الدرس السابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس السابع عشر

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلمٍ)، والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ المفضال الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نُرحب بشيخنا المبارك، حياكم الله شيخ عبد الحكيم}.
حياك الله، وحيا الله طلاب العلم وطالباته، حيا الله الجميع من يشاهدون هذه الحلقة، ومن يستمعون إليها، ومن يُعنون بها.
{آمين؛ أحسن الله إليكم، شيخنا المبارك كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي (وعنده خيار الاختلاف المتبايعين)}.
استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَخِيَارٌ لِاخْتِلَافِ اَلْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِذَا اِخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ، وَلَا بَيِّنَةَ أَوْ لَهُمَا حَلَفَ بَائِعٌ، وَمَا بِعْتُهُ بِكَذَا، وَإِنَّمَا بِعْتُهُ بِكَذَا، ثُمَّ مُشْتَرٍ مَا اِشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، وَإِنَّمَا اِشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، وَلِكُلٍّ اَلْفَسْخُ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِقَوْلِ اَلْآخَر)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يُتم علينا نعمه، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
نسأل الله -جلّ وعلا- أن يحفظنا، وأن يحفظ عباده المسلمين، وأن يتولاهم فيما ينزل بهم من مُصاب، أو يحل بهم من بلاء، أو يتجدد عليهم من شدةٍ وغيرها، نسأل -جلّ وعلا- أن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة والأخوات، أيها الطلاب، هذا استكمال لِمَا ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في: (باب الخيار)، وقد ذكر الأقسام الستة، وهذا سابعها.
قال: (وَخِيَارٌ لِاخْتِلَافِ اَلْمُتَبَايِعَيْنِ)، ولعلك تلحظ قبل أن ندلف وندخل فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من المسألة، دقة الفقهاء فيما ذكروه، وتتبعهم للمسائل باختلافها وتنوعها، وما تمس الحاجة إليها، وما صدروا عنه من نصوص الكتاب والسنة، وما اجتهدوا في ذلك مما حرروه، فإنهم لم يقولوه خرصًا من أنفسهم، ولا آراءً من ذكاء عقولهم، وإنما هو اجتهادٌ وتتبعٌ وتلمسٌ لِمَا دلت عليه السنة، وجمعٌ لشتات ذلك مع أصول هذه الشريعة، ثم الاستئناس بأقوال من سبقهم، فإذا اجتمع لهم شيءٌ يرتضونه وتأنس به النفس، ويستقر به القلب قرروه وعقدوه.
وإنك لتعجب أن ترى كثيرًا من المسائل يدور في فَلكها الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، حتى إذا أخذت وقتًا طويلًا، أو عرض لها كثيرٌ من الفقهاء في كتبهم وتتابعوا على ذلك، حتى تستقر على وجهٍ دقيق، فإن ذَكَرَ أحدهم زيادةً، أو أَنقص قيدًا، أو أورد إشكالا، لا تكاد تجد أحدهم يقف على ذلك إلا أعاد النظر، وأجاب عن الإشكال، أو حرر ما ذُكر من القيد، أو بيّن ما فات من الشرط، أو غير ذلك.
وهذه سنة الفقهاء -رحمهم الله تعالى- طلبًا للاستنان بسنة النبي r، وحفظًا للعباد في دينهم ومعاملاتهم، وألا يتسلط أحدٌ على أحد، وألا يؤخذ حق ضعيفٍ من قوي، ولا عالمٍ من جاهل، ولا جاهلٍ من عالم، ولا سوى ذلك.
هذا الذي ذكره المؤلف: (وَخِيَارٌ لِاخْتِلَافِ اَلْمُتَبَايِعَيْنِ)؛ يعني أن المتبايعين بعد إنشائهما للبيع ربما يختلفا، ومبدأ هذا الخلاف في بعض الأحوال قد يكون من سوء نية أحدهم، أو إخفائه وإرادة أن ينكس عن بيعه، أو أن تتغير نيته، أو أن يكون ذلك لِمَا بدر إلى ذهن كل واحدٍ ثم ذهل عنه أو غفل، فظنّ أنه يقول كذا، وهو قد قال غيره، فلا بينة لهم.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا اختلفا على هذا النحو، وأكثر ما يكون ذلك الاختلاف في قدر الثمن، فهما تفاوضا كثيرًا، فقال أحدهما: أنا قلت لك بعشرة، قال الآخر: بل نحن اتفقنا على تسعة، وهذا يقول: إنها تسعة، وهذا يقول: إنها عشرة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا تخلو من ثلاثة أحوال:
·      إما أن تكون لهما بينة؛ لكل واحدٍ بينة.
·      وإما ألا تكون لواحدٍ منهما بينة.
·      وإما أن تكون البينة لأحدهما.
فأسهل هذه المسائل أن تكون لأحدهما البينة، فالحكم لمن استقرت بينتهُ على الآخر وانتهينا.
وأمَّا إذا وجدت البينة من الجهتين، فإنها تتعارض، وليست بينة أحدهما أولى من بينة الآخر، وكذلك العكس إذا لم توجد بينةٌ لواحدٍ منهما، فليس قولك بأولى من قولي، ولا قولي بأولى من قولك، وليس لأحدٍ على آخر سلطان، ولو كان أكثر منه دينًا، أو أشد منه ضبطًا، أو سوى ذلك.
كل واحدٍ قال، وقوله معتبر، وليس قول الآخر بأولى من قوله، كما أن قوله ليس بأولى من قول صاحبه، فمن في مثل هذه الحال؟ يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- يصار إلى التحالف، فيتحالفان، فيحلف بائعٌ، والحَلف هنا على قدر الاختلاف أو في مسألة الاختلاف.
فإذا كان الاختلاف مثل المثال السابق، قال: والله ما بعتكها بتسعة وإنما بعتكها بعشرة، ثم يقول المشتري: والله ما اشتريتها بعشرة وإنما اشتريتها بتسعة، فكل واحدٍ منهما يحلف على نحوِ عين ما حصل فيه الاختلاف، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا حصل ذلك فلا يخلو:
إما أن يقول أحدهما: ما دام أنك حلفت -حتى قبل أن يحلف- فأنا وكلتك إلى ما حلفت عليه، وتوكلنا على الله، أو بعد أن يحلف المشتري يقول البائع: ما دام أنك حلفت، فإذًا هي بتسعة وننتهي.
إذا لم يكن شيءٌ من ذلك، لكل واحدٍ منهما الفسخ، فإن طلبَ البائع الفسخ فُسخ، وإن طلب المشتري الفسخ فُسخ، بمعنى أنَّ الفسخ لا يحصل بمجرد التحالف، بل لابد أن يكون ذلك بإظهار أو بإعلان أو بدو الفسخ من أحدهما، فإما أن يفسخا جميعًا أو أحدهما يفسخ، يقول: خلاص انتهى البيع ولا شيء بيننا، فهذه هي صورة هذه المسألة.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ومثل ذلك لو كانت الصورة في الإجارة فإنها بنحو البيع، ما استأجرته بكذا، وإنما استأجرته بكذا، وهذا يقول: لا، ما استأجرته بكذا وإنما استأجرته بكذا، ولا بينة لهما، أو لهما جميعًا بينة، فيكون المصير على التحالف على هذه الصورة، ثم لكل واحدٍ منهما الفسح إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر.
{قال -رحمه الله-: (وَبَعْدَ تَلَفٍ يَتَحَالَفَانِ، وَيَغْرَمُ مُشْتَرٍ قِيمَتَهُ)}.
بعض المسائل تكون أشد تعقيدًا، وهي: أن يكون الاختلاف قائم والسلعة تالفة، مثلًا هو استلم السيارة واستلم البائع الثمن، فجاءت مياهٌ أو سيلٌ عارم فأغرقها وأتلفها، أو صُدمت، أو سُرقت، أو نحو ذلك؛ المهم أنها تلفت، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: يتحالفان أيضًا.
لكن نرجع إلى مسألةٍ سابقة: في مثل هذه الحال سيبطل البيع، لكن لن يتمكن المشتري من رد السلعة، وماله عنده، وإذا كان قد أقبضه إياه يمكن أن يرده، لكن السلعة تالفة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه يَغرم، لماذا يَغرم؟ لأننا اتفقنا فيما مضى أن الخراج بالضمان، فكما أنه لو كان للمبيع نماءٌ في زمن الخيار، فإنها لمن هي بيده، فكما أنَّ الخَراج له فالضمان عليه.
لكن هنا يقولون: يضمن القيمة، وكأن هذا الكلام على الإطلاق، يعني سواءٌ كان لهذه السلعة ثمنٌ مثل أو لا مثل لها، إذا كان لا مثل لها فهذا ظاهر أن المرد إلى القيمة، ولكن لو كان لها مثل فهنا استثنوها من أصلها، فجعلوا المصير في ذلك إلى القيمة.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ اِخْتَلَفَا فِي أَجَلٍ أَوْ شَرْطٍ وَنَحْوِهِ فَقَوْلُ نَافٍ)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن الاختلاف في قدر الثمن أو في قدر المبيع، ولكن هنا يقول: إذا (اخْتَلَفَا فِي أَجَلٍ)، فيقول البائع: أنا بعتكها حالا، وهذا يقول: لا، لأني قلت لك: بعد شهر؛ لأنه ليس لدي ما أعطيك إياه الآن.
(أَوْ شَرْطٍ)، قال: أنا اشتريت منك هذه الآلة بشرط تركيبها، أو بشرط إيصالها، هذا يقول: لا، إنما بعتك هذه السلعة فقط، وعليك نقلها وتركيبها، ونحو ذلك.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن القول قول (نَافٍ)، لماذا؟ يقولون: لأن معه الأصل، فالأصلُ عدم هذه الزيادات كلها، فإما أن يُثبت المشتري ذلك ببينة، فيقول: هذا العقد أنت قد وقعت عليه، أو هؤلاء هم الشهود، ُكنَّا بحضرة فلانٍ وفلان، وهما يشهدان أني اشترطتُ عليك هذا الشرط.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا وجدت بينة فهي على من وجد البينة، سواءُ لهذا أو ذاك، لكن إذا لم توجد البينة فالقول قول نافٍ؛ لأن الأصل عدم وجود ذلك الأمر المزيد، لا من تأجيل ثمن، ولا من زيادة شرط، ولا من غيره.
{يعني الأصل عدم الوجود أصلًا؟}
نعم، الأصل أن البيوعات حالة، والأصل أنه لا توجد اشتراطات زائدة، فيقع البيع على السلعة ويأخذ هذا ثمنه ويأخذ هذا سلعته، وهو الذي يركبها أو ينقلها أو نحو ذلك.
قال: {(أَوْ عَيْنِ مَبِيعٍ أَوْ قَدْرِهِ فَقَوْلُ بَائِعٍ)}.
إذا اختلفا في (عَيْنِ مَبِيعٍ)، فقال المشتري مثلًا: أنا اشتريت منك هذه السيارة، يقول: لا، إنما بعتك هذه السيارة، فهنا: هل هي مثل الاختلاف في الثمن؟
هي في الحقيقة قريبةُ منها، والحنابلة –رحمهم الله تعالى- قالوا: لا، هنا القول قول بائع؛ لأنه هو الذي معه الأصل، وهو الذي أمضى البيع، ونحو ذلك.. ولكن من الحنابلة –وهذا هو جادة المذهب- ولكن من الحنابلة من قال: إن هذه الصورة تُماثل صورة قدر الثمنِ، بأن الاختلاف في المبيع كالاختلاف في الثمن، فهما سواء، فكما قلنا هناك يتحالفان، فهنا يتحالفان.
على كل حال: هذا ما ذُكر هنا من تفريقٍ بين هاتين الصورتين، وإن كان لهما وجهُ قربٌ أو مقاربة، ولذلك صاحب الزاد عند الحنابلة صار إلى أنهما يتحالفان.
قال -رحمه الله-: {(وَيَثْبُتُ لِلْخِلْفِ فِي اَلصِّفَةِ وَتَغَيُّر مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ)}.
هذا ذكره بعض الحنابلة كنوع ثامن لأقسام الخيار وأنواعه، وهو الخُلف في الصفة، وهذا متعلقٌ بالموصوف المعين، أو المبيع الموصوف الغائب عن مجلس العقد، إذا اختلفت الصفة، فهل يدخل في الخيار أم لا؟
منهم من قال: هذا قسمٌ مخصوص، وأنه فيما تعلق به هذا الحكم أن يكون مبيعًا موصوفًا غائبًا عن مجلس الحكم وهو معين، أو معين حاضر في مجلس البيع، ولكنه لم يُرَ فيثبت فيه خيار الخُلف في الصفة.
فإذا قال: والله أنا اشترتها بيضاء وهي الآن صفراء، اشترط في الأمة مثلًا أن تكون كاتبة وهي أمية، أو غير ذلك؛ فهنا يقولون: يثبت فيه خيار الخلف في الصفة، إمَّا أن يمسك، وإمَّا أن يفسخ البيع.
من لا يُثبت الخيار في هذه، يقول: إنها راجعة إلى الخلف في الصفة على الإطلاق، فإذا لم توجد الصفة التي قيدها أو طلبها، فإن له إما الإمساك وإما الأرش إذا أمسكها.
أي أنَّ بعضهم إمَّا أن يجعلها من قسمٍ سابق، وإمَّا أن تكون شيئًا مخصوصًا لها حكمٌ يخصه، وهو: إما ثبات البيع، أو الفسخ بدون أن يكون له أرش.
قال: (وَتَغَيُّر مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ)، كذلك أيضًا لو أنه تقدم أن العلم بالسلعة يكون بالرؤية المتقدمة، لكن لو كانت تغيرت، واشترى هذه الخضروات أو البقول وهو رآها بالأمس، ولكن كانت الشمس عليها شديدة، أو التخزين لها سيء، أو كانت قربَ نار، أو نحو ذلك من الأشياء التي أثرت عليها فتغيرت، المهم أن الوقت قريب، فهنا يقولون: يثبت له الخيار إذا رآها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ اِشْتَرَى مِكْيَالاً وَنَحْوَهُ لَزِمَ بِالْعَقْد، وَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ)}.
هذا الفصل الذي عُقده الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هو في القبض والإقباض، سواءٌ كان ذلك فيما يتعلق بالقبض من حيث جواز التصرف، أو ما يحصل به القبض، لا شك أن البيع مبناه على قطع المنازعة، والفصل في الحقوق، وعدم حصول الاختلاف بين المتعاقدين، فكل ما أفضى إلى شيءٍ من الاختلاف أو كان طريقًا إليه، فإنَّ الشارع يتطلع إلى قطع ذلك الطريق، ومنع تلك المنازعة.
فمن هذا ما يتعلق بالتصرفات قبل القبض، فإنه قد يبيع ثم لا يقبض، قد يبيع ثم لا تأتي السلعة، إلى غير ذلك مما يحصل فيه بين الناسِ خصومةٌ شديدة، ولأجل ذلك أُعتبر القبض.
لكن هل القبضُ معتبرٌ في كل بيع، أو أنه مخصوصٌ بأشياء دون أشياء؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أنَّ القبض مخصوص بأشياء قد جاء بها الدليل، «مَنِ ابْتاعَ طَعامًا فلا يَبِعْهُ حتَّى يَسْتَوْفِيَهُ»[1]، قالوا: إن القبض وما يتعلق به جاء في أشياء بخصوصها، فهي التي يتعلق بها حكم القبضِ، وأمَّا ما سوى ذلك فهو باقٍ على الأصل، لأنَّ إمضاء العقد وعدم وجود الخيار كافٍ في التملك، فإذا حصل التملك ترتب ما بعده من التصرفات، والبيوعات، والإهداء، والوقف، وغير ذلك من أنواع التصرفات التي يتصرف فيها الناس.
فالكلام جاء فيه في بعض الأحاديث كحديث ابن عباس هذا، وإطلاق مطلق البيع يقتضي أن للإنسان أن يتصرف في هذا المبيع الذي مَلكه بلزوم العقدِ وانتهاء الخيار.
من أين نشأ الخلاف؟ هل الشارع قد أراد القصر والحصر لهذه الأشياء التي جاء فيها النص، أو أنها جاء بها ذا وغيرها مثلها مقاسٌ عليها، فمن هنا حصل الخلاف؟
الحنابلة قَصروا وقالوا: إن لهذه الأشياء خصوصيتها من جهة الإشكال فيها، والاختلاف، والزيادة والنقص إلى غير ذلك، وكذلك الحاجة إليها، فقالوا: إنها مقصورةٌ عليها وغيرها لا يساويها.
ومن أهل العلم -وهم أكثر أهل العلم-، وهي الرواية الثانية عند الحنابلة، وكذلك قول ابن تيمية، وهو الذي عليه الفُتيا عند كثيرٍ من المعاصرين- وهو أن القبض معتبرٌ في المبيعات كلها، لا يختلف شيءٌ عن شيء.
من أين أخذتم ذلك؟
قالوا: " قال ابن عباس: وما أرى إلا أن كل شيءٍ مثله -يعني مثل الطعام- فدالٌ عليه، قالوا: وما يأتي على الطعام يأتي على غيره وأكثر"، فبناءً ذلك أطلقوا.
وهذا في الحقيقة كما تعرفون أضبط وأمنع للخلاف بين الناس، وكم من الأشياء التي يُمضى فيها العقد، لكن يحصل عند القبض فيها إشكال: إما نقصٌ موجب للفسخ، وإما -في بعض الأحوال- تأخرٌ في القبض، فإذا كان الإنسان قد تصرف في ذلك فيتضرر الناس، وتحصل بينهم خصومة؛ وهذه الخصومة تنازعٌ في اليد، وتنازعٌ في الحكم، وإلى غير ذلك من أشياء كثيرة، وربما ترتب عليه استلام الثمن وتضيعه، فتتفرع لأجل ذلك أشياء كثيرة.
على كل حال: هذا هو أصل المسألة، هل القبض معتبر في أشياء مخصوصة، أو معتبرٌ في كل الأشياء؟
من قال: إن القبض في كل الأشياء، فهذا واضح، وقلنا: له وجه.
الحنابلة قصروه لِمَا ذكرناه، وسيورد المؤلف -رحمه الله تعالى- المسائل الأربع وما يُلحق بها مما يعتبر القبض فيها، ولا يجوز التصرف فيها حتى تُقبض.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ اِشْتَرَى مِكْيَالاً وَنَحْوَهُ لَزِمَ بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ)}.
هذه إشارة من المؤلف -رحمه الله تعالى-، ولم يذكرها، مع أن الأولى ذكرها؛ لأنها محصورةٌ معدودة.
قال: (وَمَنْ اِشْتَرَى مِكْيَالاً وَنَحْوَهُ)، نحو المكيل يقصد به الأشياء الأربعة: "المكيل، والموزون، والمذروع، والمعدود، فهذه أربعة أشياء، وسيأتينا الفرق بين المكيل والموزون، يعني ذِكره في باب الربا أقرب لكم وأوضح.
·      المكيل هو: اعتبار الشيء بحجمهِ.
·      وأمَّا الموزون: فباعتبار الشيء بالثقل.
فهذا الفرق بينهما.
لكن الناس يستشكلون من جهة النهي، قال: الآن كيلو، هذه الـ "كيلو" كلمة ليست عربية، فاسمها قريب من الكيل، مكيل، قد يصير بها لبَس، لكن هما مفترقان من جهة المعنى، المكيل باعتبار الشيء بحجمه، هذا من الموزونات؛ لأن اعتبار شيء بالثقل والخفة، فتنبهوا لهذا؛ لأنه يكثر فيها اللبس.
فإذًا هذه الأشياء الأربعة التي اعتبر فيها الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فيها القبض، وأنه لا يصح التصرف حتى تُقبض، وألحقوا بذلك ما بيع بالموصوف؛ فإنه لا يجوز التصرف أيضًا فيه حتى يُقبض.
بعضهم قال: أيضًا الثمن، إذا كان هذه الأشياء الأربعة أو نحوها؛ فإنه يدخل في ذلك فتكون زائدةً على هذا.
{قال -رحمه الله-: (وَيَحْصُلُ قَبْضُ مَا بِيعَ بِكَيْلٍ وَنَحْوِهِ بِذَلِكَ مَعَ حُضُورِ مُشْتَرٍ أَوْ نَائِبهِ، وَوِعَاؤُهُ كَيَدِهِ، وصُبْرَةٍ وَمَنْقُولٍ بِنَقْلٍ، وَمَا يُتَنَاوَلُ بِتَنَاوُلِهِ، وَغَيْرُهُ بِتَخْلِيَةٍ)}.
إذًا المشتريات تختلف باختلافها، فمنها: أشياءُ يحصل الإقباض بأن يأخذها الإنسان بيده، وهذا واضح.
ومنها ما يكون بالكيل، إذا كيلت ووضعت فيتعلق بها الحُكم أنها حصل فيها الإقباض، لكن بشرط أن يكون حضور المشتري أو نائبه، كون الإنسان يكيلها وحدهُ أو داخل مثلًا المستودع أو نحوه فليس ذلك بإقباضٍ، بل الإقباض إذا كالها أمامه انتهى، مثل ذلك الوزن، العد، الزرع، كله كذلك إذا حصل أمام المشتري فحصل الإقباض.
قال: (وِعَاؤُهُ كَيَدِهِ)، إذا جُعل في كيس، أو حُمل في حقيبة، أو نحو ذلك. فهذا نوع إقباض له.
هنا يجب أن نعرف أن الكلام في اشتراط الحنابلة للقبض في هذه الأشياء، إنما هو في حال أن تُباع بالكيل؛ لأنه في بعض الأحوال قد يكون الشيء مكيلًا لكنه يُباعُ -يسمونه جزافًا أو بدون كيل- يقول: أنا أبيعك الموجود في هذه الشنطة الموجودة أمامك الآن، أو هذه الحقيبة المفتوحة أمامك والمملوءة، وقد تحتوي على اثنين كيلو، أو ثلاثة كيلو، أو أربعة، وقد يكون فيها صاعًا، أو صاعين، أو ثلاثة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه إذا كان البيع جُزافًا؛ حتى ولو كانت في أصلها مكيلةٌ، نحن إذًا نعتبر في لزوم القبضِ ما بيع بكيلٍ، أو بيع بوزنٍ، أو بيع بذرعٍ، أو عد؛ أما هذه الأشياء الأربعة لو بيعت لكنه على سبيل الجزاف، في السوق قال: من يأخذ هذه الزُبغة بألف ما نحتاج أن نزنها.
على سبيل المثال: في بعض الأحوال يبيعون -وهذه تباع كثيرًا الآن- مكتوب عليها واحد كيلو، هذه تعتبر ما بيعت بالكيل، هذه مبيعة بجُزاف الكيل، أي دون أن يكيلها لك، أو أحيانًا صندوقا من التمر أو الخضار أو نحوه؛ فيكون مبيعًا في هذه الأحوال جزافًا فلا يتعلق به.
ولذلك قال: (وصُبْرَةٍ)، الصبرة هي الكومة التي تُجعل على نحوٍ ما.
قال: (وَمَنْقُولٍ بِنَقْلٍ)، يعني مثلًا باب، سيارة، حذاء؛ كلها هذه يكون فيها الشيء منقول يحصل القبض فيه بذلك.
قال: (وَمَا يُتَنَاوَلُ بِتَنَاوُلِهِ)، إذا أعطاه الساعة، الجوال ونحو ذلك، فيكون كذلك.
قال: (وَغَيْرُهُ بِتَخْلِيَةٍ)، ما معنى التخلية؟ يعني: غيرهُ مثل البيت، البستان ونحوها كيف تُسلمها للإنسان؟ هل يمكن أن تحملها إليه؟ فإذا أخليتها له ومكنته من الانتفاع بها فقد أقبضته إياها؛ لأن هذه حقيقة الانتفاع بها أن يدخل، لكن واحد باع بيت وأغلق الباب، هذا ما استلمه، ما قبضه، فإذًا هو بالتخلية.
هذا الحقيقة يحصل كثيرًا، وهو الاختلاف لما تطورت الدنيا تغيرت مسارات الناس في الأمور ونحوها، جاء ما يُسمى بالتوثيق، ووجود وثيقة على هذا البستان، أو هذه الأرض، أو هذه الدار، فمقتضيات العقود أو نحوها أن تُنقل هذه الوثيقة التي سُجلت باسم فلان إلى اسم فلان.
فهل نقول: إن القبض في مثل هذه الأحوال يكون بنقلها باسمه، أو يبقى على ما قلنا من أنها تكون بالتخلية؟
الحقيقة أن التوثيق مهما قيل من أهميته إلا أنه لا يكفي عن التخلية؛ لأنه حتى لو كتبها باسمك وأغلقها وسافر، لو جلست خمس سنوات ما تستطيع أن تفتحها أو تدخلها أو تنتفع بها، فإذًا لم يحصل الإقباض.
فإذًا لا يمكن أن نقول التوثيق يحصل، لكن يمكن أن نقول: إن التوثيق يضاف إلى التخليةِ وصار معتبرًا أيضًا معه وزيادةً عليه؛ لأنها أيضًا مجرد التخلية مع عدم نقل المِلك إلى اسمهِ يُفضي إلى الفوات عليه وعدم تمام الانتفاع؛ لأنه لو أراد أن يبيع يحتاج إلى أن يكون باسمه حتى يُمكا المشتري الآخر من النقل، ونحو ذلك، وربما حصل عليه من يلي هذه الأمور مثلًا إيقاف، باعتبار أنهم ليس فيه ما يدل على أنها مِلكٌ له وثابتةُ في ماله.
فالحقيقة: أن إطلاق القول بأن التوثيق كافي بعيد، لكن أيضًا عدم اعتبار التوثيق من الإقباض فيه إشكال، فلو قيل إن التوثيق يُضم إلى التخلية في هذا لم يكن بعيدًا، بل هو يعني قريبٌ جدًا، وهذه من المسائل التي تحتاج إلى شيءٍ من زيادة دراسة.
وهذا توجد على الخصوص في العقارات، والبساتين، والشقق، والغرف، ونحوها، وقد توجد في بعض المنقولات مثل: السيارات، الطائرات، أشياء أخر أيضًا، وكل يوم تزيد بعض هذه الأشياء.
{هذه المسألة التخلية ليست مختصة فقط بالعقارات}
 هي أصلا في العقارات؛ لأنها هي التي لا يمكن نقلها، ولكن المنقول قد ينضم إليه التوثيق كما قلنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ تُسَنُّ لِلنَّادِمِ)}.
 تأمل كيف يذكر الفقهاء المسائل؟! هم ذكروا البيع، وذكروا شروطه، ثم ذكروا ما يمنع صحته لأمرٍ خارجٍ عنه، وذلك حينما قالوا: تحريم البيع بعد نداء الجمعة، وحين قالوا: بيع السلاح في الفتنة، ونحو ذلك.
والأصل أن هذه المبيعات صحيحةٌ، والبيع في ذلك صحيح، ثم أعقبوا ذلك بالشروط في البيع، ثم ذكروا شيئًا مما يعتبر فيه، وهو: الخيار، ولَمَّا انتهوا من ذلك كله تَكلموا على القبض، وفي الكتب المطولة -أطول من أخصر المختصرات- يذكرون من يبدأ بالتسليم أولًا، وثانيًا، ونحو ذلك.
ولَمَّا انتهوا من هذه كلها، تَكلموا عن طلب فسخ البيع بغير سبب.
قال: (وَالْإِقَالَةُ)، وحقيقة الإقالة أن يطلب أحد المتعاقدين فسخ البيع من الطرف الآخر إعفاءه من العقد وفسخه، والإقالة هنا بغير سبب راجع للسلعة أو نحوه، كالخيارات، أو عدم صحة البيع، أو نحوه.
يعني هو نابعُ من أحد المتعاقدين، أي أن يطلب أحدهما الإقالة فيقيله الآخر، وتكون في حق المشتري كما هي في حق البائع، مثال: أنا بعتك هذه السيارة، ثم طلبت الإقالة، لأنني ظننت أني سأسافر وحصلت على منحة، ولكن المنحة صار عليها إشكال وسيارتي أحتاج إليها، فتقول: قد أقلتك.
أو العكس، أنا اشتريت هذه السيارة، وظننت أنه سيأتيني لكفاية أهلي، والآن تعثر ما سيأتي، ولم يصدق من وعدني بإعطائي مالًا على كذا، أو سداد دينٍ، أو نحوه، وأطلبك الإقالة من هذه البيعة أو نحوها فيقيله.
والنبي r يقول: «مَن أقالَ مُسلِمًا بيعتَه؛ أقالَه اللهُ عَثرتَه يومَ القِيامةِ»[2]، فهي من أعظم ما يكون، لذلك قال: (تُسَنُّ لِلنَّادِمِ)، فلا تتمسك مهما ظهر لك فيها من الخيرية، ومهما كان في هذه البيعة، أو هذه الشروة، أو في هذا العقد لك فيه من الفرصة، وما تتوقع فيه من الربح، فما عند الله خيرٌ وأبقى.
إذا قلنا هذه هي الإقالة، فالسؤال الآن، هل تعد الإقالة عند الفقهاء بيعًا جديدًا؟
نقول: البيع بالفعل قد تم، فهل تعد الإقالة بيعًا جديدًا؟
مثال: أنا بعتك سيارة بخمسمائة، ثم أنت أعدتها عليَّ بالخمسمائة، فلأهل العلم في هذا كلام:
الجمهور -كما هو قول المؤلف رحمه الله تعالى- أنها فسخٌ، يعني لا تعد بيعًا جديدًا، وإنما هي فسخُ وإزالة العقد الأول المتقدم، ولكنهم مع ذلك يشترطون أن تكون بمثل الثمن، وحتى من قال إنها بيعٌ، ما دام أنها في باب الإقالة فتكون بمثل الثمن.
ما الذي يترتب على قولنا إنها ليست بيعًا؟
1.  أولًا: أنه لا خيار فيها.
2.  ثاني شيء: لو حصلت بعد نداء الجمعة نقول: ليست بيعًا.
3.  وأيضًا من لوازمها أن تكون بمثل الثمن، وهذا واضح لا إشكال فيه.
لو أنقصه السلعة، قال: خلاص أعدني السلعة مثلًا اشتريتها بخمسمائة أعطيني أربعمائة، تأخذ أحكام الإقالة؟ هل نعتبرها إقالة؟
 لا تأخذ أحكام الإقالة.
لابد أن تكون بنفس القيمة؟
نعم، وثم يقولون: هي لو حلف ما يبيع، قال: مسلم يكون ليست داخلًا في البيع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (اَلرِّبَا نَوْعَانِ: رِبَا فَضْلٍ وَرِبَا نَسِيئَةٍ)}.
هذا الفصل في الربا، وكما تقدم معنا هل الربا بيعٌ أو لا؟
قال بعض أهل العلم إن قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275]، فيه دلالة على أنَّ الربا بيع، ولكنه محرم، ولأجل ذلك قالوا: إنه داخل في اسم البيع، ولكنه لا يجوز.
ومنهم من يقول: ليس بداخلٍ في حقيقة البيع؛ لأنَّ البيع جاء في الشرع، وهذا ذِكرٌ من الله -جلَّ وعلا- لمتقابلين، وهما: البيع المباح وما يقابله من الربا المحرم، وليس منه في شيء.
وأيًا كان الأمر، فإن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن يُبين أحكامه، وأن ينبه عليه؛ لأن الحاجة إليه ماسة، ولكونه عند بعضهم يدخل في اسم البيع، كما قال بعض المفسرين، وبعض أهل اللغة.
والمؤلف -رحمه الله تعالى- ذكره في نهاية الباب، وهذا كثير عند الفقهاء أنهم يذكرون في نهاية الباب ما لا يجوز، أو ما لا يصح، وما هو ليس بداخلٍ في الإباحة والإذن في الباب الذي ذُكر ما فيه مباح، وما له من أحكام، وما تترتب عليه من أمور.
والربا لا شك أنه من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وقد لا يختلف في ذلك أهل العلم، وهو محرم في دين الإسلام بالاضطرار، يعلم ذلك عموم المسلمين لا يختلفون فيه في الجملة، وإن اختلف في فروع مسائله وغيرها.
وجاء في التحذير منه أحاديث كثيرة، من أشهرها: حديث أبي هريرة لَمَّا ذكر السبع الموبقات، وذكر منها أكل الربا، وفي الحديث الذي في الصحيحين: «لَعَنَ اللهِ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»[3]، وأحاديث كثيرة.
وفي ذلك أيضًا من الحديث أن النبي r لَمَّا ذكر أن الربا ستةٌ وثلاثون بابًا أيسرها مثل، قال: «ستةٌ أو سبعةٌ وثلاثون بابًا أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه، وإن أرْبى الرِّبا اسْتِطالَةُ المَرْءِ في عِرْضِ أخِيهِ المُسْلِمِ»[4]، وهذا فيه إشارةٌ إلى عظم أمر الربا وشناعته.
هذا إذًا من جهة التحريم والتنبيه على ذلك.
ونحن قلنا كثيرًا أيها الطلاب: إنه ينبغي لطالب العلم أن يحفظ في الباب ما فيه من الفضل أو ما فيه من التحذير، فإذا كان سنةً حفظ ما فيها من أحاديث الفضائل، فإن النفوس إنما تتوق وتنشط بفضلها، وعظيم ما فيها من الأجر، وإن النفوس إنما تخاف وترهب إذا ذُكرت بما فيها من العذاب، وما يتعلق بها من الإثم.
ولا يستغني طالب العلم في تنبيه الناس عَقب الصلوات، وفي الجمع، وفي المناسبات من التنبيه على ذلك، وليس لطالب العلم أحسن من أن يحفظ هذه الأحاديث، ولذلك جعل بعض أهل العلم كتبًا مخصوصةً في ذلك، ومن أشهرها كتاب الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، فذكر ما جاء فيه من المرغبات، وذكر ما جاء في الشرع من الترهيب في أمور، وما ورد فيها من أحاديث.
الحديث عن الربا في الحقيقة طويلُ جدًا، ولكن لأهميته سنبسطه ونقربه، ولن نسعى إلى التفصيلات التي قد تُشكل على الطالب وتتداخل عليه معه فيها كثيرُ من المسائل، فيذهب عليه فهم أصلها.
الربا من حيث الأصل نوعان:
ربا قرض؛ وهذا أنا ذكرته قبل وقته، لكن نذكره هنا لأهميته، ربا قرض وربا بيع، أمَّا ربا القرض فهذا أوسع ما يكون بابًا، وأعظم ما يكون إثمًا، وهو ربا الجاهلية، وهو الواقع في الممارسات بأكثر ما يكون، فأكثر ما يتعامل به أهل العقود المالية من بنوك وغيرها -إن لم تُصحح ذلك بالمعاملات الشرعية- فإنهم إنما يتعاملون بربا القرض.
ولذلك فهذه البنوك مبناها على القرض، والقرض بفائدة، وهو عين ربا الجاهلية، بل من أصول وأسس بناء البنوك في العالم كله ألا تبيع وألا تشتري، فهي ممنوعة من البيع والشراء، ولذلك يأتي المستثمر أو المستفيد فيشتري منه مثلًا هذه العمارة أو الأرض أو السلعة بمائة، وتُقيد عليه مثلًا بمائة وخمسة، سواءً كانت معاملة ربوية أو بأن تُجعل بطريقةٍ شرعية، لكن تكون هذه حدودها.
مع أنهم يعلمون قطعًا أنها تساوي في السوق إذا أراد أن يبيعها مائتين، فلو كانوا لهم أن يبيعوا ويشتروا فهم الذين عندهم النقود، وهم الذين يستطيعون أن يشتروا بأسهل من ذلك، لكن مبنى البنوك هي على القرض والإقراض، وتصريف الديون ونحوها.
وإن وجد عندك بعض الإشكالات في مسائل بيوع الربا، هي ليست من المسائل التي يكثر الحاجة إليها، أو يكثر وقوعها كما يحصل في ربا القرض، فهي نعم يحصل فيها، ولكن ليست بدرجة ربا القرض الذي هو أشد وأنكى، فيتنبه لذلك.
وربا القرض لا حصر له في شيء، «كلُّ قرضٍ جَرَّ مَنفعةً فَهوَ ربًا»، مثال: أقرضك مثلا هذه الساعة، على أن تستفيد من كذا وتردها إليّ، هذا قرضٌ جر نفعًا فهو ربا.
مثل ما قلنا في البيت: إذا باعه أو أعطاه مالًا وقال: هذا ما يقابل البيت، مع الخيار ثلاثة أشهر وهو أراد بذلك القرض، وإعطاؤه منفعة البيت زيادةً على ذلك، فهذا قرضٌ جر نفعًا، فيدخل في باب الربا.
طبعًا إذا كان أوضح ما يكون: إذا قال: أعطيك عشرة وتردها إليّ اثنا عشر، خمسة عشر، عشرين.
{لكن لو قسطها له؟}
حتى لو قسطها، لكن إذا كانت بيوع عقد عليها.
طبعًا نحن هنا نأتي إلى مسألة مهمة: وهي لِمَ حرم الشارع الربا؟
لكن الآن أنت عرفت ربا القرض، بقي ربا البيع، وربا البيع هو الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
ربا البيع نوعان: "ربا الفضل، وربا النسيئة".
ما هو ربا الفضل؟ وما هو ربا النسيئة؟
 النبي r في حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، لَمَّا قال: «لا تَبيعوا الذَّهبَ بالذَّهبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرقِ، ولا البرَّ بالبرِّ، ولا الشَّعيرَ بالشَّعيرِ، ولا التَّمرَ بالتَّمرِ، ولا الملحَ بالملحِ»[5]... إلى آخر الحديث، فهذا دل على النوع الأول وهو ربا الفضل.
قال: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذِه الأصْنافُ، فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ، إذا كانَ يَدًا بيَدٍ»، فهذا دليلٌ على ما يتعلق بربا النسيئة.
ما هو ربا الفضل؟ وما هو ربا النسيئة؟
هذا سيبينه المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا، وطبعًا هذا يتعلق به مسائل وهو ما يدخل فيه الربا، ما الذي يدخل فيه الربا؟ حتى تعرف ما يتعلق بربا الفضل، وما يتعلق بربا النسيئة.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي الأشياء التي يتعلق بها الربا هي هذه الأشياء الستة التي جاءت في الحديث: الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والتمر، والملح، فهذه الأشياء الستة.
هذه الأشياء الستة هل الربا مقصورٌ عليها، أو يقاس عليها غيرها؟
عامة أهل العلم وحُكي في ذلك الإجماع سوى ما خالف فيه الظاهرية، وأشهر ذلك ابن حزم -رحمه الله تعالى- أنه لا يقتصر على الأشياء الستة، وإنما هذه الأصناف التي ذكرها النبي r إنما هي أظهر ما يكون فيها، ويقاس عليها غيرها، وهذا قول عامة أهل العلم.
بعد ذلك سنأتي إلى ما يتعلق بتفصيل الكلام في الأشياء التي تدخل في باب الربا، ويمكن بعد ذلك أن نعرف بها ربا الفضل من ربا النسيئة، لكن أظن أن الوقت قد انتهى.
وحتى لا نطيل عليكم، فقد عرفتم ربا القرض، وستأتي الإشارة إليه في باب القرض، ولكن لأهمية التفريق بين هذا وذاك، أردنا التنبيه عليه في البداية، وهو ربا الجاهلية، وهو ربا أكثر التعاملات البنكية، والمعاملات المحرمة.
ربا البيع هو الذي عقد المؤلف له -رحمه الله تعالى- هذا الفصل، وهو يتعلق بالأصناف الستة أصالةً، ويقاس عليها غيرها تبعًا، وذلك في قول عامة أهل العلم كما ذكرنا خلافًا لقول الظاهرية، أو ابن حزم بعد ذلك الذي شرع هذا القول.
ولَمَّا اتفقوا على هذه أنها معللة، اختلفوا في هذه العلل، وهذا اختلافٌ لا حد له، اختلافٌ طويل عريض، واختلافٌ كبير كثير، وفيه من التفريعات، ويتعلق به من الآثار ما قد يَكْل معه عقل الرجل الأريب، فكيف بعقل الشخص الضعيف من أمثالي ومن شابهني؟!
وهذا سيكون مدار الكلام، وهو ابتداء حلقتنا في الدرس القادم.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة على الخير والرشاد، وأن يغفر لنا ولكم ولسائر المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين.
{شكر الله لكم شيخنا المبارك، وفتح الله لكم فتحًا مبينًا، وزادكم من فضله آمين.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (2136)، ومسلم (1526).
[2] أخرجه أبو داود (3460)، وابن ماجه (2199)، عبد الله بن أحمد في ((زوائد مسند أحمد)) (7431).
[3] رواه مسلم (1598).
[4] أخرجه ابن ماجه (2275)، وابن المنذر في الأوسط (8013)، والحاكم (2259)، والبيهقي في شعب الإيمان (5131).
[5] أخرجه البخاري (2175)، ومسلم (1590).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك