الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17103 27
الدرس التاسع

أخصر المختصرات 3

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم. أمَّا بعد، فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد من مجالس شرح (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلاً وسهلاً بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، وحياكم الله، وحيا الله طلاب العلم وطالباته وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، المستفيدين من هذه المجالس، والتي أسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلها ثوابًا لهم في أُخراهم، وزادًا لهم في دنياهم.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ إن لم يخرج قبل الْغُرُوب لزمَه الْمبيتُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعدُ، فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده العالمين العاملين، وأن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا على سنة خير الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين أجمعين، أيها الإخوة لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من صفة الحج، فانتهى الحديث إلى التعجلِ في أيام التشريق؛ فقال: (وَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ) فسبق الحديث عن هذه المسألة وأن اليومين التي يُتعجل فيها هي أيام التشريق وهو اليوم الثاني عشر، فإذا أتم الحجاج اليوم الثاني عشر ورموا فيه الجمار، جاز لهم أن يخرجوا، وقد تقدم معنا صفة الرمي وما تعلق به ووقته وكل ذلك قد مضى بتفصيله وبيان ما يتعلق به.
المهم أن للحاج بعد ذلك أن يخرج من منى، وبذلك يسقط عنه المبيت ليلة الثالث عشر وما يتبع ذلك من رمي، فبناءً على هذا لا يتعلق بالحاجِ رمي الجمار لليوم الثالث عشر تقديمًا، بل يسقط عنه هذا بالكلية، لعموم قول الله -جل وعلا-: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ يعني أن يتقي الله -جل وعلا- في أعمال الحج، بأن يؤديها على الوجه المطلوب.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إن لم يخرج قبل الْغُرُوب) يعني شرط التعجلِ أن يخرج قبله بشمس، وأصل ذلك هو دلالة الآية وهو الذي فهمه وفسّره فقهاء الصحابة، فاليوم اسمٌ للنهار، فإذا غابت الشمس انتهى اليوم والله -جلّ وعلا- جعل حدًا للتعجل اليوم، فبناءً على ذلك لابُدّ أن يكون تعجله وخروجه قبل انتهاء آخر وقته وهو غروب الشمس، فبناءً على ذلك من غربت عليه الشمس وجب عليه أن يبقى ليبيت لليلة الثالث عشر، ويرمي من ذلك اليوم.
وهنا مسألة يكثر وقوعها وهي: فيما إذا تعجل وشدّ رحله، وأخذ في الطريق ثم حُبسَ لزحامٍ ونحوه، فهل يكون في حكم الخارج باعتبار ما نوى، وما عمل، وما حُبس عنه بفعل غيره، أم أنه باعتبار الواقع أنه أدركه مغيب الشمس وهو في منى لم يفارقها فتعلق به حكم المبيت فيها؟
على كل حال هذه من المسائل التي فيها نوع تجاذب واعتبارٌ لكل واحد من الأمرين، فمن جهة العمل والفعل فقد أدى ما عليه، وما حصل شيء خارج عن قدرته، فيكون ذلك مأخذ من يقول: له أن ينفرَ ولا يضرُ ولو غابت الشمس.
ومنهم من أخذ الاعتبار بالواقع، فهو صدق عليه أنه غابت الشمس وهو بمنى، فلا تعلق به حكم المبيت.
والأحوط للإنسان على كل حال أن يبيت ويبقى، ثمّ يرمي الجمار ويتزود زيادة خير، وكمالة في الطاعة، وتحوطًا لهذه العبادة، لكن ذلك لا يظهر لزومه.
أمَّا إذا نوى لكنه لم يفعل أو تأخر من جهة نفسه، يعني تأخر في تأهبه أو نحو ذلك، فلا شك أن هذا يتعلق به حكم المبيت لا محالة.
{أحسن الله إليكم.
 قال- رحمه الله-: (وَطواف الْوَدَاع وَاجِب يَفْعَله ثمَّ يقف فِي الْمُلْتَزم دَاعيا بِمَا ورد وَتَدْعُو الْحَائِض وَالنُّفَسَاء على بَاب الْمَسْجِد)}.
طواف الوداع واجبٌ بالنسبة للحاج، وهذا كما جاء في حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ) فهذا أمرٌ من النبي ﷺ، والأصل في الأمر أن يكون للوجوب، وهو مذهب الحنابلة وجمهور أهل العلم.
وبناءً على ذلك، نقول: إنه واجب من الواجبات، متعلقٌ بمن يفارق البيت ويخرج منه، أما أهل مكة ومن يسكنها فإنه لا وداع عليه، لكونه لا يخرج عنها ولا يفارقها.
إذًا هذا ما يتعلق بطواف الوداع، والوداع هو الشيء الذي يُفعل في آخر الوقت، بمعنى أنه لا يكون بعده شيء، فبناءً على ذلك إذا طاف طواف الوداع وجب عليه أن يخرج، فإذا مكث لغير حاجة ولم يُحبس لرفقة، أو فعل ما يفعل المقيمين من التجارة والبيع والشراء، أو النوم والراحة وغير ذلك، فهذا لم يفعل الوداع في وقته، فبناءً على ذلك يلزمه إعادته.
أمَّا من طاف فحُبس لأجل اكتمال رفقته ولو طال الوقت، خاصة مع ازدحام المشاعر، وكثرة الناسِ، وحصول ما لم يكن في الحسبان، فلا بأس بذلك، أو كان ما فعله بعد طواف الوداع مما لا يكون دليلًا على الإقامة، كأخذ ما يتزود به في طريقه: كماءٍ يشربه، أو أكلة يتزود بها لمسيره، أو نحو ذلك؛ فلا حرج عليه في ذلك ولا غضاضة.
قال: (يَفْعَله ثمَّ يقف فِي الْمُلْتَزم دَاعيا بِمَا ورد) الملتزم هو موطنٌ صغير امتداده من باب الكعبة إلى الحجر الأسود، وهو أذرع يسيرة، فمن تسنى له الوقوف في ذلك فهو حسنٌ، وهو فعل الصحابة، وهو موقف يُرجى فيه إجابة الدعاء، وحصول المقصود، وهو على أثر هذه العبادة، وكمال هذه النسك، وأنواع من التخفف من الآثام، والتوبة إلى الله -جلّ وعلا- وإظهار الخشوع والإخبات، والانكسار بين يديه، فاجتمع للإنسان في ذلك من الأحوال شيء كثير؛ فكان الوقوف بهذا الملتزم لمن تأتى له، فهو مما يُرجى فيه إجابة الدعاء، وحصول المقصود، ولكن إذا ترتب على ذلك زحامٌ كما يحصل في مثل هذه الأوقات فلا وكلا، وما يكون من حال العبد في التعرض للرحمات في أحوال أوسع من هذا الموضع، وأبعد عن حصول أذية للخلق، فهو الواجب والمتعين.
وبناءً على ذلك لا يفعل هذه السنة، فيفضي به إلى فعل ما لا يحل له، وكم حصل في ذلك مما يصل إلى تعريض النفوس للإزهاق أو الإغماء، وما قارب ذلك، فضلًا عن أحيانًا ضرب ونحوه، وما ينضم إلى هذا في بعض الأحوال من دخول النساء، والتصاق أجساد الرجال بهن، وفي ذلك من الفتنة ما الله به عليمٌ، فليس هذا مما يعظّم به البيت، وليس هذا مما يُحفظ به النسك، فإن الإنسان مأمورٌ بحفظ نسكه، وأعظم ما يكون حفظه من مثل ذلك، فإذا كان الجدال منهيًا عنه، فكيف بما هو أشد منه؟ مثل الالتحامات والأذية بما يخاف معه من حصول الأذى على الأجساد وفوات الأرواح، فإذًا إذا تأتى ذلك، فحسن وإلا فالحمد لله.
قال: (وَتَدْعُو الْحَائِض وَالنُّفَسَاء على بَاب الْمَسْجِد) إذا كانت الحائض قد أدت ما عليها من طواف الإفاضة، فإنَّ طواف الوداع واجبٌ وقد خُفف عنها بالسقوط فلا يلزمها الانتظار، ولا يلزمها القضاء، ولا يلزمها الإنابة، للحديث المتقدم إلا أنه خُفف عن الحائض، ولئلا يفوتها الأجر فهي تدعو حيث أمكنها، فإذا كانت بإزاء البيت، وقريبا منه، فرفعت يديها، فدعت الله -جل وعلا- فكما قلنا: إن فات عليها الوقوف في هذا الموضع الذي هو الملتزم، فهو لم يفتها أن هذا الدعاء عقيب هذه العبادات العظيمة الجليلة التي يجمعها الحج، وهو على حين رجوع إلى الأهل، وذلك أتم أو أرجى ما يكون فيه توفيةُ الأجر، وحصول إجابة الله -جلّ وعلا- للعبد وفضله عليه، فتفعل ذلك الحائض والنُفساء، وهن لا يدخلن المسجد في تلك الحال.
وهنا ما يحصل بعد طواف الوداع من رجوع القهقري بأن لا يولي البيت ظهرها ونحو ذلك، فإن هذه من الإحداثات التي ذكرها بعضهم، وليس عليها دليلٌ ولا اعتبار، ولم يعرف في ذلك فعلٌ للنبي ﷺ ولا الصحابة من بعده، فلا يكلف الإنسان نفسه ما لا حاجة له فيه ولا دليل عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَسن زِيَارَة قبر النَّبِي ﷺ وقبري صَاحِبيهِ)}.
قال المؤلف: (وَسن زِيَارَة قبر النَّبِي ﷺ وقبري صَاحِبيهِ)} هكذا ذكر بعض فقهاء الحنابلة وذكره غيرهم، وهذا متعلق به مسائل.
أولًا: زيارة القبور سنةٌ للرجال، كما جاء ذلك في حديث المتفق عليه، أنَّ النبي ﷺ زار المقبرة، وسلم على أهل البقيع، وزار شهداء أُحد، وفي ذلك أحاديثٌ كثيرة، فزيارة القبور مأمورٌ بهاـ إلا أن النساء لا يزرن لِمَا جاء في الحديث: (نُهِينَا عن اتِّبَاعِ الجنائز ولم يُعْزَمْ علينا) وجاء في الحديث الآخر: «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» فأُخِذَ من هذا منع النساء من ذلك، وقال أهل العلم: لِمَا في هذا من ضعف قلوبهن، وإمكان حصول التفجّع والتسخط الذي ربما يحملها على الإثم، ويحصل بسببه الوزر.
وعلى كل حالٍ فهذا الذي ذكروه قد يُفهم منه أمران:
أولًا: شدُّ الرحل، بأن يشد الرجل رحله إلى المدينة لأجل ذلك، وهذا فُهم من كلامهم ولم يذكروه في غير الحج، لكنه أيضُا فيه نظر، ولذلك كانت الرواية الأخرى عند الحنابلة، أو القول الآخر عند الحنابلة، وهو قول أكثر أهل التحقيق: أن ذلك غير مشروع، وأصل هذا ما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي ﷺ قال: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجدٍ» فإن قال قائل: فأين محل الشاهد في منع شد الرحل لزيارة قبر النبي ﷺ؟
قال أهل العلم: إن هذا الحديث فيه استثناء منفيٌ مفرّغ، يعني أن المُستثنى منه محذوف، والتقدير فيه مع هذا النفي "لا تشد الرحال إلى بقعة مما يُتعبد الله -جل وعلا- فيها إلا إلى الثلاثة المساجد"، فدخل فيها أنواع العبادات كلها، فسواء كان ذلك لصلاة، أو كان ذلك لدعاء، أو زيارة قبر، أو سواه.
وبناءً على ذلك قال أهل العلم: إن المشروع أو المُستحب أن تكون الزيارة لمسجد رسول الله ﷺ، وهذا داخلٌ في الحديث ومأذون فيه، لكن أيضًا قبل أن نأتي إلى المسألة هذه فإننا ننبه إلى المسألة الثانية، وهي: أنه قد يُفهم من هذا وهو مشهور في بعض من ذكر صفات الحج، أن زيارة القبر متعلقة بالحج، وروى بعضهم فيها أحاديث وهي باطلة لا صحة لها، كحديث: «من حج فلم يزرني فقد جفاني»[1]، فهذا متعلق لجمع من أدرجوا هذا في أرصفة الحج، وجعله متعلقًا به، وقد يُفهم من هذا أيضًا بأنه جُعل بإزائه، مع أنه قد يفهم أنه لما كان المسافر مسافرًا ووصل إلى مكة والمدينة فيها ما فيها من الخير والأجر كان ذلك أيسر عليهم لتحصيل أكثر من فضيلة ونعمة وطاعة من الطاعات، فعلى كل حال إذًا من ظن أن هذا له تعلق بالحج، أو سببٌ في كماله، أو أن قبولَ الحج وما يتعلق بأجر الحاج مرهون بمثل هذا، فهذا ليس بصحيح، ولا وجه له، وقد ردّ على ذلك كثيرٌ من محققي أهل العلم بن عبد الهادي وغيره وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم كثير.
 إذًا ما الذي يُشرع للعبد؟
يُشرع أن ينوي زيارة مسجد رسول الله ﷺ، وهذا مما جاء في السنة الإذن بشد الرحل إليه، وأيضًا مما جاء في السنة بخصوصية فضيلته، وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، والصلاة فيه بألف صلاة، والمدينة وما لها من المكانة، وما فيها من البركة، وما يُرجى فيها من الخير، كل ذلك يتأتى بزيارة مسجد رسول الله ﷺ، فإذا زار مسجد رسول الله ﷺ، وكان إنشاء السفر لأجل ذلك فلا غضاضة عليه أنه إذا وصل إليها أن يسلم على رسول الله ﷺ، وفي هذا الموضع بشيء من السكينة والطمأنينة وهدوء في الصوت، فيقف بإيزاء قبر النبي ﷺ، فيسلم على رسول الله ﷺ، ويذكر ما ذكره أهل العلم من الألفاظ: أشهد أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، ثم يُسلم على صاحب رسول الله وخليفته أبي بكر، ثم يسلم على عمر، ثم يسير، فلا ينبغي له في هذا الموطن رفع الصوت، ولا جلبةٌ، ولا زحامٌ، لأن حفظ الحرمة حقِ رسول الله ﷺ ميتًا، كحرمة حفظ حقه حيًا، وداخل في عموم قول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ فإن هذا محفوظٌ له في حياته ومحفوظ له في مماته.
يُنتبه في هذا أن الزيارة هنا ليست موطن دعاء، وهنا يُنتبه لأمرين:
الأول: من يتوجه إلى رسول الله ﷺ بحاجة أو نحوها، فذلك هو الكفر الأكبر بالله -جلّ وعلا-، فإنه لا يدعى غير الله، ولا يسأل إلا الله، وهذا ما جاء في كتاب الله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ هنا إما أن نقول لاستغراق النبيين جميعًا، أو للعهد يعني من أرسلهم الله -جلّ وعلا- وبعثهم، فيدخل فيهم محمد ﷺ كما يدخل فيهم نوح عليهم السلام، إن تتخذوا الملائكة والنبيين وتسويهم بالله -جلّ وعلا- في الربوبية لا يتأتى في الخلق والتدبير، ولا يتأتى في التوجه والقصد والدعاء والعبادة، ﴿أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ ولذلك نهى النبي ﷺ وسدّ كل أبواب ووسائل الشرك، فقال: «لا تطرُوني كما أطرتِ النصارَى ابنَ مريمَ إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُه»[2]، ولعن الله اليهود والنصارى في حديث جُندب قبل أن يموت بخمس: «لعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»[3] فكل ذلك منهيٌ عنه وحرام، وهو شرك وبلاء.
ومثل ذلك أيضًا دعاء الله في ذلك الموطن، والظن أن له خصيصة، وهو ليس كذلك، فإن هذا مما يُظن أنه يتوسل برسول الله ﷺ، وليس ذلك بمشروعٍ ولا مأمور، وإنما تكون الوسيلة بأسماء الله الحسنى، وبعمل العبد الصالح، اللهم إني أدعوك بأني أشهدُ أنه لا إله إلا أنت، فيتوسل بتوحيد الله -جلّ وعلا-.
والتوسل أيضًا يكون بإظهار الفقر والفاقة، فأنا عبدك المسكين، أنا عبدك الفقير، وأنا عبدك المحتاج، وليس بعدها وسيلة مأمورة.
وأما قول الله -جلّ وعلا-: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ فالوسيلة كما فسرها غير واحدٍ من أهل العلم والتفسير أنها الإسلام، فابتغاء الوسيلة إلى الله -جلّ وعلا- باتباع الحنيفية، والاستمساك بالدين، والاستنان بسنة خير الأنبياء والمرسلين، وما جاء الأنبياء والرسل ليُعْبَدوا من دون الله -جل وعلا- ما جاءوا إلا لتوحيد الله وليُقام الدين ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾، لا يُؤمر أحدٌ إلا بعبادة الله -جلّ وعلا-، فالدين لله واصبٌ خالصٌ لا يُدعى غيره، ولا يتوجه إلى أحد سواه، فهذه من المسائل التي عمّ فيها الشرط، وكثُرَ فيها التخريف والخلط، فوجب التنبيه على ذلك.
وينبغي لمن صحب الحجيج من الدهماء والعوام أن ينبههم إلى ذلك، إذا وفدوا إلى المدينة أن يقصدوا الوفادة إلى مسجد رسول الله ﷺ، وإذا أُتيحت لهم الفرصة بأن يسلموا على النبي ﷺ، فإنما هو السلام على الصيغة المذكورة دونما التوجه إليه بدعاء، ولا ظن أن يكون ذلك المكان يُخص بدعاء دونما سواه؛ لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الشرك وطريق إلى الانحراف، والوقوع في الأمر العظيم.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَصفَة الْعمرَة أن يحرم بهَا من بِالْحرم من أدنى الْحل وَغَيره من دويرة أهله إن كَانَ دون مِيقَات وإلا فَمِنْهُ ثمَّ يطوف وَيسْعَى وَيقصر)}.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر في جمل طويلة صفة الحج، والحج أحوال كثيرة يعني محالٌ يتنقل فيها المسلم والمؤمن بين عبادةٍ وأخرى، وهنا مسألة مهمة للغاية، وهي أن نوى الحج فهل تكفيه نية واحدة؟ فكل عملٍ يكون مقصودًا به ذات العبادة المتعلقة بالحج؟ أم يحتاج إلى مخصوصة؟
على سبيل المثال في الصلاة: أنت إذا كبرت ونويت الصلاة فلا تحتاج إذا سجدت أن تنوي أن هذا السجود لصلاة الظهر ونحوه، فنيتك الأولى بصلاة الظهر يدخلُ فيها قيام وركوع وسجود، فإذا نويت الحج هل يدخل فيه ما فيه من طواف، وما فيه من وقوف، وما فيه من مبيت، وما فيه من رمي؟ أو هل يحتاج كل واحد إلى نية واحدة؟
هذا خلاف للفقهاء، والفرق بينها وبين الصلاة واضح، فالصلاة عبادةٌ متصلة، لها أول وآخر، فلا تنفكُ من آخرها بعد الدخول في أولها، إلا جملة واحدة وليس بينهما فضاءٌ أو فراغٌ، وأما الحج فلا، لأنه وقت طويل، ويتخلله ما يتخلله، فمشهور المذهب عند الحنابلة أنه لابُدّ لكل عبادة من العبادات نية مستقلة، خلافًا للشافعية الذين يقولون: هو نية واحدة كالصلاة وغيرها، ما الذي يترتب على ذلك؟
لو طاف الإنسان دون أن ينوي مثلًا أنه للإفاضة؛ فإنه يقع ابتداء على قول الشافعية ومن يرى أنها نية واحدة عن طواف الحج، أو طواف الزيارة، أو طواف الإفاضة الذي هو كله شيء واحد، ومن قال لابٌدّ من نية مخصوصة، فلابُدّ أن تنوي أنه للإفاضة. وهذا من المسائل المهمة.
ويجب أن ننبه على مسألة أخرى مهمة، وهي: أنه لَمَّا كثر الزحام، وجدت هذه الأمور أوجدت تسهيلًا وتنظيما على حجيج بيت الله، سواء كان التسهيل في الدخول في النُسك أو في مرور الناس في أوقات ما، أو الدخول إلى المسجد الحرام، أو الوصول إلى عرفة، أو سوى ذلك من أشياء أخرى، ولذا ينبغي للحاج أن يعلم أن ذلك من أعظم ما يجب عليه مراعاته، وهو داخل في قول الله -جلّ وعلا-: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ فهو داخلٌ في الفسق والجدال إن ترتب على ذلك أخذٌ ورد، ونرى في أحوال كثيرة ما يكون من رفع الصوت بين من يقومون على الحجيج تنظيمًا، ويسهرون عليه ترتيبًا، وبين من يفدوا إلى هذه المواطن، ويقصدوا البيت للتعبد لله -جلّ وعلا- فما يكون من الإنسان من مراعاة ذلك، وتعظيمه وطمأنينة نفسه، وانسياقه واستجابته وعنايته بكل ما يكون من هذه الترتيبات هو تعظيمٌ للشعيرة وحماية لها، وحفظٌ من الفسوق فيها والجدال، وهذا قليل ما يتأتى للناس، يعني مع الرغبة في تكميل بعض الأعمال أو السهو عن أهمية هذه الأمور وتعلقها بما يجب إنسان ويؤمه بالطاعة فيه فإنها من عموم طاعة الله، وطاعة رسوله، فإنها من طاعة أولي الأمر في ذلك تكميل للحجيج وفيه أيضًا إعطاء كل ذي حقٍ حقه لمن سبق إلى مكان، أو مُنع من أن يُزحم فيه أو غير ذلك من الأمور يكون فيها الترتيب ويُطلب فيها الانتظام.
بعد هذا قال: (وَصفَة الْعمرَة أن يحرم بهَا من بِالْحرم من أدنى الْحل)، إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر أن إحرام العمرة يكون من ثلاثة مواضع كل بحسبه، طبعًا أهل مكة فيما مضى قلنا كثيرا: إنهم داخل الحرم، فمن كان في داخل الحرم؛ فإحرامه من الحل، هذا الموضع الأول، ولا يمكن للإنسان ممن يسكن في مكة أن يحرم من مكانه، ولو أحرم بها من مكانه لكان محرمًا بها من غير ميقاتها؛ فيكون عليه دمٌ، لأن النبي ﷺ أمر عائشة أن تخرج إلى الحل، وهي كانت في الحرم، وهي في حكم أهل مكة، فدل ذلك على أن من أحرم بالعمرة من أهل الحرم، أو من أهل مكة، فإنه لابُدّ أن يخرج.
ومن جهة المعنى قالوا: ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم؛ فيقدم إلى الحرم بإحرام، أو فيدخل الحرم بإحرام، وهذا إجماع لأهل العلم، كما ذكر ذلك الطبري وغيره، يُعرف مخالف من المعاصرين أو بعض المحدثين -رحمه الله تعالى-، لكنه خلاف الإجماع، فيُتنبه لذلك.
الحالة الثانية: من كان خارج الحرم ودون المواقيت، كأهل بحرى، أهل الشرائع بالنسبة لمن كان في جهة الحل، لأن الشرائع قسمين، يمكن أهل الشعيبة ومناطق كثيرة، وكل الأماكن التي هي داخل أهل جدة وغيرهم، كثير إذا أرادوا أن يحرموا بالعمرة فمن بيوتاتهم، ولذلك قال: (من دويرة أهله) هذا الثاني.
الثالث: أنه من كان أبعد من خارج المواقيت الخمسة التي ورد ذكرها فيما مضى؛ فيُحرم بها من الميقات، فإن النبي ﷺ قال في ذلك: «هنّ لهنّ ولمن مرّ عليهنّ ممن غير أهلهنّ ممن أَراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ»[4]، فإذًا هذا يشمل دليل القسمين الذين ذكرناهم، من كان خارج المواقيت فيُحرم من الميقات، سواءٌ من تلك البلد أو مرّ عليه من جهة أهلها، ومن كان بين الميقات، أو داخل الميقات وخارج الحرم فيُحرم به من مكانه ومن بيته لما جاء في الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (ثم يَطوفُ ويَسعى ويقصّر)}.
إذًا هذا ما يتعلق بالعمرة، أنه يطوف، فإذًا إذا أحرم بها يفد إلى مكة؛ فيدخلها وهنا ذكر بعض أهل العلم ما يُستحب إذا رأى البيت ونحوه، وأشرنا إلى شيء من ذلك في الحج، وكل ما ذُكر في أحوال الدخول يذكر هنا.
فإذا دخل وبدأ في الطواف قطع التلبية، وأحكام الطواف هنا كأحكامها هناك، من حيث البدء بالحجر الأسود، واستحباب تقبيله، والتوجه إليه واستلامه، فإن لم يمكنه ذلك فيستلمه بيده ويقبلها، أو بمحجن وتقبيل المحجن، أو الإشارة إليه، ويتوجه إليه بكليته وجسمه اشتراطًا في الأول في المشهور عند الحنابلة، وهو الأحوط عند الفقهاء واستحبابًا في سائر الأشواط، ثم يجعل البيت عن يساره ويكمل الطواف للأشواط السبعة.
هنا مسألة مهمة تحصل في الحج كثيرًا أثناء الطواف، فإننا نقول: لابُدّ أن يجعل البيت عن يساره، وأحيانًا مع الزحام، أو بعض الذين يجتمعون كمجموعة في الطواف أنهم يتحلقون كحلقة، وبعضهم يكون في جانب الحلقة، فيفضي ذلك إلى أن يُمسك بيد من معه، ويجعل البيت خلف ظهره ويمشي جانبًا، فهذا لم يجعل البيت عن يساره! فأضف أنه أخلّ بطوافه أنه آذى عباد الله -جل وعلا- كلهم طائفون وكلٌ يتوقع أن يؤذي صاحبه، لكن بمثل هذا يفوت عليه الطواف كما أنه أيضا ربما حصل منه الإخلال والإيذاء، فيتنبه لذلك.
وأحيانا بعض الناس يتفقدُ من معه، فيلتفت إلى الجهة الأخرى، وربما مشى، أو أيضًا دهمه الناس فتحرك قليلًا، هذه الحركة وهو لم يجعل البيت عن يساره، فيقول الفقهاء: إنه إذا لم يرجع فيأتي بالخطوة على وجهها، فإنَّ طوافه لم يصح، وهذا أيضًا مما يحصل كثيرًا.
كذلك مما يحصل للنساء، أن المرأة يجب عليها أن تحتجب، فإذا ظهر بعض شعرها أو بعض جسدها مما أُمرت بستره، كقدميها أو يديها أو نحو ذلك، فهذا مما يؤثر في إحرامها، وبناءً على ذلك قد يُفضي إلى عدم صحة طوافها، فتنتبه خاصةً أن كثيرًا من النساء للأسف الشديد في هذا الوقت ربما جاءت بثياب لم تنكشف لأجل زحام، أو تُغلب على ذلك أو غيره، وإنما هي جاءت متبذلة في لبسها، تُخرج بعض مفاتنها، فإن هذا يُخشى معه عدم صحة طوافها، ويُفضي ذلك إلى بقائها محرمة، فيترتب على ذلك أن كل شيء تفعله، تفعله حال إحرامها، فما يكون من تطيب، وما يكون من جماع زوج، وما يكون من أشياء كثيرة، هي مع بقاء إحرامها، وهي ظانةٌ أنها قد انتهت ولم تنته، وأنها قد حلت من إحرامها ولم تحل، بسبب أنها لم تكمل طوافها على الوجه المطلوب.
قال: (ثم يطوف)، بعد أن يطوف يصلي ركعتين، كما قلنا في الحج، ثم يتجه إلى الصفا نبدأ بما بدأ الله به، ويقرأ قول الله -جلّ وعلا- ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ فإذا رقى إلى الصفا توجه إلى البيت وهلل وكبر، وقال الدعاء المذكور، ثم مشى إلى المروة واحدة، ومن المروة إلى الصفا ثانية، حتى يتم سبعًا، ثم بعد ذلك يقصر أو يحلق، والتقصير يتأتى للرجل بأن يعمم من رأسه وهذا في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهذا هو الأحوط، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: (يأخذ من نواحي رأسه)، لكن النبي ﷺ قال: «لتأخذوا عني مناسككم»[5]، وقد حلق رأسه كله، ﴿ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ فيدخل هذا في اسم الرأس في جملته، وهذا أحوط وأبعد عن حصول الخلاف.
فإن حلق فهذا هو الأفضل، إلا ما استثني في أن يكون متمتعًا بعده حجٌ، فالأولى أن يوفر شعره للحج على ما تقدم ذكره فيما مضى، وإلا كان الأولى به الحلق لما ذكرناه من الدعاء للمحلقين ثلاثًا والمقصرين واحدًا.
قدر التقصير: أي شيء أنملة أو أقل من أنملة، ما حصل به ذلك إذا عممه على جميع رأسه، أما بالنسبة للمرأة فتأخذ من ضفيرتيها أو ضفيرتها قدر أنملة فأقل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل أركان الحج أربعة، وهِيَ: الإحرام، الوقوف بعرفة، طواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة)}.
إذًا هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر ما يفعله الحاج على سبيل الجملة، فمن هذه الأفعال منها ما هو واجبٌ ولازم، ومنها ما تأكد وجوبه وهو ركنٌ، ومنها ما فعله مستحبٌ ومسنون، فهو ذكرها في صفة واحدة، فلما كان كل واحدٍ من هذه له حكمه فيما لو فات أو قصر فيه ونقص، أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يُبين ذلك ليعرف الحاج ما الذي يلزمه لو فوّت أو قصّر في شيء من هذه الأفعال، فلا يخلو إما أن يكون ركنًا، وإما أن يكون واجبًا، وإما أن يكون مستحبًا.
فإذا كان مستحبًا وقد فوته فلا شيء عليه، ولا يحتاج إلى جبران ولا تكميل، وإن كان واجبا؛ فإنه يجبره بدم، وإن كان ركنًا؛ فإنه لا يتأتى إلا بالإتيان به.
وجعل الشيء ركنًا أو واجبًا فهذا اجتهاد من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيه بقدر ما جاء في الدليل من تعظيم هذا الأمر، والحث عليه، والتأكيد على لزومه من عدمه، وسيأتي بيان ذلك في الفرق بين هذا وذاك.
إذًا بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بالأركان، والركن هو الجانب الأقوى، معنى ذلك أنه عماد وأصلٌ في هذه الشعيرة، فقال: (الإحرام) والمقصود بالإحرام هنا هو نية الدخول، أو نية الابتداء، أو نية الشروع، ولا يُقصد بهذا لبس ثياب الإحرام، فقد يلبس العبد الإحرام وهو لم يدخل في الشعيرة، لم يدخل في الحج، وقد يدخل في الحج فينوي الدخول، فيقول: (لبيك حجًا) أو ينوي الدخول الآن وهو بلباسه، فيكون قد أدى الركن لكنه مخلٍ بعدم نخليه عن اللباس الذي يمنع منه المحرم، أو بتغطية شعر أو رأس، أو لبس مخيط أو نحوه، فيتعلق به ما يتعلق به بفعل المحظور، لكن الركن قد فعله، فإذا الركن هو نية الدخول في النسك، ولا يقصد به لبس ثياب الإحرام.
فإذًا، إذا قيل إحرامٌ فالمقصود بذلك نية الدخول فيه، فلابُدّ نية الدخول، نية الحج شيء، ونية الدخول فيه شيء آخر، فإذا خرج شخصٌ على سبيل المثال من الرياض إلى مكة لأجل الحج، فهذا نوى الحج، لكن إذا وصل إلى الميقات فقال: (لبيك حجًا)، أو (لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج) فهذا دخل في النسك، واضح؟
فإذا دخل في النسك لم يجز له أن يرجع لكن الذي خرج من الرياض ناويًا للحج لم يخرجه غير ذلك، لو وصل إلى نصف الطريق فبان له ألا يحج، أو لما وصل إلى هذه القرية وجد امرأة حسناء فتزوجها، فانشغل بذلك عن الواجب، فنقول: لا غضاضة عليه، ما دام أنه لم يدخل في النسك.
وأنا أتيت بمثل هذا المثال حتى تعرف الصوارف سواء من المباحات أو غيرها، لكن لو كان ذلك حجًا واجبًا عليه، وقلنا: إن الحج على الفور؛ فإنه إذا لم يكن المانع له مانعٌ يُعذر به لكان مما حصل منه تأخير الحج بعد لزومه أو بعد وجوبه، وتأخير السعي إليه فيكون آثمًا بذلك، هذا قد تقدم الكلام عليه، لكن في الجملة أن نية الحج لا يترتب عليها حكمٌ حتى ينوي الإنسان الدخول في النسك، فإذا نوى الدخول في النسك تعلقت به أحكام الحج وما يتبعها على ما ذكرناها.
قال: (ووقوفٌ) الوقوف المقصود به بعرفة، «الحج عرفة» فليس بعد هذا الحديث حديث فيه تأكيد أن الوقوف بعرفة من أعظم ما يتعلق به أمر الحاج، ولذلك من وقف بعرفة فقد تمّ حجه؛ فلأجل ذلك كان الوقوف من أركان الحج.
قال: (وطواف) الذي هو طواف الحج، أو طواف الإفاضة، وطواف الزيارة، كلها ثلاثة أسماء لشيء واحد، فطواف الحج بإجماع أهل العلم ركنٌ من أركانه، لا يتأتى الحج إلا به، فلو أن شخصًا نسيه أو لم ينوه، طاف وهو ما يدري هو طواف حج أو ماذا؟ أو ظنه سنةً فطاف بنية السنة والاستحباب، فعلى قول الحنابلة كما قلنا قبل قليل، فلا يزال متعلقًا به هذا الركن حتى يؤديه.
(والسعي) وهذا هو مشهور المذهب، لأنه جاء في الحديث: «إنَّ اللهَ كتب عليكم السعيَ فاسْعوا»[6]، والقول بركنية السعي أيضًا مما كان الخلاف فيها أشد، فليس ثبوت أو تأكيد على لزوم السعي كالطواف أو الوقوف أو الإحرام، أي: الثلاثة التي قبله، ولذلك كان قولا لبعض الفقهاء من الحنابلة وهو مشهور عن الموفّق ابن قدامة، وقول لجمع من أهل التحقيق أنه واجب، لِمَ قيل هو واجبٌ؟ لأن الله -جلّ وعلا- قال في الآية: ﴿إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ﴾ فهنا قالوا: إن الآية فيها أدنى درجات الوجوب، فلا جناح عليه أن يطوف بهما، فلما انضم إليه «إن الله قد فُرِضَ عليكم الحجُّ فحُجُّوا»[7]، يعني على سبيل الوجوب، فبعضهم قال: إن الآية المقصود بها نفي ما كان عليه أهل الجاهلية، والحديث هو الذي فيه التأكيد، فجعلوه ركنًا وألحقوه بالطواف وهو تبع له، فجعلوا حكمهما واحدٌ.
ومنهم من قال: لا، مهما كان فما من الأحاديث الدالة على لزوم السعي لا ترقى إلى أن يكون ركنًا، فجعلوه في حكم الواجب، وهو محتمل جدًا لما ذُكر.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وواجباته سَبْعَة، إحرام مار على مِيقَات مِنْهُ، ووقوف إلى اللَّيْل إن وقف نَهَارًا، ومبيت بِمُزْدَلِفَة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله)}.
قوله: (وواجباته سبعة) نبدأ بها واحدة واحدة، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إحرام مارٍ على مِيقَات مِنْهُ) فمن مرّ من الميقات فلابُدّ له أن يُحرم منه، ولا يجوز له التأخير، فلو أخّر ذلك حتى دخل أو تجاوز فإن رجع فأحرم من الميقات فقد أدى الذي عليه، بأن أحرم من الميقات فلا شيء عليه، وإن لم يرجع فقد أخلّ بالواجب. لماذا قلنا إنه واجبٌ وهو قد أخل به؟
لأن النبي ﷺ كما قال في الحديث المتقدم: «فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ»، فجعل ذلك ميقاتًا مؤقتًا، يعني: محددًا، فلا يجوز تجاوزه ولا تفويته، وبناءً على ذلك نقول: إنه فوت الواجب، ومن ترك مِن نسكه شيئًا فعليه دمٌ، كما جاء ذلك في أثر ابن عباس، وعلى ذلك قول العلماء قاطبة لا يختلفون فيه.
قال: (ووقوف إلى اللَّيْل إن وقف نَهَارا)، إذًا الوقوف له جهتان: جهة ركنية، وجهة وجوب، جهةٌ ركنية تتأتى بأي جزء من أجزاء النهار بعد الزوال على مذهب الجمهور، ومن الفجر عند الحنابلة كما تقدم فيما مضى، فمن جلس ولو ثانية فقد أدى الركن.
ولكن جهة أخرى وهي جهة الوجوب، وهو متعلقٌ بمن وقف نهارًا؛ فإنه من وقف نهارًا فلا يجوز له أن يخرج منها قبل أن تغيب الشمس، من أين أتيتم بهذا؟ قالوا من أن النبي ﷺ وقف ولم يخرج حتى إذا قيل الشمس وهو القائل: «لتأخذوا عني مناسككم»[8]، ففعلٌ دالٌ على المشروعية، وأمرٌ دالٌ على اللزوم، فتأتى من اجتماع الحديثين: وجوب البقاء إلى غروب الشمس.
أمَّا من أتاها ليلًا فيقولون: إنه لا يتعلق به هذا الحكم، فبناءً على ذلك إذا أدى الركن وهو الوقوف ولو لحظة أو برهة فخرج فلا شيء عليه.
إذًا يترتب على هذا أنه لو جاء شخصٌ بعد الظهر أو بعد العصر، أو قبل الغروب ثم خرج منها فلم يعد إليها، فبناءً على ذلك نقول: إنه أخلّ بواجب من واجبات الحج، وهو البقاء إلى غروب الشمس، ولكن لو رجع قبل الغروب ثم غربت فخرج أو رجع إليها ليلًا، فإن من وقف بها ليلًا لا يلزمه شيءٌ، وبناءً على ذلك لا يكون عليه خرق للواجب ولا إخلال به.
{أحسن الله إليكم.
 قال- رحمه الله-: (ومبيت بِمُزْدَلِفَة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله)}.
(ومبيت بِمُزْدَلِفَة إلى بعد نصفه) إذًا هذا متعلقٌ بالمبيت بمزدلفة، والمبيتُ بمزدلفة هو واجبٌ من واجبات الحج في الأشهر من مذاهب أهل العلم.
من الفقهاء من قال إنه ركنٌ، ومن الفقهاء من قال: إنه مستحب، وأما الحنابلة فهم بين ذاك وذاك، ولَمَّا أذن النبي ﷺ للضعفة أن يخرجوا بعد منتصف الليل، دلّ ذلك على أن خروجهم قبله لم يكن مأذونًا، ولو كان غير واجب لما ألزمهم بالبقاء إليه، فأخذ من هذا الحنابلة أن الحكم فيه الوجوب، وبناءً على ذلك قالوا: إن المبيت بمزدلفة واجبٌ من واجبات الحج، فما وقته؟
قالوا: إلى منتصف الليل، لماذا إلى منتصف الليل؟
لأن النبي ﷺ أذن للضعفةِ ومن في حكمهم أن يخرجوا؛ فدلّ ذلك أنه يتأتى الوقوف بمثل هذا، وبناءً على ذلك، فإذا وقفوا إلى منتصف الليل فأدوا الواجب؛ شرع لهم الخروج إن كانوا ضعفة، أو في حكم الضعفة، أو من معهم في حملة ورفقة، لأنهم كالشيء الواحد، وإلا اسُتحِب البقاء إلى طلوع الفجر، كما فعل النبي ﷺ، ولكن الواجب يتأتى بذلك.
وأما من جاء بعد منتصف الليل، أي: لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل -فيما مضى كان المشي ثقيلًا على بعض الناس، ويأخذ منهم جهدًا ووقتًا طويلًا، فلا يصلون إليها إلا متأخرًا- وفي هذا الوقت قد مع وجود هذه السيارات والآلات التي تقل الناس، وتيسر وصولهم، ولكن قد يوجد ازدحام، وتوقفٌ في الطريق، والسيارات لا تستطيع الخروج عن مسارها، وبناءً على ذلك، إذا وصل مزدلفة بعد منتصف الليل كفاه المرور، أي أن يتواجد بها ولو مرورًا، أو أن يدخلها من جهة ويخرج من جهة أخرى، فيتأتى هذا الواجب بأدنى لحظة فيها، أو جزء من أجزائها أيًا كان، حتى ولو دخل من هنا ورجع، أو لو دخل من هنا ورجع من هذه الجهة، أو رجع وشقها وخرج من الجهة الأخرى إلى جهة منى، فتأتى له ذلك مثل ما ذكرنا.
إذًا المبيت بالمزدلفة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله، فهذا هو الواجب الثالث من واجبات الحج.
{أسأل الله أن يغفر لنا ولكم، ونكتفي بهذا القدر}.
 ما دام أنَّ الوقت قد انتهى الوقت، فنكمل -بإذن الله جلّ وعلا- في الحلقة القادمة، أسأل الله -جلّ وعلا- أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا مراضيه، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولجميع المسلمين، وأن يجعل الجادة، جادة يفدُ إليها الطلاب، فينهلوا من معينها، ويستفيدوا من شجراتها المثمرة، وأن يجعل ذلك خالصًا لنا، ولمن قام عليها بذلًا وإنفاقًا، أو عملًا واجتهادًا، ومشاركةً فيها بأي وجه كان، ومن انتمى إليها طلبًا واستفادةً وتعلمًا، والله الموفق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
 {جزاكم الله خيرا أعزاءنا المشاهدين، نستكمل ما تبقى في مجالس قادمة إن شاء الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] الموضوعات لابن الجوزي.
[2] رواه البخاري (3445).
[3] رواه مسلم (530).
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه مسلم (1297).
[6] رواه أحمد (27408)، وابن خزيمة (2764)، والطبراني (24/225) (572)، والحاكم (6943) قال الشافعي كما في ((الاستذكار)) (3/519): إسناده ومعناه جيد.
[7] أخرجه البخاري (7288) مختصراً، ومسلم (1337).
[8] رواه مسلم (1297).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك