{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في (المستوى الرابع) من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للعلامة محمد بن بلبان الدمشقي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ. حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، وحياكم الله.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم تفضل بالله.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَوَطْءُ الْفَرَجِ يُفْسِدُهُ، وَكَذَا إِنْزَالٌ بِمُبَاشِرَةٍ، وَيَلْزَمُ لِإِفْسَادِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَسُنَّ اشْتِغَالُهُ بِالْقُرَبِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيه) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم ممن أقام منار العلم، وانتفع به، وعمل بما علم، ووفقه الله -جل وعلا- للإخلاص، وأعانه على الثبات، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولأزواجنا، وذرياتنا، ولجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولاً فيما ابتدأناه في المجلس الماضي، في مسائل الاعتكاف، وقد انتهى الحديث إلى ما يتعلق بخروج المعتكف من معتكفه. ما الذي يؤثر فيه، وما الذي لا يؤثر؟
وقلنا: إنَّ الخروج على أنواع ثلاثة، أشار إليها المؤلف -رحمه الله تعالى- ومن ذلك ما هو ظاهر من عبارته، ومنه ما هو مستكن مقصود معروف.
فقال: (وَلَا يَخْرُجُ مَنِ اعْتَكَفَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا) هنا الكلام في التأثيم ولزوم القضاء، وأما المستحب من الاعتكاف فكذلك من أراد أن يتم استحبابه، فلا شك أنه لا يعرض لهذه الأمور، ولا يُقصد أنَّ هذه الأحكام لا تتعلق بالمعتكف اعتكاف استحباب، ولكن -مثل ما تقدم معنا في المجلس الماضي- أن المعتكف استحبابًا لو خرج من اعتكافه، فيمكنه أن يدخل إليه مرة ثانية، ويستأنف اعتكافًا جديدًا، وليس عليه في ذلك شيء.
وأمَّا المنذور ومن في حكمه، فيلحقه أنه أخل بواجبه، ولم تبرأ ذمته بما نذر؛ فيلزمه الإعادة إن كان مما ينكر ذلك، على ما سيأتي في أحكام النذر -بإذن الله جل وعلا-.
إذًا هو تكلم عن الخروج للمعتكف الذي يقطع الاعتكاف والذي لا يقطعه في كل أنواع الاعتكاف، سواء كان الاعتكاف واجبًا أو مستحبًا، ولكن الفرق بينهما كما قلنا: إنَّ هذا يلحقه التبعة، فيحتاج إلى قضاء، بينما هذا لا يلحقه تبعة، وأكثر ما في ذلك أنه يمكن أن يستأنف اعتكافًا جديدًا.
الخروج لِمَا لا بد له منه هذا يحصل للإنسان دونما شرط، وهو أن يخرج لطعام يُحتاج إليه، أو إلى قضاء حاجة ونحوها.
الثاني: خروج لا يتأتى للمعتكف فعله، وهو ما ينقض حقيقة الاعتكاف، وهو خروج للدنيا ببيع أو شراء أو لهو أو سواه.
والثالث: الذي يتأتى للمعتكف إذا اشترط، كما جاء عن علي -رضي الله تعالى عنه- كشهود جنازة، أو عيادة مريض، أو مراعاة زوج، أو والد، أو ولد، أو نحو ذلك ممن يحتاج إلى رعاية، أو يحتاج إلى دواء، أو يحتاج إلى شيءٍ من هذه الأمور، فيخرج لأجل ذلك إذا كان قد اشترط، وإلا فلا يخرج، وإذا خرج بدون ما شرط فإنَّ اعتكافه أيضًا ينتقض على ما مر.
عندنا بعض المسائل التي يكثر تردادها وتمس الحاجة إليها، وهي الآن مع تطور العلم وما أتى من وسائل التواصل، أحيانًا يتأتى للإنسان طلب طعام أو شراب وهو في مسجده عبر هذه التطبيقات ونحوها. هل يفعل ذلك أو لا يفعل؟ لقائل أن يسأل: ما المحظور في ذلك؟
نقول: المحظور هو هل يعد هذا من باب البيع والشراء وهو داخل المسجد أم لا؟
هذا الأمر متردد بين أن يكون محل العقد ما هو؟ هل هو عند الطلب فيكون منهيًا عنه! وبناء على ذلك فالمسجد ليس محلاً للبيع والشراء، فإذا أراد أن يفعل، فإنه يخرج ليجري طلبه ثم يدخل، وهذا هو الأظهر، فإنَّ العقد يتم بينهما.
أنا عندي في هذه المسألة تردد وكنت قد سألت شيخنا الشيخ عبد الله بن عقيل -رحمه الله تعالى- وكان نحوًا من هذا التردد أو الاستشكال. لماذا؟
لأنه في هذه الحالة سيكون كلا الأمرين مؤجل -دفع الثمن وقبض المبيع- ولكنه طلب بالشراء، فإذا قلنا: إنَّ وقته هو تسليم السلعة، فبناء على ذلك لا بد أن يخرج، فيسلمه المبلغ خارج المسجد؛ لئلا يكون قد فعل البيع والشراء داخل المسجد.
ولعل هذه من محال البحث التي يمكن مراجعتها وزيادة النظر فيها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَوَطْءُ الْفَرَجِ يُفْسِدُهُ) انتقل المؤلف من الكلام عن خروج المعتكف إلى ما يفسد الاعتكاف لا محالة، وهو الوطء، قال تعالى: ﴿وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187]، وهذه آية صريحة دالة على ذلك، ومن جهة المعنى أيضًا ظاهر، فإنَّ الاعتكاف ليس محلاً لإتيان الشهوات، ولا تحصيل الرغبات.
قال: (وَكَذَا إِنْزَالٌ بِمُبَاشِرَةٍ) فإنَّ الإنزال بمباشرة يكون فيه من الشهوة، وقضاء الوطر، وأُنس النفس، بنحو ما يحصل من الجماع والوطء.
ما الذي يخرج من ذلك؟ لو كان إنزاله باحتلام، فإنَّ الاحتلام لا يفسد الاعتكاف، أو كان أيضًا بفكرة وفدت عليه، فطاشت شهوته وأنزل، وهذا قليل لكنه يمكن أن يأتي لمن به شغف، أو من كان في شبابه أو عنفوان أيامه.
قال: (وَيَلْزَمُ لِإِفْسَادِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وذلك تبعا لإفساد ذلك الاعتكاف.
وأحب التنبيه على مسألة، وهي أن بعض الذين يعتكفون خاصة لَمَّا يدخل فيها بعض الصغار وحديثي الأسنان ونحوهم، أحيانا يستسهلون الخروج، وهذا مما لا ينبغي، فمثلا قد يحتاج إلى شرب شاي أو نحوه، فتراه يخرج من المسجد ليغسل ذلك الإناء أو نحوه، وهذا في الغالب لا يتأتى به الخروج، وقد يضع مكان يتلقى فيه الماء ويغسله بداخل المسجد، وليس فيه تقذير للمسجد، وليس فيه أيضًا خروج من المسجد في تلك الحال.
وأحيانًا بعض الناس يجتهد فيخرج لشراء منظف للمسجد، فنقول: أنت معتكف وليس هذا عملك، فالاعتكاف عبارة عن تخلٍّ للعبادة، أي أن يخلو الإنسان للعبادة، وعلى العبد أن يعرف ما جاء لأجله.
وكذلك من يخرج لإتيان شيء من السيارة مما يحتاج إليها في اعتكافه، وإلى غير ذلك، كحال من احتاج إلى شاحن متنقل، فنراه يخرج ويأتي به من سيارته، وهذا على الرغم من استطاعته أن يعطي المفتاح للآخر، أي غير المعتكف ليذهب هو، وهذا إذا لم يكن مشترطا فليس محلا للخروج في مثل هذه، وقد رأيت كثيرًا يستسهلون الخروج لأيسر سبب.
ولهذا نقول: من كان معتكفًا فليحفظ اعتكافه، وليكمله حتى يتأتى له الأجر بتمامه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَسُنَّ اشْتِغَالُهُ بِالْقُرَبِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيه) }.
أي أنَّ المعتكف ليس بلازم أن يكون طيلة وقته مشتغلا بالقربة، فلو جلس خاليًا، يعني: دونما قراءة أو صلاة أو شيء من ذلك، فلا نقول: انقطع عن الاعتكاف، ولو تحدث إلى من بجواره أو بالهاتف مثلا خارج المسجد، فهذا كمن صاح وهو في المسجد لمن بخارج المسجد، ولا يكون فيه إفساد للاعتكاف، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بشيء مما يلهيه، أو يذهب عليه اعتكافه، ولذلك قال المؤلف هنا: (وَسُنَّ اشْتِغَالُهُ بِالْقُرَبِ) ، أي: ينبغي للإنسان أن يكون في اعتكافه إمَّا في صلاة، أو قراءة قرآن، أو ذكر لله -جل وعلا-، أو تعليم للقرآن، أو تعليم الأحكام والفقه، وغيرها من أمور الشرع، أو يستريح بنوم أو نحوه، أو يطعم بما يقوى به على العبادة، ويستعين به على الطاعة، ولو انشغل بشيء يسير من ذلك، كما كان من النبي ﷺ من حديثه لزوجه، أو تقريبه لرأسه لتمشط شعره، ونحو ذلك، فهذا أيضًا لا ينفك منه معتكف، ولكن لا ينبغي له أن يغرق في اللهو، أو في الأحاديث، أو في الانشغال بما لا فائدة فيه، مثل بعض الألعاب في جواله، أو نحو ذلك.
فهذا كله -لا شك- ليس هو مقصود الاعتكاف، وإنما يتخلى الإنسان من بعض العبادات لتقوى نفسه، وليستعيد نشاطه، وليستعين بالله -جل وعلا-، فاشتغاله بالقرب مطلوب، وهذا هو الأصل في الاعتكاف.
(وَاجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيه) ، أي: ينبغي للإنسان أن يلتفت عما لا يعنيه، من أحاديث جانبية، كما يحدث من البعض حيث يتحدثون في كل ما يحدث كل يوم وليلة من أخبار الدولة الفلانية، أو حصل شيء، كحادثة اقتصادية، أو سواها مما يتحدث الناس عنه.
فينبغي للإنسان أن يجتنب ما لا يعنيه، وأما ما كان من أمر بالمعروف، أو ما كان من حث على الخير، أو ما كان من أمر بالتقوى، أو ما كان من أمر طاعة في نفسه، فينبغي أن يقبل عليه الإنسان، وأن يعلم أنَّ الاعتكاف من المحال التي يزود بها الإنسان نفسه ما يتقي به ربه، ومهما كان الإنسان فيه من الفضل والعلم والديانة والإحسان إلى الناس ودعوتهم، فلا ينبغي أن يكون الأصل في اعتكافه دروسه أو سواه، بل هو زاد لنفسه، ولذلك فالنبي ﷺ ليس أحدًا منه أكثر شغلا، ولا أعظم واجبًا من تبليغ دعوة الله -جل وعلا-، ومع ذلك لَمَّا اعتكف تفرغ فيما بينه وبين ربه.
يا موقدا نارا لغيرك ضوؤها ... وحرّ لظاها بين جنبيك يضرِم
تحسن إلى الناس، ونفسك ما أحسنت إليها، تأمر الناس بذكر الله، وأنت ما ذكرت الله -جل وعلا- بما ينبغي أن يذكر، فكلما تزود الإنسان، وتخلى لنفسه، وأقبل على الله -جل وعلا- بكليته، فإنَّ ذلك أحفظ لدينه، وأعين على ما يكون من إخلاصه، وأسهل ما يكون من عمله، ودعوته إلى دين الله، وتعليمه للناس، وغير ذلك مما يوفق الله له العبد من الأعمال والصالحات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (كِتَابُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) }.
بعد أن أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالاعتكاف، الذي هو ختام كتاب الصيام، شَرَعَ في الشعيرة الخامسة، والركن الركين من أركان الإسلام، على ما جاء في حديث ابن عمر أو أبي هريرة وعمر بن الخطاب وغيرهم، في أركان الإسلام الخمسة، ومنها: حج بيت الله الحرام، وجاء بمشروعيته من الكتاب والسنة، وقد توافقت النصوص، وتتابعت الأدلة على ذلك، فذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- كخامس هذه الأركان وتمامها وكمالها، والأصل في ذلك الكتاب في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:97]، كما أتت السنة بذلك في أحاديث كثيرة، ومن أشهرها حديث جبريل، لَمَّا سئل النبي ﷺ ما الإسلام؟ فقال: «شهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ وتقيمُ الصَّلاةَ وتُؤتي الزَّكاةَ وتصومُ رمضانَ وتحُجُّ البيتَ». قال: أرأيت إن فعلت ذلك، قال: «يدخلك الله الجنة»، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا، والإجماع منعقد على ذلك، وهو إجماع المسلمين، بمعنى أنه مما يعلم من دين الإسلام بالاضطرار، فلا يكاد يخفى على أحد من المسلمين، إلا من نشأ ببادية، أو من أسلم قريبًا، فيمكن أن يفوت عليه بعض ذلك.
وأمَّا عامة المسلمين فيعلمون ذلك، فمن أنكره جحدًا لوجوبه فهو مما يحصل به الكفر بالله -جل وعلا- لظهور العلم به، ولتوافر النصوص به، فكأن الجاحد لذلك غاض لنصوص الكتاب والسنة.
والحج هو من حيث المعنى من حج الشيء هو قصده، وقال بعض أهل العلم: وهو أخص وأظهر القصد إلى معظم، فلا تقل مثلا: حججت إلى السوق، ولكن إذا قلت: حججت إلى بيت الله الحرام، حججت لصلة جدي في مدينة كذا وكذا، فقصد إلى من يعظم، وإلى من له قدر، أو حججت إلى دمشق للعلم ودراسته، ونحو ذلك مما يكون فيه شيء يستحق أن يعبر عنه بهذا التعبير. ولذلك قالوا: هو القصد إلى معظم.
وأمَّا في الاصطلاح فهو حج بيت الله الحرام، في زمن مخصوص، لأداء أعمال مخصوصة، على وفق ما جاء عن النبي ﷺ من: الوقوف بعرفة، وخلاف ذلك من المناسك المعلومة المعروفة.
والحج واجب في العمر مرة واحدة، والدليل على ذلك، قوله ﷺ: «يا أيُّها الناسُ، كُتِب عليكم الحَجُّ، قال: فقام الأَقْرعُ بنُ حابِسٍ فقال: أفي كلِّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لو قلتُها لوجَبتْ، ولو وجَبتْ لم تعمَلوا بها، -أو: لم تستطيعوا أنْ تَعمَلوا بها- الحَجُّ مرةً، فمَن زاد فهو تطوُّعٌ» ، إذًا من حيث أصله، ومن حيث تعلقه بالمكلف، بأن وجوبه مرة واحدة في العمر.
وأمَّا العمرة فقد اختلف في وجوبها، والمشهور من المذهب عند الحنابلة -كما هو قول جمهور أهل العلم- اعتبار أنها واجبة، وأنها دخلت في أحكام الحج، فصار حكمها حكمه سواء بسواء، وأيضا لَمَّا سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله ﷺ، فقالت: هل على النِّساءِ مِن جِهادٍ؟ قال: «نعمْ، عليهنَّ جِهادٌ لا قِتالَ فيه؛ الحجُّ والعُمرةُ» ، وجاء في حديث أبي رزين: «فحُجَّ عن أبيكَ واعتمِرْ» .
واستدل أيضًا بعض أهل العلم بقول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]، فإنَّ لهذه الآية أحد معنيين، إما أدوهما تامتين، فهو أمر بالابتداء وبالإتمام، وعلى هذا المعنى، كما هو قول بعض أهل التفسير، ويُستفاد منه حكم لزوم العمرة ووجوبها.
وإذا قلنا: إنَّ الأمر بإتمامها لمن شرع فيها، فلا يكون في هذا استدلال بها، وعلى كل حال، فهو استدلال عند أهل العلم، وهو ظاهر في المعنى، وصحيح من جهة اللغة والاستنباط.
وينبغي لطالب العلم ولطالبة العلم، وهذا ذكرناه في الصلاة، كما نذكره في الزكاة، وفي الصيام، ونذكره الآن في الحج، أن الطالب ينبغي له في معرض الكلام على أحكام الحج والعمرة أن يعرف ما فيها من أحاديث فضل، كما في ما جاء في تركها من الترهيب والتخويف؛ لأنَّ ذلك ادعى لحث الناس عليهما، وأمرهم بها، ودعوتهم إلى فعلها، وعدم التواني عن ذلك، فإذا جاء العالم فذكر حكمها فإنَّ ذلك ربما لا يستنهض همم الناس إلى فعلها، ولكن إذا ذكر ما فيها من تكفير للسيئات «منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ» ، وكما جاء عنه ﷺ في الصحيح: «والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ» ، وقوله: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهما ينفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الْكيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ» . فإن ذلك يستحث الناس، وإذا جاء ما فيها من الوعيد، مثل: «تَعَجَّـلُوا إلَى الْـحَجِّ، فَـإنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» . كما جاء في الأثر عن عمر -رضي الله تعالى عنه- "مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا"، أو كما جاء عن علي: "ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"، فمثل ذلك إذا ما استدعاه طالب العلم في حثِّ الناس وأمرهم، كان ذلك ادعى للامتثال، وأعون إلى القبول، واستنهاض الهمم، والاستعجال إليهما.
وإنَّ من أعظم ما يقال في هذا أنَّ بعض شباب المسلمين وشاباتهم، يرى أنه لا يحج حتى يكبر، وأنه لا يفعلها حتى تشيب لحيته، بحجة أنه إذا حج ينبغي له ألا يفسد حجه بالمعاصي، فنقول له:
ما الذي يضمن لك أن تبقى إلى هذا العمر؟
ما الذي يضمن لك أن تكون على صحة حتى تبلغ بيت الله الحرام؟
من الذي قال لك: للإنسان أن يرتع في الشهوات، وأن يتأخر عن التوبة النصوح! بل يجب أن تستعجل الحج، ويجب عليك أن تتوب إلى الله -جل وعلا-، ويجب عليك أن تطلب من الله السلامة من الذنوب، وأن تعلم أنَّ ذلك أعون لك، وأن تحج ويحصل منك نقص أو خلل، أسهل من أن يفوت عليك الحج، وقد تكاثرت عليك الذنوب والآثام، فإنَّ الحج يَجُبُّ ما قبله، فإذا تخلصت مما قبل الحج؛ فيعينك الله -جل وعلا- على ما يأتي بعده من الاستغفار من الذنوب، ومجاهدة النفس على الصالحات، والإقبال على الله الطاعات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (يَجِبَانِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً عَلَى الْفَوْرِ) }.
إذًا كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَجِبَانِ) أي الحج واجب، والعمرة كذلك واجبة على ما تقدم من الأدلة، وعلى ما جرى عليه المؤلف، وهو مذهب جماهير أهل العلم، (يَجِبَانِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ) ، وهذا يخرج غير المسلم، فالحج غير واجب على غير المسلم، والمقصود بهذا وجوبَ أمرٍ وطلبٍ، وأمَّا لزوم حساب؛ فإنَّ الكافر يحاسب على ذلك، كما يحاسب عليه المسلم، ولكن لأنه لا يتأتى الحج إلا بنية، ولا نية إلا لمن أسلم وجهه لله، ولمن توجه الى الله -جل وعلا-، فبناء على ذلك لا يصح من غير المسلم.
ولهذا نقول: لو فعل الكافر الحج والعمرة لم ينفعه، ولكنه سيحاسب عليه في الآخرة، وهذا مرَّ بنا كثيرًا.
قال: (يَجِبَانِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ) وأمَّا غير الحر؛ فإنَّ الله -جل وعلا- لَمَّا كان هذا العبد محبوسًا عند سيده، فقد خفف الله عنه، ولم يوجب عليه الحج، ولا يختلف أهل العلم في ذلك، وهذا محل اتفاق وإجماع.
قال: (الْمُكَلَّفِ) والمكلف هو العاقل البالغ؛ لأنَّ العقل والبلوغ هما سبب التكليف والوجوب، ولذا لا بد أن يكون عاقلاً، وغير العاقل من الجنين والمعاتيه ونحوهم، لا يجب عليهم الحج.
ولكن يجب هنا أن يُعلم خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه العته أو الجنون غير المطبق، وهو ما يسميه أهل الطب في بعض مراحله "انفصام الشخصية"، والذي ينتج عن تعاطي المخدرات، والمسكرات، والإدمان عليهما، فإنه ما كان الجنون سببه محرمًا، فيكون الإنسان محاسبًا على ما فات عليه من الواجبات، وما أخل به من الطاعات، فلا يُعف عنه لأجل ما جد له من جنون، وما حصل له من انفصام في عقله، وذهاب لإدراكه؛ لأنَّ سببه محرمًا، فكأنه هو الذي تسبب على نفسه فوات عقله، وذهاب تكليفه.
والإنسان مأمور بأن يحفظ نفسه، وهو مؤتمن على ذلك، وهذه من الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وهو أن من كان سبب جنونه، أو ذهاب عقله، بسبب محرم، وهي كثيرة في هذه الأحوال، وهي التي تسمى عند أهل الطب "الآثار الانسحابية"، ولها درجات، وقد تصل في بعض أحوالها إلى درجات الجنون، وذهاب العقل بالكلية، أو غير مطبق، يعني: يكون في بعض الأحوال دون بعض.
إذًا، العاقل هو البالغ، والبلوغ يكون بأحد ثلاث علامات للذكر، وأربع للأنثى، فهو يتحقق ببلوغ خمسة عشر أو بإنبات الشعر الخشن على القبل، أو الإنزال، فإذا أنزل فقد بلغ.
وإذا لم يكن شيئا من ذلك وبلغ خمسة عشر، فقد بلغ، وتعلق به أحكام التكليف، وجرى قلمه بما هو عامل، ويلقى الله -جل وعلا- بما قَدَّمَ من خير وسواه.
قال: (الْمُسْتَطِيعِ) ما معنى المستطيع؟
هذه مسألة مهمة جدا أيها الطلاب، وهي أن كل عمل لا بد فيه من الاستطاعة، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، وقال الله -جل وعلا-: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، و «قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ» كما في الحديث الذي في الصحيح.
إذًا أخذ من هذا أهل العلم أن الاستطاعة التي جاءت في الحج لها خصوصها!
بمَ فُسِّرت الاستطاعة؟
فسرت بالزاد والراحلة، وما يتبع ذلك من أمن الطريق. من أين أتى هذا التفسير؟
لأنَّ الحج بخصوصه يحتاج إلى ذلك، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:97]، وجاء تفسير هذه الآية عن غير واحد من أصحاب النبي ﷺ بذلك، كابن عباس وغيره، قال: هي الزاد والراحلة، فهو أمر أو قدر زائد على عموم الاستطاعة التي جاءت في سائر العبادات، وهذا مخصوص بمن كان بينه وبين الحج مسافة قصر.
أمَّا من كان دون ذلك كأهل مكة ومن حولها من الديار والأماكن القريبة، فلو مشى إلى ذلك برجليه، وسعى إلى ذلك بقدميه، لم يكن عليه في ذلك تبعة، ولو فاتت عليه الراحلة لم يكن ذلك مانعًا من وجوب الحج عليه، ما دام أنه كان قادرًا على الوصول إلى بيت الله الحرام، وأداء مناسكه العظام.
قال: (فِي الْعُمْرِ مَرَّةً عَلَى الْفَوْرِ) يعني: متى ما أمكن الإنسان الفور -كما عند أهل الأصول- لا يتأخر، فإذا اجتمعت هذه الشروط، وهو قادر على ذلك، ومستطيع لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل؛ فإنه لا يجوز له أن يتأخر عن أداء الحج، ولو تأخر لكان آثمًا؛ لأن هذا هو مطلق الأمر؛ ولأنه -كما سمعنا في الحديث المتقدم- أنَّ النبي ﷺ قال: «تَعَجَّـلُوا إلَى الْـحَجِّ، فَـإنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»، ولأنه إذا قلنا على الفور، إذًا ضد ذلك أن يقال: على غير الفور! إلى أجل محدود أو غير محدود؟
إن قلت: إلى أجل غير محدود، فمعنى ذلك أنه كأنه لم يجب عليك، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة، وإذا قلت: إلى أجل محدود، فأي أجل هذا؟ ومن أين أتيت بهذا الحد؟ فيكون نوع تحكم، فدلَّ على أنه على الفور، ولا مجال لغير ذلك، ولا نقاش فيه، وهو مذهب جمهور أهل العلم، خلافًا للشافعية، ولهم في هذا استدلال، وليس هذا محل ذكر الخلاف، ولا زيادة تفصيل أكثر مما ذكرناه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ زَالَ مَانِعُ حَجٍّ بِعَرَفَةَ وَعُمْرَةٍ قَبْلَ طَوَافِهَا وَفُعِلَا إِذَنْ وَقَعَا فَرْضًا) }.
قال: (فَإِنْ زَالَ مَانِعُ حَجٍّ بِعَرَفَةَ) لو أنَّ العبد عَتَقَ، فقد زال المانع، وتعلق به حكم الوجوب، فإذا كان بعرفة فالحمد لله، وإذا خرج منها والوقت باق، يقولون: يرجع إليها فيقف، ويكمل حجه.
طيب إحرامه كان في حال عدم اللزوم والوجوب، أليس كذلك؟
قالوا: لكن الإحرام مقصودًا لغيره، فلا يضر، وإن كان إنشاؤه أو وقت ابتدائه لم يكن واجبًا عليه؛ لأنَّ المقصود من فعل هذه المناسك وهو بالغ.
لكن يقولون بشرط أن لا يكون سعى مع طواف القدوم، فالقاران والمفرد له أن يسعى سعي الحج مع طواف القدوم فيقدمه، وهو واجب، وطواف القدوم سُنة، ولذلك لم يتكلموا عليه.
ولكن لو سعى سعي الحج؛ فإنه يجوز له أن يقدمه مع طواف القدوم، فإذا بلغ بعدما سعى سعيَ القدوم، يقولون: لا يمكنه أن تكون هذه حجة الإسلام.
طيب قلتم قبل قليل: إنه لو خرج من عرفة يعود إلى عرفة فيقف بها فيصح حجه، طيب إذا يعود فيسعى فيصح. قال أهل العلم: بينهما فرق، وذلك أن الوقوف بعرفة لا حدَّ له، فقد يتأتى بساعة، أو برهة، وقد يتأتى بالوقوف اليوم كاملا، ويتأتى بالليل كله.
وأمَّا السعي فهو أشياء مخصوصة، سبعة أشواط تنتهي، لا يمكن عودها، ولا الزيادة فيها، وبناء على ذلك هذه لا حَدَّ لها، فأمكن أن يزيد فيها بعض الوقوف بعرفة، فيتأتى له الفعل واجب. وأما السعي انتهى، ووقع على حال مستحبة، فلا يمكن أن ينتقل إلى حالٍ واجبة، وأن يكفي عن فرض حج بيت الله الحرام بالنسبة لذلك.
ومثل هذا، من بلغ سواء أنزل وهو نائم في يوم عرفة، أو يعلم أنه قد بلغ خمسة عشر في صبيحتها أو في مسائها، وكان قد خرج ثم رجع إليها. ونحو ذلك.
فإذًا المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ زَالَ مَانِعُ حَجٍّ بِعَرَفَةَ) فيمكن أن ينتقل من حج نفل إلى حج فرض، ومن أحرم بـ (عُمْرَةٍ قَبْلَ طَوَافِهَا) ، الإحرام بالعمرة -كما قلنا- هو صحيح، الإحرام هو صحيح مما يتحتم في العمرة، وتقوم عليه، لكنه مقصود لغيره، أي: للطواف وللسعي ونحوه، وبناء على ذلك من لم يشرع في طوافها، فله أن يقلب هذه إلى أن تكون عمرة الإسلام، فتقع عنها، فيكون قد أدى الواجب عليه بفعله ذلك، ولو كان قد ابتدأها وهو به مانع، إمَّا عتق عبودية ورق، أو كان ذلك عدم بلوغ ونحوه.
قال: (وَفُعِلَا إِذَنْ وَقَعَا فَرْضًا) يعني بعدما ينوي يفعل الطواف أو يفعل الوقوف ونحوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ عَجَزَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَا) .
إذًا ما مرَّ بنا من الصغير إذا بلغ بعرفة يرجع إليها، أو الرقيق، وفي العمرة، إذا بلغ قبل الطواف، فطاف ونحوه. فإن تقع عنهما فرضًا، كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَقَعَا فَرْضًا) .
ولَمَّا تكلم المؤلف -رحمه الله تعالى- على من يجب عليه، وعلى من كان به مانع من الوجوب، فانتقل إلى الوجوب، أو أمكن انتقاله إلى الوجوب، أراد أن يُبين بعد ذلك من لا يقدر عليه ولا يستطيع، فقال: (وَإِنْ عَجَزَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ) .
قوله: (وَإِنْ عَجَزَ) لماذا لم تسقط عنه العبادة؟
لأنَّ عبادة الحج عند أهل العلم لها جهتان:
عبادة بدنية. وعبادة مالية، من أجل ما يكون فيها من الإنفاق والسفر ونحو ذلك، فلأجل هذا قالوا: من عجز عنها في بدنه لم يعجز عنها في ماله، فإذا كان له قدرة في ماله؛ فإنه ينيب، وأصل ذلك معروف في الحديث، لَمَّا سأل سائل النبي ﷺ عن أمه التي ماتت ولم تحج. قال: أفاحج عنها؟ قال: «أرأيتِ لو كان على أمِّك دَينٌ أكنتِ قاضيَتَه؟ اقضُوا اللهَ فاللهُ أحقُّ بالوفاءِ» ، وحديث أبي رزين العقيلي، في الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ وقال: إن فريضة الحج قد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة. أفاحج عنه؟ قال: «حُجَّ عَنْ أَبِيك» وفي رواية: «حُجَّ عَنْ أَبِيك واعْتَمِر».
فإذًا من عجز لكبرٍ أو مرضٍ؛ فإنه ينتقل إلى الإنابة لتعلق حكم بقية هذه العبادة، وهي الجزء المالي به، فله أن ينيب عنه، فيؤدي إليه مالا، ويقوم من يحج عنه، ولهذا يقول المؤلف: (وَإِنْ عَجَزَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ) فالعجز بحيث لا يظن أنه يستطع بعد ذلك، (لِكِبَرٍ) ، أي: لا يتصور أنَّ من عجز في كبره أن يعود إليه شبابه، وأن يقدر بعد هرمه، وقد هشت عظامه، وضعف جسده، ولحقه ما لحقه من تبعات الزمان ومرور الأيام.
قال: (أَوْ مَرَضٍ) والمرض منه ما يشفى منه الإنسان، ويعود أصح ما يكون، ومنه ما لا يشفى، فقيد المؤلف -رحمه الله تعالى- ذلك فقال: (أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) ، أي: لا يرجى ولا يمن، وكل شيء بقدر الله -جل وعلا-، ولكن الناس بعادتهم وتجربتهم وبخبرة أهل الطب ومعرفتهم، أن من أصيب بهذا الداء، يوشك ألا يكون له منه شفاء، وألا يكون له منه قدرة، بشرط أن يكون هذا المرض عائقًا بينه وبين الحج، فثمَّ أمراض يُظن أنه لا يكن منها برء ولا سلامة، كمثل مرض السكري عند الناس، فيبتلى به أشخاص كثر، ومع ذلك لا يكون عائقًا بينه وبين حجه، أو به مرض ضغط دم، أو حتى بعض هذه الأورام التي تُصاب بها الأبدان، فمنها ما لا يعيق الإنسان عن حركته، ولا يمنعه من ذهابه ومجيئه، فيستطيع أن ينتقل وأن يسافر.
وبناء على ذلك فقوله: (أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) أي لابد أن يكون المرض عائقًا له عن الحج، فلا بد أن يكون فيه الأمران جميعًا، (لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) ، وأن يثقل به، فلا يستطيع المسير إلى الحج وأداء المناسك.
قال: (لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَا) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، يعني أن من وجب عليه من مدينة الرياض؛ لزمه أن يقيم شخصًا من الرياض، فلا يُقيم شخصًا من الطائف لقربها من مكة، فكأنه قد فوت ما يكون من النفقة التي ستحصل له لو خرج بنفسه من الرياض إلى الطائف وهكذا.
هذا هو مشهور المذهب، وإن كان بعض الفقهاء يقول: هذه ليست مقصودة، وأن المقصود هو كيفما تأتى له أن يصل إلى مكة، ولأجل ذلك قال الحنابلة: فاذا لم يوجد عنده ما يكفي من بلد أقرب من بلده، يعني: عنده ألفين ريال، يمكن أن ينيب بها من يحج عنه من أهل الطائف، ولكن لا تكفي لمن يحج من الرياض؛ فإنه يدفعها إلى هذه الطائفة، مما يدل على أنَّ هذا القول محل نظر، وأنه يمكن أن يقال: إنه لو وجد من بلد أقرب من بلده لكان ذلك كافيًا وأجزأه، ولكن لا شك أن الاحتياط أن يفعل ذلك من حيث وجب، على ما ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
هذا اذًا بالنسبة لمن عجز عن الحج ولم يقدر عليه، وكان عنده ما يمكن أن يدفعه للنائب، وأمَّا إذا لم يجد عنده قدرة، وما كان عنده مال إلا ما يقوم بحاجاته، فلا شيء عليه البتة، لأنه لم يتعلق به حكم الوجوب.
فإذا لم يجد زادًا أو راحلة، أو إذا كان عليه ديون مثقلة، وليس عنده قدرة لسدادها، أو إذا كانت حياته كفافًا ليس عنده إلا ما يأكل أو يشرب أو ينفق على أهله، فليس عليه ذلك بلازم، ولكن هنا شخص عنده مال، ولكنه غير قادر على بلوغ مكة لبعد المكان، وضعف بدنه، إمَّا لمرض، أو كبرٍ، فيتعلق به حكم الإنابة على ما ذكرنا.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويُجْزِئَانِهِ مَا لَمْ يَبْرَأْ قَبْلَ إِحْرَامِ نَائِبٍ) ، ويجزئانه يعني: يجزئ الحج والعمرة عن هذا النائب، الذي أقام من ينوب عنه فيهما، إذا أحرم بالحج ثم برأ، لأنه شرع في أعمال الحج وهو يصدق عليه أنه عاجز، وبناء على ذلك لو قدر بعدها وزال عذره، نقول له: إن حججت ثانية، فحجك حج نفل؛ لأنَّ حجة ذلك النائب عنك كافية.
وأمَّا لو برئ الرجل قبل أن يحرم النائب الذي أنابه بالحج عنه، برئ لطفا من الله -جل وعلا ورحمة- خاصة في أزمنة ماضية، كان بين خروج الحاج من بيته، ووصوله إلى الميقات زمن طويل، قد يشفى فيها مريض، ويموت فيها صحيح، ويحصل فيها أحداث كثيرة. فبناء على ذلك لو أنَّه قد شُفِيَ من علته قبل أن يحرم، فيقال: إن إحرام ذلك المحرم وقع حال كون هذا المنيب قادرًا وليس بعاجز، وبناء على ذلك لا يحصل.
إذًا عمن يحصل هذا الحج؟
اختلفوا في ذلك، فبعضهم يقول: يحصل على سبيل النفل عن المنيب، ولكن هذا مشكل من جهة أنه لا يمكن للإنسان أن يفعل النفل قبل الواجب.
وبعضهم قال: إنه يكون عن النائب نفسه، ولكن يلزمه بذلك أن يعيد النفقة.
وعلى كل حال فهو إن برئ قبل الإحرام أجزأ عن المنيب وإلا فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وَشُرِطَ لِامْرَأَةٍ مَحْرَمٌ أَيْضًا، فَإِنْ أَيِسَتْ مِنْهُ اسْتَنَابَتْ) }.
المحرم بالنسبة للمرأة شرط، إذا كان بينها وبين مكة أكثر من مسافة قصر، وأمَّا إذا كانت من أهل مكة أو نحوهم فلا يلزمها المحرم.
إذًا المحرم للسفر، ولذلك قال النبي ﷺ: «لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَومٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ» ، وتلك المرأة التي خرجت في الحج، وخرج زوجها في الغزو، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «اذْهَبْ فَحُجَّ مع امْرَأَتِكَ» . فدل على أنَّ المحرم مما يعتبر لوجوب الحج على المرأة. طيب من هو المحرم؟
هو من تحرم عليه بسبب على التأبيد، من زوج أو قريب، زوجها، أبوها، أخوها، ابنها، عمها، خالها، وهكذا.
ماذا لو كن نساء ثقات؟
هذه من المسائل التي ذكرها الفقهاء فيما مضى، ولكن كثرت الحاجة إليها فيما جدَّ من حال الناس في هذا الزمان.
فنقول: ذهب جمهور أهل العلم، وعليه فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وهو مفتي السعودية في وقتها، وقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وذكر ابن تيمية فيها كلامًا طويلا في تفسير آيات أشكلت أنهن يكنَّ كالمحرم، ورد هذه المسألة، فقال: ما كان محرمًا لغير ذاته، أي: لأمر آخر يزول بزوال سببه، فإذا كن النساء الثقات يمكن أن يقمن مقام المحرم، في أن تحفظ المرأة، وأن تصان مما قد يتسلط عليها من سفهاء، فإذا كن نساء ثقات كثيرات، فإنَّ السفهاء لا يتسلطنَّ عليهن عادة، فيكون ذلك بمثابة المحرم، وهو سفر بر وطاعة، فجعلوا ذلك مقيدًا بأن يكون سفر برٍّ وطاعة، ولا سائر الأسفار ولا سواه.
وأمَّا إذا لم تجد المرأة محرما فيختلف القول، وحتى عند الحنابلة فيه شيء من الاختلاف، هل المحرم شرط للوجوب؟ أي إذا لم تجد محرمًا لم يجب عليها؟ أو أنَّ المحرم شرط للزوم، يعني: هو واجب عليها، ولكن ما يلزمها المسير حتى تجد.
ما الذي يترتب على ذلك؟
إذا قلنا: المحرم شرط للوجوب ولم تكن وجبت في حال من الأحوال، فبناء على ذلك لا يلزمها أن تقيم أحدًا يحج عنها؛ لأنها لم يجب عليها، ولم يتعلق بذمتها، باعتبار أنَّ المحرم شرط للوجوب، وهي لم تجد محرمًا طيلة سنوات حياتها.
الحالة الثانية: إذا قلنا المحرم شرط لزوم، فمعنى ذلك أنه واجب عليها، ولكنها لا تسير؛ لأنها لم تجد المحرم، وبناء على ذلك يقولون: إذا أيست وجب عليها أن تستنير.
إذًا تستنير في حالين:
إما أن تكون وجدت محرمًا في بعض السنوات، ولكنها ضعفت أو كسلت أو أخرت بسبب أو بغيره، فيكون هذا متعلقًا بذمتها بلا شك.
وإمَّا أن يقال: إنه سبب للزوم، فإذا أيست من وجود محرم؛ فإنها تجري من ينوب عنها في أداء نُسكها.
وأمَّا من كانت دون مسافة القصر؛ فإنها تُؤدي الحج كأهل مكة ونحوهم، ومثل ذلك أيضًا، وهذا سهل في الأوقات الكثيرة، يعني: واحد يقول: ليس عندي وقت أذهب بزوجتي أو أذهب بأمي، فنقول: ليس عليك شيء، أكثر ما عليك هو أن توصلها إلى مكة، فإذا أوصلتها إلى مكة لم يكن عليها سفر، فإذا جاءت ترجع تذهب وتأتي بها، فلا يكون في ذلك عليها غضاضة، ولا يكون عليه حرج في ذلك البتة.
أظن أننا لا نستطيع أن ندخل في التي بعدها لانتهاء الوقت، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، اسأل الله لنا ولكم العون والرشاد، وأسأل الله أن يجري الحق على ألسنتنا، والصواب على ما ذكرنا، وأن يحفظنا من الهفوة والغفلة وسواها، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، وأن يزيدكم من العلم، وأن يبلغكم أعلى الدرجات فيه، وأن ينفعكم بما علمتم، وأن يجعله زادًا لكم في دنياكم، وأجرًا لكم عند ربكم في أخراكم، وأن يحفظنا من الجهالات والبليات، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم أمين.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وجزاكم الله خير الجزاء، وبهذا نكون قد انتهينا من حلقة اليوم، ونلتقيكم -بإذن الله تعالى- في حلقة مُقبلة، فإلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.