{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أولياءه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلية الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المفضال.
حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك وبياك.
{الله يبارك فيك، وأسأل الله أن يسعد أيامكم وأوقاتكم بالخيرات والبركات}.
آمين آمين، وإياك والمستمعين والمستمعات.
{الله يحفظكم، شيخنا المبارك كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند قوله -رحمه الله-: (وَوَكِيلُ مَبِيعٍ يُسَلِّمُهُ وَلَا يَقْبِضُ ثَمَنَهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ)}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَوَكِيلُ مَبِيعٍ يُسْلِمُهُ وَلَا يَقْبِضُ ثَمَنَه إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَيُسَلِّمُ وَكِيلُ اَلشِّرَاءِ اَلثَّمَنَ وَوَكِيلُ خُصُومَةٍ لَا يَقْبِضُ، وَقَبْضٍ يُخَاصِمُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جل وعلا- أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يصرف عنا البلايا والمحن وسوء الفتن، وأن يصرف عن المسلمين كل سوءٍ ومكروه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الطلاب: لا يزال الحديث موصولاً فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب الوكالة، وهي من المسائل المهمة والأبواب التي لا يُستغنى عنها، فبدٌّ من أن يكون للإنسان نائبٌ ينوب عنه، ووكيلٌ يقوم مقامه، ولا يسع الناس أن يقوموا بكل حاجاتهم، وأن يلو ذلك بأنفسهم، إما لكثرتها، وإما لصعوبتها، وإما لكون الإنسان ينأى بنفسهِ عن بعض أعماله، فيوكل من يليها ممن يعتاد مثل تلك الأعمال، ويقوم مثل تلك المهمات.
ولَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أصل أحكام الوكالة من حيث مشروعيتها، ومن حيث ما يتعلق بانعقادها، أراد أن يُبين تفاصيل الأحكام المتعلقة بالوكيل، وما يدخل في مضمون وكالته وما لا يدخل.
فهنا لا تخلو الوكالة إمَّا أن تكون مبينةً موضحةً مخصوصةً، فهنا لا يندرج إشكالٌ، ولا يأتي في ذلك -في الغالب- تبعةٌ، ولكن إذا أُطلقت الوكالة في بعض الأمور، فإنما تتوجه إلى ما يتعارف عليه الناس، وما يليق بمثل ذلك العمل.
فعلى سبيل المثال: إذا وكله في بيع، فكما قلنا في الدرس الماضي: لا يبيع بأقل من ثمن المثل، وإذا وكله في شراء، فلا يشتري له بأغلى من ثمن السوق بشيءٍ كثير، أي بما تتفاوت فيه الأسواق عادةً، وهذا لا غضاضة فيه، ولا ينفك منه أحد.
فإذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- لا يزال يُبين ما للوكيل وما عليه، وما لا يجوز له تعاطيه، وما يدخل في وكالته.
فقال: (وَوَكِيلُ مَبِيعٍ يُسْلِمُهُ وَلَا يَقْبِضُ ثَمَنَه)، فكأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إذا وكله في بيع سيارته فهو وكيل في مبيع، فإن كان قد بيّن، أي قال: افعل بها كذا، ثم افعل كذا، فهذا انتهى ولا إشكال فيه، ويفعل ما أمر به، ووكل إليه بتفصيله وتوضيحه، وإن لم يكن فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن مقتضى الوكالة أن يُسلم المبيع.
وبناءً على ذلك، لو سلم المبيع في مثل هذه الوكالة، ثم اعترض عليه الموكل بأن قال: أنا وكلتك في بيعها ولم أوكلك في تسليمها، فنقول له: لا سبيل لك عليه، والوكيل قد أدى ما عليه بتمامه، حيث إن توكيلك له للمبيع هو متضمنٌ لتسليمه، إلا أن يوجد منك تصريح يدل على خلاف ذلك.
قال: (وَلَا يَقْبِضُ ثَمَنَه) فبعض الوكلاء مثلًا يكون ماهرًا في البيع والشراء والترصد لأحسن الأثمان، ومتى تطيب الأسواق، ونحو ذلك، ولكنه لا يُؤْمَن أن يُتلف المال أو أن يُماطل في تسليمه أو غير ذلك.
فإذًا مُقتضى هذه الوكالة أن لا يقبض ثمنًا، ولكن إن وجد تصريحًا من الموكل كما قلنا فإنه حسب ما صرح، أو وجد ما يدل على ذلك من قرينةٍ أو عرفٍ خاص، قرينة كما لو أنه لم يقبض الثمن فالغالب أن هذا سوقٌ يأتي إليه الغرباء، فإذا لم يقبض الثمن فالعادة أن هؤلاء يرجعون إلى بُلدانهم أو إلى الصحاري من البوادي وغيرها فيضيع عليه الثمن، فهذه القرينة دالةٌ على أنه يَستلم.
ومثل ذلك لو وجد عرفٌ خاص في هذا السوق، أو في هذا المجتمع، أو في هذه السلع بخصوصها، فتعتبر ما وجد من عرفٍ خاص، (والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا).
{قال –رحمه الله-: (وَيُسَلِّمُ وَكِيلُ اَلشِّرَاءِ اَلثَّمَنَ وَوَكِيلُ خُصُومَةٍ لَا يَقْبِضُ، وَقَبْضٍ يُخَاصِمُ)}.
قال: (وَيُسَلِّمُ وَكِيلُ اَلشِّرَاءِ اَلثَّمَنَ)، بمعنى أنَّ مُقتضى هذه الوكالة أنه يسلم الثمن، لكن هل له أن يقبض المبيع الذي دفع فيه ثمنًا أو لا؟
فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إنما عليه أن يسلم الثمن، وأمَّا قبض المبيع فلابد فيه من تصريح، لابد فيه من بيان، لابد فيه من توضيح، إلا أن توجد قرينة كأن يكون ذلك مثلاً من الربويات التي لو لم يستلم لأدى ذلك إلى الوقوع في الربا للتأجيل والنسيئة، أو أن يكون ذلك أيضًا كما قلنا فيما مضى أن توجد ما يخاف معها فوات هذه السلعة، وحصول ضياعها، فكذلك يكون في هذه المسألة على ما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في المسألة التي قبلها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَوَكِيلُ خُصُومَةٍ لَا يَقْبِضُ، وَقَبْضٍ يُخَاصِمُ)}.
(وَوَكِيلُ خُصُومَةٍ لَا يَقْبِضُ، وَقَبْضٍ يُخَاصِمُ)، هاتان مسألتان مُتقابلتان:
الأولى: الوكيل في الخصومة وهو الذي يسمى في عرف الناس اليوم "المحامي"، فإنَّ من الناس من يحُسن الخصومة والمنازعة والمرافعة والمدافعة، فيكون أعرف الناس بذلك، وأسرع الناس إلى تحصيل الحق، وإلى رد الفائت على صاحب الحق في حقه، وإلا فإنَّ الوكالة في أمرٍ باطلٍ غير جائزٍة ولا منعقدة.
فلو أنَّ هذا الوكيل يعلم أنَّ الموكل غير محق، وأنه لا حق له في هذا الذي يطالب به، فإن ما يتفرع عن ذلك من وكالته فيه ومطالبته بهذا هي وكالةٌ باطلة، وقبضٌ باطل، وكل ما يترتب على الباطل باطلٌ، وهذا ينبغي أن يعلمه أهل المحاماة والوكلاء في الخصومات.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن وكلاء الخصومة هم قادرون عليها وحاذقون فيها، ولا يعني أن حذقهم في الخصومة أن يكونوا أمناء على ما يترتب عليها من القبض، فبناءً على ذلك نقول: إنه لو وكله في الخصومة مثلًا لأن يرد سيارته المغصوبة، أو مثلاً المبيع الذي تبين عيبه أو نحو ذلك، فإن انتهاء الخصومة لا يعني أن يُسلم المبيع إليه، ولا تفضي وكالته في التخاصم والترافع أن يكون وكيلًا في قبض هذه السلعة وأخذها، فإنه قد لا يؤمن على ذلك.
فبناءً على هذا أراد المؤلف أن يبين ذلك وينبه.
قال: والعكس بالعكس، أمَّا من كان وكيلًا في القبض كأن يقول: اذهب واقبض سيارتي من عند فلان، سواء كانت عارية، أو كانت رهنًا، ثم لم يُسلمها مع كونه قد احتاج إليها صاحبها، أو كانت العين التي رُهنت قد سدد وأُدي ما عليها فوجب تسليمها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- إنه لو امتنع من إعطائه، فإن لهذا الوكيل أن يرافع وأن يدافع حتى يستلمها.
فإذًا هو وكيلٌ في القبض، فمن اللوازم في القبض فعل كل ما يوصل إليه، فإذا كان ذلك يوصل بالطلب أو بإرسال إخطارٍ وخطاب، أو كان ذلك بالمطالبة والمدافعة، فإنَّ ذلك كله يتضمنه الوكالة له بالقبض.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيط)}.
الوكيل يده يد أمانةٍ، بمعنى أنه لو تلفت العين بيده، فإنه لا ضمان عليه فيها، فلو أنه مثلًا أقبض سوار من الذهب كي يبيعه، فجعله في مكان يُحفظ فيه الذهب غالبًا، فدخل عليه سارقٌ فأخذ ذهبهُ وذهب الوديعة عندها، أو ما وكل في قبضه، أو بيعه، أو حفظه، أو نحو ذلك..
فنقول في مثل هذه الحال: لا ضمان عليه، لكن لو بان منه تعدٍ أو تفريط، كأن لم يغلق باب بيته، أو جعل هذه السوار في السيارة ومثلها لا يجعل فيها، ففي مثل هذه الحال إذا فرط أو تعدَّى فالتفريط مثل ما ذكرنا، بينما التعدي كأن يخرجها مثلًا من مكانها فيضعها في مكانٍ آخر، أو يعيرها مثلًا لشخص ثم تتلف هناك، فكل هذا يعد تعديًا، وبناءً على ذلك يحصل عليه به ضمان.
وإلا فإذا تلفت بدون تعدٍ ولا تفريط، فإنه لا ضمان عليه، سواءُ كان هذا الوكيل وكيلاً متبرعًا أو غير متبرع؛ لأن الوكيل إما يكون متبرعًا، كما لو قلت لأخي: خذ هذه السيارة وبعها لي فهو وكيل، والعادة أن مثل هؤلاء بعضهم يقوم عن بعض، وينوب عنه على سبيل التبرع والإحسان، والصلة للإخوان، أليس كذلك؟
وربما كان ذلك بجُعل، كأن يقول: إذا بعتها فلك نسبة كألف ريال أو اثنان بالمائة أو نحو ذلك، نعم يكون بإجارة، فلو جعله قال: تتولى بيع هذه السيارة وتأخذ ألف ريال أو نحو ذلك؛ فكل ذلك يكون صحيحًا، وفي هذه الأحوال كلها لا يخرج الوكيل عن كونه أمينًا غير ضامنٍ إلا بتعدٍ أو تفريط.
{أحسن الله إليكم.
في قوله -رحمه الله-: (وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيط)، ما الفرق بين التعدي والتفريط؟}.
التفريط هو الإخلال، والتعدي هو أن تكون منه يد فاعلة، كما قلنا: لو أنه الآن أعطي هذه السوار ليبيعها، فقام وأعارها، هذا حصل منه تعدٍ، أو أنه جاءت زوجته تلك الليلة لتذهب إلى مناسبة فألبسها إياها فضاعت في تلك المناسبة، فهو قد تعدَّى، بينما التفريط أن يكون منه تفريطٌ في حفظها، أو في القيام بها، أو نحو ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيهِمَا)}.
قال: (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيهِمَا)، فإذا قال: لم أتعدَّ ولم أفرط فيقبل قوله مع يمينه، فإذا قال مثلًا: إن السوار قد ذهب أو تلف، قالوا: كيف تلف؟ قال: سرقه سارقٌ، قالوا: ما كان لهذا السارق أن يسرق، أنت في بيتك من عشرين عامًا ما دخل عليك سارق ولا حصل عليك شيءٌ من مثل هذه الأمور؛ حتى إذا جعلنا عندك حاجتنا سُرقت! فكأنهم في هذا يكذبونه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا لم توجد بينةٌ بالتفريط فيقبل قوله في نفيها، فإذا قال: ما فرطت، وهي في مكانٍ يحفظ به ذهب أهل بيتي ويغلق عليه، ومثل ذلك، هو حرز في عُرف أهل ذلك الزمان أو تلك المحلة، فالمهم ما دام أنه قد حرزه في مكانه ولم يكن منه تعدٍ ولا تفريط، فيقبل قوله في نفي ذلك، ويكون باليمين.
لكن كما قلنا: إلا أن توجد بينةٌ بحصول ذلك، فلو جاء شخص قال صاحب السوار، أنا أشهد أن فلانًا وفلانًا في المسجد يقولون: إنه قد وضعها في جيبه في صلاة الفجر، وهذا وقتٌ ليس للخروج إلى السوق، ومعنى ذلك أنه قد تعدَّى في حفظها.
أو قالوا: إنه جعلها مثل ما يكون في تقارير مثلًا الشرط والجهات التي تضبط مثل هذه الأمور، أنه كان قد وضعها في مكان كذا، وهو مثل ذلك محلًا للسرقة، أو أن تطاله أيدي الخدم، أو غيرهم، أو من يدخلون ذلك المكان من ضيوف وسواه، فنقول: إذا تبين تفريطٌ أو تعدٍ ببينةٍ فانتهى الأمر، لكن إذا قال الموكل شيئًا ثم لم يوجد بينه، فليس له إلا قول الوكيل مع يمينه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَهَلَاكٍ بِيَمِينِهِ)}.
كذلك لو ادعى هلاكها، قال: إنَّ الشاة هلكت أو عدا عليها الذئب فماتت، فيقبل قوله في مثل ذلك.
{(وَهَلَاكٍ بِيَمِينِهِ كَدَعْوَى مُتَبَرِّعٍ رَدَّ اَلْعَيْنِ أَوْ ثَمَنِهَا لِمُوَكِّلٍ لَا لِوَرَثَتِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ)}.
طبعا (وَهَلَاكٍ) بينة (بِيَمِينِهِ)، يقولون إلا أن تكون، وهذه ستأتينا، إلا أن يدعي أنَّ الهلكة بأمرٍ عام، فلو قال مثلًا أنها تلفت الشاة بحريق، الحريق مثله لا يخفى، صحيح ففي مثل هذه الحالة يقول الفقهاء: ولا يطالب أن يثبت أنها تلفت في الحريق أو لا، يثبت أنه في حريق، فإذا أثبت أنه حريق قاله جيرانه نعم احترق بيته في اليوم الفلاني، وفي اليوم اللي دا، وجاء تقرير من الجهة ذات العلاقة أو نحو ذلك.
فالمهم: أنه إذا دعا أمرًا عامًا يطلع عليه الغير فلابد من قامت البينة على ذلك الأمر العام، ثم يقبل قوله: إنها تلفت فيه، وإذا قيل قُبل قوله، فالمقصود عند الفقهاء أنه قولٌ مع يمين، ولم يستثنى في ذلك إلا السلطان في دفع مالِ المحجور عليه، فإنه لا يحتاج إلى اليمين؛ لأنه يحفظ أموال الناس كلهم لا يمكن أن يحلف للجميع.
قال: (كَدَعْوَى مُتَبَرِّعٍ رَدَّ اَلْعَيْنِ أَوْ ثَمَنِهَا لِمُوَكِّلٍ)، لو اختلفا، شخصٌ وكّل في حفظ أمانة ولتكن مثلا كتب علم، أو آلة غسيل، أو مكانًا أو آلةً لحفظ الأمتعة وتبريدها، إلى غير ذلك من الأشياء، فقال: إنني رددتها عليك، قال: لم تردها، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يخلو إن كان هذا الاختلاف بين الوكيل والموكل ولم تكن بيّنةٌ، فيقبل قول المتبرع في ذلك بيمينه.
نعم إذا كانت دعوى بين الوكيل والموكل، فيقول: (كَدَعْوَى مُتَبَرِّعٍ رَدَّ اَلْعَيْنِ أَوْ ثَمَنِهَا لِمُوَكِّلٍ)، لماذا؟ يقولون: لأن الموكل ائتمنك، فما دام أنك أيها الموكل مؤتمنٌ لهذا، فيجب عليك أن تقبل قوله، فإذا قال لك: إني رددتها وحلف على ذلك سلم.
لكن لو كانت هذه الآلة أو هذه الوديعة التي حُفظت عندك مات صاحبها، ثم جاء ورثته يطالبونك، فقلت أنت: سلمتها لكم، فقالوا: ما سلمتها، فهنا يقولون: لا يُقبل التسليم إلا ببيّنه، لماذا؟ يقولون: لأنك أيها الوكيل فرّطت، ليس هؤلاء الورثة هم الذين استأمنوك واستحفظوك، بل والدهم، فكان الواجب عليك إذا سلمت أن توثّق ذلك، فما دام أنك لم توثّق ذلك فهم لم يستأمنوك، فبناءً على ذلك العين الأصل بقاؤها عندك، ولا يكفي قولك بيمينه، فإما أن تثبت بالبيّنة، وإما أن يحلفوا هم على أنك لم تردها فتكون عليك ضمانها، ويجب عليك أداء ما فات عليهم منها، فهذا إذًا ما يتعلّق بهذه المسألة.
يعني الأصل دائمًا في الوكالة أن تكون بيد الموكّل إذا وكلها الوكيل فتكون بيد الموكّل، إلا أن تكون بيد الوكيل، إلا إذا أثبت -في نفس هذه المسألة- إذا أثبت للورثة أنهم سلمها أو قيدها لهم، فنقول: أن الأصل تكون بيده إلا إذا أثبت أنها انتقلت لمالكها.
يعني عندنا الآن هم متفقون جميعًا على أنها وكالةٌ عند الوكيل، أليس كذلك؟ والعين بيده، ثم حصل الخلاف في ماذا؟ في الرد، فإذًا نقول: إن كان الخلاف بين الموكّل نفسه والوكيل فالموكّل قد استأمن هذا الوكيل فيجب عليها أن يقبل قوله، واضح؟ وإن كان التسليم للورثة، فالورثة لم يستأمنوه، فبناءً على ذلك أنت إما أن تكون قد سلمتهم ببيّنة فينتهي الأمر، وإن لم تكن قد سلمت ببيّنة فهم لم يأتمنوك والعين عندك، وبناءً على ذلك إمَّا أن تثبت تسليم العينِ، وإمَّا أن تغرم، فإن لم يكن منك إثباتُ لتسليم العين، فهم يحلفون أنهم ما استلموا منك شيئًا، ثم يلزموا الوكيل غُرم ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ باب الشركات)}.
هذا الفصل من الأبواب المهمة، وهو بابٌ قصيرٌ في مسائلهِ، لكنه كبير الأثر، ممتدٌ إلى مسائل كثيرة، بل لا تنفك الأسواق القديمة والحديثة في التجارات الصغيرة أو في التجارات الكبيرة فيما جد منها وما تغير، من مثل هذه الأحكام والدخول في الشركات.
وقيام الأسواق في هذا الزمان مع تنوع أو كبر المشاريع وعِظمها مما لا يتصور عادةً أن آحاد الناس يقوم بها، فكان العلم بمثل هذه المسائل من الأهمية بمكان، أو كثيرٌ من مسائل العصرِ وما فيها من اشتراكات عائدةٌ إلى فصلٍ في الشركة وأنواعها وما يتعلق بها، وكما قلنا: المؤلف ذكر ذلك على سبيل الإجمال.
والشراكة جاءت في الكتاب والسنة، أمَّا الكتاب قول الله -جلّ وعلا-: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص:23]، وفيه غير آيةٍ في كتاب الله جلّ وعلا، والنبي ﷺ يقول: «قال اللهُ تعالَى: أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ»[1]، أن الله -جل وعلا- قال: «أنا ثالثُ الشَّريكَينِ ما لم يخُنْ أحدُهما صاحبَهُ»[2]، واشترك الصحابة في مواضع، وسيأتي الإشارة إليها، والإجماع منعقدٌ على ذلك، والحاجة داعيةٌ إليه.
والشركة أو الاشتراك إمَّا أن يكون في حق أو في تصرف، وهنا الشركة الأملاك هي مثل الورثة، ومثل أن يشتركوا في بستان، ومثل أن يشتركوا في أرض، أو عمارة، أو نحوها.. وكل ذلك ليس فيه كثير إشكال، والغاية ما يكون فيها أنها شركةٌ مشاعة لكل واحدٍ نصيبه أو قسطه من هذه الشركة.
لكن المؤلف اختصر أو انتقل مباشرةً إلى النوع الثاني، وهو الشراكة في التصرف، فهو اجتماعٌ في تصرف في عملٍ من الأعمال المالية، أو في شيء من المعاملات المالية، أو نحو ذلك، فهنا بيانٌ لمثل هذه الأحكام وما يترتب عليها.
فقال: (وَالشَّرِكَةُ خَمْسَةُ أَضْرُبٍ)، يعني: جعلها خمسة، وهي استقراءُ من الفقهاء باعتبار الواقع، فإنه لا يتصور أن توجد غير ذلك، سوى ما جدَّ في هذا الزمان، وربما تأتي الإشارة إليه، وهل يدخل في تقسيم الفقهاء أو هو قسمٌ زائدٌ على ذلك؟ فشرع في النوع الأول.
{قال -رحمه الله-: (وَالشَّرِكَةُ خَمْسَةُ أَضْرُبٍ، الأولى: شَرِكَةُ عِنَانٍ وَهِيَ أَنْ يُحْضِرَ كُلٌّ مِنْ عَدَدٍ جَائِزِ اَلتَّصَرُّفِ مِنْ مَالِهِ نَقْدًا مَعْلُومًا، لِيَعْمَلَ فِيهِ كُلٌّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ اَلرِّبْحِ جُزْءًا مُشَاعًا مَعْلُومًا)}.
قال: (شَرِكَةُ عِنَانٍ) هل هي مأخوذةٌ من عنان الفرس، باعتبار أن كل واحدٍ منهما يكون كأحد طرفي في تساويهما في الأموال والتصرفات؟ نعم، يعني هذا هو أشهر ما يُذكر في المعنى أو في مأخذ التسمية هنا عند الفقهاء.
قال حقيقتها: (وَهِيَ أَنْ يُحْضِرَ كُلٌّ مِنْ عَدَدٍ جَائِزِ اَلتَّصَرُّفِ)، يعني أن يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فكل واحدٍ منهم يحضر قدرًا من المال، ويعمل فيه بجزءٍ مشاع معلوم من الربح.
فإذًا قال: أن يكون عددًا، فمعنى ذلك أنه لا يتصور أن تكون الشركة لواحدٍ، وهذا خلاف الآن ما قد يوجد أحيانًا من تسميتها شركةً مع كون الشخص مالكًا واحدًا.
هنا قال: (جَائِزِ اَلتَّصَرُّفِ)، فلابد أن يكون جاء ممن جاز تصرفهم وهو الحر المكلف الرشيد، فلا يكون عبدًا؛ لأنَّ العبد محجورٌ عليه لا يتصرف إلا بإذن سيدهِ.
والمكلف يخرج غير العاقل من المجانين والمعاتيه ونحوهم، وغير البالغين من الصغار ونحوهم؛ لأنهم لا يُتصرف لهم في أموالهم، فلا دخول لهم في شركةٍ ولا سواها.
وأن يكون رشيدًا كما قلنا لئلا يكون سفيهًا فيكون محجورًا عليه،
(مِنْ مَالِهِ نَقْدًا)، فلابد إذًا أن يكون مملوكًا له، أن يكون ماله حقيقةً أو حكمًا، بأن يكون مثلًا أقرضه إياه أو أن يكون مثلًا وكله فيه أو نحو ذلك.
وأن يكون نقدًا، كيف يكون نقدًا؟ يقولون: ما تكون الشركة العنان بأن يأتي هذا بأرض مثلًا، وأن يأتي هذا بسيارات أو نحو ذلك، والعلة عند أهل العلم في ذلك يقولون: لأنهم إذا أرادوا أن يفصلوا الشراكة ينبع الخلاف بينهم، فيقول: كانت أرضي تساوي كذا، وهذا يقول كانت سياراتي تساوي كذا، والآن أو تكون مثلًا ارتفعت قيمة الأرض ونقصت قيمة السيارات، فيقول هذا: لا، أنا لي حق كذا أو لي حق كذا، فقالوا: أن هذا أمنع من الخلاف، وأدعى لحصول الشركة على وجهٍ لا نزاع فيه ولا اختلال.
وهذا الأشهر في مذهب الحنابلة، وإن كان هناك قولٍ آخر ذهب إليه بعض أهل التحقيق، وهو أيضًا عليه الفُتيا في هذا الوقت عند كثير من أهل العلم أنه لا يمنع من ذلك إذا عرفت قيمتها واتفق على ذلك، فإنَّ هذا قدرٌ كافٍ في منع الخلاف وتحصيل المقصود.
قال: (مَعْلُومًا)، فلا يكون مثلًا غير معلوم وهذا ظاهر، فلو جاء هذا والله بقطيع من الغنم لا يُدرى أهو ثلاثين أو مائة أو سبعين؟ وهذا أتى بحزمةٍ فيها دراهم لا يُدرى كم هي؟ فقد تكون سبعين ألفًا، وقد تكمل المائة، قال: فإذًا لا بد أن يكون معلومًا؛ لأن هذا لابد منه وهو المصير إليه عند إرادة تنضيد الشركة أو فاصلها، فمعرفة مال كل واحدٍ منهما؛ ولأنه لا يتأتى معرفة رأس المال وما نجم أو زاد عنه من الربح إلا بذلك.
قال: (لِيَعْمَلَ فِيهِ كُلٌّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ اَلرِّبْحِ جُزْءًا مُشَاعًا مَعْلُومًا)، قال: (لِيَعْمَلَ) فمعنى ذلك أن شركة العنان فيها أمران من كل واحدٍ منهما، أن يكون منه مالٌ وأن يكون منه عملٌ.
قال: (عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ اَلرِّبْحِ جُزْءًا مُشَاعًا)، فمعنى ذلك: لو كان الربح جزءً معينًا، فإن ذلك لا يجوز.
ما معنى جزء مشاع أو جزء معين؟
لو قال: لي مائة ألف من الربح، فهذا جزء معين، وهذا لا يصح؛ لأن هذا يفضي إلى حصول الغرر على كل واحدٍ منهما، فلو أنه قال هذا لي مائة ألف وأنت لك الباقي، فيمكن أن تربح الشركة عشرة ملايين، فيقول الذي حُدّد لها مائة ألف كيف؟ قال: أنت الذي اشترطت، فإذًا هنا فيه غبنٌ عليه كثير.
والعكس بالعكس: يمكن أن يقول: مائة ألف لي وما زاد لك، فبعد ذلك لا تربح إلا مائة ألف أو تسعين ألف أو مائة وعشرة، فهذا يأخذ مائة ألفٍ كاملة، وهذا لا يأخذ شيئًا، أو لا يأخذ إلا عشرة آلاف! فلذلك قالوا: جزءًا مشاعًا.
يعني ربع، ثلث، بالنسب، الفقهاء كانوا يعبرون بالربع، الثلث، السدس، ثلاثة أسباع، ثلاثة أخماس، وهذا فيها صعوبة في حسابها، لكن ما انتهى إليه علم الحساب الآن من النسب المئوية، النسبة إلى مائة واحد ثلاثين، اثنين وثلاثين، هي في معناها، لكنها أسهل وأسرع إلى معرفة قدرها بالتدقيق في ذلك، وأيضًا في طريقة حسابها ومعرفة ما يقابل هذه النسبة في الحقيقة.
فإذًا إذا قالوا ثلاثين في المائة أو عشرين في المائة أو تسعين في المائة، معروف ما لكل واحدٍ منهما، فبناءً على ذلك إذا ربح مليون هذا للثلاثمائة ألف؛ لأن الثلاثين في المائة، وهذا له سبعمائة ألف، إذا ربح ستة عشر مليونًا، كم؟ معناته عشرة ومائتين، وهذاك له الباقي، يعني إذا افترضنا مثلًا أنه سبعين في المائة وربحت ستة عشر مليون، معنى ذلك له عشرة مليون ومائتين، وهذا له الباقي.
المهم يعني تقريبًا أو قريبًا من ذلك، لا بد من شحذ الذهن، ونحن كلنا كليل الأذهان في مثل هذا كمشايخنا، أكثر ما يكون دقةً وضبطًا لهذا، كان شيخنا ابن باز يسأل الطلاب ويقسم المسألة ويكملها وهو كفيفٌ لا يمنعه ذلك من استيعاب المسألة.
وذُكر أن الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- صعد يومًا سطح بيته مع أحد أبنائه، وقد أملى عليه مسألة المناسخات في الفرائض، وهي من أصعب المسائل فيها ستمائة وارث، فقسمها وأعطى كل واحدٍ نصيبه في ذلك المقام أو في تلك، ولم يحتج إلى شيء، بل من نظره وحسن انقداح عقله وترتيبه وتركيزه.
فعلى كل حال: هنا مسألة مهمة وهو أنه قال: (جُزْءًا مُشَاعًا مَعْلُومًا)، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يكونَ الجزء المشاع مقابل ما له من الحصة في المال، فربما يشتركان في شركة، هذه الشركة أحدهما دفع أربعين ألف والآخر دفع ستين ألفًا، وهما يعملان، كلٌ يعملُ بنفسه، فهذا دفع أربعين وعمل، وهذا دفع ستين وعمل، واضح؟ فيمكن أن تكون الأرباح على هذا النحو أربعين في ستين.
وظاهر كلامه أن ذلك ليس بلازم، بل لو اتفقا أن صاحب الأربعين يأخذ سبعين في المائة من الربح وهذا يأخذ ثلاثين في المائة فله ذلك؛ لأن الربح هو في مقابل أمرين: أحدهما معلوم وهو المال، والآخر ليس بمقصود غير معلوم، لكنه يتباينان فيه، فقد يكون هذا عنده من الحذق وحسن النظر، تصريف الإدارة، فهذا صاحب المال هو راغبٌ في أن يكون معه، فلأجل ذلك أدخله معه بهذه الشركة.
فمقتضى كلامهم: أنَّ ذلك لا يلزم أن يكون على هذا النحو، ولا ندخل في كثير من تفصيلات هذه المسألة.
{ثم قال -رحمه الله-: (النوع اَلثَّانِي: اَلْمُضَارَبَة، وَهِيَ دَفْعُ مَالٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِجُزْءٍ ٍمُشَاعٍ مِنْ رِبْحِه).
المضاربة يعني مأخوذةٌ من الضرب وهو السفر؛ هل هو مُضَارب أو مضِارب؟ بعضهم يقولون مضِارب؛ لأنه يضارب بالمال ويبيع ويشتري، وبعضهم يقول مضَارب لأنه هو الذي انعقدت عليه، فهو الذي يسافر ويجيء، فهو مضاربٌ به يعني جُعلت المضاربة على يديه.
{للشخص؟}
أينعم جُعلت المضاربة على يديه، فهذه الصورة إذًا صورة المال من جهة، والعمل من جهةٍ أخرى، بخلاف الصورة الأولى التي فيها العمل من الجهتين، والمال من الجهتين، وهذه الصورة لا ينفك عنها وهي من أنفع ما يكون، إذْ ليس كل من لديه مالٌ قادرٌ على العمل أو عارفٌ به، يعني: هو عنده وقت، وعنده ذا، وعنده رغبة، لكنه لا يُحسن البيع والشراء، ولا يحسن المماكسة، ولا يعرف ما تطلب الأسواق، ولا كيف يسوق لبضاعته، ولا متى يبيع، وهذه هباتٌ من الله جلّ وعلا.
فلذلك يلجأ أصحاب الأموال إلى من يُحسنون العمل ويتقنونه فيجعل له نصيبًا، فالشارع رتب ذلك فجعلها نوعًا من أنواع الشريكة، وبيّن أحكامها؛ ليأخذ كل واحدٍ منهما حقه ولا يكون فيها ظلمٌ أو بخسٌ للحق، سواء كان المضارب دافع المال واحدًا أو خمسة أو عشرة، والمضارب لا يكون منه مالٌ البتة.
قال: (وَهِيَ دَفْعُ مَالٍ مُعَيَّنٍ)، يعني يقال مثلًا خمسين ألف، عشرين ألف درهم، ونحو ذلك.. (مَعْلُومٍ) فلابد أن يكون معلومًا غير مجهول؛ لأنه لا يمكن حساب الربح إلا بمعرفة رأس المال، وإذا كان مجهولاً لم يُعلم هل ربحنا أم لا؟
قال: (لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِجُزْءٍ ٍمعلومٍ مُشَاعٍ مِنْ رِبْحِه)، إذًا هو للاتجار والعمل بجزءٍ معلوم، مشاع فلا يكون معيناً، فلو كان معينًا أيضًا كان فيه نوع ظلم من الربح، ما معنى من الربح؟ يعني أنه لا يتحقق أو لا يحق للمضارب شيءٌ من ن المال حتى يربح، ولا يكون الربح ربحُا حتى ينضد المال، يعني: يستقر المال، أمَّا ما دامت أعيان يقول: تعال أنا آخذ نصيبي، نقول: لا، أنت إذا بعت واستقرنا أن هذا المال ربح، وأن رأس المال ضُمن ونحوه.. فيقولون: إن كل خسارةٍ قبل التنضيد -قبل القسمة-، فعلى المال وما كسب.
هو أعطاه مثلا مائة ألف ليعمل بها، ثم وصل إلى مائة وخمسين ألف، وقبل أن يقسم المال خسر ستين ألفًا، إذا كم المتبقي؟ تسعون ألف، هل يعد رابحًا أو خسرانًا؟ يعد خسرانا، ما يأتي المضارب الذي يعمل ويقول: لا، إنه وصلنا إلى مائة وخمسين ألف، فإذًا أنا أستحق نصيبي ونصيبي مثلًا 30%، إذًا سآخذ خمسة عشر ألفا، نقول: لا، لا يستحق المضارب نصيبه حتى ينضد المال، يعني: يصير نقودًا، وتباع ويُعرف ما لكل واحدٍ منهما.
وما كان من خسارةٍ لربح المال قبل القسمة، فهو حمايةٌ لرأس المال، فيكون على الربح ليس على رأس المال.
والعكس بالعكس: فلو ربح في المائة ألف خمسين ألفا، ثم اقتسما، ثم بدأ يعيد دورةً في التعامل فخسر، فنقول في مثل هذا الحال: ليس عليه شيء، الخسارة على رأس المال؛ لأنَّ ذلك الربح قد قسم وأخذ كل واحدٍ منهم نصيبه.
لكن الشيخ الآن: لو أردنا نتشارك منك المال ومني العمل، فأقول لك: تقريبًا الأرباح مثلًا 30%، 40% تقريبية؛ حتى أحفزك تعمل معي هذا يجوز؟
والله هذا يجوز، لكن لا ينبغي؛ لأن كثيرًا ما يحصل به عدم التوفية، ويصير سبب ذلك للنزاع؛ يقول: أنت قلت كذا، وأنت لعبت علينا، وأنت لما لم يكن المال بيدك كنت ترغبنا، ولما صار المال بيدك الآن أبديت الأعذار، فما كنت دقيقًا أو ما كنت صادقًا... أو إلى غير ذلك، فقد يساء الظن بالأمين، وقد يكون ذلك سببًا للتهمة في الشخص الذي أراد فعلًا أن يأخذ أموال هؤلاء، ويتجر بها لما يحصل له من مصالح مختلفة.
فينبغي التوقي من ذلك، ويطلب الإنسان السلامة بأعلى درجات الوضوح، والتوثق، والأمانة، والخوف من الله -جل وعلا- في أن يبخس صاحب المال ماله، أو أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تُدخل في هذه الشركة ما ليس فيها، وكم من الناس الذين يعملون في مثل هذه الأموال يتوسعون إما في السفريات، أو في الإنفاقات، أو في غيرها، أو يحسنون إلى بعض من يتعاملون معهم؛ لأنه ليس لهم مالٌ في هذا، وربما تكون لهم مصلحةٌ فيمن يتعاطون معه، ومثل ذلك كثير يخفى على الناس، لكنه لا يخفى على الله -جلّ وعلا-، ويُحفظ ويحاسب عليه المرء في دنياه وفي أخراه، فما يكون من فوات البركة، وما يكون من حصول خسارة، وما يكون تبعًا لذلك من الوعيد الشديد بين يدي الله -جلّ وعلا-، ما يستوجب المسلم أن يخشى الله -جل وعلا- ويخافه.
هنا عندنا مسألة: وهي كثيرًا ما تحصل وهي الشركات المساهمة، الشركات المساهمة هل نقول هي مضاربة، أو هي...؟
شركات المساهمة الآن في حكم البنوك.
أو ليست بنوك، فقط هي شركات كبيرة لها أسهم، ويدخل الناس فيها كلٌ بحصة، وتقطع إلى أسهم صغيرة، ويختلف الناس في... والعاملون منفصلون عن الشركاء.
فهنا الحقيقة: هل نقول إن هذه شركة عنان، أو هي شركة مضاربة؟
لا يمكن أن يقال بأنها شركة مضاربة؛ لأن كثيرًا ما يكون الذين يعملون في الشركة لهم حصصٌ فيها.
لكن هل يمكن أن تقال بأنها شركة عنان أو لا؟
شركة العنان يلزم فيها أن يكون منهما عملٌ ومال، الآن يكون منهم مال، لكن بعضهم يكون من عمل، بعضهم لا يكون من عمل.
{القليل له عمل}.
القليل لها عمل، لكن ممكن خاصة عندنا المدراء التنفيذيون، وعندنا مجلس الإدارة، وما فيه، هذا طبعًا للمعاصرين في هذا خلافٌ كثير، هل هي قسيم لهذه الأقسام فيكون سادسًا أو هي داخلةُ فيها؟ ولا تنفك الحقيقة من أن تكون من شركة العنان أو هي أقرب ما يكون لها، وهي أن الأصل أنها شراكةٌ في الأموال، وأن الأعمال التي تقوم حتى وإن وجد منهم عمل فهو منبتٌ أو منفصلٌ عن كونه شريكًا بالمال، يعني لا علاقة.
فكأن أصحاب الأموال قد استنابوا من يعمل عنهم، واضح؟ يعني هنا ليس فيه أن الشريك ومضارب، وليست شركة عنان من جهة أنها شريك وعامل، فإذًا ما الحقيقة؟ أقرب ما يمكن أن نقول: أنهم شركاء عنان، لكن لما دفعوا الأموال فوضوا العمل إلى أشخاص آخرين، ومن عمل منهم لا يُشكل عليه؛ لأنه عمل بصفةٍ أخرى فيكون في الغالب له مقابل آخر: إما كونه أجير عند هذه الشريكة أو نحو ذلك، فهو قد أخذها، خاصة إذا قيل بالشخصية الاعتبارية للشركة ونحوها، وهذه مسألة معقدة قليلًا، ويرد فيها إشكالات، ولا نحب أن ندخل فيها.
فإذًا هذا أقرب ما يكون فيها، لكن في الجملة، وإن كانت هذه الشركات مستجلبة أو مستوردة أو نحوها، يوجد في بعض أنظمتها أنظمة فاسدة، لكن في الغالب يعني اللي هي مثل أسهم الامتياز ومثل بعض الاختصاصات التي يختص بها بعض الشركة دون بعض، وكلها مخالفة للشرع، لكن الموجود أنها جُعلت على صفةٍ واحدة تمنع مثل هذه الاختصاصات، ولا يكون فيها ما يُعكر فيها، فتبقى من حيث هيكل أو صورة شركة المساهمة أنها لا إشكال فيها ولا غضاضة.
نأتي إلى الشركة الثانية وهي شركة المحدودة، والشركة المحدودة أيضًا من الشركات المستوردة في العصر الحاضر، وهي مشكلة جدًا، إذْ أن حقيقتها أن الشركة المحدودة يعني ذات المسئولية المحدودة، بمعنى أن مسئولية الشركة لا تنتقل من الشركة إلى الشخص.
فلو أنَّ هذا الشخص شريكٌ في هذه الشركة بمليون ريال، والآخر بمليون، وكان كل واحدٍ منهما ثريًا ثراءً فاحشًا، يملك مثلا مائة مليون مليار أو أكثر من ذلك، فخسرت هذه الشركة، وصار عليها مطالباتٌ بخمسة ملايين.
فالأصل أنَّ ذمة الشريك تتعلق بضمان ما حصل عليهم من تبعه، ولكن مقتضى شروط الشركة المحدودة أن لا تتجاوز المسئولية، الشركة وحصة الشريك في هذه الشركة فقط، فلا تنتقل إلى سائر أمواله.
فهل يمكن أن نقول إنَّ هذا صحيحٌ؟
فرع بعضهم على أنها شركة ذات الشخصية الاعتبارية ونحوها، وفي تفاصيل كثيرة ربما رأوا أنها تبقى على أن المسئولية متعلقةُ بالشركة لا تنتقل إلى الشريك، لكن لا شك أنَّ ذلك أفضى إلى:
أولاً: مخالفة ما استقر عليه الفقه والعلم، عند العلماء أن ذمة الشريك لا تنفصل عن الشركة، فهي شيءٌ واحد، وفصلهما تقليٌل للتبع، ولذلك يوجد في الشركات ذات المسئولية المحدودة من التجاوزات، ومن تعاطي الأخطار، ومن غيرها إلى غير ذلك... وهذا لا ينبغي أن يكون.
ثانيا: أنها صارت طريقًا للتحايل، فبعضهم يدخل في شركةٍ ذات مسئوليةٍ محدودة ويربح، ثم بطريقةٍ ما يُحيل هذه الأرباح إلى شخصهِ ويُمعن في خسارة هذه الشركة؛ حتى إذا جاء الغرماء يطالبون وجدوها مفلسة.
والحقيقة أنَّ هذا كان بتلاعبٍ وتحايلٍ منه فأخذ الأرباح واستولى عليها، وترك هؤلاء الغرماء يجدون شركةً مفلسة، غاية ما فيها أن يُطلب إشهار إفلاسها، أو أن تجدول، والجدولة تأخذ عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو هي في الحقيقة ألا شيء لهذا الغريم.
فهذا الحقيقة من الإشكالات الكبيرة، لكن هي بابٌ للفقه يعني يحتاج إلى مزيد نظر، لكن فيه نوع تهورٍ في الإسراع إلى القول بأن الشركة ذات المسئولية المحدودة أنها لا تنتقل إلى ذمة الشركاء، لِمَا يترتب على ذلك من تحايلٍ وتلاعبٍ وأثرٍ كبير في فساد الأموال وغيرها.
شيخنا هنا مسألة قد تكون منتشرة وشائعة ومعاصرة: الآن نفترض أن لو أننا تشاركنا أنا وفضيلتكم، ولنا الشرف حقيقة في هذا، أن لو مثلًا منك المال ومني العمل، ثم أنت أعطيتني هذا المال وأنا أضارب به وحال مثلًا حولين أو سنتين، هل المال الذي أعطيتني عليه تجب عليك به الزكاة؟
الفقهاء يقولون: لا تجب الزكاة على حصة المضارب، المضارب الذي هو أنت؛ لأنه لم يستقر، صحيح أنني أعطيتك ثلاثمائة ألف وصار أربعمائة ألف، الأربعمائة ألف في الحقيقة لي سبعين في المائة ولك ثلاثين في المائة، على سبيل المثال، هذا مثال ليس حقيقة عشان ما تطالبني بعد.
فهذه الثلاثين ألف ما تجين تقول أنا عندي ثلاثين ألف فيها مال؛ لأنه ممكن أن يخسر، فقلنا: إنَّ رأس المال قبل أن تقُسم التركة هو صيانة؛ لأن الربح قبل القسمة وتبع لرأس المال، فبناءً على ذلك أنت لا مال لك مستقر حتى تجب فيه المال.
لكن بالنسبة لي أنا مالي ثلاثمائة ألف هذا مستقر، فبناءً على ذلك تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، وينظر في تقييمه، ويتعلق به الحكم لا محالة.
{دون الأرباح؟}.
بحسب الحال؛ لأن بالنسبة لصاحب المال المال وربحه، لكن هو بالنسبة للشريك المضارب الذي ليس له مال ما بعد تملكه، أما بالنسبة لي هذا الربح أزكيه؛ لأنه تبع مالي، والربح تبعٌ لأصله، لكن أنت لم تملكه بعد، وإنما حُسب لك، قد يتحقق وقد لا يتحقق فلم يستقر.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وبارك الله فيكم}.
لكن أنا أقول لك لن أشاركك، أنت طالب علم ولست بخبير بالتجارة، فلا أظن أنك تكون، أسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد وللإخوة المشاهدين والمشاهدات، أظن لازال الحديث مفتوحًا، وهذا آخر درس في هذا الفصل، لكن لا يمنع هي دروسٌ متتالية وفصولٌ متلاحقة، فنرجئ ما وقفنا عنده في المجلس القادم والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم شيخنا المبارك، ونفع الله بكم وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في المستوى القادم، سبحانك الله وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] رواه مسلم (2985).
[2] ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.