الدرس السادس والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس السادس والعشرون

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا اللهم بما علمتنا، وزدنا اللهم علمًا وعملًا وهدىً وتوفيقًا وإخلاصًا، وارزقنا اللهم العلم النافع، والعمل الصالح، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالخيرات والبركات، نُرحب بكم مشاهدينا الكرام في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتناول فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله شيخ عبد الحكيم}.
الله يحييك، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، طلاب العلم وطالباته، أسأل الله أن يفيض عليكم من رحماته.
{جزآك الله خيرًا، وبارك الله فيكم شيخنا، كنا قد توقفنا عند قول المؤلف: (وَوَلِيُّهُمْ حَالَ الْحِجْرِ)}.
نعم استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.

قال -رحمه الله-: (وَوَلِيُّهُمْ حَالَ الْحِجْرِ الْأَبُ، ثُمَّ وَصِيُّهُ، ثُمَّ الْحَاكِمُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ لَهُمْ إِلَّا بِالْأَحَظِّـ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ فِي مَنْفَعَةٍ وَضَرُورَةٍ وَتَلَفٍ لَا فِي دَفْعِ مَالٍ بَعْدَ رُشْد إِلَّا مِنْ مُتَبَرِّعٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجنبنا وإياكم الفتن، وأن يحفظنا ويحفظ المسلمين من بليات الزمان، وأن يدفع عنا وعنهم كل سوءٍ ومكروه، وأن يحفظهم أينما كانوا، وأن يُبلغهم الخير في دينهم ودنياهم، وأن يمنع عنهم كل تسلطٍ وبلاءٍ وظلمٍ وعدوان يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
أما بعد أيها الإخوة: فلا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب الحجر، قال: (وَوَلِيُّهُمْ حَالَ الْحِجْرِ الْأَبُ)، يعني أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يُبين أنَّ هؤلاء المحجور عليهم لا يكون أمرهم إلى ضياع، أو إلى فراغ، أو إلى أن يتلمس من يقوم عليهم فلا يجدون، بل لَمَّا مُنعوا من التصرف حُسم ذلك الأمر بأن يُجعل إلى أهله، وأن يُناط بمن هو أحق به وأكثر شفقة.
ولَمَّا كان الأب هو أولى الناس بابنهِ، وأحرصهم عليه صغيرًا أو مجنونًا أو سفيهًا، أو لو كان كبيرًا لا يُحسن التصرف في المال، فلم يكن أحرص أحد عليه من الأب، فلذلك كانت له الولاية، وقد توافرت الأدلة في حق الأب وقيامهِ على ولده، وعموم رعايته له، وكونه مسؤولًا عن ذلك.
فلمَّا استحفظ على أولاده في دينهم، فكذلك يكون مُستحفظًا عليهم في دنياهم، بشرط أن يكون ممن يحسن ذلك، وهذا أيضًا منوط بأن يكون حَسَنَ التصرف، وأن يكون له صلاحٌ في المال، ورشدٌ فيه، وقيامٌ به على وجهه.
وأمَّا إذا لم يكن الأب لعدم وجوده أو لكونهِ ممن لا يقوم بها، كما لو كان الأب سفيهًا، لأنه كم من أبٍ أكثر سفاهة من ولده، وأكثر تضيعًا للأموال من ابنه.
فالمهم إما أن يكون فقدًا حقيقيًا بأن لا يكون له أبٌ كاليتيم ونحوه، أو أن يكون له أبٌ ولكنه مثله سواءً بسواء في التضييع والإفساد، فينتقل إلى الوصي، فإذا كان قد أوصي إلى شخصٍ بالولاية من أبيه عند موته بأن يتولاهم فلان ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء:11]، فعند أهل العلم، وهذا الذي جاء عن الصحابة، أن الوصية أولى بعد الأبِ من كل أحد، فإنَّ الأب لكمال شفقته ما كان له أن يختار هذا الوصية، ويقدمها على أكثر الناس قربًا من إخوته أو أعمامه أو أجداده، إلا لعلمه أنه يقوم بشيءٍ لا يقومون به، من العناية والشفقة وقيامه مقام الأب وزيادة، فكذلك هو الوصي.
(ثُمَّ الْحَاكِمُ)، السلطان ولي من لا ولي له، والحاكم هو إمام المسلمين، أو من ينوب عنه، والذي ينوب عنه في الأمصار هم القضاة، وهم الذين يلون هذه الأمور، وهم الذين جُعلت لهم هذه الولايات في الجملة في هذا الزمان.
وبناء على ذلك: هم الذين يتولون ذلك، سواء تولوه بأنفسهم أو جعلوا لهم نائًبا يقوم مقامهم، فيتابعون وهو الذي ينفق عليهم أو يُحسن تصرف أموالهم من سواءً إنفاق، أو من اتجار، أو من حفظ، أو صيانةٍ أو سواها.
{أين الجد العم، الأخ، أو نحوه؟ هل لهم ولايةٌ على مثل هؤلاء أو لا؟}
ظاهر كلام المؤلف أن لا ولاية لهم، ولكن يمكن للحاكم أن يختار منهم من يراه كذلك، وهذا أحسن وأتم إذا علم منه الشفقة والعدالة؛ لأنه يكون فيه الديانة والأمانة والصلاح والرشد في المال، وفيه القربى والشفقة التي تحمله على زيادةٍ وكمال حرصٍ وعناية.
لكن ظاهر المذهب أنَّ ذلك ليس على سبيل الأصالة، ومن الفقهاء -وهي روايةٌ عن أحمد- إدخال الجد والأم، وجاء عن ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه جعل بقية العصبات كذلك ولايةً.
لكن كل من جعل لهم ولاية أو زاد في هذه، فكل ذلك موقوفٌ على أن يكون متوفرًا فيه الشروط وهو: الرشد في المال، والإحسان إلى هذا المولي أو هذا الولد، والقيام عليه بالأصلح.
إذًا هذا ترتيب الأولياء على ما ذكر المؤلف، ويمكن أن توسع وهذا قولٌ لبعض الفقهاء، لكنه كما قلنا: يكون بقيده وباعتبار وجود من يصلح لذلك؛ لأنَّ كثيرًا ممن عُرفوا بديانةٍ في أنفسهم، يعني في صلاة، أو في عبادة، أو نحوها.. إذا ولوا الأموال أفسدوها، وخانتهم أنفسهم، ولعبت بهم رغباتهم، فربما أفسدوا على هؤلاء أموالهم، وربما أخذوا منها وكان لهم من الخيانة واللعب فيها ما لهم، وشواهد ذلك في الواقع كثيرة جدًا.
فإذًا لا يكتفى بكونه دينًّا في نفسه حتى يُعلم منه أنه قائمٌ بما يجب عليه في رعاية المال، وعدم التسلط عليه، أو النقص في القيام بالأمانة فيه، وأداء حق هذا الصغير بحُسن النفقة والإحسان في القيام عليه بالاتجار ورعاية المال بما يكون أنفع له إذا بلغ، وأتم له إذا رشد.
قال: (وَلَا يَتَصَرَّفُ لَهُمْ إِلَّا بِالْأَحَظِّ)، يعني: ما يتصرف الولي إلا بالأحظ لهم، فلابد أن يكون كل ما يفعله فيه مصلحةٌ له، فَلَا يَزِيدُهُ مِنَ الثِّيابِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يَشْتَرِيْ لَهُ كِسْوَةُ شِتَاءٍ فِي صَيْفٍ، أو كسوة صيفٍ في شتاءٍ من حيث العموم.
لكن قد يوجد ما يستدعي مثل ذلك، على سبيل المثال أن تكون أقل في أثمانها، ولا تتغير بمضي زمانٍ ونحوه، هذا مقتضٍ آخر، لكن المهم أنه من حيث الأصل ألا يتصرف لهم إلا بالأحظ، فعلى سبيل المثال إذا كان لا يحتاج إلى آلة ركوب، لا يحتاج أن يشتريها له، فإذا احتاج إلى ذلك فإنه ينظر ما هو الأصلح له، مما يحصل المقصود، ويكون فيها نقصٌ في السعر، ومناسبةٌ في الثمن... وهكذا.
إذا هذا هو معنى الأحظ، ولذلك قالوا: إنه لا يتبرع عنه؛ لأن التبرعات إنما مآلها إلى التزود، والولي لا يكون نائبًا عنه في التزودات، وإنما هو نائبٌ عنه فيما يكون الأصلح فيه فيما يقوم به من أمور دنياه، له أن يبذل عنه أو عليه أن يبذل عنه الصدقة الواجبة، لكن ليس له أن يتصدق الصدقة المستحبة.
لكن قال أهل العلم: يمكن أن يشتري له أضحيةً، مع أن الأضحية بابها باب السنة، ولكن لما كان في ذلك مصلحةٌ لهذا اليتيم، أو هذا الصغير، أو هذا السفيه؛ لأن يتباهى الناس في ذلك الوقت بمثل هذا، فربما انكسرت نفسه، ولحق به الأسى على أن الناس ينعمون بذلك وهم لا يتنعمون، وأن الناس يتوسعون وهم في ضيقٍ ولا يجدون، فذكروا أن هذا مما يُستثنى فيه مثل ذلك، وأما ما سواه فإنه لينظر فيما هو الأصلح له لا غير.
(وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ فِي مَنْفَعَةٍ وَضَرُورَةٍ وَتَلَفٍ لَا فِي دَفْعِ مَالٍ بَعْدَ رُشْد إِلَّا مِنْ مُتَبَرِّعٍ)، ما معنى هذا الكلام؟
يقول: (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرٍ)، يعني: هذا الولي الذي قام على هذا الصغير وأحسن إليه، ولحظ أموره، وتابعه في شؤونه، لو أنه بعد أن فك الحجر، قال: لماذا بعت داري في المكان الفلاني؟ لماذا اشتريت لي هذه السيارة؟
فإذا قال كلامًا وكانت هي المنفعة، فإن تلك الدور في ذلك المكان كانت في وقتٍ يمكن أن تنزل، ويرغب عنها، وينتقل الناس إلى ناحيةٍ أخرى، فلما كان كذلك، وهذا أمر معلوم بعتها؛ لئلا تنقص في ملكك، فنقول: هذا يُقبل قوله فيه.
ومثل ذلك إذا وجدت ضرورة، طبعًا بعض الفقهاء يُضيق في باب بيع العقار، فيقول: لا يباع إلا لضرورة، وبعضهم يقول: إنه لا يباع إلا لمصلحةٍ زائدة، كأن يعطى ضعف ذلك المبلغ أو شيئًا زائدًا عن المعتاد، وإن كان المستقر عند الحنابلة أنه إذا علم فيه المصلحة، فقال: إنني بعته لأجل كذا، فيُقبل.
(وَتَلَفٍ)، قال: السيارة تلفت، قال: أين سيارتي؟ وسيارتي كذا وكذا وموجود بعض وثائقها، فقال: هي تلفت، جاءها سيلٌ فأخذها، أو نزلت عليها صاعقةٌ فأحرقتها، ونحو ذلك. فيُقبل قوله، فهذه من المسائل التي ينبغي أن يعلم أن قوله مقبول بيمينه.
لكن لو كان الحاكم هو الذي يقوم عليه، يقولون: يقبل قوله بلا يمين، لماذا؟ لأن الحاكم يلي أمور الناس كلهم، فيحلف لهذا ويحلف لهذا، فيقولون: لا، وبعض الفقهاء يقول: حتى الأب ينبغي أن لا يحلف ويتجه ذلك عندهم، فيجعلونه لصيانة القدر، ولظهور كمال شفقته.
قال: (لَا فِي دَفْعِ مَالٍ بَعْدَ رُشْد إِلَّا مِنْ مُتَبَرِّعٍ)، لو ادعى عليه المولي، فقال: أنت ما دفعت إليّ مالي، فقال: بل دفعت إليك مالك، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يقبل في مثل هذه إلا ببينه، لا يقبل أنه دفع إليه المال إلا ببينه، إلا في حالٍ واحدة وهو أن يكون هذا متبرعٌ بالحفاظ على الصغير، فيقبل قوله بيمينه بدون ما بينةٍ.
أما إذا كان يأخذ على ذلك جُعلاً بقيامه على هذا الصغير ونحوه، فإنه لا يدفع ذلك إلا بالبينة، فإنه لا يدفع ذلك إلا بالبينة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَتَعَلَّق دَيْنُ مَأْذُونٍ لَهُ بِذِمَّةِ سَيِّدٍ وَدِينُ غَيْرِهِ وَأَرْشُ جِنَايَةِ قِنٍّ، وَقِيَمُ مَتْلَفَاتِهِ بِرَقَبَتِهِ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَتَعَلَّق دَيْنُ مَأْذُونٍ لَهُ بِذِمَّةِ سَيِّدٍ)، المأذون له المقصود به الرقيق الذي يؤذن له في التجارة، فيعطيه سيده مثلًا مئة ألف ويقول: اذهب للسوق واتجر.
وهنا أنبه على مسألة مهمة: وهي أن الصورة الذهنية التي تكون عن السادة مع عبيدهم أنها علاقة قسرٍ وقهرٍ وظلمٍ ونحو ذلك، وهذه الصورة مبنيةً على حكايات أو مرئيات ومشاهدات عبر الإعلام الفاسد بمثل ذلك.
والحقيقة ليست كذلك، بل ما ذكر التأريخ لنا ما يكون بين العبد وسيده من الوفاء والمحبة والإحسان والصلة، أكثر في بعض الأحيان ما يكون بينه وبين ولده، بل إنه متقرر عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في باب النفقات أنَّ نفقة العبدِ من السيد سابقةٌ عن النفقة على الولد.
فمعنى ذلك: لو كان عند هذا السيد عشرة آلاف، وهذه العشرة آلاف لا تكفي إلا لنفقته وبعض نفقة عبده، ولده يجلسون بدون شيء، يقولون: يقدم العبد على هؤلاء.
ما وجه التقديم؟
هم يقولون: لأن العبد لمنفعة السيد، وحقٌ عليه أيضًا أن يكون له نفقته، وبالتالي فالعلاقة فيها سعةٌ، ولذلك ذكر الفقار مثلًا مأذونًا له في التجارة، يدعه يبيع ويشتري، وربما كان فيما هو أكثر من ذلك، فيقولون: ذمة السيد هي التي تشتري؛ لأنك لما أذنت له بالتجارة، فكأنك أنبته في حمل شيءٍ على ذمتك، فما يكون من اتجارٍ فهو لك، وما يكون من ربحٍ فهو لك، وما يكون من دينٍ يأخذه فهو متعلقٌ بذمتك؛ لأن العبد لا ذمة له، ذمته ذاهبة بوجود الرق فيتحملها السيد في تلك الحال.
لكن يقول: (وَدِينُ غَيْرِهِ وَأَرْشُ جِنَايَةِ قِنٍّ، وَقِيَمُ مَتْلَفَاتِهِ بِرَقَبَتِهِ)، يعني أن هذا العبد لو كان منه جناية فالجناية هي محضُ اعتداءٍ وتصرفٍ من هذا العبد، لا أذن بها السيد ولا يتحملها؛ لأنه يمكن أن يذهب ويكون أغضبه سيده فيذهب فيقتل عشرة، فنقول: إن السيد يتحمل هؤلاء العشرة؟ لا، لأفضى ذلك إلى بلاء كثير.
وبناء على ذلك الجناية تتعلق بالعبد، كيف تتعلق بالعبد؟ برقبته، يعني: نرى في قيمة العبد هل يكون بها تسديدٌ لما قدر المتلف أو لا؟ وبناءً على ذلك نقول للسيد: مثلًا هو جنى على شخص ففقأ عينه، فكانت فيها نصف الدية، فجئنا وبعنا العبد فوجدناه لا يساوي إلا عشرين ألف، يعني أقل من نصف الدية، فبناءً على ذلك نقول للسيد: إما أن تدفع العشرين ألف وإلا أنهم يأخذون هذا العبد ويبيعونه ويستوفون منه، إذا كانت قيمته أكثر من نصف الدية.
وبناءُ على ذلك نقول: إمَّا أن يباع العبد ويعطى نصف الدية وما زاد لك، وإما أنك تستنقذه بأن تدفع نصف هذه الدية وتستبقيه عندك، لماذا؟ لأن قيمته أكثر من ذلك.
فإذًا إما أن يستوفى من العبد، أو أن يدفع العبد الأقل، أو يدفع قيمة العبد فأقل لا يزيد، يعني ليس عليها أن يزيد، فبناءً على ذلك ينظر في تلك الحال، فإن كانت قيمة العبد أكثر فهو يدفع مع حقهم كاملًا، وإن كانت أنقص فلهه أن يستنقذ عبده بأن يدفع كامل ما يقابل قيمة هذا العبد ويعطيهم إياه، وما سوى ذلك يذهب؛ لأنه هو متعلق برقبته ورقبته لا تساوي إلا ذلك.
(وَدِينُ غَيْرِهِ) يعني لو كان غير مأذون له في التجارة، فكأن الذي استدان أعطاه دينًا هو الذي اعتدى، هو الذي فرط، هو يعرف أنه عبد وليس مأذونًا له، فبناءً على ذلك تتعلق بالعبد، إن أعتق يومًا ما فنعم، وإن لا فلا، أو تكون في رقبته.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ في الوكالة)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في الوكالة، والوكالة من مكملات المعاملات، فإنه لا ينفك الإنسانُ أن يعلمَ أنه ليس بأي وجهٍ من الوجوه أن يلي أموره كلها، بل جعل الله -جلّ وعلا- في تصاريف هذا الكون وكثرة أموره ما يحتاج الإنسان إلى غيره، ولَمَّا كان ذلك أكثر ما يكون في المعاملات، ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أحكام هذه الوكالة وما يتعلق بها.
والوكالة بمعنى التفويض أو الإنابة، والتفويض والإنابة هل هما بمعنىً واحد أو بينهما شيءٌ من الاختلاف؟ بعضهم يعبر على أنهما شيءٌ واحد، وربما كان بينهم اختلاف، فالإنابة هو استنابةُ الغير في القيام بما نبتغ فيه، ولذلك يعرفون الوكالة في الاصطلاح استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، فجعلوه كذلك.
وأمَّا باب التفويض فيقولون: هو أخص، ولأجل ذلك يقولون منه التوكل، فالتوكل بمعنى التفويض وليس بمعنى الإنابة، وبعضهم يخصها ويقول: لأن التوكل على الله جلّ وعلا كان بهذا المعنى إذا عُدي بعلى، فهو مخصوصٌ بالله -جلّ وعلا-، ويكون معناه تفويض الأمور إليه لا إلى أحدٍ سواه، وأمَّا إذا عُدي الفعل بنفسه، فقال: وكلتك، فتكون بمعنى الإنابة التي هي الاستنابة، وجعل أحدٍ بدأ لك يقوم مقامك التي هي استنابة جائز التصرف فيما تدخله النيابة، مثله في ذلك.
فإذًا هذا هو يعني فرق أو الفرق بين التوكل والتوكيل.
التوكيل هو إنابة، والتوكل هو تفويضٌ، وبعضهم يقول: ربما يكونان بمعنى سواء، لكنهما يفترقان إذا عديت بعلى فإنها تكون بالله جلّ وعلا، ولذلك لما كان التوكل على الله مخصوصًا به لا يحسن ولا يصح أن يقول توكلت على الله ثم عليك؛ لأن حقيقة التوكل شيءٌ داخلي قلبي هو تفويض الأمر إلى الله وتعلقٌ به، أمَّا الإنابة والاستنابة فهي شيءٌ حاصل أن الناس يتناوبون فيه، فتعبر عنها بدون ما (على).
وبناءً على ذلك تقول: وكلت فلانًا، وكلت أخي، وكلت صديقي، وكلت لي وكيلًا؛ كل ذلك يكون جائزًا.
لكن لا تقل: توكلت على فلان، فإن التوكل يقولون: (على) أو معدى بـ (على) وإنما معناه: التفويض، وهو تعلقٌ قلبي، وإسناد الأمر إلى الله -جلّ وعلا- الذي بيده مقاليد الأمور، واليه حلها وتيسيرها وتدابيرها -سبحانه وتعالى-.
الوكالة طبعًا مشروعة، وقد دلَّ على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع، والحاجة إلى ذلك داعية، ولم ينفك أحدٌ من التوكيل، وجاء عن النبي أنه وكل في الأمور الدينية، أو في الأمور الشرعية، كما وكل في الأمور الدنيوية، فأناب عنه مثلًا عليًا في الحج، ووكل: «واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا»، هذا في إثبات الحدود، وسيأتي الإشارة إلى ذلك، ووكل فيمن يشتري عنه كما في حديث عروة البارقي، والإجماع منعقدٌ على هذا، والحاجة داعيةٌ إلى ذلك ولا إشكال فيها.
والله -جلّ وعلا- يقول في كتابه: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ﴾ [الكهف:19]، يعني هو يذهب بمالهم وكيلاً عنهم في الشراء، فهذا إذًا هو إشارة إلى معنى الوكالة، وسبب إيراد المؤلف لها هنا.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ: وَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى إِذْنٍ وَقَبُولُهَا بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ)}.
يقول المؤلف: (وَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى إِذْنٍ وَقَبُولُهَا بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ)، إذًا الوكالة فيها إيجابٌ وقبول، إيجابٌ بأن يقول وكلتك، وقبولٌ بأن يقول: قبلتُ، فهذا إذا حصلت على هذا النحو صحيحٌ، وإذا قال: وكلتك في بيع هذه الساعة أو هذه السيارة، فقال: مباشرةً من يشتريها؟ فكان قبولٌ منه بالفعل، فيقولون هذا صحيحٌ.
لكن ظاهر كلامهم أنه لا يكون منه توكيلٌ بالفعل بأن يجعل له هذا الجوال، ومعروف أنه يبيعه ليبيعه، فهذا مثلًا يسير في السوق فيرفع الصوت بالمزايدة على شيء، فأعطاه جواله بدون ما يتكلم، فبدأ يزايد عليه، فهل نعتبر هذا بمثابة التوكيل؟
ظاهر كلام المؤلف أنه لابد من القول، وظاهر أو في الرواية الثانية عن أحمد، وهي قولٌ عند الحنابلة، وأشهره ابن تيمية –رحمه الله تعالى- وقال: إن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، فقال: فتنعقد بكل ما دل عليها من قولٍ أو فعلٍ أو سواه، والعبرة فيها ليس تعبدًا ولا تنسكًا، لكل ما تعارف الناس عليه حصل ذلك.
وهذا فيه توسعةٌ على الناس، وبناءً على ذلك لو عُرف هذا بأنه يبيع للناس فجئت وما وجدته، وعندك مثلًا آلة في المطبخ تريد بيعها فوضعتها عنده، فلما جاء في الصباح عرف أنها جعلت كي تباع فباعها، حتى إذا جئت وقلت هي لي، قال: هذا قد بيعتها لك.
فعلى قول الحنابلة: ‘ن ذلك لا يصح، لكن على ما قلناه من أن العبرة في العقود بما دل عليها وبما تعارف الناس عليه، فتصح بكل فعلٍ أو ما يدل عليها من طرائق قديمةٍ أو حديثة خاصةٍ أو عامة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ كَوْنُهُمَا جَائِزَي التَّصَرُّفِ وَمَنْ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي شَيْءٍ فَلَهُ تَوَكُّلٌ وَتَوْكِيلٌ فِيهِ)}.
قول المؤلف: (وَشُرِطَ كَوْنُهُمَا) يعني: الموكل والوكيل، لابد أن يكون الموكل جائز التصرف؛ لأنَّ من لا يجوز له التصرف، لا يجوز له من باب أولى أن يُوكِّلَ شخصًا، فما دام أنه ممنوع من التصرف، فمن باب أولى لا يكون له توكيل أحدٍ في تصرف، بل هذا له عليه ولي، وهو قائمٌ بمصالحه، وهو الذي يتصرف في ماله، أخذًا أو ردًا أو بيعًا أو شراءً أو غير ذلك من التصرفات، على ما مرَّ بنا. إذًا لابد أن يكون جائز التصرف.
ومثل ذلك الوكيل، فلا يمكن أن يوكل صغيرًا ولا مجنونًا ولا غيرهما؛ لأنه إذا لم يجز له أن يتصرف في نفسه، لم يجز له أن يقبل عن غيره ما هو ممنوعٌ منه أصالةً، فلا يمكن أن يكون فيه بدلًا.
وجائز التصرف بأن يكون حرًا؛ لأنَّ غير الحر محجورٌ على مِلك سيده، فهو قد جُعِل فيه، يعني هو من جهة المعنى ربما يكون أتم نظرًا وعقلاً من غيره، ولكنه كما يقول أهل العلم: هو عجزٌ حكمي، يعني: حكمنا عليه بأنه ليس له هذه التصرفات؛ لأنَّ منافعه محبوسةٌ على سيده.
فإذًا لا بد أن يكون حرّاً مكلّفاً، والمكلّف المراد به العاقل البالغ، فغير العاقل أي: المجنون، عليه ولاية، والصغير غير البالغ أيضًا عليه ولاية، وأن يكون رشيدًا بأن يحسن التصرف، وإلا أيضًا مُنع لأجل السفه، كما مرَّ بنا في باب الحجر.
إذًا لابد أن يكونا جائزي التصرف.
قال: (وَمَنْ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي شَيْءٍ فَلَهُ تَوَكُّلٌ وَتَوْكِيلٌ فِيهِ)، ما معنى هذا؟
أصل دائرة الوكالة في أن من يتصرف فيها بنفسه له أن يوكل فيها غيره، فإذا كان لإنسان أن يبيع فله أن يوكل من يبيع عنه أو يشتري، وإذا كان للإنسان أن ينكح فله أن يوكل عنه من ينكح، وهكذا..
فمفهوم ذلك: أن ما ليس للإنسان أن يتصرف فيه ليس له أن يوكل فيه، وهذه في الجملة، لكن لها مستثنياتٌ ليست قليلة، ولذلك على سبيل المثال قالوا: أن المرأة لا تملك الطلاق أصالةً، لكن يجوز لها أن تكون وكيلاً فيه، فلو وكّلها زوجها في طلاق نفسها لكان صحيحًا أن تُطلق نفسها، ولجاز لها ذلك، ووقع الطلاق لو طلقت.
ومثل ذلك يقولون: من كان واجدًا للطَولِ الحرّة قادرًا، وليس عنده عِنةٌ ولا نحو ذلك، فلا يجوز له التزوج لأمة، لكن لو كان وكيلًا عن شخصٍ لا يملك المهر، ويخاف العَنَتَ على نفسه، جاز أن يكون وكيلاً فيه.
ومثل ذلك يقولون: القبول في نكاح أخته، هو لا يصح أن يقبل نكاح أخته لنفسه، ولكنه يصح أن يكون وكيلًا عن صديقه وجاره ونحو ذلك في هذا، وهكذا.
فإذًا لها استثناءات، لكن من حيث الجملة أنَّ من له تصرفٌ في شيء، فله أن يكون وكيلًا فيه، يقولون: مثل الأعمى يشتري أشياء، لا يستطيع أن يشتري شيئًا لكونه يُرى أو يُعلم بالنظر، فله هو أن يوكّل، فهو لا يصح له أصالةً لكن يصح له وكالةً، وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَتَصِحُّ فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِيٍّ، لَا ظِهَارٍ وَلِعَانٍ وَأَيْمَانٍ، وَفِي كُلِّ حَقٍّ لِلَّهِ تَدْخُلُهُ اَلنِّيَابَة)}.
إذًا هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- أيضًا إشارةٌ إلى بعض ما تدخل فيه، (وَتَصِحُّ فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِيٍّ)، كحقوق الآدميين من البيوعات، والشركة، والمشاركة، الوديعة، والعارية، والمساقات، والإجارة... وغيرها، حتى من الوقف، والعطية، والهبة، والهدية؛ كلها حقوق آدمي فيجوز له أن يوكّل فيها، فلو وكّل شخصًا في أن يوقف له دارًا، أو أن يهب له سيارةً، أو أن يعير له سيفًا، أو أن يؤجر له بستانًا، أو نحو ذلك كثير.
فيقول: (وَتَصِحُّ فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِيٍّ، لَا ظِهَارٍ وَلِعَانٍ)، أما الظهار فهو محرّم، فلا يجوز تعاطيه، وهي من ما جاء الشرع بتحريمه، وهو كان طلاق أهل الجاهلية، فبناءً على ذلك ليس للإنسان أن يظاهر، وليس له أن يوكّل في ظهار، ولو وكّل شخصًا لم تصح الوكالة ولم ينعقد ما تلفّظ به وكيله فيه.
فلو أن هذا الوكيل قال: أنتِ عليه كظهر أمه، نقول: هذه وجودها كعدمها؛ لأن الوكالة ليست صحيحةٌ فما ترتب عليها فليس بصحيحٌ، فلم ينعقد الظهار ولم يلحق به، مع كونه آثمًا فيما عزم عليه من السوء وشرع فيه.
(وَلِعَانٍ)، كذلك اللعان، وهو اللعان بين الزوجين عند القدر بشروطه على ما سيأتي بيانه، إنما هي ألفاظُ متعلقةٌ بالزوج، فليس لأحدٍ أن يقوم مقامه فيها، مثل ذلك: القسامة التي هي الأيمان في الحكم على الإنسان بقتلٍ أو نحوه، تتعلق بكل أحدٍ بعينه، ولا تنتقل إلى أحدٍ سواه، فبناءً على ذلك ليس له أن يوكل فيها.
(وَأَيْمَانٍ)، يعني: إذا تعلقت به يمين، مثل ما قلنا في القسامة ونحوها.
(وَفِي كُلِّ حَقٍّ لِلَّهِ تَدْخُلُهُ اَلنِّيَابَة)، حقوق الله -جلّ وعلا- منها عباداتٌ محضةٌ لا تدخلها النيابة، كالصلاة والصيام، لا يُصلي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحد، «ومن مات وعليه صيام صام عنه وليه»، هذا في المشهور عند أهل العلم كما مر بنا، أنه إنما يكون في صيام النذر؛ لأنَّ النذر من حيث الأصل هو عبادةٌ مالية فدخله فيه.
إذًا هذه عباداتٌ محضة لا تدخل فيها النيابة، أي: ليس لأحدٍ أن يستنيب عنه أحد أن يصلي عنه أو يصوم صيام رمضان، ويوجد في هذا الزمان في بعض المذاهب الضالة من يشترون من يصلي عنهم أو يصوم؛ وكل ذلك لا يجدي على أهلهم شيئًا، فإن الشرع متقرر، والحكم في ذلك ظاهرٌ، والأدلة فيه بينةٌ، لا يختلف في ذلك أهل العلم.
لكن من العبادات ما هي عبادةٌ مالية تدخلها النيابة، ودلَّ عليها الدليل، مثل بذل زالكاة إذا وكل ونوى، ومثل ذلك الحج والنيابة فيه، وما ماثل ذلك من الأشياء المالية فتدخلها النيابة، وتجوز فيها الوكالة.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا هنا مسألة في العبادات التي تدخلها النيابة، ومن ضمنها الحج، هل يجوز للإنسان أن يوكل رجلًا يحج عنه سواء كان مستطيعًا أو غير مستطيع؟}.
هذه مرت بنا، أما إذا كان غير مستطيع فهذا ظاهر أنه يجوز له أن يوكل، وجاء هذا في الأحاديث الصحيحة ومر بنا، ولكن إذا كان قادرًا فأهل العلم يختلفون في شيء ويتفقون في شيء، فيقولون: إذا كان قادرًا فليس له أن يوكل من يحج عنه فرضًا، ولكن لو كان قد حج الفرض وأراد أن يتنفل فوكل شخصًا، فعند الجمهور أنه لا يصح ذلك؛ لأن الوكالة إنما هي حال العجز.
وذهب الحنابلة إلى أن هذا بابه بابٌ أوسع، والنيابة في النفل بابها موسعٌ فيه، فلأجل ذلك أجازوه للقادر وإن كان يستطيع ذلك بنفسه.
هنا مسألة وهي في الوكالات كثيرًا: لابد أن يُعلم أنَّ الوكيل أمينُ، وأنه لا يجوز له أن يتصرف لنفسه، أو أن يُقصر في استنفاذ الحق لموكل، فعلى سبيل المثال: لو أراد أن يبيع سلعةً، فلو كان يبيعها لنفسه فإنه يتشدد حتى تبلغ سعرها، فإذا أراد أن يبيعها لوكيلٍ تساهل، نقول: لا يجوز ذلك.
ولأجل هذا قرر الفقهاء بعض الأحكام: فقالوا ليس له أن يشتري لنفسه، ولا أن يبيع على ولده أو زوجه؛ لأنه يظهر منه المحاباة لهم والميل لهم.
طبعًا يستثنى من ذلك حال واحدة: وهي أن يكون قد بيّن سعرًا، يقول: أبيعها بـثمانين ألف، فيستوي أن يشتريها هو أو أن يشتريها غيره.
لكن لو قال: بعها لي بما وصل إليه ثمنه، فإنه يمنع من ذلك؛ لأنه لا يؤمن عليه أن يحابي نفسه، فتتردد النفس بين الإصلاح لغيره والإصلاح لنفسه، فالغالب أن نفسهُ تغلب فيميل لها على غيرها، فيفوت حق موكلهِ في ذلك، فيتنبه لهذا، فإنها مما يكثر فيه.
وكثيرٌ من الناس في باب الوكالات والولايات على الأيتام والمساكين، إذا غابت عنهم عين المراقبة سهلت عليهم الخيانة، وهذا كثيرٌ جدًا، فيقتسمون ذلك مع من يتعاطون معه، وهذا كله غير جائز، وليس بحلال، وهو أعظم ما يكون من الظلم والعدوان، فإن الله مطلع على ذلك، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، وهذا من أعظم ما يكون من الإثم، وأشد ما يكون من الحرام، فليتنبه لذلك، فإنه مزلقٌ خطير، ربما وقع فيه من عُرف بصلاح أو ظهرت منه ديانة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَهِيَ وَشَرِكَةٌ وَمُضَارَبَةٌ وَمُسَاقَاةٌ وَمُزَارَعَةٌ وَوَدِيعَةٌ وَجُعَالَةٌ -عُقُودٌ جَائِزَةٌ لِكُلٍّ فَسْخُهَا)}.
قال: (وَهِيَ وَشَرِكَةٌ) أي: هذا الوكالة من العقود الجائزة، فلما كانت عقدًا جائزًا ضم إليها كل العقود الجائزة، فقال: الشركة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والوديعة، والجعالة؛ كلها عقودٌ جائزة، مع أنها لم تأت بعد، لكن ذكرها هنا مع ذكرها مع الوكالة يجمعها في حالٍ واحدة، لتعرف المتشابهات والمتفقات، وهذا من أنفع ما يكون في العلم، أن تعرف الشيء ونظيره، أن تعرف الشيء وما يقابله، أن تعرف الشيء وما يماثله.
فكل ذلك مما يقوي الملكة، ويُحسن عند الطالب طرد الحكم من عدمه، فإذا كان مثلًا هنا الوكالة عقدٌ جائز، جَوْز فسخها في أي وقت، ثم يـأتي إلى الشركة ويقول: لا يجوز، هذا فرق بين متماثلين، وهو كونهما عقودًا جائزة.
فبناءً على ذلك: معرفتك أنها عقود جائزة يحملك على أن تسوي بينها فيما سويت فيه من العلة والحكم.
طبعًا قد يختلف الحكم لسبٍ آخر، هذا خارج، أو لأمرٍ خارج، لكن من حيث الأصل، فإذًا الشركة كذلك المضاربة وهو نوعٌ من الشركة وسيأتي بيانها، أيضًا المساقاة والمزارعة سيورد المؤلف –رحمه الله تعالى- بعد أسطرٍ قليلة ما يتعلق بها.
(وَوَدِيعَةٌ وَجُعَالَةٌ)، الجعالة ربما تتأخر في الفصل القادم نأتي إليها، لكن المزارعة والمساقاة والمضاربة والشركة سنأخذها لعله في هذا الدرس أو في الدرس القادم، أظنه في الدرس القادم؛ لأنه ما بقي وقت في هذا.
قالو: (وهي عُقُودٌ جَائِزَةٌ)، ما معنى العقود الجائزة؟
العقود ثلاثة:
العقود: إمَّا أن تكون لازمة من الطرفين، مثل: البيع، فإذا تبايعا وانتهى وقت الخيار لم يجز للبائع أن يفسخ ولا للمشتري أن يرجع.
عقد الإجارة: إذا استأجر المستأجر شيئُا فلا يحق له أن ينقد العقدة ولا يحل للمؤجر أن يخرج المستأجر، فهما عقودٌ لازمة مثل ذلك عقد الوقف، إذا أوقف لله فإنه عقدُ لازم، ليس للإنسان أن يرجع فيه بحالٍ من الأحوال، العقود الجائزة هي التي ذكرها.
فكل واحد من الموكل والوكيل أن يفسخ عقد الوكالة، كل واحد من الشركاء له أن يفسخ، كل واحد في المساقاة من صاحب الزرع أو صاحب العمل له أن يفسخ.. وهكذا.
ثمَّ عقود تكون لازمة من جهة وجائزةٌ من جهةٍ أخرى، مثل عقود الرهن، والضمان، والكفالة، فالمرتهن الذي له الرهن له أن يقول لا أريد رهنًا، فهو عقدٌ جائز في حقه، متى ما أراد أسقطه، ومن جهة الراهن لا، هو عقدٌ لازم، ليس له أن يخلص رهنه إلا بأن يدفع ما عليه أو أن يتنازل المرتهن عنه، ومثل ذلك الضمان من جهة المضمون له، له أن يسقط؛ لأن الحق له، لكن الضامن ليس له أن يتخلص من عقد الضمان إلا بتأدية صاحب الحق، أو بأن يؤدي عنه، ليس له طريقٌ أخرى، والكفالة كذلك على ما مر هي من العقود الجائزة من جهة المكفول له، وهي من العقود الواجبة من جهة الكفيل.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ بِلَا إِذْنٍ بَيْعُ وَكِيلٍ لِنَفْسِه وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْهَا لِمُوَكِّلِهِ، وَوَلَدُهُ وَوَالِدُهُ وَمُكَاتِبُهُ كَنَفْسِهِ)}.
مثل ما قلنا: هذه مما يترتب على الوكالة.
قال: (وَلَا يَصِحُّ بِلَا إِذْنٍ بَيْعُ وَكِيلٍ لِنَفْسِه)، لأن الوكيل كما قلنا لنفسه لابد أن يميل إليها، والنفس مجبولةٌ على ذلك مهما كان من نقائها وذكائها، إلا أن يُعلم الموكل، فيقول أنا أشتريه منك بكذا، ففي هذه الحالة يكون كأنه حصل العقد بينهما، لكن أن يوكله فيذهب ويقول بعته لك وهو الذي اشتراه، ولم يعلمه! فهنا لا يكون صحيحًا.
(وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْهَا لِمُوَكِّلِهِ)، وكل هذا إنما هو كما قلنا إذا أطلق له الوكالة، أما إذا قيده بثمن فإن المحظور منتفٍ هنا؛ لأن الثمن سيأخذه البعيد أو القريب على حدٍ سواء، لكن هذا إشارةٌ إلى أن التصرفات التي يُتهم فيها الوكيل هو ممنوعٌ منها، كأن يبيع لنفسه أو أن يبيع لوالده أو ولدهِ أو مكاتبه؛ لأن المكاتب أيضًا يمكن أن يعجز نفسه فيرجع إليه، ويمكن أن أراد أن ينفعه حتى يستطيع التكسب فيرد إليه، أو فيؤدي له ما اشترط عليه من مال وما اتفق عليه في عقدٍ من أقساط.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلٍ أَوْ اِشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ صَحَّ وَضَمِنَ زِيَادَةً أَوْ نَقْصًا)}.
(وَإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلٍ أَوْ اِشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ)، وإن إذا باع بدون ثمن المثل، فهذا كما لو كان قد فرط، فالأسواق معروفة والأثمان فيها متقاربة، فبناءً على ذلك كأن المؤلف -رحمه الله- يقول هو أمين، لو تلفت منه السلعة بدون ما تفريط فلا حرج عليه ولا غضاضة، لكن أن يؤكل في بيع ثم يبيع بأقل من ثمن المثل هذا نوع تفريط، فبناءً على ذلك هو صحيحةٌ وكالته فيصح بيعه، لكن ما فوت على موكله من ثمن مثلٍ هو الذي أغرمه.
{يضمنه؟}.
نعم، قال: (صَحَّ وَضَمِنَ زِيَادَةً)، فإذا كان قد باع بخمس وثمانين وهو يسوي مائة وعشرين، فيكونون يضمن ما بينهما وهي خمسةٌ وثلاثون مثلًا في ذلك المبيع، وكل ما كان هذا شأنه.
وكلامنا هنا إنما هو في التفاوت الخارج عن المعتاد، فإذا كان نحو 20% على ما ذكرنا فإنهم يعتبرون أنه مما تتفاوت فيه الأسعار، لكن أكثر من ذلك فإنه لا يعتبر، وكما قلنا: أن هذا إنما هو لأنَّ الـ 20% كانت في وقتهم هي الكثير والقليل أو الغبن، لكنها لا تنافي أن ذلك مَرده للعرف، فمتى زاد أو نقص أعتبر ما كان في الأسواق، وما كان فيه مناطه الغبن في ذلك السوق، أو في تلك السلع، أو عند أولئك الناس.
قال: (أَوْ اِشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْه)، يعني إذا كان قد وكّل في الشراء، فبدل أن يشتري السيارة بمائة وعشرين اشتراها بمائة وسبعين، لكن لو اشتراها بـمائة اثنين وعشرين فيعني معقول.
لكن هنا دعني أقول لك مسألة تناسب الحال: الآن السيارات في الوكالات وفي نحوها مئة وعشرين، راحوا اشتراها من السوق بمائة وثلاثين، هي لا تبلغ 20% الزيادة، لكن بالنسبة لهذه السلعة في هذا الزمان أن هذا خارج عن المعتاد، أن هذا تفريط، خاصة أن الأماكن التي تباع في هذه السلعة كجهةٍ معروف السعر، فما زاد في مثل هذه الأحوال في بعض الأحوال حتى ولو كان قليلًا، فإنه يعتبر نوعه غبن، فكأنه هو الذي تسبب على موكله بهذه الزيادة فيغرمها.
إذًا نحن قلنا: إنَّ المحد لذلك: أن يتجاوز ثمن المثل بحسب العرف والعادة، فمتى ما كان كذلك، وأهل الأسواق يعرفون هذا، فيحكم به.
{جزاكم الله خير شيخنا مبارك، وفتح الله لكم وزادكم من فضله، ونكتفي بهذا القدر}
أسأل الله أن يتم علينا وعليكم النعمة.
{جزاكم الله خير، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك