{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات.
نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتناول فيه كتاب أخصر المختصرات للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياكم الله، في مجلس من مجالس العلم، أعظم ما يكون بركة، وأتمُّ ما يكون خيرًا.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم.
في المجلس الماضي كنا قد توقفنا عند (وَلِرَبِّ حَقٍّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا).
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين. قال المصنف -رحمه الله-: (وَلِرَبِّ حَقٍّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يحفظنا وإياكم من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ المسلمين، وأن يدفع السوء والبلاء، والفتنة والمحنة يا رب العالمين، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين. أمَّا بعد أيها الإخوة، فبين يدي البداءة في شرح ما نحن بصدده، أحبُّ التنبيه إلى مسألة، وهي أنَّ الْمُقَدِّمَ -وفقه الله تعالى- استهلَّ بتحميدتين وصلاة على النبي ﷺ مرتين، وهذا زيادة خير على خير، ولكن الواحدة كافيةٌ في الاستهلال والابتداء، ويحصل بها الخير. ما الذي يحصل؟
الذي يحصل في شيء يُشابه وهو: تكرار السلام، يعني: أن يدخل الإنسان إلى مكان فيسلم، ثم يرى آخر فيسلم عليه مرة أخرى، وثالثة، ورابعة، أو يدخل المسجد فيسلم، ثم إذا انتهى من الصلاة أعاد السلام! نقول: لا، السلام مرة واحدة، وهو حاصل بالدخول، وكاف للجميع، وإذا أراد الإنسان أن يزداد من التحايا، فما زاد على ذلك من السؤال عن حاله بطلب أن يُفيض الله عليه الخير في مسائه، أو البركة في صباحه، أو غير ذلك من الأمور التي هي من مكملات التحايا، ومما يعتادها الناس في التباشير واللقاء.
قلنا في المجلس الماضي: (وَلِرَبِّ حَقٍّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا)، وهذه أخذناها وأشرنا إليها في المجلس الماضي، وذكرنا أنَّ من له الحق -وهو رب الحق- كما عبر عنه الماتن -رحمه الله- أن يطالب من شاء منهما، والضمير "هما" عائد إلى المضمون عنه، وهو الذي عليه الدين، والضامن له، فلا يُشترط في ذلك أن لا يُطالِب الضامن حتى يتعذر من المضمون عنه، أو من صاحب الدين، لا، بل قد انضمت ذممهما، وتعلق الحق بهما، فله أن يُطالب من شاء منهما.
وقلنا: إن هذا هو مفهوم كلام المؤلف، وهو مفهوم معنى الضم والضمان، وأنه مأخوذ من ضم الذمتين وجعلهما ذمة واحدة، وإن كنا أشرنا إلى كلام ابن القيم، وهو أنه لا يطالب الفرع حتى يتعذر من الأصل، والبدل حتى يتعذر من الأصيل، فهذا له وجه، ولكن جرت مروءات الناس وعاداتهم، حتى ولو قلنا إنهما يطالبان على حد سواء، إلا أنهم لا يذهبون إلى الضامن حتى يتعذر من المضمون عنه في الحال الأولى.
{قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ الكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ، وَبِكُلِّ عَيْنٍ يَصِحُّ ضَمَانُهَا)}.
يقول المؤلف: (وَتَصِحُّ الكَفَالَةُ) هنا انتقال من الماتن إلى باب آخر من أبواب التوثيقات والضمانات، فهو ذكر الرهن وهو أقواها، وذكر الضمان وهو ثانيها، وذكر الثالثة وهي أقلها، وذلك أنَّ الكفالة هي إحضار من عليه حق مالي، وهي تتعلق بالبدن لا بالاستيفاء والتوفية، بمعنى أن الكفيل ليس أكثر من أن يُحضر المكفول إلى صاحب الدين، فإذا أحضره برأت ذمته، سواء وفَّى أو لم يُوفِ، أو أعطى أو لم يعط، فإنَّ ذلك ليس من لوازم ذلك ولا واجباته، ولا تنتقل الكفالة إلى كونها ضمانًا إلا في حال واحدة، وهي ألا يحضر المكفول، فإنه في هذه الحالة ينتقل الحق عليه من إحضار البدن إلى تعلق ذمته بالوفاء وأداء المال الذي عليه، فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: ما دام أنَّ الكفالة متعلقة ببدن المكفول عنه، قال: فتصح ببدن من عليه حق مالي، فيُخرج ذلك ما كان عليه حق غير مالي لا يُستوفى إلا من المكفول عينًا.
فعلى سبيل المثال: لو كان المكفول عليه حد، فالحد في هذه الحالة متعلق بشخصه وعينه، ولو لم يحضره فإنه لا يمكن أن يُستوفى من شخص لم يقترف ما يُوجب الحد، وبناء على ذلك يقولون: إذا كان عليه حد، كحد زنا، أو حد قذف، أو حد سرقة، فإنه لا كفالة فيها لعدم إمكان الاستيفاء من الكفيل.
ومثل ذلك أيضا: لو كان عليه قصاصًا، فلو أن شخصا فقأ عين شخص آخر، أو قطع أذنه، أو يده، أو قتله، فهذه محل من محال القصاص، فبناء على ذلك: ما دام أنه لا يمكن الاستيفاء من غير من جنى وأذنب، فإنَّ الكفيل في هذه الحالة لا يُستوفى منه، وبناء على لا تصح الكفالة في هذا الباب؛ لأنها تُفضي إلى عدم ما فائدة. فأنت تحضر المكفول لئلا يجب عليك الحق، فإذا ضمنت أنَّ الحق لا يجب عليك، فلن تتكلف وتجتهد في إحضار المكفول، فلئلا تضيع حقوق الناس، جاء الشرع بالإذن بالكفالة وإحضار البدن، ولكن فيما يمكن الاستيفاء منه عند تعذر إحضاره، فكما قلنا: هي تتعلق بالبدن.
وهي في الغالب تتوجه إلى من لا يُعرف، فلو أنَّ شخصًا قَدِمَ إلى السوق من غير أهل البلدة فلا يعرفه أحد، فلو جاء شخص وقال: أنا أكفله لكونه يعرف منزله، أو محله الذي ينزل فيه ربعه ويقيم فيه، أو تقيم فيها قبيلته على سبيل المثال، ففي هذه الحالة يحتاج إلى الكفالة.
ولو تعلقت الكفالة بالمعرفة. كحال من لا يستطيع الوصول إليه، فقال: أنا أعرفه. فهل يُكتفى بأن يُعرفه أو الطريقة في الوصول إليه، أو لا بد من إحضار بدنه؟
جرى جمع من ل العلم وقرره بعض فقهاء الحنابلة، ونقل عن الإمام، أنه إذا تعلق بمعرفته اكتفى بذلك، فإذا عَرَّف الدائنَ موضع منزل المكفول -مكان إقامته- ونحو ذلك، فحصل به المقصود، بريء من التبعة، وفي هذا محل للكلام والخلاف.
قال: (وَبِكُلِّ عَيْنٍ يَصِحُّ ضَمَانُهَا) أي مثل: العارية المضمونة، وأمَّا الأشياء التي لا تضمن أصالة كالوديعة، فهي أصلا لا تجب على المكفول حتى تجب على الكفيل، وبناء على ذلك لا يدخلها كفالة، ولا تتعلق بها.
{قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ رِضَا كَفِيلٍ فَقَطْ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ تَلِفَتِ العَيْنُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ طَلَبٍ: بَرِئَ)}.
قوله: (وَشُرِطَ رِضَا كَفِيلٍ فَقَطْ) يعني: أنه لا يُشترط رضا المكفول، فلو قال: أنا لا أعرفك، ولا أستطيع التعامل معك، فقال شخص: أنا أعرفه، وأنا كفيل به، قال: لا، لا يكفلني. قال: لا أنا كفيل به، فكونك رضيت بالكفالة، فقد تعلق بك الحق، ولو كان المكفول قد نبذها، أو امتنع منها، أو لم يرضها.
وبناء على ذلك قال المؤلف: (وَشُرِطَ رِضَا كَفِيلٍ فَقَطْ)؛ لأنَّ الحق هو الذي يتعلق به الواجب عليه، وبناء على ذلك هو الذي طُلب رضاه دون من سواه.
قال: (فَإِنْ مَاتَ) يقصد من؟ أي: إذا مات المكفول، (أَوْ تَلِفَتِ العَيْنُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى)، فعلى سبيل المثال: لو أنه كفل أن يحضر صالح إلى مجلس الحكم، أو إلى المكفول له، ثم مات صالح، فإنَّه لا واجب على الكفيل؛ لتعذر إحضار العين بموته.
وبناء على ذلك يقول الفقهاء: تنقطع الكفالة في هذه الحال.
(أَوْ تَلِفَتِ العَيْنُ) مثال: هذه العارية تلفت بفعل الله -جل وعلا-، نزلت صاعقة من السماء وقتلت هذا البعير، فإنَّ محل الكفالة قد انتهى، وبناء على ذلك لا يحتاج إلى إحضار المكفول، وبناء عليه يقولون: إن الكفيل يبرأ في مثل هذين الحالين.
أمَّا إن كان التلف بفعل آدمي، فيتعلق الضمان عليه، وتبقى المطالبة في المسألة على ما هي عليه، وكما قلنا: إنه إذا لم يكن ذا وذاك، فلازم إحضار المكفول، وإذا تعذر إحضاره دون ما عُذر كهذه الأعذار التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى-؛ انتقل الحق من كونه إحضارًا للبدن، إلى ثبوت ما عليه في ذمة الكفيل.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَجُوزُ الحَوَالَةُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ إِنِ اتَّفَقَ الدَّيْنَانِ جِنْسًا وَوَقْتًا وَوَصْفًا وَقَدْرًا وَتَصِحُّ بِخَمْسَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ عَشَرَةٍ، وَعَكْسُهُ)}.
قوله: (وَتَجُوزُ الحَوَالَةُ) الحقيقة أنَّ هذا الكتاب كما وصفه ماتنه -رحمه الله- بأنه (أخصر المختصرات)، فكل ما سبق مما وضعها في فصل واحد، هي عبارة عن ثلاثة أبواب أو أكثر من ذلك، فالكفالة فصل مستقل في آخر باب الضمان، والحوالة باب مستقل، فيه طول وفيه تشعبات، والضمان كذلك، ولكن لَمَّا كان مبنى هذا الكتاب على شيء من الاختصار؛ دمجها واكتفى بأمهات المسائل في كل باب منها، فالحوالة هي انتقال حق من ذمة إلى ذمة، أو من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وأصلها من السنة ثابت، فإنَّ النبي ﷺ قال: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فإذا أُتْبِعَ أحَدُكُمْ علَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ» ، وفي رواية: «مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ وإذا أُحِيلَ أحدُكُم عَلَى مَلِئٍ فليَحْتَلْ» ، يعني: ليقبل الحوالة، وهو قول عامة أهل العلم.
وبعضهم ربما خالف فيها، أو قال: إنها على خلاف الأصل، كيف على خلاف الأصل؟!
يقول: لأنَّ الأصل في الشرع منع المبادلة والمناقلة بين الديون، فهذه حقيقتها كأنها بيع دين بدين، هذا الدين الذي على "زيد" بيع بالدين الذي على "سعد"، فقالوا: إنَّ فيها شيئًا من مخالفة الأصل الذي انتظم فيما عند الفقهاء، وعلى ما جاءت به الأدلة.
وابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "إعلام الموقعين"، وهو كتاب عظيم، لا ينفك المتفقه الذي بلغ درجة رفيعة، أو قطع في العلم شوطًا أن ينظر فيه وأن يتأمل، ويستحضر كثيرًا من مباحثه، فأتى على أنها موافقة للأصول، وفصَّل في ذلك تفصيلاً لطيفًا بديعًا نافعًا، ونقول: إن الشرع أصل، وإن كل ذلك له وجه، فالحوالة إنما نُهي عن بيع الدين بالدين، لِمَا فيها من الإيغار في المغامرة وحصول الإشكال، فمنع منها.
ولكن الحوالة هي باب من أبواب التيسير، وتخفيف التبعات على الذمم، فبدلاً من أن تنشغل ذمتان تنشغل ذمة واحدة، فهذا يطالب هذا، وهذا يطالب هذا، فَجُعِلَ هذا يطالب هذا وانتهى الأمر، وفرغت إحدى الذمم، وسلمت من التبعة، وما يتبع ذلك من الطمأنينة والراحة، وكل ذلك مع ضمانٍ للحقوق، فإنما تكون الحوالة على حين يقين بحصول المقصود، والوصول إلى المطلوب، بدون حصول بلاء، أو مطل، أو ما سواه.
فهذه إذًا إشارة إلى أصل ما يتعلق بالحوالة.
قال المؤلف: (وَتَجُوزُ الحَوَالَةُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ)؛ لأنه لو كان غير مستقر، مثل: أحلت فلانًا على هذا الدين، ثم هذا الدين لم يستقر، يعني: لم يوجد، فيفضي ذلك إلى فوات حقه.
أنا أُحِلتُ على فلانٍ لأخذ منه عشرة آلاف، ثم لم توجد هذه العشرة. ما معنى دين مستقر؟ يقولون: غير المستقر مثل مهر المرأة قبل الدخول، فمهر المرأة قبل الدخول يمكن أن يثبت، ويمكن أن يثبت نصفه، ويمكن أن لا يثبت. فلو وُجِدَت فُرقة من جهتها لم يثبت شيء.
فلو أنَّ مهرها ثلاثين ألفًا مثلا، وأنا أطلبها ثلاثين ألفا، فقالت: خذ مكان المطالبة هذا المهر الذي كتب على فلان الذي أراد الزواج بي، فذهبت إليه لآخذه منه.
يعني الآن انتقلت مطالبتي من هذه المرأة إلى زوجها الذي عقد عليها وأراد أن يتزوجها، ثم بعد ذلك تبين في هذه المرأة عيب من عيوب النكاح ففسخ العقد، ولم يجب لها ريالا واحدًا، فيفضي ذلك إلى ماذا؟ يفضي ذلك إلى أن يذهب حقي، فقد أُحيل على شخص، وكان الدين غير مستقر.
وبناء على ذلك لم يجز إلا على دين مستقر. ومثل ذلك يقولون: ربح المضاربة قبل القسمة، ومثل ذلك: مال الكتابة، يمكن المكاتب العبد، هو مكاتب على خمسين ألف، ولكنه عجز، فيرجع إلى سيده، وبالتالي إذا أحلت على ذلك فإنه لا يصح.
إذًا لها أمثلة كثيرة، ولا بد من فَهم قولهم: (على دين مستقر).
ومثل ذلك يقولون: على دين السلم؛ لأنه أحيانًا لا يتأتى حصوله، وهذه مسألة مررنا بها، ولكن فيها تفصيل ليس هذا محل بحثه.
قال: (إِنِ اتَّفَقَ الدَّيْنَانِ جِنْسًا وَوَقْتًا) يعني: لا بد أن يكون الدينان متوافقين، لئلا يكون في ذلك ربا، أي بيع دين خمسة آلاف بعشرة آلاف، وهذا يلجأ إليه الكثير، يعني مثلا بعض الشركات أو المؤسسات لها مستحقات عند شركة أخرى تقدر بقيمة مليون ريال، فيذهب إلى شخص ويقول له: أنت تُطالبنا بخمسمائة ألف، وهم يائسون من هذه المليون، يقولون: خذ المليون بدلا من الخمسمائة ألف مئة، فقم بمطالبة هذا وخذ المبلغ كله. هذا لم يتفقا في المقدار، وبناء على ذلك لم يجز، وكان فيه مفاضلة، فيحصل في ذلك بيع للدين بالدين فلم يجز.
{ماذا لو حصل اتفاق بينهما على مبلغ معين؟}.
لا بد أن يكون مثله، فما وجب على ذمتك ينتقل إلى ذمة أخرى، هذا غاية ما فيه، وإذا زاد أو نقص أو تغير لم يجز.
قال: (إِنِ اتَّفَقَ الدَّيْنَانِ جِنْسًا) فإذا كان مثلا بُرًا فلا بد أن ينتقل إلى بُرٍّ.
قال: (وَوَقْتًا) يعني: لا يكون هذا الدين مؤجلا، أي: بعد سنتين مثلا، والدين الذي عليك حال ثم تحيله، ففي هذا عدم مساواة، ويضر به، ولكن لو اتفقا على ذلك أو تنازل؛ كأنه أجله، ولكن من جهة الأصل لا يلزم الإحالة إلا أن يكون على دين قد اتفق على وقته ووصفه، يعني: الجودة وعدمها، فإذا كانت سيارة مثلا من نوع كذا، وتكون أيضًا من اسمها كذا، وفيها مواصفات كذا، فبعضها يتفقان في الاسم، لكن بينهما تباين في المواصفات. يقولون ما مواصفاتها كاملة؟ ما فيها بعض المواصفات، ما لا مواصفات فيها، فتختلف أسعارها، فلا بد أن يكون من شيء قد اتفقا (جِنْسًا وَوَقْتًا وَوَصْفًا)، وكذلك (قَدْرًا) كما قلنا في المسألة التي قبلها.
قال: (وَتَصِحُّ بِخَمْسَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ عَشَرَةٍ، وَعَكْسُهُ) أي إذا كنت أنا مثلا أطالب فلانًا بعشرة آلاف، وعليَّ خمسة آلاف، فأقول للذي يطلب مني خمسة آلاف، اذهب وخذ من فلان خمسة آلاف، فهنا توافقا، فهذا الشخص صار الآن مدينًا لشخصين، واحد بخمسة آلاف، والآخر بخمسة آلاف، فلا يكون في ذلك إشكال.
أو العكس، فلو كنت أنا مثلا أطالب فلانًا بخمسة آلاف، وهذا يُطالبني بعشرة آلاف، فأحيل بخمسة من خمسة، فيأخذ الخمسة هذه وأنا أعطيه الخمسة التي عليَّ في حينها، فيصح بهذه الصور.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُعْتَبَرُ رِضَا مُحِيلٍ، وَمُحْتَالٍ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ)}.
قال: (وَيُعْتَبَرُ رِضَا مُحِيلٍ) المحيل هو الذي عليه الحق، فسواء وفاه من عنده، أو أحاله على غيره.
فهنا من أُحيل هل يلزمه الإحالة أم لا؟
يقول الفقهاء: إنها تلزم الإحالة إذا اجتمع أمران:
الأول: أن يكون مليئا باذلاً، «وإذا أُحِيلَ أحدُكُم عَلَى مَلِئٍ فليَحْتَلْ»، فلا يكون مماطلاً، ولا يكون مُعسرًا، لأن المعسر إذا أحلت عليه فكأنك أحلت إلى معدوم، أي: ليس عنده شيء، لم يجد لقمة يطعمها بطنه أو له، فضلا عن أن يوفي دينه.
أو مماطل؛ لأن بعض الناس لديهم أموال، ولكنهم جُبلوا على المماطلة والممانعة والتهرب والتخفي ونحو ذلك، ولهم في هذا أساليب كثيرة، يعجز الإنسان عن التحكم فيها، أو إمكان حقه من جهتها.
وبناء على ذلك يقول المؤلف: إذا رضي المُحيل ووجد على مليء باذل، وجبت الإحالة.
قال: (مُحْتَالٍ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ)، فأمَّا من أحيل على غير مليء، فلا يلزمه أن يقبل، وبناء على ذلك لو قال: لا لأن فلانًا ليس عنده شيء، فيجوز له أن يمتنع، وأن يبقى الحق على صاحبه، ولا يكون في ذلك عليه شيء.
ولكن لو أنه أحاله على مُفلس وهو لا يدري، فلا يخلو إمَّا أن يرضى في مثل هذه الحال، فيكون هو الذي فَوَّتَ حقه، أو يشترط ويقول: بشرط أن يكون مليئًا، ففي هذه الحالة له الحق أن يعود.
وأمَّا إذا رضي فلا، وإذا لم يرض وتبين فَلَسُه، فله أن يرجع أيضًا في مثل هذه الحال.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ.
وَالصُّلْحُ فِي الأَمْوَالِ قِسْمَانِ
أَحَدُهُمَا: عَلَى الإِقْرَارِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الصُّلْحُ عَلَى جِنْسِ الحَقِّ؛ مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَيَضَعَ أَوْ يَهَبَ لَهُ البَعْضَ وَيَأْخُذَ البَاقِيَ فَيَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ صُلْحٍ بِلَا شَرْطٍ)}.
هذا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في الترتيب شيء من البديع بدرجة كبيرة، فإنَّ أبواب الصلح لا تنفك في بعض الأحوال من: تبرع وتخلص، وفي بعضها من معاوضة ومبادلة، فلمَّا كانت بينهما، كان من المناسب أن تذكر في آخر ما يتعلق بالمعاوضات، أو في تتمتها.
فذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا الباب، وهو باب (الصُّلْحُ) وأنواعه، وهو الذي يأخذ حكم البيع، أو يأخذ حكم سواه، على ما سيأتي تفصيله، والنبي ﷺ قال: «الصُّلْحٌ جائزٌ بَيْنَ المُسلِمينَ» ، وأمر الله -جل وعلا- بالإصلاح في كتابه، وذلك من أعظم ما تنبعث إليه النفوس، ويكون فيه من اضطراح شح النفوس ومنازعاتها، وزيادة الفجوة بين الإخوة وبين أهل الإسلام، وإتباع النفس لحظوظ هذه الدنيا والتمسك بها، وكلما تخلص الإنسان من ذلك، كان أطيب لنفسه، وأهنأ لعيشه، وأكثر بركة في رزقه، وأتم له في أموره، وفي دينه، وفي دنياه، وفي آخرته عند ربه -بإذن الله جل وعلا-.
فالمؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر أنواع الصلح هنا، فقال: (أحَدُهُمَا: عَلَى الإِقْرَارِ) يعني في بعض الأحوال يدعي شخص على آخر شيئًا، فيدعي عليه هذه السيارة، ويقول: هذه السيارة لي. فهذا إمَّا أنه أخذها من ولده ظانا أنها لولده، ثم تبين أنها لفلان، لكن لمحض اشتداد حاجته إليها أو كذا، ربما ضعفت نفسه في إثبات الحق وردها، فلما جاء قال: هذه سيارتي وليست سيارة ولدك، ولا تصح أن تكون لك، فقال: نعم، أنا أقر أنها ليست سيارتي، ولكن أنا في حاجة لها، وأنت أعناك الله -جل وعلا-، وأنت تحب الخير.
فقال: إذًا هذه السيارة تساوي خمسين ألفا، أعطني ثلاثين ألفًا، وهي لك. فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (الصُّلْحُ عَلَى جِنْسِ الحَقِّ) كأن يُقِرَّ له بدين أو عين فيضع عنه، أو يهب له البعض. وفي مثل هذه الأحوال لا إشكال، أو مثلا يقول: عليك خمسين ألف ولم تؤدها، قال: أنا أقر أنَّ الخمسين ألف ثابتة في ذمتي، وهي من أثر تصادم بيني وبين سيارة تتبع لك، وكنت قد نويت أن أدفع، ولكن تتابعت عليَّ الظروف، ولكن الآن لا أستطيع أن أدفع، فوضع عنه بعضها. فقال: قم بدفع خمسة آلاف من الخمسة عشر ألفا.
إذًا هذا هو صلح على إقرار، على جنس الحق، مثل أن يُقِرَّ له بدينٍ أو عينٍ في وضع بعض الدين، أو يهب له البعض.
قال: أنا أطالبك بعشرين وثق من البر، قال: ما عندي إلا عشرة. قال: أهب لك العشرة، وأعطني العشرة. فيصح هذا.
قال (وَيَأْخُذَ البَاقِيَ فَيَصِحُّ) أي: يكون صحيحًا.
قال: (فَيَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ صُلْحٍ بِلَا شَرْطٍ) إذًا هذا بابه باب التبرع، وبناء على ذلك لا يجوز إلا ممن يصح تبرعه، والناس بالنسبة التصرفات ثلاثة:
- من لا يصح تصرفه.
- من يصح تصرفه ولا يصح تبرعه.
- من يصح تصرفه وتبرعه.
فإذًا من لا يصح تصرفه سيأتينا وهو في باب الحجر، المحجور عليه، وهذا لا يجوز له أن يتصرف سواء في ماله أو في مال غيره.
وأما من يصح تصرفه ولا يصح تبرعه، فمثل: الأولياء على الأيتام والمجانين، وعلى الأوقاف، وما ماثل ذلك، فلهم أن يتصرفوا لمصلحة ذلك المال، أو لمصلحة ذلك الشخص، أو لمصلحة ذلك الوقف، ولكن ليس لهم أن يتبرعوا من تلك الأموال، بل إنما تصرف في وجهها، فتصرف على الموقوف عليه، أو تصرف على اليتيم، أو تصرف على المجنون بحسبه، ولا يتصرف تبرعًا وإعطاءً وبذلاً؛ لأنه لا يفتات عليهم، ولا يطلب الخير إلا لهم، ولا خير لهم في التبرع، ولا خير لهم في الإحسان، بل هم أولى به، والحق لهم.
الثالث: هو من يصح تبرعه وتصرفه، وهذا كسائر الناس الذين رشدوا في أموالهم، ولم يكن عليهم تبعة أو مطالبات تمنعهم أو تحبسهم أو يحجر عليهم فيها، فيصح منهم التبرع، ويصح منهم الإسقاط والإحسان ونحو ذلك، فهذا هو الذي يصح منه الصلح في مثل هذه الحالة.
قال: (بِغَيْرِ لَفْظِ صُلْحٍ) لأنهم يقولون: لا بد أن يكون بلفظ الهبة؛ لأنَّها حقيقتها، كأنه وهبه، وبناء على ذلك لا يكون بلفظ الصلح، ويكون في مثل هذه الحالة صحيحا.
ولكن هنا قال: (بِغَيْرِ لَفْظِ صُلْحٍ بِلَا شَرْطٍ) فلا يصح مثلا أن يقول: تقر لي وأنا سأضع عنك، هذا لا يصح، لأنه كأنما شرط على أمر في المستقبل، وبناء على ذلك هو إذا أقر يستحق كامل المبلغ، وليس عليه أن يُسقط عنه.
والعكس بالعكس، وهو أشد منها، أن ينفي المدعى عليه -يعني إما أن يرسل رسولا أو يكلمه بما لا يُثبت عليه شيئًا- قال: أنا لن أقر لك إلا أن تضع عني، فنقول: لا يجوز، ما دام أنك تعلم أنَّ الحق عليك، فلا تساوم على حق شخص ما بأن يضع عنك، أو لأنه ضعيف لا يستطيع المطالبة، أو لا يصل إلى حقه، إلا بأن تبتزه وتأخذ بعض ماله، «بما يستحل أحدكم مال أخيه»؟ لا يجوز. بل إذا كان عليك الحق، تعترف بالحق الذي عليك، ثم تطالبه. وهذا يحصل أحيانًا في أموال الورثة، يدخل على أحدهم مال، وهو يعرف أنه ليس ماله، ثم يبتز الورثة ويقول: أنا عندي مال، إذا أردتم أن أعطيكم فسأعطيكم كذا، فنقول: لا، يجب عليك أن تخبر ما عليك من الحق، وإن ريالاً صغيرًا، أو كان مبلغًا كبيرًا.
فيجب على الإنسان أن يؤدي الحق الذي عليه، وأن يتخفف في ذمته من التبعة يوم لقاء ربه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (الثَّانِي عَلَى غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ بِأَثْمَانٍ عَنْ أَثْمَانٍ فَصَرْفٌ، وَبِعَرْضٍ عَنْ نَقْدٍ وَعَكْسَهُ: فَبَيْعٌ)}.
هذا نوع ثان من أنواع الصلح على الإقرار؛ لأنَّ الصلح صلحان، الآن هو بدأ في الأول، والأول الذي هو صلح لقرار إما أن يكون على جنس، أو يكون صلحا على غير الجنس.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ كَانَ بِأَثْمَانٍ عَنْ أَثْمَانٍ فَصَرْفٌ) يعني: أقر له بمئة دينار من الذهب، ثم اصطلحا على أن يدفع له خمسة آلاف درهم من الفضة، فيقولون: هذا كأنه باعة مئة دينار بخمسة آلاف درهم، فلمَّا كان هذا من باب الصرف، تعلقت به أحكام المصارفة من وجوب المقابضة وعدم التأجيل؛ لئلا يكون ذلك فيه ربا النسيئة وهكذا.
قال: (وَبِعَرْضٍ عَنْ نَقْدٍ وَعَكْسَهُ: فَبَيْعٌ) يعني: لو كان قال: تصالحا بعرض عن نقد، هو يطالبه مثلا بمئة ألف، فصالحه على أن يعطيه عشرين خيمة، فهذا عرض مقابل نقد. أو عشرة جوالات، فهذا أيضا عرض عن نقد.
(وَعَكْسَهُ) أي لو كان أيضًا يُطالبه عشر سيارات، فقال: أعطيك ثلاثمئة ألف وننتهي. فيقولون: يكون مثل البيع، عرض بنقد، أو نقد بعرض، فيكون بيعًا، وبناء على ذلك تتعلق به أحكام البيع، ولو وُجِدَ فيه عيب للحق به ما يلحق البيع المعيب، وما فيه من الخيار ونحو ذلك من أحكام البيع.
ثم قال -رحمه الله-: {(الْقِسْمُ اَلثَّانِي: عَلَى الْإِنْكَارِ: بِأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ فَيُنْكِرَ, أَوْ يَسْكُتَ ثُمَّ يُصَالِحَهُ فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ إِبْرَاءً فِي حَقِّهِ، وَبَيْعاً فِي حَقِّ مُدَّعٍ)}
القسم الثاني: يسمى صلحا (عَلَى الْإِنْكَارِ)، ومثاله: لو أنَّ شخصًا جاء يطالبك ويقول: أنت صدمت سيارتي، ورأى سيارة سوداء من هذا النوع قد صدمت سيارته ثم ذهبت، وإذا سيارتك سوداء تشبهها، فادعى عليك على سبيل المثال. فقلت: لست أنا الذي صدمته، ولست أنا الذي عليه الحق، فأنكر الإنسان أو سكت. قال: كيف سأثبت أنا الآن؟
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: بعض الناس ممكن أن يقول: أنا لن أثبت شيئًا، وهذا يفعل ما يشاء، فيترافعان ويتداعيان، فإما أن يثبت البينة، وإما أن تُطلب اليمين من صاحبه.
فهذا الشخص قال: بدلاً من أن تطول هذه الأمور على هذا الوجه، أنا انتهى منها في حينها. كمْ تريد؟ يقول: ألف ريال، يقول: خذ الألف. فهو طلب السلامة لنفسه فصالحه على الإنكار؛ لئلا يلحقه تبعات وإشكال في ذلك.
وبناء على هذا يكون إبراءً في حقه، يعني: هو أبرأه من هذه المطالبة التي تتوجه عليه مقابل هذا الألف التي دفعها، فهذا في حقه إبراء وبيع في حق مدع.
أما المدعي الذي يقول: أنت صدمت سيارتي، ويعتقد أن له حقًا في قدر إصلاح هذه السيارة، فيقابله بألف ريال، فكأنه باعه شيئًا بشيء آخر.
كما لو قال أحدهم: أنا أطالبك بجوال، قال له: ما لك جوال عندي. قال: أنت أخذت مني جوالا ولم ترده وكذا وكذا. قال: خذ ألفا. فكأنه أخذ الألف مكان الجوال، فهو في حقه بيع، وبناء على ذلك لو سلمه هذا الألف معيبة، فهذه في أحكام البيع، فإذًا تتعلق به هو أحكام البيع، ولكن بالنسبة لمن في حقه إبراء، ليس له أن يطالب بحقوق بيع أو نحوها أو خيار أو خلاف ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ)}.
إذًا الصلح على الإنكار ليس جائزًا على الإطلاق، فليس كل من أنكر فوافق المدعي على ما يتفقان عليه لاحقا، أنه في ذلك مصيب ومحق، بل إنما هذه الصورة تتوجه في صورة واحدة تكون صحيحة، وأن الإنسان لا يعلم.
لو جاءك شخص بعد عشر سنوات وقال: نحن لَمَّا كنا ندرس في الكلية، كنت قد أقرضتك خمسمائة ريال. وأنت لا تذكر أحدًا اقترضت منه، ولا يأتي إلى ذهنك من ذلك البتة، وربما كان الإنسان أدق، وكان يسجل ما يستدين، وما يقترض، وما يجب عليه في ذمة أو تبعة أو نحوها، ويقول: كل ذلك لم يوجد.
ولكنه قال: هذا الذي يطالبني رجل معروف بمهابته وديانته وفضله، فدرءا لهذه الشكوك ومنعا لهذه الريبة، قلت: سأعطيك هذه السجادة أو كذا مكانها، وننتهي ولا تطالبني ولا يبقى في ذمتي شيء لك.
فما كان على سبيل اطراح الحقوق، ومنع بقاء الذمة مشغولة فصحيح، وأما ما كان مبناه على إنكار الحق الثابت، حتى لا يجب عليك إلا الأقل، أو حتى يكتفي المدعي بما دون ذلك، فإن هذا افتيات على الناس، وظلم وعدوان، وأكل لأموالهم بالباطل، فلا يكون ذلك جائزًا، ولا يكون صاحبه في سعة، ولا يسلم، ولو تم ذلك التعامل، وحصل ذلك الصلح؛ فإنه في حقه باطل، وفي حق الآخر صحيح، وعليه التبعة كاملة عند الله -جل وعلا-.
في أحيان كثيرة: القسم الأول يحصل منه، يقول: أنا أذكر أنني اقترضت منك، ولكني لا أدري والله كم؟ فيصطلحان على شيء، يقول له مثلا: سأعطيك عشرة آلاف وننتهي من هذا، فتبرأ ذمتهما، ولكن لو علم أو استبان بأن جاء شاهد، أو حضرت بينة، فالأمر على ما استبان واتضح.
{ولكن -يا شيخ- الأصل في هذا أن ذمم الناس بريئة وليست مشغولة بأي شيء، فإذا طالبه أحد فهو الذي عليه أولا البينة}
نعم بلا شك، إذا طالبك إنسان فليس عليك أن تستجيب له ما دام أنك لم تذكر، والأصل أنه يُوَثَّق وإلا لأفضى ذلك إلى أنَّ كثيرًا من الناس يدعون ويطالبون إخوانهم، خاصة لمن خفت ذممهم، وقلت ديانتهم، وفي أوقات الحاجة يكون الأمر أكثر. ولذا لا ينبغي أن نشغل ذمم الناس ونسهل الوصول إليها بأي سبيل، ولكن من الناس من يقول: لن تضرني مطالبة فلان أو فلان، فلو كانت باطلة فيحمل تبعتها أو وزرها، وإن كانت صحيحة فإني أتخفف، لأنني قد أنسى، وقد يفوت علي، ودرءًا لذلك فنعم.
وأتم من هذا أن بعضهم يقول: هي لي صدقة إن لم يكن حقًا، وهي براءة لذمتي إن كان عليَّ شيء قد نسيته، وهذا إنما هو فعل الخِيرةِ من الناس وأهل الفضل والديانة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ في مَبَاحِث اَلْجِوَارِ
وَإِذَا حَصَلَ فِي أَرْضِهِ أَوْ جِدَارِهِ أَوْ هَوَائِهِ غُصْنُ شَجَرَةِ غَيْرِهِ أَوْ غُرْفَتِهِ لَزِمَ إِزَالَتَهُ، وَضِمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ بَعْدَ طَلَبٍ، فَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ فِي اَلْغُصْنِ وَلَوَاه، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَهُ قَطْعُهُ بِلَا حُكْمٍ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو متصل بباب الصلح، وهو في أحكام الجوار، والأصل في الجوار أنه يُبنى على الصلة، والمحبة، والألفة، والتغاضي عن الحقوق، والتواصل مع الجيران، وفتح المجال لهم في أمورهم، والتوسعة عليهم فيما يحتاجون إليه، إن كان ذلك في أمر اشتراك، أو كان ذلك في أمر مختص، ما دام أنَّ الإنسان يقدر على نفع جاره، فذلك من أعظم أبواب البر وأتمها، ولذلك تكاثرت النصوص، وجاء الكتاب بالإحسان إلى الجار، والصاحب بالجنب، والجار الجنب، وفيه قول النبي: «مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ» ، والاحاديث في ذلك كثيرة جدًا، مع عمومات الشريعة الدالة على أهمية ذلك، ومن حيث الأصل، والذي ينبغي التوصية به ألَّا يُحوج الجوار الى شيء من التداعي أو الخصومة، وأنَّ كل واحد من الجارين يتنازل لجاره، ويتواضع له، وأن يعطيه ما له فيه حق، وما زاد عن ذلك، رغبة في وصية النبي ﷺ، وإحسانًا وطلبًا للأجر والمثوبة، ومنعًا لحصول الإشكال والمنازعة، والنبي ﷺ كما قال: «مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصِيني بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنتُ أَنَّه سَيُورِّثُه» ، فكل ذلك يدل على أهمية العناية بالجار ومنعه.
ولكن بد من بعض الأمور أن يحصل فيها شيء من حرج النفوس وضيقها، فلما كان الأمر كذلك فإنَّ هذا لا يعني حصول الخصومة وارتفاع الأمور إلى القطيعة والمواجهة ونحو ذلك؛ لأنَّ الشرع قد نظم هذه الأمور، وأحسن ما فيها من الأحكام، وبين ما فيها من الحقوق، فلا يتجاوز أحد حق أحد.
ولَمَّا كان الأصل أنَّ لكلٍ حقه، وأنَّ الحد فيصل بينهما، فإنه لا يجوز أحد الحد الذي عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وهذا قد جاء الشارع بإذنه، قال النبي ﷺ: «لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ في جِدَارِهِ» ، وهذا فيه إشارة إلى أهمية أن يتواضع الإنسان لجاره، وأن يعطيه إذا اضطر إلى ذلك واحتاج إليه، ولا ينفك أحد من مثل هذه الحاجات، ولذلك جعل على كل جار أن يحسن إليه جاره، وما كان يمكن الاستغناء عنه، ولا يحتاج إليه حاجة ملحة، وضرورة لازمة، فإن الأصل في الإنسان أنه يمنع أن يُؤذي بذلك جاره، أو أن يتجاوز فيه حقه، وهذا هو الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذه المسائل.
والجوار حكم له خصوص وله حد وعموم، فما الذي يقضى عليه بأنه جار؟
ذكروا فيما مضى، كما جاء في بعض الآثار أنها أربعين جارًا أو بيتا من كل جهة، ولكن كان ذلك في وقت البيوتات الصغيرة المتصلة، فهل يمكن أن نقول الآن: تبقى على ما هي عليه، مع أنَّ في الغالب أن أربعين جارًا لا يتضح حاجة البعيد في مثل رقم الأربعين إلى هذا بوجه من الوجوه، ولا يتقاطعان في مصلحة أو منفعة من المنافع.
ولكن على كل حال نقول: كلما قرب عن ذلك تأكدت الحاجة، وإذا اشتركا في منفعة، فلا شك أن هذا داخل لا محالة، وإذا كانا ملتصقين فهذا عين الجار من كل وجه، فلا ينفك من أن يَلحظ فيه أحكام الجوار وأن يقوم به.
وإذا كان بناية واحدة متصلة، فهذا يظهر فيه حكم الجوار، وعلى كل حال منه ما هو ظاهر، ولو لم الأربعين، أنه في حكم الجوار، ومنه ما هو بين ذا وذاك، ولكنه داخل فيما ضبطه به أهل العلم السابقين، فمن احتاج إليه جاره، ينبغي أن لا ينفك عنه، ولكن إذا اتفقت المنافع أو تشاركا في الحاجات، فإن ذلك أخص ما يكون في الواجب على كل واحد منهما أن يقوما به.
{جزاكم الله خير شيخنا المبارك، وفتح الله لكم فتحًا مبينًا}
هل انتهى الوقت؟ إذًا يكون الاستهلال بهذا في المجلس القادم، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ﷺ.
{أحسن الله إليكم، وزادكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.