{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحهِ فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نُرحب بشيخنا المبارك، حياكم الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله وحيا الله الجميع.
{الله يحسن إليكم.
شيخنا المبارك، كنا في اللقاء الماضي قد توقفنا عند (باب الربا)، ولكن قبل أن ندخل في هذا الباب، نريد أن نتناول مسألة معاصرة، وقد تنقدح في ذهن السامع والمشاهد.
بعض المعاملات فضيلة الشيخ هي معاملات ربوية، ولكن قد يقوم الرجل بحيلة حتى يخرج من هذا الربا، فهل يجوزُ للإنسان أن يفعل ذلك؟}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يُنير قلوبنا بالعلم، وأن يجعلنا ممن اقتفى سنة نبيه ﷺ، فاستقام على ذلك حيَّ بها وأحيا قلبه، واستقام عليها وأحياها، ونشرها وأظهرها، ومات على ذلك، على سنةٍ لا مبدلين ولا مغيرين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
إن أحببت أن نتحدث فيما ذكرت، فبابه باب الحيل، والحيل لأهل العلم فيها كلامٌ طويل، وإن رأيت فإنَّ أي تفريع تابعٌ لذكرِ الأصل وتثبيته وتوضيحه، فلعلنا إن لم تنس نجعلها عقيبَ الانتهاء من تأصيل البابِ، وبيان ما يُبنى عليه، فإنَّ هذا أتم وأنفع للطالب في تدرجه في المعلومة.
أظن أننا في الدرس الماضي وقفنا في علة الربا، وذكرنا لكم أن الكلام في علة الربا إنما هو ربا البيع، وأن هذه العلة لأهل العلم فيها منهجٌ واضح.
وقول عامة أهل العلم أن الأشياء الستة التي جاءت في حديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وحديث عبادة بن الصامت أنها يُقاس عليها، ثم اختلفوا فيما يُقاس وما يُذكر من علةٍ تُبنى عليها المسائلُ المشابهة.
نأتي إلى تفصيل هذا القول: هؤلاء الذين اتفقوا على أنَّ هذه الأصناف الستة مُعللة، اتفقوا أيضًا على أنَّ الذهب والفضة لها علةٌ، وأنَّ سائر الأربعة لها علةٌ أخرى.
ما علة الذهب والفضة، أو ما علة النقدين؟ وما علة الأشياء الأربعة المتبقية؟
أشرنا في الدرس الماضي إلى أن الخلافة فيه لا حد له، وأنه بحرٌ لا يكاد الطالب يُمسك فيه طرفًا، ولا يَثبت له فيه قدم، يعني: مهما اجتهد في جمع أطرافهِ أو لم شعثه، لكن نحن سنذكر ما يمكن أن يستمسك به الطالب مما هو أصلٌ في هذا الباب.
أمَّا الصنفين الأولين: فمدار الكلام فيهما:
هل العلة في الذهب والفضة هي النقدية؟ فيقال: النقدان، فتكون مخصوصةً لا يلحق بها غيرها، أو أنَّ العلة هي الثمنية؟
بعضهم يقول: الثمنية المختصة، يعني مثل: النقدية، أو مُطلق الثمنية، أو الثمنية الغالبة، يعني إذا قلنا: إنها مخصوصة بالنقدين، فمعنى ذلك أنها في الذهب والفضة لا يُلحق بهما غيرهما، وسواء كان في ذلك ما ضُربت من فلوس: النحاس، أو من الحديد أو من غيرها.
وأمَّا إذا قلنا: إنها مطلق الثمنية، فمعنى ذلك: أنَّ أي شيءٍ شارك الذهب والفضة في كونه ثمنًا للأشياء وقام مقامهما أو صار مثلهما -ولو في بعض الأشياء- فمعنى ذلك أنه يكون حكمهُ حكم الذهب والفضة في دخول الربا عليه، وتعلق أحكام الربا به.
فهذا هو أهم ما يمكن أن تعرفه في مسألة: هل هي متعلقةٌ بالنقدين "الذهب والفضة" أو مطلق الثمنية؟
ونحن لن نعرض له، ولن ندخل في تفاصيله، مع أن الحنابلة في أصل المذهب -كما سيأتينا- قالوا: إنَّ العلة فيها "الوزن"، ولكن هذا القول فيه إشكالات كثيرة، ولكن لَمَّا كان هذا القول لأكثر الفقهاء، وإنما يختلفون اختلافًا يسيرًا، هل هي محصورةٌ بها أو يدخل فيها غيرها؟ اقتصرنا على ذلك لأهمية هذين القولين، وما يترتب عليهما؟
ما الذي يترتب على هذا الخلاف؟
يترتب عليه أن الفلوس التي كانت في الزمن الماضي مما يضربها الولاة، وكان الناس يتعاملون بها، غير الدراهم والدنانير التي هي من الفضة والذهب، وإنما هي من النحاس، أو من الصّفر، أو من الحديد وغيرها، إذا تعامل الناس بها، هل تدخل في حكم الربا أو لا؟ هذا هو محل الكلام، وسنأتي بعد ذلك إلى ما يتعلق بالأوراق النقدية بعد الانتهاء من المسألة بجملتها.
من أين جاء الإشكال، أو من قال بالعلة أو مطلق الثمنية، أو قال بالذهب والفضة؟
من قال: بالذهب والفضة، قال: إن غيرها لا يساويها، ومهما وُجِدَ شيءٌ له ثمن، إلا أن هذا الثمن يمكن أن يلغى، يمكن أن لا يعبأ الناس به؛ حتى الفلوس التي ضربها الحكام والولاة فيما مضى، إنما يتعامل الناس بها في الأشياء البسيطة والتافهة، في مأكول أو في مشروب، ولكن في الأشياء الكبيرة لا يعتبرون إلا الدراهم أو الدنانير.
ومن قال: مطلق الثمنية، قال: لأن الله -جلّ وعلا- جعل الذهب والفضة ثمًنا للأشياء، وهذه من حِكم هذه الدنيا، وما جعل الله -جلّ وعلا- فيها من تسيير أمورهم وتيسيرها، فأي شيءٍ شاركها في كونه ثمنًا للأشياء، فستكون حاجة الناس إليه ملحة، وتعلقهم به كبير، وسيكون عليهم فيه من الحرج ما في الذهب والفضة.
فإذا قيل: بعدم حصول جريان الربا فيها، فهذا يُفضي إلى احتكارها، ويمنع التداول والبيع والشراء، فيحصل على الناس بذلك تعبُ وبلاء؛ فلأجل ذلك قالوا: مادام أنَّ هذه أثمان فهي مثل الذهب والفضة؛ لكون الذهب والفضة أثمانًا.
وأما من منع فيقول: إنها مهما وجدت وكانت أثمانًا لكنها تنزل درجة كبيرة لا تساويها؛ فلأجل ذلك حصل.
الأشياء الأربعة منهم من ذهب إلى كونها مكيلة أو موزونة، ولكن أشهر ما يقال في هذا أحد قولين:
إما أن يقال: إنَّها مطعوم ومكيل، أو مطعوم وموزون، وهذا مسلكٌ لجمعٍ من أهل العلم، أو يقال -كما هو قول المالكية- الاقتيات والادخار، أي أنَّ هذه الأشياء هي قوت الناس، والقوت هو الذي يكون به قِوام حياتهم وعليه يعتمدون.
ثم لَمَّا كان هذا هو القوت، قالوا: وأيضًا هذه الأشياء تتفق في كونها مُدخرة، يعني: يمكن حفظها لأوقات طويلة، وهذه التي تَعظم بها الحاجة، وبناءً على ذلك جعلوها في المقتات أو المدخر.
إذًا منهم من قال: مطعومة مكيلة أو موزونة؛ لأن هذه الأشياء إمَّا مكيلة أو موزونة، وتتفق في كونها كلها طعامًا، والحاجة إلى الطعام ليست كالحاجة إلى غيرها.
فعلى كل حال: منهم من فرّع على هذا، ومنهم من فرّع على هذا.
إما أن يقولوا هو مطعومٌ موزون، وإما مطعومٌ مكيل.
أو القول الثاني أنه الكيل والادخار.
وكما قلت لكم: ثمَّ أقوال كثيرة وخلافاتٌ لا حد لها، ولكن أحببنا أن نجمع ذلك في أهم ما يمكن أن ينتفع به الطالب ويستفيد فيه.
هذا إذًا ملخص ما يتعلق بعلة الربا، أو ما يدخل فيه الربا:
الأشياء الستة: وهي مقسومة إلى قسمين:
- الذهب والفضة.
- والأشياء الأربعة.
الذهب والفضة يُقاس عليها ما شاركها في الثمنية، والأشياء الأربعة إمَّا المطعومات المكيلة، أو المطعمات الموزونة، والقول الآخر هو ما له خصيصة الاقتيات والادخار، وهو الذي يدخل فيه علة الربا.
إذا قلنا: إنها المطعوم المكيل، والموزون المكيل؛ لأنه أقرب إلى ظاهر الحديث، وقلنا في الذهب والفضة: إنها مطلق الثمنية، فسيأتي بعد ذلك تفريع المسائل، وسنذكر ما جرى عليه الحنابلة، وما يترتب على ما يجري عليه العمل، أو يكثر فيه الاختيار عند كثيرٍ من المحققين، وعلماؤنا المعاصرين.
الآن عندنا الأوراق النقدية: ما هو حكم الأوراق النقدية؟
إذا قلنا: إن العلة في الذهب والفضة مُطلق الثمنية، فهذه الأوراق النقدية نجد أن الثمنية فيها ظاهرة، واعتبار الناس لها كبير، ولا يكادون ينفكون عنها، وهذا لا إشكال فيه، ولكن إذا قيل ذلك مخصوص على الذهب والفضة، فهل تدخل الأوراق النقدية فيها، فيكون فيها الربا؟ نقول: هي لا.
أنا أقول لكم هذا من جهتين:
أول شيء: أنَّ الفقهاء حينما تكلموا عن الفلوس، وهل تُلحق بالذهب والفضة أو لا تلحق؟ ذاك؛ لأنَّ الفلوس في كل العصور ما كان الناس يعبئون بها، ولا كانوا يُعيرونها الاهتمام كما يعيرون الذهب والفضة، فلم تكن في عهدٍ من العهود عند أئمة الإسلام على اختلاف مذاهبهم وأقوالهم أنها تقوم مقام الذهب والفضة سواءً بسواء، إلى أن جاء هذا الزمان، فلما جاء هذا الزمان صارت تقوم مقامها وزيادة.
والدليل على ذلك؟
أنه لو جاء شخص واشترى سلعةً بالذهب والفضة يمكن يقبلها الشخص، ويمكن أن لا يقبل منه، لكن لو اشترى بهذه الأوراق "بالدولار، باليورو، بالريال" قَبِلَ، مما يدل على أنَّ الثمنية فيها أظهر، هذا من جهة.
من جهةٍ ثانية: هل هذه الأوراق النقدية هي ذهبٌ أو فضة أو لا؟
طبعًا من حيث الوجود في الأصل صحيح، كانت في أكثر البنوك أول ما بدأ توريق هذه الأوراق وتداولها، كان إذا طُبعت يُجعل ما يُقابلها ذهبًا أو فضة، ثم مع تطور الاقتصادات العالمية ضَعف هذا المقابل، لكنه لم ينته.
فبناءً على ذلك: الآن حتى أكثر الدول تطورًا، أو مثل ما يقال: الاقتصادات العالمية بما فيها أمريكا، إلى الآن نسمع احتياطات الذهب أو احتياطات الفضة لدى هذه البنوك، يَقصدون بها أنها مقابلة.
إذًا هذه الأوراق مُغطاة إمَّا كاملًا أو جزءًا، ويختلف هذا الجزء في الدول كثرةً وقلة فيما يقابل تلك الأوراق.
إذًا حتى ولو قلنا: إن العلة في الذهب والفضة علةً قاصرة، ما يأتي أحد ويقول: هذه الأوراق لا ربا فيها؛ لأنه يُقابلها شيءٌ من الذهب ولو قل، واضح؟
فبناءً على ذلك نقول: على القولين، سواءُ قلنا من أن العلة مُطلق الثمنية، فهذا ظاهر أن هذه أثمان كما أن فيها أجزاء من الذهب والفضة، وإن تفاوتت، وإن قلنا إن العلة هي النقدين الذهب والفضة أو علة الثمنية القاصرة -يعبرون بهذا التعبير- فنقول: هي كذلك لكونها لا تخلو من وجود تغطية ولو يسيرة ذهبًا أو فضة، ولو كان بعضهم قد يخالف أو ينحى منحى ويقول: إنها غير مغطاة، أو أنها كذا، لإرادة الانفكاك عن بعض مُتعلقات هذا القول أو نحوه، ولا ينفك في الحقيقة، فكل البنوك العالمية لابد أن يوجد فيها احتياطيات تُقابل شيئًا من المطبوع ولو كان قليلًا.
إذًا الربا في هذه الأوراق حاصلٌ لا محالة، كما يحصل في الذهب والفضة سواءً بسواء.
إذًا هذا مُحصل القول فيما يتعلق بعلة الربا، والكلام عليها من حيث التأصيل والتوضيح.
{قال -رحمه الله-: (فصلٌ اَلرِّبَا نَوْعَانِ: رِبَا فَضْلٍ وَرِبَا نَسِيئَةٍ، فَرِبَا اَلْفَضْلِ: يَحْرُمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً، وَلَوْ يَسِيرًا لَا يَتَأَتَّى)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (رِبَا اَلْفَضْلِ)، الفضل بمعنى الزيادة، فهو ربا الزيادة، وهو بيع أحد الربويين بجنسهِ مُتفاضلًا أو مع الجهل بالتساوي، فيدخل في ذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، أو بيع الشعير بالشعير متفاضلًا، أو بيع مثلًا بُر بُبر، هذا في كيس وهذا في كيس، قد يكونا متساويين، وقد يكون هذا أزود بقليل، ولذلك قال: (وَلَوْ يَسِيرًا) فيدخل في هذا.
إذًا هذا هو ربا الفضل، وهو كل جنس من أجناس الربا يدخل فيه ذلك.
فعلى سبيل المثال: هذه الأشياء الستة هذه واضح فيها، كما قال النبي ﷺ: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ يدًا بيد»، إذًا لابد أن يكونا متماثلين ومتقابضين؛ لأنَّ هذا بيعٌ بالجنس، فيدخل في باب الربا.
وربا الفضل هو كل ما كان له جنسٌ واحد، مما يدخل في علة الربا، سواءُ من الأشياء الستة أو ما ماثلها، أو ما يماثلها من الأوراق النقدية، مثال: عشرة ريالات بأحد عشر ريالًا.
وأما مثال المطعوم المكيل أو المطعوم الموزون، كما نقول: أرز بأرز، والدليل على ذلك أن النبي ﷺ: لَمَّا جاء أحد الصحابة بتَمْرٍ طيبٍ بَرْنِيٍّ قال: «أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»[1]، قالَ: لا يا رَسولَ اللَّهِ، ولكنَّ نبيع الصاع من هذا بصاعَيْنِ، يعني من غير، قال: «أَوَّهْ عَيْنُ الربا»، فمنع من المزايدة في ذلك، يعني: إذا اتفق جنسها.
ما معنى الجنس؟
الجنس هو اسمٌ واحدٌ له عدة أنواع، على سبيل المثال: التمر جنس منه إخلاص، منه سكري، منه برحي، صقعي، وهكذا. مثلًا الأرز منه: أرزٌ منه أنواع مثل: بشاوي، بسمتي، كذا، فهو اسمٌ واحد له أنواع، مثل مثلًا الغنم -وإن كانت لا تدخل في باب الربا-، الغنم جنس منه الضأن، ومنه الماعز، وهكذا أشياء كثيرة.
فإذا جنسٌ واحد له أنواع.
«فإذا اخْتَلَفَتْ هذِه الأشياء، فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ، مادامت يدًا بيد» إذا كانت متفقةً في علة الربا، هذه الدرجة الثانية، وهي أن لا تكون من جنس واحد، هي أموال ربوية إمَّا منصوص عليها من الستة أو مقيسةً عليها، بمعنى أنها دخلت في علة الربا التي قررناها على القول بأنها كل ما هو مطعومٌ موزون، أو مطعومٌ مكيل.
فبناءً على ذلك نقول: إذا اختلف الجنس جاز التفاضل، ولذلك قال النبي ﷺ: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذِه الأصْنافُ، فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ إذا كانَ يَدًا بيَدٍ»، مما يشترك في علة الربا.
الثالث: أن لا يكونا جنسًا واحدًا، ولا يتفقان في علة الربا؛ فهنا تبيع كيف شئت مُتفاضلاً وحاضرًا أو نسيئةً أو مؤجلة، فعلى سبيل المثال: تبيع عشر سيارات بقطعة أرض، أو تبيع عشر سيارات بألف جوال، فهذه ليست من الجنس الواحد، ولا هي أموالٌ ربوية داخلة في علة الربا، أي لا ترجع إلى الذهب والفضة، ولا ترجع إلى المطعوم الموزون أو المطعوم المكيل، وبناءً على ذلك يجوز فيها التفاضل، ويجوز فيها التأجيل.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَحْرُمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً) طبعًا هذا مبني (كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ) عند الحنابلة على أنَّ العلة في هي الوزن في الذهب والفضة، بينما في الأشياء الأخرى أن تكون مكيلة على سبيل الإطلاق، ولكن هذا القول فيه ما فيه من الإشكال الكبير.
ولأجل ذلك: قلنا إن العلة هي التي ذكرها كثير من أهل العلم، وكانت أكثر استقامةً فيما يُبنى عليها من المسائل، ولا يحصل في ذلك شيءٌ من التضارب والإشكال.
قالوا: (وَلَوْ يَسِيرًا لَا يَتَأَتَّى)، يعني: حتى ولو كانت الزيادة قليلة لا يمكن التسوية بينها، يعني لو بعت تمرة بتمرتين، أو ما شابه. إذًا، إمَّا أن يتساويا، وإمَّا أن لا يصح ذلك البيع، ويدخل في باب الربا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ بِهِ مُتَسَاوِيًا وَبِغَيْرِه ِمُطْلَقًا بِشَرْطٍ قَبْضٍ قَبْلَ تَفَرُّقٍ، لَا مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ وَزْنًا، وَلَا عَكْسُهُ)}.
قال: (وَيَصِحُّ بِهِ)، يعني: يصح (مُتَسَاوِيًا)، يصح بيعه بجنسه مُتساويًا، فيصح بيع أرز بأرز، لكن متساو صاع بصاع، بيع بُر ببُر، مثلًا، أو نقول: وسق بوسق، أو قفيز بقفيز، ما دام أنها متساوية جاز ذلك.
(وَيَصِحُّ بِهِ مُتَسَاوِيًا)، التساوي أن يكون بيعه بما يعتبر فيه وهو الكيل إن كان مكيلًا، أو بالوزن إن كان موزونًا، أمَّا لو تساوى بغير ذلك -وهذا سيأتي- فلا.
قال: (وَبِغَيْرِه ِمُطْلَقًا بِشَرْطٍ قَبْضٍ قَبْلَ تَفَرُّقٍ) هذه المسألة الثانية: نبيع بُر بشعير، بيع بُر عشرة كيلو بخمسين كيلو شعير ما في مشكلة، تفاضل جائز، لكن مع القبض، لماذا؟ لأنه لَمَّا اختلف جنسها صارت لا تدخل في ربا الفضل، لا تدخل في القسم الأول، ولكن اتفقت علّة الربا فدخلت في النوع الثاني وهو: ربا النسيئة.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (وَبِغَيْرِه ِمُطْلَقًا بِشَرْطٍ قَبْضٍ قَبْلَ تَفَرُّقٍ)، «فإذا اخْتَلَفَتْ هذِه الأشياء، فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ، إذا كان يدًا بيد».
قال: (لَا مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ وَزْنًا)، هذه المسألة المهمة، وهي أن المؤلف -رحمه الله- يقول: إن المعتبر في التماثل هو كيلها الأصلي أو ما كانت تعتبر به أصلًا، بمعنى: عندنا مكيلات وعندنا موزونات، -وذكرنا لكم فيما مضى ونعيدها الآن توضيحًا- أنَّ الفرق بين المكيل وبين الموزون هي وحدات في القياس، ولكن المكيل معتبرٌ فيه الشيء بحجمه.
ما معنى معتبر الشيء فيه بحجمه؟
مثل الآن عندنا الصاع، الصاع هذا القدر الإناء المعروف تجعل فيه ما يمتلئ به، الذي يمتلئ به -يمكن يمتلئ بالعدس، يمتلئ بالأرز، يمتلئ بالقطن-، لكن لو قلبت هذا الذي فيه فجعلته في ميزان الثِقل، يمكن أن يكون هذا الصاع من القطن مائة جرام، وممكن يكون هذا الصاع من العدس كيلوين وربع، ممكن يكون من الأرز ثلاثة أو أقل بقليل أو أزود أو غيره، وممكن تضع فيه شيئًا من أمور ثقيلة مثل: حديد أو زئبق، فيصل إلى عشرة كيلو أو أكثر من ذلك، فإذًا هذا اعتباره.
وما أمثلته في الواقع؟
لها أمثلة كثيرة طبعًا أكثرها مسميات غير عربية، مثل: اللتر، اللتر الآن وحدة للحجم، يجعل فيها قدر من اللبن، أو الماء، أو نحوه، ولكن لو توزنها بالثقل والخفة بعضها أثقل من بعض؛ لأنها ما يسمونها –أنا ما أعرف هذه الأشياء- لكن كثافة ونحوها، أكثر كثافةً أو أقل، أخف أو أثقل.
لو جئت مثلًا لما يسمونه: الجالون، أو البرميل، كلها وحدات للحجم، فهذه من الأشياء التي تدخل في وحدات الكيل، أي: التي هي قياس الشيء بحجمهِ.
وعندنا الموزون وهو قياس الشيء بثقله وخفته، ولكن ينبغي أن تعلم هنا: أن اعتبار الشيء مكيلاً أو موزونًا ليس باعتبارنا الآن، بل اختلف؛ لأن أكثر الأشياء الآن اعتبرت بالوزن، وقالوا: إن المكيل الذي يدخل في الكيل هو الذي يُكال في عهد النبي ﷺ في المدينة، فما كان يحسب بالكيل فيبقى مكيلًا إلى هذا الوقت، فإذا أردنا أن نبيعه بجنسه لابد أن نتأكد من تماثله كيلاً؛ حتى لا يزيد بعضه على بعض، وما كان مُعتبرًا بالوزن بالثقل والخفة في عهد النبي ﷺ فيبقى اسمه موزونًا إلى هذا الزمان.
بمعنى: أنه إذا كان من الأموال الربوية أو ما فيه علة الربا، وأردنا أن نبيعه بجنسه، فلابد من التأكد من أنه يوزن باعتبار ما كان على عهد النبي ﷺ من كونه موزونًا؛ حتى ولو كنا نعتبره الآن بطريقة أخرى.
أهم شيء مادام موزون في عهد النبي ﷺ فلابد من تحقيق التماثل بالوزن، ولذلك قال: (لَا مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ وَزْنًا)؛ لأنها لَمَّا آلت أكثر الأشياء الآن إلى الوزن، أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يُبين أن هذا كونكم تزنون هذا كيلو وهذا كيلو، أو هذا طن وهذا طن، هذا لا ينفع، مكيل أنظر خمسة أصواع، عشرين صاع، وسق، وسقين، قفيز... ونحوه، فإذا تماثلا في هذا الحمد لله، وإذا لم يتماثلا فلا.
فلأجل ذلك أراد أن ينبه المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى ذلك، فيقول: (وَلَا عَكْسُهُ) أيضًا مثل ذلك لو كان موزونًا، واعتبرنا فيه الكيل لا يعتبر فيه التماثل، فكأنما وقعت في الربا.
والقاعدة عند الفقهاء: "أن الجهل بالكيل والوزن كالعلم بالفضل بينهما"، فكأنك وقعت في الربا قطعًا، إمَّا أن تتحقق، وإمَّا أن يكون ربا.
وإذا لم يتساويا حقيقةً بمكيالهم الشرعي "بالكيل أو بالوزن"، فحصل عندك علمٌ بالمفاضلة، أو جهلٌ بالمساواة، فهو داخلٌ في اسم الربا، ولذلك قال: (وَإِلَّا إِذَا عُلِمَ تَسَاوِيهِمَا فِي اَلْمِعْيَارِ اَلشَّرْعِيّ)، يعني المعيار الشرعي: المكيلات في عهد النبي ﷺ بكيلها، والموزونات في عهد النبي ﷺ بوزنها.
وما سوى ذلك إذا بيعت بجنسها، ولم تعتبر فيها المكيل بكيلهِ، والموزون بوزنه، فبابها باب الربا، مهما اعتبرت لها من التماثل بأي معيار جديد أو حادث في الوقت الحالي.
{والقاعدة هي: "الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل"}
نعم، أي: كأنك علمت أنها متفاضلة، وقد وقعت في رباها.
{أحسن الله عليكم.
قال -رحمه الله-: (لَا مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ وَزْنًا، وَلَا عَكْسُهُ، وَإِلَّا إِذَا عُلِمَ تَسَاوِيهِمَا فِي اَلْمِعْيَارِ اَلشَّرْعِيّ)}.
هذه وضحناها.
{قال: (وربا النسيئةِ يَحْرُمُ فِيمَا اِتَّفَقَا فِي عِلَّةِ رِبَا فَضْلٍ كَمَكِيْلٍ بِمَكِيْلٍ، وَمَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ نِسَاءً إِلَّا أَنْ يَكُونَ اَلثَّمَنُ أَحَدَ اَلنَّقْدَيْنِ، فَيَصِحُّ وَيَجُوزُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَوْزُونٍ وَعَكْسُهُ مُطْلَقًا، وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ)}.
يقول: (وربا النسيئةِ)؛ النسيئة بمعنى التأجيل، فالنبي ﷺ نبهَ في حديث عبادة بن الصامت، والحديث جاء أيضًا من حديث أبي سعيد: أنه لا تفاضل فيما اتفقا جنسًا، ولا تأجيل فيما اتفقا في علة الربا وإن اختلف جنسها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ربا النسيئة) يعني: ربا التأجيل، وهو كل مالين اتفقا في علة الربا، بيع أحدهما بالآخر مُؤجلاً، والنبي ﷺ قال: «لا رِبا إلَّا في النَّسِيئَةِ»[2].
هل معنى ذلك أنه لا يوجد ربا الفضل؟
قال بعضهم ذلك، وهذا خطأ ومخالف، والحديث إن دلَّ بمنطوقه على تحريم ربا النسيئة، وبمفهومهِ على عدم حُرمة ربا الفضل، إلا أنه جاء في حرمة ربا الفضل أحاديث صريحةٌ بمنطوقها، وكانت مقدمةً على المفهوم، ولذلك حمل أهل العلم هذا الحديث في قوله: «لا رِبا إلَّا النَّسِيئَةِ» بأن الربا الأعظم أو الأشد أو الأكثر إثمًا هو ربا التأجيل؛ ولأنه هو الأكثر وقوعًا أيضًا.
ربا النسيئة يُحرم التأجيل في هذه الأشياء التي اتفقت في علة الربا، مثل ما قلنا، ولذلك قال: (يَحْرُمُ فِيمَا اِتَّفَقَا فِي عِلَّةِ رِبَا فَضْلٍ كَمَكِيْلٍ بِمَكِيْلٍ)، فلو باع شخصٌ مثلًا مِلحًا بشعير فنقول: لا بأس، زايد أو ناقص أو متساو، لا بأس بشرط أن يُسلم في مجلس العقد، فيستلم هذا شعيره، ويستلم هذا ملحه.
ولو بيع تمرٌ ببر خمسة آصع بعشرين صاعًا نقول: لا بأس؛ لأنه اختلف الجنس.
وبناءً على ذلك: لا ربا فضل فيها، بشرط أن يَحصل القبض في مجلس العقد لئلا يحصل فيها ربا التأجيل، والمقصود به ربا النسيئة.
لكن لو أن شخصًا باع تمر "إخلاص" بتمر "سُكري"، بعد باع صاعًا بصاعين لأسبوع، نقول هذا وقع فيه الربا كله، وقع فيه ربا الفضل؛ لأنه باع ما جنسُه واحدٌ وإن اختلف نوعه، وبعضه أكثر من بعض فلم يتساويا، ووقع فيه ربا النسيئة لماذا؟ لأنه حصل فيه تأجيلُ فوقع فيه نوعا الربا في هذا البيع.
لو باع برًا بشعير، عشرة أصواع بمائة صاع، مُسلمةً في المجلس، نقول: هذه لا ربا فيها، لماذا؟ لأنها اختلف جنسها فجاز التفاضل، وسُلمت في مجلس العقد فلا تأجيل فيها ولا نسيئة، وإن اتفقت في علة الربا، لكن ما فيها تأجيل.
لو باع صاعًا من بر بصاعين من شعير على أن تُسلم بعد يوم، أو قال: أنا سآتيك بها، أي -ليس فيها تأجيل- ولكنها لم تُسلم في مجلس العقد، فنقول هنا: البر بالشعيرِ وإن اختلف جنسهما إلا أنهما يتفقان في علة الربا، فبناءً على ذلك نقول هنا: وقع النوع الثاني من أنواع الربا وهو ربا النسيئة؛ لأنه أَجَّل، وبناءً على ذلك لا يصح.
لو باع شخصٌ عشرة أصواعٍ من التمر بمائة دينار، فهنا هل جنسهما واحد؟ هل الذهب والتمر جنسٌ واحد؟ لا، هل علتهما واحدة؟ لا، هذا علته الثمنية كما قلنا، وهذا علته الكيل مع الطعم.
إذًا اختلفا في الجنس واختلفا في الكيل، فنقول: لك أن يكون فيها تفاضل، وأن يكون فيها تأجيلٌ أو تسليم؛ لأنه لا ربا فيها لعدم وجود جنس المال الربوي، أو علة الربا التي ذكرنا أنها جَرى أهل العلم على اعتبارها، ثم اختلفوا في تحديدها.
لو باع مثلًا ملحًا بحديد، أو ملحًا بنحاس، نقول: هذا لم يتفقا في الجنس، ولم يتفقا في علة الربا، فيجوز التفاضل، ويجوز التأجيل.
{الضابط في هذا شيخنا الشروط، يعني: حينما يريد طالب العلم مثلًا أن يضع المسائل يربطها بالشروط، فتتأتى له}.
ما أدري ماذا تقصد بالشروط؟ لكن هنا نعرف أن ربا الفضل مبناه على ما كان جنسًا واحدًا، وكان من الأشياء التي جاءت في النص أو في الحديث، أو هي مقيسةٌ عليه باعتبار العلة التي ذكرها الفقهاء.
ربا النسيئة هو كل مالٍ من الأموال التي تتفق في علة الربا، فلا يجوز فيها التأجيل، يجوز التفاضل، ويجوز أن يستبدل هذا بهذا، لكن بشرط أن يكونا في مجلس العقد، فإذا لم يكونا جنسًا واحدًا، ولا مالًا ربويًا من الستة المنصوصة أو المقيسة عليها، جاز فيها التفاضل والتأجيل.
لقائلٍ أن يقول: لِمَ حُرم الربا؟
هذه مسألة من أهم المسائل، هل الربا حُرم لأجل التضيق على الناس؟ هل الربا حُرم لأجل أنَّ التأجيل والوقت ليس له ثمن؟ لا، لماذا؟ لأن الشارع والفقهاء يتكلمون إذا باع بعشرة حاضرة أو باثني عشر مؤجلة فاتفقا على اثنا عشر جاز، الدليل على أنه خلى الدرهمين مقابل ما سيكون عليهم من تأجيلٍ في الثمن. إذًا ليست هذه العلة، ما العلة؟
العلة أنَّ الشارع رَحم العباد بمنع الاحتكار، فلو أن أهل الذهب والفضة جاز لهم أن يتبايعوا بالذهب والفضة فقط، فهذا أنفس الأشياء، فما الذي سيحصل؟ تبور سلع الناس، مثل من عنده تمر، ومن عنده سيارات، ومن عنده مثلًا أشياء أخرى، كمن يصنع الملابس، ستبور سلعهم، فلما منع الشارع وضيق التعامل، "الذهب بالذهب، والذهب بالفضة"، احتاج أهل الأموال إلى أن يشتروا السلع حتى ينموا تجارتهم، فإذا اشتروا هذه السلع دارت الأموال والأثمان بين الناس، وإذا دارت الأثمان بين الناس؛ انتفع الناس.
أنا سأقول لكم مثال من الواقع: الآن لو افترضنا واحد محتاج إلى النقود، وجاء يريد أن يقترض مئة ألف، فلم يجد من يقرضه، فاضطر إلى أن يشتري سلعة -سيارة- بمائة ألف، لكن ما عنده فلوس، قال: ترى بحسبها لك بمائة أو عشرين ألف تعطينيها بعد سنة، فاتفقا على ذلك، فأعطاه السلعة التي هي السيارة، وهذا كتب على نفسه أنه بعد سنة سيسلم مئة وعشرين ألف.
السنة حلت، لكن هو ماذا فعل بالسيارة؟ هو لا يريد السيارة، فذهب وباعها وانتفع بالمال.
قد يقول بعضهم: بدل ما تطول عليه، لماذا لم يأخذ المئة بمئة وعشرين، هل هذا صحيح؟
لا. أنا أقول لك لماذا؟
هو لَمَّا أدخل فيها شراء سلعة، معنى ذلك أن هذا المال انتقل إلى الغير، مرة انتقل إلى صاحب السيارات، صاحب السيارات راح واشترى شيئًا آخر من صاحب الخضروات، ثم صاحب الخضروات اشترى شيئًا من صاحب الذهب، ثم صاحب الذهب اشترى شيئًا من كذا، فكُسر احتكار أهل الأموال للأموال.
ومثل ذلك لَمَّا منع الشارع الديّن بقرض، احتاج أهل الأموال -لو كانوا أيضًا ما يبيعون ولا يشترون- يدينون الناس وخلاص، مثل البنوك الآن والرأسمالية وهذه فكرتها، فالبنوك الآن قابضة على الناس، قابضة حتى على الدول، لماذا؟ لأنها تأخذ الأموال، وتقرضهم وتأخذ أموالا أخرى، ولكن جاء الشارع ومنع ذلك، فلما منع ذلك احتاج أهل الثراء من أهل الذهب والفضة حتى ينموا أموالهم ولا تكسد أن ينزلوا للأسواق ليشتروا، مرة يشتري عقارًا ليستفيد فيه، ومرة يشتري بضاعة من مزروعات، ومرة يشتري مصنوعات من الأحذية، أو كذا، فمنع الشارعُ بذلك حصول الاحتكار، وبقاء الذهبِ وتكديس أو تكريس أو تعظيم ثرواتهم وزيادة فقر الفقير.
ولذلك كان هذا هو حال أهل الجاهلية، لَمَّا كانوا يقرضون الناس، فإذا حَلَّ الأجل قال صاحب المال: إمَّا أن تقضي، وإما أن تَربي، تزيد، فالآن عليك مئة ألف وعليك أن تسددها بعد أربعة أشهر مئة وعشرين ألف، ثم بعد الأشهر الأربعة يقول له: هل عندك ما تسدد به أو لا؟ فيزيد، ما الذي زاد؟ زاد أهل الثراء ثراءً وأهل الفقر فقرًا.
لكن لَمَّا مُنع من هذا صاحب المال أو الذهب والفضة، واحتاج لأن يُنمي تجارته إلى أن ينزل إلى السوق ويصرف، أو يبذل هذا الذهب والفضة، فانتشرت هذه الأموال، وكُسر الاحتكار، وصارت الأمور دولًا بين الناس، السلع، والذهب، والفضة، وسواها.
{قال -رحمه الله-: (وَيَجُوزُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَوْزُونٍ وَعَكْسُهُ مُطْلَقًا وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ، لَكِنْ إِذَا افْتَرَقَ مُتَصَارِفَانِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي مَا لَمْ يُقْبَضُ)}.
قال: (وَيَجُوزُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَوْزُونٍ)، هذه الحالة الثالثة من أحوال الأموال إذا لم يكن فيها جنس الربا، ولم يكن فيها علّة الرباء، فيجوز البيع مُتفاضلًا ومُؤجّلًا، ولذلك قال: (وَيَجُوزُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَوْزُونٍ)، باعتبار أن العلّة عند الحنابلة الكيل والوزن، الوزن في الذهب والفضة، والكيل في سواها كما قلنا، لكن نحن ذكرنا المسألة وما يترجح فيها ولم نعرض لهذا منعًا لتشتت طالب وزيادة الإثقال على الذهن، خاصةً مع تداخل مسائل الربا مثل ما قلنا.
قال: (وَعَكْسُهُ مُطْلَقًا)، يعني: يجوز بيع الموزون بالمكيل مُطلقًا، كيفما كان مؤجّلًا حاضرًا، كله جائز، طبعًا أن يكون التأجيل من أحد الجهتين، عما إذا كان من الجهتين جميعًا، فهذا يبيع الدّين بالدّين فلا يكون جائزاً، وهذا سيأتي الحديث عنه لاحقًا -بإذن الله جلّ وعلا-.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَصَرْفُ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ)، يجوز صرف الذهب بالفضة، لماذا؟ الصرف هو بيع النقود بالنقود، الذهب بالفضة، الذهب بالريال، الريال بالدولار، الدولار باليورو، هذا يسمى: "صرف"، وسمي صرف لصريف الذهب والفضة وصوتها عند العد والمبايعة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: بيع الذهب بالفضة وهما جنسان مختلفان، فيجوز بيع بعضها ببعضٍ مُتفاضلًا، ولكن بشرط أن تكون مقبوضةً، والفضة بالذهب، وكذلك بيع الدولار باليورو، أو بيع اليورو بالريال، هذا الريال السعودي مثلًا أو الريال السعودي بالريال البرازيلي؛ لأنهما جنسان، وإن كان هذا ريالٌ وذاك ريالٌ، لكنها أجناسٌ مختلفة وإن اتفقت في ظاهر الاسم، الدرهم بدينار أردني، أو ريالٌ قطري بدينار كويتي، أو نحوها، وكل ذلك بيعٌ لجنسين مختلفين، فيجوز في مثل هذه الحال التفاضل، ولكن يجب التقابض في المجلس.
قال: (إِذَا افْتَرَقَ مُتَصَارِفَانِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي مَا لَمْ يُقْبَضُ)، يعني أن الحد الفاصل في ذلك هو أن تقبض، إذا لم تُقبض فيفضي ذلك إلى بطلانها، لماذا بطلت؟
لأنه حصل فيه تأجيل، وإذا حصل فيها تأجيل وقعنا في الربا، والربا عقدٌ فاسد أو عقدٌ باطل، فبناءً على ذلك بطل، فما تم عليه العقدُ وحصل به التسليم كَمْلت فيه الشروط، فصح فيه الصرف، وما لا فلا، فبناءً على ذلك لم يصح؛ لأنه دخل فيه تأجيلٌ وصار ربا، فلم يجز فيه مثل تلك الحال.
لا مانع من أن نختم الحديث، ولكن حتى لا ننسى، بقي مسائل التصارف الحالية عبر البنوك، وتحويل الأموال، يعني أخذ منحى آخر، يحتاج إلى التنبيه عليه لكثرة حاجة الناس إلى ذلك، وما يَردُ فيه من إشكال في الربا.
{أحسن الله إليكم، ممكن أخذها في بداية الحلقة القادمة مثلًا}.
بإذن الله.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وفتح الله لكم فتحًا مبينًا، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاءات القادمة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] رواه البخاري (2201).
[2] أخرجه البخاري (2179) واللفظ له، ومسلم (1596).