الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الثالث عشر

أخصر المختصرات 3

{بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، أهلًا وسهلًا بكم طلبة العلم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيه متن (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم العجلان.
أهلًا وسهلًا بك فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلا، حياكم الله ومرحبًا.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (كِتَابُ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.
يَنْعَقِدُ بِمُعَاطَاةٍ وَبِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله --جل وعلا-- أن يُفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يجعلنا من الموفقين لعبادته وطاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة المشاهدون، طلاب العلم وطالباته، هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في (كتاب البيع)، وذلك بعد أن أنهى ما يتعلق بكتاب (العبادات).
وهنا إشارة مُهمة إلى أنَّ أولى ما يُعنى به العبد هو ما يتعلق بحق الله عليه، وعلى ذلك درج الفقهاء -رحمهم الله- في ذكر العبادات أولًا والاستهلال بها؛ لأنَّ الله -جل وعلا- إنما خلق الخلق لعبادته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، وبدٌ للعبد من عبادة، بدٌ للعبد من صلاة وصيام، وبدٌ له من زكاة وحج، فلما كان الأمر كذلك، لا ينفك العبد عن واحد من هذه الأشياء، كان أولى ما يتعلمه المتعلم، ويعنى به أهل العلم والفقه، ويستهلون به كتبهم، ويتبركون بالشروع فيه، ويرجون أثر ذلك بإذن الله -جل وعلا-، فإنَّ البداءة بالأهم، وبحق الله -جل وعلا-، سبب لحصول للخيرات، ونشوء البركات فيما يتعلق بالإنسان في نفسه، وفي علمه، وفي قلبه، وفي هدايته للقيام بحق ربه، وما يتبع ذلك أيضًا مما يتعلمه من العلوم، وما يدرسه من المسائل، هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية أنه لَمَّا كان البيع من أولى ما يحتاج إليه المكلف بعد العبادة، ولا ينفك من الحاجة عن ذلك؛ لأنه لا تنقضي حاجات الإنسان إلا به، ولا تقوم حياته إلا به، ولا تستقيم أموره إلا بتحصيله، فكان ذلك أولى ما ذُكِرَ بعد كتاب العبادات، بمعنى: أن ما يتعلق بالأنكحة، وما يتعلق بالتبرعات، وما يتعلق بالحدود، أو ما يتعلق بالأقضية، أو سواها من سائر الأبواب التي تذكر بعد ذلك، فإنما الحاجة إليها أقل من الحاجة إلى البيع.
والحاجة إلى البيع متكررة في كل يوم وفي كل حال، وربما تتوقف عليها حياة الإنسان؛ فلأجل ذلك ذكره الفقهاء هنا.
وهنا يجب أن يُعلم أنَّ مسائل البيع لا حد لها، وأنَّ المعاملات بحر لا ساحل له، فلمَّا كان الأمر كذلك؛ فإنه يعجز الإنسان أن يأتي على هذه المسائل كلها، وفهمها، حتى ولو كان من أهل العلم وأهل الفضل وطلبته، وناهيك بعموم الناس ودهمائهم، فلما كان الأمر كذلك، كانت هذه العلوم من علوم الكفايات، وكما تقدم معنا، أنَّ العلم علم حال وهو فرض عين، وهو الذي يتعلق بحال المرء، فلا بد له من تعلمه، كالعبادات كما في صلاته ووضوءه، ومن احتاج إلى تيمم تعلمه، وغير ذلك.
وعلم -الذي هو فرض كفاية- وهذا لا يتعلق بعموم الناس، بل لابد أن ينبري لذلك أهل العلم حتى إذا احتاجه بعض الناس وجدوه، وإذا بحثوا عنه؛ عُلِّمُوا وَأُفتُوا وأُرشِدُوا وَدُلُّوا على السبيل الذي يكون به نجاتهم، وبه سلامتهم.
لكن لابد أن يُعلم أيضًا أنَّ من دخل السوق، ومن شرع في البيع والشراء والتعاملات، فإنَّ عليه أن يتعلم من المسائل ما يحتاج إليه، ولا يُعذر بجهل في أن يتعامل بمعاملة محرمة، ولذلك جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يُقيم في السوق من يخرج كل من لم يُحسن البيع والشراء، ومن ثم يأمرونه بتعلم مسائله؛ لئلا يقع في القمار والربا، ولئلا يَغش الناس، ولئلا يتعامل بمعاملة محرمة، فلأجل ذلك قالوا بإجماع: يجب عليه أن يتعلم من الأحكام التي يحتاج إليها في ذلك.
وابن تيمية -رحمه الله تعالى- في أول فتاواه، وهي مجموعة، ولكن في أول ما جمع منها في أبواب المعاملات، ذكر أصولًا للمعاملات الجائزة، التي إذا احتمى منها الإنسان سَلِمَ، بأن الأصل في المعاملات الحل، وأنه يتوقى الربا، والقمار، والجهالة، والغرر، فجعل في ذلك خمسة أصول هي سبب لعموم ما يكون فيه حرمة المعاملات وعدم حِلِّهَا، فيتنبه لذلك، أو يمكن أن يستفاد من هذا.
على كل حال ثَمَّ نكتة لطيف نذكرها في استهلال هذا الكتاب، وقد ذكرها أهل العلم -رحمهم الله تعالى-، هل الأولى للإنسان في الشراء أن يشتري الرخيص أو أن يشتري الغالي؟
ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- هو أنَّ شراء الغالي أولى من شراء الرخيص، وهذه لا يعرفها كثير من الناس، لماذا؟
لأنهم قالوا: إن حصل عليه الغبن في ثمنه، لم يحصل عليه الغبن في عينه، وهذا بخلاف الرديء الرخيص، يقولون: إن انفك من الغبن في ثمنه، لم ينفك من الغبن في عينه.
وربما اجتمع عليه الأمران، فيكون غبن في الثمن، وغبن في العين، لكن هذا لا شك أنه بقدر أو بحدود معلومة، ولكن فيه إشارة إلى أنَّ الإنسان إذا اشترى شيئًا غاليًا وهو قادر عليه، فليس داخل في باب الإسراف، وهو أيضًا مما يحتاج إليه، فإنَّ ذلك يكون أنفع له على الوقت الطويل، ولذلك أمثلة كثيرة ليس هذا هو محل بحثها.
لَمَّا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (كِتَابُ الْبَيع) البيع من: باع، يبيع، بيعًا، وسُميَ البيع بيعًا؛ لأنه مأخوذ من مَدِّ الباع؛ لأنه يأخذ شيئًا ويعطي شيئًا، وهو بمعنى: الملك، وبمعنى: الأخذ، وكذلك الشراء، يأتي بمعنى: الملك، ويأتي بمعنى: الأخذ، فكلاهما بمعنى متقارب، وهذا هو معناه في أصل اللغة.
أمَّا في الاصطلاح فلأهل العلم اصطلاحات كثيرة، منها وأشهرها ما جاء في مذهب الحنابلة: "مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة، بمثل أحدهما على سبيل التأبيد من غير ربا وقرض، فهو مبادلة أو معاوضة، فأنت تعطي شيئًا وتأخذ ما يُقابله، كأن تعطي دنانيرًا، وتأخذ أثاث الدار، تعطي دراهمَ وتأخذ ثوبًا يُلبس، تعطي دراهم، وتأخذه ساعة، تعطي ساعة وتأخذه جوالًا، تعطي أرضًا مثلا، وتأخذ منفعة مُقابلها. كل ذلك داخل في البيع.
ولذلك يقولون: إنَّ البيع إما عين بعين، كدينار بساعة، أو جوال بكتاب، أو عين بدين، هذا الكتاب بعشرة ريالات، والعشرة ريالات ليست معينة، فيعبر عنها عند الفقهاء بأنها دين، وليس معنى الدين أن يكون مؤجلًا، بل يعني أن يكون غير معين، فيطلق الدين عند الفقهاء على غير المعين، كما يطلق على المؤجل. فهذا عين بدين.
وهناك عين بمنفعة، هذا البيت بمنفعة مرور الماء من لمزرعته مثلًا، فهذا عين بمنفعة.
وهناك دين بدين، كأن تقول: أشتري منك جوالا بعشرة ريالات، والجوال ما لم يقل هذا الجوال ويحدده، فأن تعطيه الأبيض أو الأصفر، والمراد: إذا لم تعرف أوصافه وتحدُّ بما لا ينفي جهالته فليس هو المعين، فيعتبر في دائرة الدين بدين.
ودين بعين مثل ما قلنا، يقول مثلًا: عشرة ريالات آخذ منك بها هذه العباءة، فهذا دين بعين. إذًا عندنا: دين بدين، ودين بعين، ودين بمنفعة مباحة.
تقول: أشتري منك مثلًا مروري من مزرعتك إلى المسجد مدة حياتي أو أبد الدهر، أنا وأهلي وكل من سكن هذا البيت بكذا، فهذا دين بعين، ما دام إنك لم تحدد الثمن، تقول بهذا الثمن، قلت: بعشرة آلاف، أو تعطيه عشرة آلاف التي في جيبك، أو تسوي له حوالة من البنك، هذه عندهم دين بمنفعة.
مثل ذلك المنفعة المباحة، منفعة بمنفعةـ منفعة مرور الماء بمنفعة مرور الإنسان من خلال مزرعة أخرى، أو منفعة بعين، أو منفعة بدين، وذلك على ما تقدم في الأمثلة السابقة، إما أن تكون من البائع أو تكون من المشتري، تقلبها فتكون سواء، هذه أمثلة للمبادلة.
على سبيل التأبيد: لماذا نقول على سبيل التأبيد؟ لأنه إذا لم يكن مؤبدًا فهو إجارة، وإذا كان إجارة فلها أحكام تخصها، سيأتي بيانها بإذن الله -جل وعلا-.
قال: (غير ربا وقرض) أمَّا الربا فمن حيث الأصل هو مبادلة ومعاوضة، فهو داخل في اسم البيع لغة وحقيقة، ولكنه منهي عنه شرعًا، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275]، فمن أهل العلم من قال: إنه خرج بهذه الآية من اسم البيع، ومنهم من يقول: إنه بيع ولكنه محرم.
ولكن القول بأنه ليس بيعًا أولى، لماذا؟ ما دام أنَّ الشرع نفاه، فنخرجه من حقيقة هذا البيع كله.
أمَّا القرض ففيه مُبادلة، تعطيه عشرة آلاف وسيردها لك عشرة آلاف، ولكن عشرة آلاف أخرى.
طيب هذه المبادلة لماذا لم تكن بيعًا؟ لأنهم يقولون: الأصل والمراد من البيع التكسب والتربح، ولكن القروض مبناها على الإحسان، والإنفاق، وإعانة المحتاج، ولذا لم تدخل في اسم البيع، وإن كانت صورتها صورة بيع باعتبار اشتمالها على المبادلة هنا.
البيع طبعًا دل على جوازه الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن النبي قال: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ» ، وباع النبي فعلًا واشترى، والإجماع منعقد على ذلك، وهو إجماع المسلمين، وأيضًا الحاجة دالة عليه، فإنه ليس أحد إلا ويحتاج إلى ما في يد غيره، وليس أحد عنده كل شيء، فمن عنده مال يحتاج إلى شراء ما يحتاجه من طعام، ومن عنده مزرعة وأطعمة يحتاج ما عند غيره من أدوية، ومن عنده أدوية يحتاج إلى ما عند غيره من مركب أو جوال أو غير ذلك وهكذا.
ولم تزل حاجة الناس على مر الدنيا باقية ما بقيت هذه الحياة، يتبادل الناس فيما بينهم ويتبايعون.
{أحسن الله إليكم.
قال: (يَنْعَقِدُ بِمُعَاطَاةٍ وَبِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ)}
طبعًا قول المؤلف: (كِتَابُ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ) يعني: أنَّ سائر المعاملات تبع له، سيأتي فيها الإجارة، وسيأتي فيها السلم، وسيأتي فيها ما تفرع عن ذلك من بيع الأصول والثمار، وستأتي أشياء كثيرة ذكرها الفقهاء تبعًا.
وبعض أهل العلم جعل الفقه قسمان، العبادات ويقابله البيع وسائر المعاملات، بما في ذلك الأنكحة وأحكام الأسرة، وبما في ذلك عقود التبرعات، وبما في ذلك الجنايات، وبما في ذلك الأقضية.
ومن أهل العلم من جعلها خمسة أقسام، فيجعل كل واحد من هذه الأمور قمسًا.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَنْعَقِدُ) يعني: البيع، فالبيع عقد، وهو أن يتعاقدا أو يتفقا، وهذا الاتفاق لا يتأتى إلا بما يدل عليه، وهي: الصيغة القولية أو الصيغة الفعلية.
بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بالصيغة الفعلية، وهي: المعاطاة، وهي كثيرًا ما تحصل فيما تقدم سابقًا وفيما يأتي، وإن كان الغالب في المعاطاة أنها تكون في الأشياء اليسيرة، أو الأشياء الحقيرة، يعني: ليست الكثيرة، كأن يأتي الإنسان إلى محل الخبز، فيأخذ الخبز وهو عارف كم يُقابله من الدينار أو الدرهم أو الريال أو الدولار أو غيرها، ويعطي صاحب المتجر ما يقابله، فيذهب هذا ويذهب هذا، لم يتكلم ولم ينطق، وكلاهما راض.
البيع الأصل فيه أنه عن تراضٍ، كما سيأتي في شروطه، الذي يدل على الاعتراض شيء نفسي، شيء داخلي، احتيج إلى التعبير عنه، والقول كما سيأتي هو أقوى ما يكون، وأتم ما يكون، ولكن لَمَّا كانت حاجة الناس متكررة خاصة في بعض الأشياء التي لا ينفكون عنها في يومهم وليلتهم، آل الأمر بهم إلى التعاطي فلأجل ذلك يقولون: أنه إذا أعطى فأخذ بدون أن يتكلم دل على الرضا.
وهذا يتمثل عندنا في الواقع في صورتين ظاهرتين.
الأولى: المحال الكبيرة مثلا والتي تكتب أثمان الأشياء عليها، فتجمعها حتى إذا جئت إلى مكان الدفع، عرضتها عليه فلا يقول شيء، تجد في الشاشة مكتوب عليك خمسمائة وثلاثين، أو مائة وعشرة، فتعطيه القيمة وتأخذ متاعك وتذهب، لم يحصل في ذلك أي قول، فهذا نوع من المعاطاة.
قد تكون معاطاة من أحدهما، يقول بكم؟ يقول بعشرة، فيعطيه عشرة دون أن يقول اشتريت أو قبلت أو نحو ذلك، فيأخذ منه العشرة، فإذًا تكون المعاطاة.
يقولون: إن المعاطاة لابد أن تكون فيها تعاقد، لأنَّ في الصيغة فيها ضعيفة جدًا، فاشترط بعض الحنابلة أنه لابد فيها من التعاقد. هذه إذًا الصيغة الفعلية.
والأخرى هي صيغة قوليه، وهي إيجاب وقبول، والإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع، والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري، فإذا قال: بعتك، قال: اشتريت، فنقول: قول البائع: بعت هذا إيجاب، وقوله: اشتريت، هذا قبول، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، أنَّ القبول هو اللفظ الصادر من المشتري، هذا في الصيغة القولية وهي تكون في المبايعات الكبيرة، وتكون فيما لا ثمن له معتاد، في تعاقدات غير معتادة، أو غير مستهلكة، أو في سلع كبيرة كما ذكرنا.
الصيغة القولية يتأتى بها العقد -بلا شك-، وهي منبئة عن الرضا كما ذكرنا، يقولون: بشرط الانطباق، ما معنى بشرط الانطباق؟ يعني أن يتوافق الإيجاب مع القبول، فإذا قال: بعتك بعشرة، قال: قبلت بثمانية، هذا لم ينطبق، نعم هو قد حصل فيه إيجاب وقبول، ولكنه إيجاب وقبول غير منطبق، ولذا يقولون: لابد أن يكون مُنطبقًا في النقد والقدر والحلول.
فلو قال: بعتك بعشرة، قال: قبلت على أن أسلمك إياها بعد شهر، أو مؤجلة إلى شهر، فهنا يقولون: لا يناقض.
وأن لا يتشاغل بما يقطعه، فإذا قال: بعتك، فلا يخلو إمَّا أن يتشاغل بشيء لا يقطعه، أو يتشاغل بما يقطعه، فإن تشاغل بما لا يقطع مثل أن يقول: قبل أن أقول اشتريتها أسألك، هل السيارة فيها عيب، وماذا عن طرازها أو موديلها؟ وذلك إلى أن يتحقق منها، فإذا تحقق قال: اشتريت، وهذا لو طال، ما دام أنَّ الحديث شيء لم يشغل عنها، فهو وإن طال يعتبر القبول منعقد مع الإيجاب، وتام به ولم ينقطع، حتى ولو طال الفصل بينهما.
أما إذا تشاغل بما يقطعه، كأن يكون التشاغل على سبيل المثال بسبب حديث آخر، قال: بعتك، ثم تحدثا في شيء من أمور السياسة، أو أمر من الأمور الاجتماعية، أو أي شيء آخر، حصل كذا مثل فيضان، أو حصل كذا وكذا من الأحداث والأمور، واسترسل في ذلك، ثم رجع، فهذا قاطع له، ومرد ذلك إلى العرف، لا يتشاغل بما يقطعه.
يقولون: وأن يتصل القبول بالإيجاب، فأن يكونا في المجلس، لابد أن يكونا في المجلس، فلو قال: بعتك، ثم طلع هذا وبعد دقيقتين قال: اشتريت، لا.
بالنسبة للمعاطاة كان فيه صورة نسيناها، وهي كثيرة أيضًا في الواقع، والآن تكثر معنا، وهي: الشراء من الآلات، يأتي أحدهم ويضع عشرة ريالات، يأخذ مثلًا ماءً، أو يأخذ مشروبًا، أو يأخذ قطعةَ حلوى، أو غير ذلك، وهذه المعاملة الآن في أوج زيادتها، والاعتماد على الآلة تقليلًا للكلفة.
الآن من الصور الكثيرة: البيع بالهاتف، والهاتف هو مثل الحضور، لكن مشكلته أنه بما يحصل التفرق، لأنه لا يجمعهما مكان واحد، فنقول: إذا خرج هذا تم البيع وانتهى، كما يقال في خيار المجلس، فيقولون: إنَّ انتهاء الاتصال هو بمثابة التفرق من المجلس، ويقوم مقامه.
هنا مسألة أهم، وهي: الكتابة، وهي كثيرة الآن، هل يحصل بها البيع إذا تكاتب، طبعًا الاتصال مع الكتابة قد يطول، والكتابة الآنية التي عندنا الآن عبر هذه التطبيقات، لا شك أنها مثل الهاتف وزيادة ولا إشكال فيها، لكن بما تطول معه المدة، فربما في مشهور المذهب عند الحنابلة أنهم اعتبروا أن الإيجاب يصدر في وقت، والقبول يصدر في وقت، فلا يكونا متصلين، فمنعوا منها.
لكن ذكر بعض الحنابلة أنَّ ذلك جائز، وهو ما نص عليه فقهاء الشافعية، ولَمَّا كانت حاجة الناس إلى ذلك متحتمة، لأنه كما يسمونه التسوق الإلكتروني، وكثير من تجدد الصور، فهذه تحوجنا إلى نحو من ذلك، وإن كانت أكثر الصور الآن أنه يدفع في الحال، ثم تأتي السلعة في وقت الدفع، وهو وقت انعقاد البيع، ويكون على موصوف، ولكن مع ذلك نقول: نحن بحاجة إلى القول، وأصله صحيح، وكلام الفقهاء فيه صريح، وإن كان ذلك خلاف مشهور مذهب الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
ولذلك ابن تيمية -رحمه الله- كما في "قواعده النورانية" قال كلامًا مهمًا للغاية في العقود -وقد دونها كثير من أهل القواعد الفقهية- فقال: إنَّ العبرة في العقود بالحقيقة والمعنى، لا باللفظ والمبنى، ولذلك قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إنَّ البيوع والمعاملات تصح بكل ما يدل عليها، وهذا في الحقيقة بمثابة القاعدة العامة النافعة في المراد؛ لأنَّ الله -عز وجل- لم يتعبدنا بقول: اشتريت أو بعت أو نحوه، ولكن لابد من تحصيل الرضا، وتحصيل الرضا لا يتأتى إلا بلفظ أو بفعل.
وقد ذكر الفقهاء الصيغة، ولكن ابن تيمية جاء وجمع الصيغ جميعها وقال: كل ما دلَّ على هذا الرضا مما يتجدد من أحوال الناس، ويوجد معهم مع تطور في الحضارات وغيرها، هو داخل في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- (بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ:
الرِّضَا مِنْهُمَا، وَكَوْنُ عَاقِدٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ)
}.
إذًا أول هذه الشروط السبعة: الرضا، وهذا لا يختلف فيه أحد من أهل العلم، والنبي قال: «إنَّما البيْعُ عن تَراضٍ» ، قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة:282]، يديرها الإنسان، الإدارة بفعله، واختياره، وإرادته، وهكذا، لابد إذًا أن يكون التراضي حاصل منهما، وهذا أصله ودليله، ولا يختلف فيه أهل العلم.
استثنى من ذلك أهل العلم ما إذا كان الإكراه بحق، كإكراه الحاكم للمدين لقضاء دينه، أو لِمَا تجب قسمته، أو غير ذلك من الأمثلة التي تشبه ذلك.
إذًا قالوا: إلا إكراه بحق، فإذا قالوا: الإكراه بحق ما احتجنا بعد ذلك أمثلة، وما دام أنه إكراه بحق، فيجوز وينتفي شرط الرضا.
{أحسن الله إليك.
(وَكَوْنُ عَاقِدٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ)}.
العاقد من هو؟ البائع والمشتري، كلاهما لابد وأن يكون كل واحد منهما جائز التصرف، وجائز التصرف معناه: أن يكون حُرًا مُكلفًا رَشيدًا.
الحر لماذا؟ لأنَّ العبد لا يملك، ولا يتصرف في ماله؛ لأن المال مال سيده، فالعبد ومَا مَلَكَ مِلْكٌ لسيده، ولكن لو أذن له في البيع والشراء، فيجوز على سبيل الوكالة لا على سبيل الأصالة.
إذًا أن يكون: "حرًا مكلفًا"، أي أن يكون بالغًا، والصغير لا يجوز له أن يلي البيع والشراء، فإن كان غير مميز فهذا ظاهر، وإن كان مميزًا فكذلك، لكن يمكن أن يُؤذن للصغير المميز بالبيع والشراء، فتصح معاملته؛ لأنَّ الله –عز وجل- قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء:6] والابتلاء هو الاختبار، بأن يُعطى وينظر في بيعه وشرائه.
وإن كان بعض أهل العلم يقول: إن الابتلاء هنا، إنما هو يلي مقدمات البيع والشراء، لا أن يلي حقيقته، أي: يَنظر كيف يُتَصرف، ولكن إمضاء العقد يكون ممن كان جائز التصرف.
لكن على كل حال، جاء ما يَثْبُتُ به هذا عن الصحابة وغيرهم، من أنهم وَكَلُوا البيع والشراء إلى المميز، وربما كان بعض المميزين إذا تدرب وأُذِنَ له، وراقبه وليه حتى وَثَقَ منه، فإنه يكون تصرفه كتصرف البالغين أو أحسن منهم، إذا كان له على التجارة دربة وتدريب.
والحالة الثانية: تكون في الأشياء التافهة، أو الأشياء اليسيرة، أو الأشياء الحقيرة، واستدل الحنابلة في هذا بأن أبا الدرداء اشترى من ذلك الصغير عصفوره بدرهم وأطلقه، فأجيز في الأشياء اليسيرة ما يكون من تصرف الصغير.
فإذًا أن يكون بالغًا، وأن يكون عاقلا، وبالتالي لا يصح تصرف المجنون، لأنَّ المجنون لا يعرف يُقَيِّم الأشياء، ولا يحسن ذلك.
فمنعًا لئلا يُضِرَّ بنفسه، ولئلا يغبنه ضعفاء النفوس، فإنه لا يبيع ولا يشتري، فهو لا يعرف قيمة الأموال، ولا الدراهم، ولا الدنانير، ولا الأشياء، ولا الحاجات، فما يساوي ألف قد يقبل المعاوضة فيه بعشرة دراهم، وقد يكون عنده مئة ألف فيأخذ بها قطعة حلوى؛ لأنه لا يعرف قيمتها.
أن يكون: "عاقلًا، بالغًا، رشيدًا"، وهذا يُخرج السفيه، وبعض الناس وإن كان بالغًا إلا أنه يعد سفيهًا كالصغير؛ لأنه لا يعرف قيمة الأشياء، وهو الذي يُفسد ماله، وقد ذكر ذلك الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتابه الحجر، وستأتي الإشارة إليه -إن شاء الله- لاحقًا.
إذًا لابد أن يكون جائز التصرف، سواء كان بائعًا أو مشتريًا، كلا العاقدين، لابد أن تتوافر فيهم هذه الشروط.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (وَكَوْنُ مَبِيعٍ مَالًا، وَهُوَ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ)}.
المال اسم لِمَا يُتمول، فليس المال كما يفهم بعض الناس أنَّ الأموال هي: الذهب، والفضة، أو الأوراق النقدية من: الدولارات، والريالات، واليورو، وغيرها. نقول: لا، بل المال هو ذلك كله، أي: كل ما يتمول، فالبيت مال، والمزرعة مال، والسيارة مال، وهذه الدراهم والدنانير داخلة في المال أصالة.
إذًا متى يكون الشيء مالًا ومتى لا يكون؟
يقول المؤلف -رحمه الله- في مشهور مذهب الحنابلة: (وَكَوْنُ مَبِيعٍ مَالًا) وهذا ضابطه، أي ما فيه منفعة مُباحة، فكل ما فيه منفعة مباحة فهو داخل في المالية، فهذه الساعة لها منفعة مباحة، فإذًا هي مال، ويجوز المعاوضة عليها، والمبادلة فيها.
لكن تأتي بأشياء لا تقبل المعاوضة، لا منفعة فيها، فلا يمكن أن تدخل في البيع، ولا يجوز عقد البيع عليها، فلو جاء مثلًا "منديل" لا فائدة فيه، منديل متسخ مثلا، ولا يمكن الإفادة منه، سواء في إعادة تصنيع أو غيره، يعني لا فائدة فيه، فلا يُؤخذ به ثمن ويعطى ويقابل على ذلك.
مثل ذلك مثلًا ما فيه منفعة محرمة، كالخمر أو نحوه، ولذا قال المؤلف: (مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ) وسيأتي معنا طبعًا في الأشياء التي لا منفعة فيها، مثل: الحشرات وغيرها، يقولون مثلًا: الحشرات لا منفعة فيها، فلا يجوز بيعها، يقولون إلا علقًا، والعلق: نوع من الحشرات صغير، إذا علق بجلد الإنسان سحب من دمه حتى يكون كالأصبع أو أكبر، ولا يوجد في كل البلدان، فهذا يقولون: يجوز بيعه. لماذا؟ لأنهم يستفيدون منه في التطبيب أحيانًا؛ لإخراج الدم الفاسد، فيجعلونه على مكان فيه علة، فسبحان الله يستخرج ما فيه من الدم الفاسد ويبرأ الإنسان.
قالوا: "والديدان" التي يستعملونها لصيد السمك، تجعل كطعم للسمك حتى يأتي إلى الشبكة أو الصنارة أو المكان الذي يستطيعون به صيده.
إذًا ما فيه منفعة يجوز، وما لا منفعة فيه، كالحشرات لا منفعة فيها، أو الصراصير، أو النمل، أو غيرها، لا منفعة فيها فلا يجوز بيعها.
وما تعلقت به منفعة صحيحة مباحة جاز، أو دخلت في اسم المال، وهذا قد يحصل فيه شيء من التبدل، يعني: بعض الصور قد تكون فيما مضى لا منفعة فيها، ثم تجد لها بعض الحاجيات لتطور العلم ونحوه، فإذا علمنا أنَّ فيها منفعة مباحة؛ جاز البيع والشراء فيها.
لماذا نقول ما فيه منفعة مباحة؟
لأنَّ هذا المال لا يجوز للإنسان أن يبذله فيما لا منفعة فيه، فإن هذا يكون من التضييع والإسراف الذي يُلحق بالإنسان الإثم، ويوجب عليه الحجر، فالذي يُضيع أمواله يُوجب عليه الحجر.
فإذًا قالوا: "ما فيه منفعة مباحة من غير حاجة"، يقولون: هو ما فيه منفعة مباحة مُطلقًا من غير حاجة، ومُطلقًا يقصدون بها الأشياء التي قد يُستفاد منها في بعض الأحوال مثل: الكلب، فيقولون: الكلب يسمى من الاختصاصات، والاختصاصات هي ما يقابل المال، أي يمكن أن يختص بها الإنسان ويستفيد منه في حراسة ماشية، أو في حراسة مزرعة، أو في حراسة البيوت لمن قال بجواز استخدامها في البيوتات للحراسة، خاصة لَمَّا كبرت البيوت، فيمكن أن يدخل ذلك، وإن كان هذا ليس تقريرها، ولكن هو مما يذكره أهل العلم، أو بعض الفقهاء -رحمهم الله- كالشافعية وغيرهم.
إذًا يقولون من حيث الأصل: الكلب لا يجوز بيعه، وَنُهِيَ عن ثمن الكلب، وهو محرم ونجس، ولكن إذا احتيج إلى الفائدة، فهذه المنفعة ليست على سبيل الإطلاق، وإنما هي على سبيل الحاجة، فلأجل ذلك يقولون: إنه من قبيل الاختصاصات، وبالتالي لا يجوز بيعه ولا شراؤه، وإنما يختص به الإنسان، وله أن ينتفع به ما دام عنده، ثم إذا انتهت حاجته إمّا أن يَهبه لإنسان، أو يُطلقه، ولا يجوز المعاوضة عليه.
ومثل ذلك يقولون: "من غير حاجة"، إذا كان فقط يستعمل في بعض الأحوال دون بعض، وهذا ممثل عند الحنابلة بجلد الميتة المدبوغ، فإنهم يقولون بجوز استعماله في اليابسات دون المائعات؛ لأنَّ نجاسته لا تنفك عنه، وبناء على ذلك: لو جُعِلَ فيه مائع؛ فإنه يُفضي إلى نجاسته، فلم يجيزوا بيعه، فهنا جعلوه غير داخل في اسم الأموال في الأرجح من المذهب، وإن كان بعض أهل العلم يجيز بيعه، يعني: لاستعماله في اليابسات.
وهذا الحقيقة قد يحتاج إليه، خاصة أنَّ أشياء كثيرة الآن من المدبوغات النجسة تستعمل كمحافظ أو في الأحذية، أو في بعض الحقائب أو سوى ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (وَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ)}.
طبعًا كما ترون الآن، ما صرنا كما كنا في العبادات نمشي بسرعة؛ لأنَّ هذه أحيانًا تحتاج إلى شيء من الفهم والتروي قليلًا، وخاصة شروط البيع، لأنَّ شروط البيع أصل لانطلاقات كثيرة، فمهما تغسلنا في ذلك فهو مُفيد، والآن أيضًا انتقلنا من اصطلاحات ومعاني أركان وغيرها مرت في العبادات، إلى أصول أخرى يحتاج المتعلم وطالب العلم والمتفقه إلى دُربة فيها، وذلك حتى تسهل عليه، فيكون السير أخف أو أسرع -بإذن الله جل وعلا-.
قوله: (وَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ)، هذا شرط عند أهل العلم، «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» ، فلا يجوز للإنسان أن يبيع شيئًا لا يملكه؛ لأنَّ هذا يُفضي إلى المنازعة والخصومة، فإنَّ الإنسان قد يبيع ويأخذ المال ثم لا يستطيع أن يُوَفِّي له.
وبناء على ذلك قالوا: لابد أن يكون المبيع مملوكًا للإنسان، (أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ)، بأن يكون وكيلًا، وبناء على هذا لا يجوز تصرف الفضولي في الأشهر من قولي الحنابلة وهو قول جمع من أهل العلم.
الفضولي ما معناه؟ هي مسألة مشهورة، وهو لو أنَّ شخصًا جاء وباع سيارتك، وأنت ما تدري، ثم لَمَّا دخلت عليه قال: بعت سيارتك. فقلت: بكم بعتها؟ قال: بخمسين ألف، قلت: توكلنا على الله، فهل نقول: إنَّ هذا العقد صحيح، وأن تصرف الفضولي نافذ بإجازة صاحبه أو لا؟
من الفقهاء من يجيز ذلك، ويعتمدون على حديث البارقي ، عروة بن الجعد، ومنهم من يمنعه، فالحنابلة على سبيل التحوط، والأصل أنَّ هذا بيع ما لا يملك الإنسان، ويتعذر عليه التصرف فيه، ولا يجوز له بيعه في مثل هذه الحال.
طبعًا هذه المسألة: (وَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ) واضحة، وأمَّا تصرف الفضولي فلا يصح.
و "بيع ما ليس عندك" فيه استثناء، وهذا الاستثناء من الأهمية بمكان، وهو: إلا أن يكون المبيع موصوفًا في الدَّين، إلا أن يكون المبيع ليس معينًا، بمعنى أنك لو قلت له: أبيعك الدار التي بجانبي، ولو أنك تعرف أن صاحبها يقوم ببيعها، فهذه مُعينة وهي ليست لك، ولا يمكنك التصرف فيها، وهي معينة.
لكن لو كان موصوفًا في الذمة فيجوز، مثال: أنت دخلت السوق، وأنت تعرف السوق وتعرف ما فيه من البضائع، وإذا بشخص يبحث عن سلعة صفتها كذا وكذا، بأوصاف معلومة مما تنضبط ويصح معها السلم ونحو ذلك.
فقال: أبيعك إياها بخمسين ألف، فأعطاه المبلغ، نقول: جاز ذلك، حتى ولو رجع هو وذهب واشتراها؛ لأنه موصوف في الذمة، لا يتأذى الإتيان به، إذا تعذر من هذا أخذ من الثاني، أو أخذ من الثالث، أمَّا المعين فقد يتعذر بسرعة فينشب الخلاف.
وهذا مهم للغاية، لماذا نقولها؟ لأنه أول شيء هو فتح باب تيسير على الناس الذي يبتدئون العمل والتجارة، فإنَّ الإنسان يدخل السوق ويتعلم، قد لا يكون عنده رأس مال، ولكن قد يكون عنده من الخبرة والفهم وحسن التصرف ما ينتفع هو وينفع غيره، فيستطيع أن يأتي السلع بأقل من أسعارها، والناس يعرفون، هذه واحدة.
الثاني: إن كثير من بيوعات أهل التقسيط ونحوهم، تُبنى على ذلك، وهذا لا تنفك كثير من الجهات من الحاجة إليه، فلمَّا كان منصوصًا عند أهل العلم، وله أصل صحيح، واعتبار واضح، وانضباط في ذلك، فلم يكن شيء يمنع منه.
قلنا هذا لأني أعرف أنه فيما جرى خاصة في القريب من بعض مشايخنا أنه ربما شدد في ذلك تشديدًا كثيرًا، وأصله «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» منبتًا عن استثناء الفقهاء -كما نص على ذلك الحنابلة وغيرهم- الموصوف في الذمة.
فليعلم ذلك وليتنبه له.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (وَكَوْنُهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ)}.
قوله: (وَكَوْنُهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ) يعني: أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يستطيع تسليمه، لماذا؟ لأنَّ هذا -كما قلنا- أنَّ الشارع يتطلع إلى حصول المقصود للمتبايعين، وعدم وقوع الشحناء أو المنازعة بينهما، فإنَّ هذا إذا باع شيئًا لم يقدر على تسليمه سيفضي ذلك به إلى المنازعة، فلأجل هذا قالوا: مثل أن يبيع طيرًا في هواء، أو جملًا شاردًا، أو عبدًا آبقًا، لكن لو كان السمك في مكان محدود ولو متسعًا، لكنه لا ينفك منه أنه يوصل إليه، أو الغنم في حظائرها، أو صيدًا عنده في مزرعته.
لكن يبيع غزال فوق جبل، متى يصيدها؟ فإذا لم يأت بها فكم سيلحقه من التبعات مع من دفع إليه مالًا ونحوه؟
إذًا لابد أن يكون مقدورًا على تسليمه، والفقهاء ينصون ويقولون: إلا بيع المغصوب لغاصبه، فلو أنَّ شخصًا غصب منك هذا الجوال، وما استطعت أن تأخذه من الغاصب، والمكان لا أمان فيه ولا قدرة على تخليفه، فقلت لأخر: اشتري مني هذا الجوال بخمسمائة ريال، هو طبعًا يساوي ألفين، فبعته، فهذا فيه غرر علي، قد يستطيع أخذ الجوال، فيلحقك الفوات، وقد يتعذر عليه فيلحقه الفوات، فلأجل ذلك قالوا: لا يجوز، "إلا لغاصبه"، الغاصب هو بيده، قال تبيعني إياه؟ قال: أبيعك إياه ورضي بذلك، فلا غضاضة في ذلك ولا حرج عليه.
إذًا قالوا في مثل هذه الحال: يجوز بيع غير المقدور على تسليمه.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك