنَابَتْ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم ممن رفع منار العلم، وأعين على ذلك، وأن يجعل الإخلاص ملء قلوبنا، والعمل ملء حياتنا، وأن يجعلنا مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولاً فيما استهل به المؤلف -رحمه الله تعالى-: ( كتاب الحج) من هذه المسائل التي هي شروط وجوبه، وقد ذكرنا في آخر الدرس الماضي أنَّ اشتراط المحرم للمرأة هو من شرائط الوجوب في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وذلك أنَّ النبي قال: «لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَومٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ»[1]، وذكرنا فيما مضى أنَّ محل ذلك هو من كان بينها وبين مكة مسافة قصر أو تزيد، فمن كانت من أهل مكة، ومن كانت مما قاربها من الحرم، أو خارج الحرم، ممن لا يكون فيه سفر طويل؛ فإنه لو خرجت المرأة بمفردها أو مع نسوة معها، أو نحو ذلك، كان ذلك جائزًا، ولم يكن عدم وجود المحرم مانع من لزوم الحج ووجوبه، هذا من جهة.
وذكرنا أنَّ محل المحرم ليس مقارنتها في الحج، وإنما مشاركتها في السفر؛ ولأجل ذلك لَمَّا جدت هذه الوسائل المختلفة؛ فتهيء محرم لأن يوصلها إلى مكة، فيعود إلى بلده، أو ينتظرها هنا أو هناك، حتى إذا أرادت العودة أخذها، وحصل بذلك المقصود، وتم بذلك الواجب.
وهذا ما يتعلق بالمحرم، ومما يجدر الإشارة والتنبيه عليه.
وذكرنا المسألة المشهورة، وهو ما يعتبر من أن المحرم هو زوجها، ومن تحرم عليه بسبب مُباح على جهة التأبيد، كأب أو أخ أو ابن أو عم، أو خال ونحو ذلك.
ثم أشرنا إلى المسألة المتقدمة، وهي التي تكثر الحاجة إليها، والسؤال عنها، وهي: هل النساء الثقات يقمن مقام المحرم؟
هذه مسألة جرى فيها الخلاف، وهي أقوى في سفر الطاعة، أو في سفر الحج والعمرة، فقالوا وهو مذهب الجمهور، ونقل عن غير واحد من أهل التحقيق، وهو مذهب ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وعليه فتوى مفتي الديار السعودية، الشيخ محمد بن إبراهيم، شيخ مشايخنا -رحمه الله تعالى-: أنهن يكن بمثابة المحرم، وبناء على ذلك، من وجد معها نساء ثقات تحقق لها ذلك، فسارت إلى الحج، خاصة في هذا الوقت مع سهولة التواصل، وسرعة الطريق وأمنه، وما جد في ذلك من أشياء كثيرة، ولكن كل ما جد من هذه الأشياء لا تلغي اعتبار المحرم، ولا وجوبه، ولا وجوب الحج بدون محرم، ولكن -لا شك- أنَّ اعتبار النساء الثقات، الذي قال به جمهور أهل العلم، ومع هذه الوسائل ينتهض القول، أو يزداد قوة المصير إليه واعتباره، وخاصة أنَّ تزاحم الحجيج، وعدم حصول إتاحة الفرصة عبر القرعة، أو ما يوجد كل دولة بحسب تراتيبها، ليس بالأمر اليسير، فقد يتيسر لها، ولا يتيسر لزوجها، وربما كان معها نساءٌ ثقات، فيكون هذا القول أيسر للناس، وأسهل عليهم في الوصول إلى المراد.
{أحسن الله إليكم.
وقال -رحمه الله-: (وَإِنْ مَاتَ مَنْ لَزِمَاهُ أُخْرِجَا مِنْ تَرِكَتِهِ) }.
قوله: (وَإِنْ مَاتَ مَنْ لَزِمَاهُ) إذا مات الإنسان الذي لزمه الحج، تخاذل أو فَرَّطَ، ثم لم يتيسر له بعد ذلك؛ فيلزمه أن يقيم عنه، سواء كان لزمه بأصل الشرع، كرجل أيسر الله عليه، فَسَوَّفَ وتأخَّر، ثم نزلت به نوائب الدهر، فَقَلَّ ماله، وعرضت له عوارض الفقر ونحو ذلك، فنقول: إنه إذا مات أُخرج من تركته متى ما أمكن هذا.
كذلك مثلا لو أنَّ امرأة وجد عندها محرم، ثم فرطت، ثم لم يوجد المحرم؛ فإنه يجب عليها ولا شك، ولكن من لم تجد المحرم على سبيل الإطلاق في كل سني حياتها وإمكان حجها، فقد تقدم هذا في المجلس الماضي، وقلنا: إن هذا راجع إلى مسألة، وهي أنَّ المحرم هل هو شرط وجوب أو شرط لزوم؟
والمشهور من المذهب عند الحنابلة أنه شرط وجوب، وبناء على ذلك إذا لم يكن تيسر لها فلا تُقيم من يحج عنها، ولكن من قال: إنه شرط للزوم المسير فهو واجب عليها، ولكن لا يلزمها المسير إلا إذا وجد المحرم؛ فإنه إذا تعذر عليها المحرم، وأيست منه أو ماتت كما في المسألة؛ فإنه يخرج من تركتها، ومثل ذلك أيضًا مسألة الخفارة وأمن الطريق، فإنه كان فيما مضى يحتف الناس من المهالك، والمخاوف، وقطاع الطريق واللصوص، ونحو ذلك الشيء الكثير، حتى إنهم ليأتوا إلى المنطقة أو المنزلة، فيعطوا بعض رؤسائها وقادتها بعض المال حتى يؤمنهم من هذه المحلة، إلى التي تليها، فإذا لم يُؤمن الطريق إلا بخفارة، فعند أهل العلم أن ذلك مما يسقط به وجوب الحج، فلا يجب على الإنسان.
وقال بعضهم: إنه يجب لكن لا يلزم المسير، فيقال فيها ما قيل في مسألة المحرم، وما تقدم قبل قليل، من أنه إذا قلنا: إنه يجب الحج لكن لا يلزمه المسير، فمعنى ذلك أنه إذا مات أُخرج من تركته، ومثل ذلك الذي فسد حجه، ووجب عليه أن يقضي، فكل هؤلاء إذا ماتوا لزم أن يُخرج من تركتهم؛ لأنه كما تقدم أن عبادة الحج لها جهتان: عبادة بدنية، وعبادة مالية، ومن المعلوم أنَّ العبادات البدنية المحضة لا تدخلها النيابة بحال، مثل: الصلاة والصيام، أي: لا يصوم أحد عن أحد، كما تقدم ذلك معنا، حتى حديث: «مَن مَاتَ وعليه صِيَامٌ صَامَ عنْه ولِيُّهُ»[2]، فجمهور أهل العلم، والصحابة، وقول ابن تيمية، وعليه قول أهل التحقيق، أنَّ هذا في صيام النذر الذي فيه شبهة مال ومعناه، فأمَّا الحج فله جُزء بدني وجزء مالي، فإذا تعذر قيام الإنسان ببدنه؛ تعلق الحكم بماله، فلزم أن يقام من تركته، إن فريضة الحج قد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة. أفاحج عنه؟ قال: «حُجَّ عَنْ أَبِيك»، ولما جاءت امرأة وقالت: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَ».
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ لِمُرِيدِ إِحْرَامٍ غُسْلٌ أَوْ تَيَمُّمٌ لِعُذْرٍ، وَتَنَظُّفٌ، وَتَطَيُّبٌ فِي بَدَنٍ) }.
 قوله: (وَسُنَّ لِمُرِيدِ إِحْرَامٍ) هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحاج إذا وصل إلى الميقات، وتعرض للإحرام، ولَمَّا كان هذا الكتاب مبناه على الاختصار؛ فإنه شَرَعَ في هذا مباشرة، وإلا فأكثر كتب أهل العلم التي تشرع في ذكر مسائل الحج؛ فإنها تعرض للعبد ما يتعلق بمسيره، وما يتعلق بسفره، وآداب ذلك، وما يلزمه فيه، ومثل ذلك مسائل لا ينبغي للمسلم أن ينفك عن العلم بها والوقوف عليها، فسواء في ذلك ما ذكروه من الخروج من المظالم، وإحداث التوبة، والتوكل على الله -جل وعلا-، وطلب رفيق صالح، ورفقة أهل العلم، الذي بهم يسترشد الإنسان، وأيضًا تكلموا على ما يكون في السفر من آداب، من الرفق بالضعيف، والعطف على المسكين، والرجوع بشيء من تلمس حاجات الفقير، فإنَّ مع القافلة من كان لا ذا جدة ومال، يجد ما يأكله، ويستطيع أن يغني نفسه، ومنهم من يكون بين ذا وذاك، فذكروا هذا وذكروا ما يتعلق بالمناهدة التي هي جمع المال من كل واحد شيء، ثم يشتركون في أزواجهم، وفي طعامهم، وأنه ينبغي للإنسان أن يزيد فيما يطرحه، حتى يكون ذلك أطيب لنفسه، ولئلا يأكل ما شح به غيره؛ لأنَّ بعض الناس يشح، يقول: أنا لا آكل كثيرًا أو أنا أقلهم إنفاقا، وهم يستفيدون أكثر مني، فلا تطيب نفسه، ولكن يستحب للإنسان أن تطيب نفسه بذلك.
وذكروا أشياء كثيرة أيضًا من تحمل الناس، وما يكون منهم من أذى، وما يكون من أشياء تحصل في السفه، ولا تحصل في غيره، فالمهم أنَّ هذه مسائل كثيرة، ورجوع الطالب إليها من الأهمية بمكان.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَسُنَّ لِمُرِيدِ إِحْرَامٍ غُسْلٌ) ، وهذا لا شك فيه ولا إشكال، وهو قول عامة أهل العلم، والنبي أمر أسماء بنت عميس، وقد كانت نفساء، أن تغتسل لإحرامها، والنبي كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، فَأَمْرُ ذلك ظاهرٌ بَينٌ لا إشكال فيه.
وهنا مسألة مهمة، يغفل عنها كثير من الناس، وسيأتي بيانها، ولكن من الأهمية أن نذكرها هنا، وهي أنهم يذكرون أنه يُستحب أن يغتسل الإنسان لدخول مكة، فيغتسل عند الإحرام، وإذا قارب الوصول إلى مكة اغتسل، ليتخلص من الأقذار، والأوساخ، والعرق، قبل دخول مكة، والشروع في الإحرام.
ولَمَّا كان الوقت الآن بين الإحرام وبين الدخول إلى مكة وقت يسير، وما تهيأ للناس من آلات نقل مريحة، لا يلحق الإنسان فيها شيء من القذر والوسخ، فينبغي له أن يُحدث شيئًا واحدًا، وهو أنه إذا اغتسل لإحرامه أن ينوي بالغسل أيضًا دخول مكة؛ وذلك لاجتماع العلة، فإنه يتأت بهذا الاغتسال إلى مكة بنظافة، وتخلص من الأقذار والعرق وسواه، أليس كذلك؟
فإما أن يكون الإنسان أكثر حرصًا على السنة واهتمامًا بها، فإذا قارب مكة نزل في مكان واغتسل، وإلا أن يكون ذلك، فلا أقل من أن يجمع النية بأن يقصد بهذا الاغتسال اغتسال للإحرام واغتسال لدخول مكة، خاصة لمن يكون محرمًا مثلا من قرن المنازل، أو يلملم، أو وادي محرم، أو ذات عرق، فهي منازل قريبة لا يكون بين الإنسان وبين الوصول إلى مكة إلا ساعة، فهي شيء يسير جدًا، وحتى أيضًا الذي يكون من المدينة ويأتي بالسيارات المسرعة أو بالقطار أو بنحوه؛ فإنه أيضًا لا يكون ثم وقت طويل في الغالب، إلا أن يتوقف أو يتعرض لبعض الأمور أو غيرها، ولكن العادة أنه لا يتعرض لشيء من ذلك، فيكون هذا مما يحسن التنبيه إليه.
قال: (أَوْ تَيَمُّمٌ لِعُذْرٍ) ؛ لأنه يحصل به المقصود الشرعي، وإن فات به التخلص من الأقذار أو العرق أو سواه، لكنه أيضًا تهيؤ للعبادة وكمال فيها، والتيمم بدل الماء عند عدم القدرة عليه، أو عدم وجوده.
قال: (وَتَنَظُّفٌ) فالنظافة مطلوبة، وهذا أيضًا مطلوب في حال المؤمن في كل عبادة، وهو أحوج ما يكون إلى مثل هذه العبادة، وقالوا في هذا أنه يشمل التخلص من شعر الإبط، والعانة، وظفر ونحوه، وهذا جرى عليه أكثر أهل العلم، والأصل في هذا أنه لم يأت فيه شيء بخصوصه، ولكن لَمَّا كان المحرم حال إحرامه يمتنع عن تعاطي هذه الأمور، فكان الأولى به أن لا يحرج نفسه إلى شيء من هذه الأمور حال إحرامه، فيلحق به أحد أمرين:
إمَّا أن يتأذى ببقائها طويلة وتجتمع فيها الأوساخ والأقذار، وإمَّا أن يحتاج إلى إزالتها فيعرض نفسه إلى ما يؤثر في إحرامه، وما يلزمه الفدية ونحو ذلك، ولهذا قال أهل العلم: إنه ينبغي للمغتسل أن يتنظف، وأن يتخلص من ذلك، خاصة فيما مضى، لأنَّ الناس في هذا الوقت لا يستشعرون هذا كثيرًا؛ لأن المدة التي بين الإحرام وبين الإحلال، سواء كان الإنسان محرمًا بعمرة أو بحج، فالغالب أنَّ المدد قليلة -ثلاثة أيام، أو أربعة أيام-، وأكثر الناس إن زاد صار ستة أيام، ولكن فيما مضى كان الناس يحرمون في العمرة من المدينة فيحتاجون إلى عشر ليال للوصول إلى مكة، وهذه عشر ليال فقط قبل الوصول، ويعرض للإنسان فيها من التعب، ومن الغبار، ومن حر الصيف، وأشياء كثيرة، فإذا انضم إلى ذلك أنه إذا وصل إلى مكة ربما انتظر لعشرة أيام أو لشهر أو أكثر؛ فلا شك أنه قد يحتاج، فتهيؤه قبل ذلك أكمل وأتم.
قال: (وَتَطَيُّبٌ فِي بَدَنٍ) هذه سنة من سنن الإحرام، أن يتطيب في بدنه، والنبي تطيب، وأمر بذلك، ويقول أهل العلم: هذا كذلك بالنسبة للمرأة، كان في بدنها؛ لأن طيب المرأة هو لون لا رائحة فيه، ولكن متعلق الحكم أنه في البدن، وأمَّا الثياب فلا، ويجتنب ذلك، لكن لو طَيَّبَ ثيابه؛ فإنه لا بأس من استدامتها، ولكن لو نزعها أو علقها ثم أراد لبسها؛ فإنه يحتاج إلى أن يزيل ما فيها من طيب حتى يلبسها؛ لأنه محرم، ولا يجوز له أن يبدأ شيئًا مُطيبا.
{قال -رحمه الله-: (وَكُرِهَ فِي ثَوْبٍ، وَإِحْرَامٌ بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضَيْنِ عَقِبِ فَرِيضَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ) }.
ما المقصود بكراهية الإحرام في ثوب؟
المقصود بذلك: ألا يحرم في ثوبه ثم ينزعه، كيف؟
المستحب أن يتخلص الإنسان من ثيابه ثم يحرم، حتى يتيقن أنه لم يبق في المخيط وقت إحرامه وقتًا يمكن أن يجب عليه فيه الفدية، فإذا أحرم فالواجب عليه أن ينزعها بسرعة، فإذا نزعها دون ما توقف لوهلة يسيرة، يعني: يمكن أن ينزع فيها ولم ينزع، إذا لم يتوقف فلا شيء عليه، ولكن لو أحرم ثم انتظر وقتًا ولو يسيرًا، كان يمكنه أن ينزع فيه ثيابه ولم ينزعها، فكأنما تعرض للفدية، وآخر التخلص من المخيط فلزمته الفدية، فلأجل ذلك قال المؤلف: (وَكُرِهَ فِي ثَوْبٍ) ؛ لأنه إذا أحرم في الثوب، فيلزمه أن يسرع، والغالب في لا يستطيع أن يبادر، وأن يتخلص من جميع ثيابه، فيعرضه هذا إلى لزوم الفدية في ذلك الحال.
قال: (وَإِحْرَامٌ بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضَيْنِ) ، وهذا يتعلق بالرجل دون الأنثى، وأمَّا المرأة فإنها تحرم في ثيابها، وليس لها ثياب مخصوصة، وسيأتي ما يتعلق وما تمنع منه في حال إحرامها، ولكن من حيث الأصل أنها لا تحرم في ثياب مخصوصة، كما تفعل بعض النساء، فتراها لا تحرم إلا في ثياب مخصوصة، مثل: الأبيض، أو الأخضر، أو الأسود، أو نحو ذلك، والصواب أنها تحرم في ثيابها، وتشتمل على ما تشتمل عليه من سترها، وحفاظها على نفسها، وما لا يبدي شيئًا من عوراتها، وهي أحوج ما تكون إلى تمام في حال القيام بهذه القربى والطاعة، وهي أيضًا أحوج ما تكون إلى ذلك وهي في حالة مخالطة الرجال، والقرب منهم، والتنقل بين هذا المشعر وهذا المشعر، فكل ذلك أيضًا يزيد من أهمية تحقق كمال حشمتها، ومناسبة ثيابها، ولكن ليس ثَمَّ ثياب مخصوصة لذلك.
أمَّا الرجل فهو بإزار ورداء، وهذا هو الذي أحرم به النبي ، والإزار اسم للثوب الذي يلف على الجزء أسفل الإنسان، من حقوه فما نزل، والرداء ما يوضع على كتفيه، ويلف ولم يفصل على هيئة مخصوصة. هذا ما يتعلق بالإزار والرداء.
قال: (أَبْيَضَيْنِ) بياض الإزار والرداء هنا مستحب؛ لأنَّ النبي قال: «الْبَسُوا البَيَاضَ، فَإِنها أَطْهرُ وأَطَيبُ، وكَفِّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ»[3]، فهذا هو المستحب والأفضل.
قال: (عَقِبِ فَرِيضَةٍ) ؛ لقوله : «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِن رَبِّي، فَقالَ: صَلِّ في هذا الوَادِي المُبَارَكِ، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ»[4]، فيستحب ذلك، فإن لم تكن فريضة، ففي في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وكما هو قول جمهور أهل العلم، فإنها سنة، سواء كانت راتبة، أو كانت صلاة ضحى، أو كانت شيئًا من النوافل، أو نفلاً مُطلقًا، وهذا يقرب من أن يكون عقب فريضة، ويدخل في عموم «صَلِّ في هذا الوَادِي المُبَارَكِ، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ».
قال: (عَقِبِ فَرِيضَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ) أمَّا إذا كان وقت نهي فيختلف الحكم، وبناء على مشهور المذهب عند الحنابلة؛ فإنهم لا يرون فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، فيمنعون منها.
وأمَّا من قال: تفعل ذوات الأسباب، فإن ذلك يكون من ذوات الأسباب، إمَّا لكونها ركعتي وضوء، أو دخول مسجد، أو نحو ذلك، فيكون هذا مناسبًا، ولا يمنع منه في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَنِيَّتُهُ شَرْطٌ، وَالِاشْتِرَاطُ فِيهِ سُنَّةٌ) }.
الهاء في (وَنِيَّتُهُ) راجعة إلى الإحرام، فمن شروط الإحرام نية الدخول في النسك، فإنه لا دخول في عبادة من العبادات بغير نية، والنبي قال: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»[5]، وبناء على ذلك لا بد أن ينوي الدخول في هذا النسك، ونية الدخول في النسك هي المعتبرة للشروع في الحج أو العمرة، حتى ولو لم يلبس، فبناء على ذلك لو لبس الإنسان ثياب الإحرام ولم ينو لم يعتبر شيئًا، ولو نوى ولم يلبس ثياب الإحرام لشرع في الحج أو العمرة، وتعلق به لبس المخيط. وسيأتي ما يتعلق بحكم نزعه ونحو ذلك، كما مر قبل قليل، وسيأتي تفصيل ذلك في محظورات الإحرام.
هل من لازم النية اللفظ أو لا؟ أو كما يعبر بعض أهل العلم بالإهلال، لبيك حجًا، لبيك عمرة؟
ظاهر كلام المؤلف أن ذلك لا يُشترط، وأنَّه إذا عقد النية ونوى؛ فهذا كافٍ، وإذا لفظ بذلك فيقولون: اللفظ يزيد من التأكيد على الأمر ونحوه.
ولا شك أنَّ الحج أو العمرة إذا أهلَّ بما نوى، فهذا هو الثابت عن النبي ، فيقول: "لبيك حجًا، لبيك عمرة"، وبعض أهل العلم يشترطها لصحة الدخول، كما هو رأي ابن تيمية وبعض أهل العلم.
إذًا الأصل أن توجد نية الدخول في النسك، وهذا أصلٌ لصحة العبادة والشروع فيها، ثم الإهلال مُستحب ومكمل في الأصح من قولي أهل العلم، وإن كان ينبغي ألا يترك، لِمَا ذكرناه من أنَّ بعض أهل العلم يعتبره شرطًا للدخول في هذه الأنساك.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: «وَالِاشْتِرَاطُ فِيهِ سُنَّةٌ» ما المقصود بالاشتراط؟
من المعلوم أنَّ من دخل في الإحرام لم يجز له أن يرفضه، ولا أن يفسخه دون أن يُنهي نسكه، يعني: لو أنَّ إنسانًا ابتدأ صيامًا ثم أفطر؛ فسد صيامه وانتهى، وتعلق بحكم الفطر.
ولو أنَّ شخصًا دخل في الصلاة ثم قطعها انقطعت صلاته.
ولو أن شخصًا دخل في الإحرام ثم قطع الإحرام وفسخه وذهب إلى بيته، نقول: لا يزال محرمًا، ولا زالت أحكام الإحرام متعلقة به، فلا ينفك ولا يحصل له الخلاص إلا بتمام النسك.
لماذا قالوا بالاشتراط؟
لأنه لو أن الإنسان حُصِرَ، أي: منع من البيت، ولم يستطع الوصول، أو لحق به مرض فحال بينه وبين الإحرام؛ فعند ذلك يصح للمشترط أن يتحلل مجانًا، وأصل ذلك حديث ضُباعةُ بنتُ الزُّبَيرِ، لَمَّا جاءت إلى النبي وقالت: إن امرأة ثابتة فأحج قال: «حُجِّي واشْتَرِطِي، فإنَّ لك على ربِّك ما استثنيتَ»[6]. ولأجل هذا قال المؤلف: إنَّ الاشتراط سنة.
هل هو على كل حال؟ وهل هو لكل أحد؟ وهل هو يفرق؟
ظاهر كلامه الإطلاق، وهذا هو المعتبر والمعتمد.
أولاً: لأنَّ هذا فيه تيسير على الإنسان، ومهما وثق الإنسان بحاله؛ فإنه لا يأمن حصول العوارض ووجود الموانع.
الثاني: أن ذلك هو الثابت عن أصحاب النبي ، فثبت عن غير واحد من أصحاب النبي كابن عمر وغيره أنَّ الاشتراط مستحب، وهذا كالإشارة إلى قول لبعض أهل العلم، وطريقة ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه يقول: إنَّ الاشتراط لمن كانت حاله يخاف، كمريض، أو إنسان ينتظر عدوًا، أو يمكن أن يحصل له مانع، أو نحوه فيشترط.
ولكن نقول: الظاهر الاشتراط لإطلاق العموم، ولأن هذا أيسر، ولا شك أن طلب ما يكون الأيسر هو أصل ما جاء به الشرع، وما أُمرَ به العبد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَفْضَلُ الْأَنْسَاكِ التَّمَتُّعُ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ بِهِ فِي عَامِهِ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ ثُمَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ. وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا أَوْ بِهَا ثُمَّ يُدْخِلَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي طَوَافَهَا) }.
قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَأَفْضَلُ الْأَنْسَاكِ)
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الدخول في الإحرام، والنية لذلك، وما يتعلق بالشروع في هذا، أراد أن يبين للمكلف أنَّ الحج له صفات مُتعددة، وأنساك متنوعة، بأي منها أحرم الإنسان حصل له المقصود، ولذلك نجد من يحرم بالأول، أو بالثاني، أو بالثالث. ما الأول، وما الثاني، وما الثالث؟
قال المؤلف: (وَأَفْضَلُ الْأَنْسَاكِ التَّمَتُّعُ) ، والتمتع نسبة إلى ما يكون من المتعة والتيسير والسهولة، وذلك كما قال المؤلف: (وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهَا) ، ثم يُهل بالحج من عامه ذلك، أي أنَّه إذا ما وصل إلى الميقات قال: "لبيك عمرة"، أو قال: "لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، فهذا تلبس بعمرة. فإذا وصل إلى مكة طاف وسعى وحلق وحل، أي: صار حلالا، يعني: عاد إلى ثيابه، وَحَلَّ له كل شيء حرم عليه بإحرامه.
فإذا جاء اليوم الثامن أَهَلَّ بالحج. فماذا استفاد؟
استفاد أمرين، أولهما: أنه جمع بين نسكين في سفر واحد، عمرة وحج، ولذلك يقولون: تمتع، والمتعة من جهة أنه حصل له نسكين في سفرة واحدة.
والثاني: أنَّه أَحَلَّ من عمرته فتمتع، أن أنه صار حلالا، وبالتالي لا يمنع من طيب، ولا لبس، ولا زوج، ولا غير ذلك، ولذلك قال الصحابة لَمَّا أمرهم النبي بالمتعة: قالوا: أنأتي مِنى -أي في اليوم الثامن- ومذاكيرُنا تقطرُ منيًّا؟ أي: كيف يحصل هذا بالنسبة للمحرم؟
وذكر هذا بهذه الطريقة فيه إشارة إلى أنه الحل كله، وأنه لا غضاضة في ذلك ولا من منه، فهم ذكروا أشد ما عليهم، وأراد النبي أن يُبين أنه لا يحرم عليهم، وليس فيه غضاضة ولا حرج ولا تحريج ونحو ذلك. ومن هذين المعنيين سمي المتمتع متمتعًا.
إذًا هو بالعمرة، ثم أهل بها، ثم حل منها، ثم أحرم بالحج من عامه، لكن يُشترط في هذا أن تكون العمرة ابتدأها في أشهر الحج، وأشهر الحج هي: شوال، وذي القعدة، وعشر من ذي الحجة، أو شهر ذي الحجة، على الخلاف وربما جاءت الإشارة إليه، بمعنى أنه لو أنَّ إنسانًا أحرم بالعمرة في رمضان، ثم بقي في مكة إلى الحج، فهذا أحرم بعمرة، وحج من نفس العام، وتحلل بينهما، وأتى بهما في سفرة واحدة، ولكنه ليس بمتمتع. لماذا؟ لأنَّ من شرط المتعة أن تكون العمرة والحج في أشهر الحج، ابتداؤها وانتهاؤها، ولذلك قال أهل العلم: حتى ولو كان قد ابتدأ العمرة قبل غروب الشمس من يوم الثلاثين من رمضان، يعني: قال: لبيك عمرة، ثم غربت الشمس، فوصل إلى مكة فأداها في ابتداء شوال. ولكن مع ذلك يقولون: هو ابتدأ العمرة قبل أشهر الحج، وبناء على ذلك لا تكون هذه متعة. إذًا هذه صفة التمتع.
فما وجه قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَأَفْضَلُ الْأَنْسَاكِ التَّمَتُّعُ) ؟
أفضلها لأنَّ النبي أمر بها أصحابه، ثم تأسف أنه ساق الهدي، لأنَّ من ساق الهدي لا يصح أن يحل، ولا أن ينتقل إلى التمتع، فقال النبي : «لوِ استَقبلتُ مِن أمري ما استَدبرتُ لفعلتُ كما فعلتُمْ، ولَكِنِّي سقتُ الهديَ»[7]، أي: لفعلت كفعلكم بأن أكون متمتعًا. وذهب ابن عمر، وابن عباس، وجماعة من أهل العلم، وعليه مشهور مذهب الحنابلة، وقول جمع من أهل التحقيق، أنَّ التمتع أفضل بناء على ذلك؛ ولأنه أيسر على الحاج، ولأنه يُؤدى كل نسك على حدة، فالعمرة بأعمالها، وطوافها، وسعيها، وحلقها، على حدا، وأعمال الحج، وطوافه، وسعيه، وحلقه، على حدا أخرى منفصلا، فكل واحد من النسكين منفصل عن الآخر. وهذا -كما قلنا- هو مشهور المذهب، وخالف في ذلك من خالف من أهل العلم، والخلاف في ذلك طويل.
لو قرأت على سبيل المثال في كلام ابن القيم في زاد المعاد؛ لتشتت ذهنك، وَلَكَلَّ نظرك من طول الخلاف، وكثرة الكلام، والإجابة على الأقاويل، وما ورد عند أهل العلم من الخلاف في ذلك، خاصة أن الخلاف في هذا عالٍ، يعني: هو بين الصحابة، فعمر -رضي الله عنه-، وأبو بكر -رضي الله عنه-، كرها التمتع ومنعا منه، حتى اشتدَّ ذلك بين الصحابة وابن عباس، حتى قال: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ! أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"[8]. وقوله هذا لأنه كان منتصرًا لقومه، ولكن لا يمنع ذلك أن اجتهادهم كان له وجه، وأن قولهم كان له اعتبار، ولكنه -رضي الله عنه- كأنه استبانت له السنة، فأراد أن يحمل الناس عليها، وأن ينتصر لهذا القول.
إذًا هذا هو مشهور المذهب، وكما قلنا: إنَّ الخلاف في ذلك قوي، وأن من صار إلى الإفراد أو صار إلى القران، فهي أقوال معتبرة عند أهل العلم.
قال: (ثُمَّ الْإِفْرَادُ) ، والإفراد هو في الدرجة الثانية في الفضل عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وصفته أن يُحرم بالحج، فلا يكن معه غيره، يعني: هذا الإحرام، وهذه الأعمال، مختصة بالحج، ومتوجهة إليه، ولا تتداخل مع شيء آخر.
قال: (ثُمَّ الْإِفْرَادُ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ ثُمَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ) ، فإذا انتهى من الحج، ذهب إلى التنعيم وأتى بعمرة. لِمَ جعلوا المفرد أفضل؟
قالوا: لأنه لم يكن ثَمَّ تداخل بين بين أعمال الحج وأعمال العمرة، وأنه لم يحتج إلى دم جبران، لأنَّ القارن يعمل نفس الأعمال، ولكنه يذبح الهدي، لماذا؟
قالوا: لأنه يجبر ما كان من أنه جمع النسكين في أعمال واحدة، فما كان من نقص في هذه الأعمال؛ جبرها بدم النسك، ولأجل هذا قال الحنابلة: إنَّ الإفراد هو في الدرجة الثانية، لكونه لا تداخل فيه بين العمرة والحج في أعمالهما.
وأيضًا لهم في ذلك بعض الدلالات من ألفاظ الحديث، فقالوا: هي دالة على أنَّ النبي أَهَلَّ بالحج، وقالوا: إنه كان مُفردًا، وعلى كل حال هذا الوجه من جهات المعنى.
أمَّا ألفاظ الأحاديث، فكل أخذ بعض الألفاظ وفيها مستمسك لِمَا صار إليه.
ثم ذكر (الْقِرَانُ) ، والقرآن وهو أن يقرن بين الحج والعمرة بأن ينويهما بعمل واحد، ولذلك قال: (أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا) يعني: هو نواهما، فمن حيث النية هي اجتمعت نية العبد للعمرة والحج بأعمال واحدة.
قال: (أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا أَوْ بِهَا ثُمَّ يُدْخِلَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي طَوَافَهَا) ، لم يوضح كيف يكون العمل، ولكن كما قلنا: فيعملهما بعمل واحد، ويهدي لذلك هديًا.
وله صفتان: إمَّا أن يحرم بهما ابتداءً؛ فيقول: "لبيك حجًا وعمرةً"، ثم يشرع في أعمال الحج، وتدخل العمرة تبعًا.
أو يُحرم بها، ثم يدخل الحج عليها، أي أنَّه يقول: "لبيك اللهم عمرة"، ثم لا يعمل أعمال
العمرة، فيشرع في أعمال الحج، بأن يذهب إلى عرفة ويقف بها، فهو إذا بدأ في أعمال الحج نوى ذلك فتدخل العمرة على الحج فيكونا شيئًا واحدًا. طبعا قد يكون ذلك لعذر، وهذا هو الغالب، إمَّا لخوفه فوات الحج لكون الوقت قد ضاق به، أو لِامرأة حاضت مثلاً، فلم تستطع أن تطوف فتحل من عمرتها، أو نحو ذلك من المسائل التي ذكرها أهل العلم.
وذكروا صفة ثالثة، وهي أن يحرم بالحج -يعني مفردًا- ثم يدخل للعمرة، ولكن الحنابلة لا يرون صحة ذلك؛ لأنه لا يستفيد شيء ولا يدخل بالأصغر على الأكبر، فبناء على ذلك لم يذكرها أو لم يشر إليها المؤلف -رحمه الله تعالى-.
إذًا هذا هو ترتيب الحنابلة، وقد استثنى من ذلك أهل العلم من كان قد ساق الهدي، فمن كان قد ساق الهدي؛ فإنه لا يحل من إحرامه حتى ينحر فيكون قارنًا، فلذلك أتمَّ النبي حجه، وأكمل نسكه، ولم يحل إلا يوم النحر بعد أن رمى وقصر.
سؤال: هل الأولى أن يسوق الإنسان الهدي أو أن ينوي التمتع فلا يسوق الهدي؟
هذا هو محل الكلام المتقدم، فمن قال: إن التمتع أفضل على الإطلاق، كما هو ظاهر كلام المؤلف، يرى أنه لا يسوق الهدي، ويكون متمتعًا. ومن قال: إن الأمور بحسبها -كما هو مسلك لبعض أهل العلم- يقول: من ساق الحاج الهدي كان القران أفضل، ومن لم يسقه فالتمتع أفضل، وهذا القول كأنه أراد أن يجمع بين القولين، وفيه إشارة إلى أنَّ حال النبي دائمًا هي الأكمل والأتم، فمن كان مثله وقد ساق الهدي، فالأتم في حقه والواجب أن يكون على قرانه، ومن كان على غير ذلك فليكن متمتعًا.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَعَلَى كُلٍّ مِنْ مُتَمَتِّعٍ وَقَارِنٍ -إِذَا كَانَ أُفُقِيًّا- دَمُ نُسُكٍ بِشَرْطِهِ) ، يعني: عليه واجب، فالمتمتع عليه دم. قال أهل العلم: وهو دم هدي ونسك، وليس دم نقص وجبران، كما يقول من يرى أنَّ أفضل الأنساك الإفراد، يقول: إن المتمتع يحتاج إلى تكميل نسكه بالذبح، ولكن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إنها دم نسك، وليست دم جبران، ولا نقص، ولا تقصير في ذلك ولا خلل، والله -جل وعلا- قال: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة:196].
وكذلك القارن فإنه يجب عليه الهدي ولا إشكال في ذلك؛ لأنه متمتع أيضًا، وأيضًا حال النبي كونه متمتعًا من جهة، وأنه قد جمع بين نسكين في سفرة واحدة، فكان في ذلك واجب عليه.
قال: (إِذَا كَانَ أُفُقِيًّا) وهذا شرط وقيد في لزوم دم الهدي للمتمتع والقارن؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:196].
من هم حاضرو المسجد الحرام؟
قال أهل العلم: هم أهل مكة والحرم وما حول ذلك، وأكثر ما ذكروا في هذا أنهم قالوا: هم ما كانوا دون مسافة القصر، فيدخلون في حاضر المسجد الحرام، فمن تمتع من هؤلاء فإنه لا يلزمه في ذلك هدي، ولا يلزمه النسك.
وكذلك لو كانوا قائمين، فلو جاء مثلا واحد من الشرائع، أو جاء واحد من أهل البحرة، ما دام أنه ليس بينه وبين مكة مسافة قصر فكذلك.
طيب بالنسبة لجدة، هل هي دون مسافة القصر أو لا؟
الحقيقة أنَّ هذه من المسائل اللطيفة، وأنا ما رأيت من تحدث عنها، وأنا أذكرها هنا إحياءً لبحثها، وتنبيهًا على ذلك.
المسافة الحالية بين جدة ومكة لا تقصر فيها الصلاة قطعًا؛ لأنها المدينات قد تقاربتا، ولكن من أتى من جدة إلى الحج، فهو لم يقصد مكة، وإنما قصد المشاعر، منى ونحوها، فتدخل المسافة التي يقطعها من مكة حتى الوصول إلى منى وغيرها، وبناء على ذلك، إذا اعتبرنا هذه المسافة فستكون مسافة قصر، وإذا كانت مسافة قصر، فالذي يظهر من خلاله أنه لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وبناء على ذلك لا يلزمهم. مع أنها محل نظر؛ لأنه قد يقال: إن النسبة إلى المسجد الحرام، وهم إلى المسجد الحرام ليسوا مسافة قصر، فهي مما تحتاج إلى بحث ومراجعة، وطرحها هنا إحياء لهذه المسألة، ومدارستها، وأيضًا النظر فيما ذكر فيها، لعله أن يكون في ذلك مزيد فائدة، ونظر أدق، يصل به إلى المقصود، ويحصل به المراد.
{أحسن الله إليكم. نكتفي بهذا القدر}.
ما دام أنَّ الوقت قد انتهى، فأسأل الله -جل وعلا- أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من أهل تلك المنازل والعرفات، وأن يبلغنا تلك الأنساك، والقيام بهذه الطاعات، وأن يجعلنا حجاجًا مُلبين في كل عام، وأن يتقبل منا ومن المسلمين، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرًا، ونستكمل -بإذن الله تعالى- المتن استكمالاً في المجالس القادمة إن شاء الله، فإلى ذلكم الحين، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------------------
[1] رواه مسلم (1339) .
[2] أخرجه البخاري (1952) ، ومسلم (1147) .
[3] رواهُ النسائي، والحاكم.
[4] رواه البخاري (1534) .
[5] رواه البخاري (54) ، ومسلم (1907) .
[6] أخرجه البخاري (5089) ، ومسلم (1207) .
[7] أخرجه أبو داود (1797) النسائي (2725) واللفظ له.
[8] مجموع الفتاوى (20/ 215) .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك