الدرس الخامس والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الخامس والعشرون

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائهِ بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلَّى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم/ وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات)، للإمام ابن بلبان الحنبلية الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحهِ فضيلة الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات جميعًا.
{الله يبارك فيكم ويسلمكم.
شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (فصلٌ في المحجور عليهم)}.
نعم؛ استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (فصلٌ: وَيُحْجَرُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيه لِحَظِّهِمْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يُتم علينا نعمه، وأن يُبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من أهل مرضاته، وأن يدفع عنا كل سوءٍ ومكروه، وأن يدفع عنا وعن المسلمين البليات كلها، إن ربنا جوادٌ كريم.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في النوع الثاني من أنواع الحجر، وهو الحجر لحظ نفسهِ، فبعد أن ذكر من يُحجر عليه لأجل الغرماء، ولأجل من زادت ديونه على ما يملك بيده من مال، فيحجر عليه لأجلهم.
وذكر في هذا الباب من كان من السفهاء والأيتام والصغار، الذين لا يحسنون التصرف في الأموال، وربما أفسدوها على أنفسهم، وضيعوها في غير محلها.
ولَمَّا كان هذا المال محترم وأمره مصون، وهؤلاء الأيتام والضعفة محفوظةٌ حقوقهم، مصونون في شريعة أهل الإسلام، حَجر الشارع عليهم التصرف، ومنع أن تطال أيديهم هذه الأموال فيفسدوها.
ولذلك قال الله -جلّ وعلا-: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء:5]، فمنع من إتيانهم الأموال؛ لئلا يفسدوا فيها، ويضيعوها على أنفسهم.
فقال: (وَيُحْجَرُ عَلَى الصَّغِيرِ)؛ لأنَّ الصغير لا يُحسن التصرف في المال، فربما يشتري ما هو بألف يشتريهِ بعشرين ألف، وربما دفع في شيءٍ طاقت إليه نفسه جميع ماله؛ لأنه لا يعرف قيمة هذا المال، ولا يُحسن التصرف فيه، ولا يعرف ما هو الأولى عليه، وما هو الأجدر به، وما هو الأنفع له، فربما باع ماله بأمرٍ تافه؛ ليرضي نفسه، أو ليشبع رغبته وشهوته.
ومثل ذلك (وَالْمَجْنُونِ) وهو أشد.
(وَالسَّفِيه)، فالسفيه هو الذي ربما كبر في سنه، وليس بمجنون، ولكنه لفراغٍ في نفسه، أو لسفهٍ في عقله، لا يُحسن هذه التصرفات، فيبقى كما لو كان صغيرًا، ويتصرف كما لو كان غير بالغٍ ولا حصيف، فيحصل عليه شيءٌ من التجاوزات.
فهذا الباب عقده الشارع إذًا؛ لصيانة هؤلاء في أموالهم، والحفاظ عليهم فيما أبقى الله لهم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مَالَهُ بِعَقْدٍ أَوْ لَا رَجَعَ بِمَا بَقِيَ لَا مَا تَلِف)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لَمَّا كان هؤلاء الذين يحجر عليهم لا يتصرفون في أموالهم، وفي المقابل أيضًا ليس لأحدٍ أن يُمكنهم من ماله، وأن يُسلطهم عليه، فهذا كما لو جعل مالهُ عند بهيمةٍ أو حيوان، فكما أنَّ هذا الحيوان ربما أكل المال وهذه الأوراق حتى أتلفها، وربما بعثرها وقذفها، فكذلك هذا الصغير سواءً بسواء.
فلما كان المتسبب على نفسه هو هذا الذي أعطاهم المال، وهو الذي سلمه إليهم، سواء كان بعقد فإنهم ليسوا من أهل التعاقدات، ولا ممن يصح معهم التعاملات، وبناءً على ذلك وجود العقد كعدمه، فمن سَلَّم إليهم مالًا فعليه تبعة ذلك بأي وجهٍ من الوجوه.
على سبيل المثال: لو جاء شخص معه خمسة آلاف، وأراد أن يجعلها وديعةً عند سعد، فلما جاء إلى سعدٍ في بيته لم يجده، فلئلا يذهب ويعود وجد ابنه الصغير، فقال له: خُد هذه الخمسة آلاف وأعطها والدك، وهو يعرف أنه قد اتفق معه على أن يحفظها، فقام هذا الصغير وبعثرها، أو ذهب واشترى بها، أو أعطاها شخصًا، أو تلفت أو بعضها كيفما كان.
فليس لهذا الشخص أن يُطالب هذا الصغير، ولا أن يُطالب وليه، ولا أن يُطالب أحدًا؛ لأنه هو الذي تَسبب على نفسهِ بإهلاك ماله، وهو الذي مكّن منه من لا يحسن التصرف في الأموال، فيكون عليه تبعته.
قال: (رَجَعَ بِمَا بَقِيَ لَا مَا تَلِف)، فإن كان قد بقي شيء يأخذه؛ لأنه يبقى أنه حقه وماله، لكن إذا لم يبق شيءٌ فكأنك أنت الذي تحملت التبعة، وبناءً على ذلك لا ضمان لِمَا أُتلف في هذه الحال؛ لأنَّ التلف إنما جاء من قِبلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَضْمَنُونَ جِنَايَةً، وَإِتْلَافِ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ)}.
(وَيَضْمَنُونَ جِنَايَةً)، أمَّا لو جَنوا هم بأنفسهم، كما لو أنَّ صغيرًا أخذ حجرًا فكسر به زجاج سيارة، أو نحو ذلك من الأمور، فالجناية عليه يضمنها، وتضمن في ماله لا تضمن في والده.
حتى لو افترضنا أن الوالد امتنع من دفع المال ليس عليه، ومتى ما وجد لهذا الصغير مالا أخذ وإلا فلا، فبناءً على ذلك إن تبرع والده فدفع ما على ولدهِ فحسن، وإن لم يتبرع فليس بمطلوبٍ منه ذلك، ولو كان مليئًا، ولو كان ثريًا ثراءً فاحشًا، إنما وجبت على هذا الصغير تسجل عليه وتحفظ متى ما بلغ وقدر، فإنه يؤخذ منه، وإلا فيطالب بها وإلا فلا.
(وَإِتْلَافِ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ)، كذلك لو أنهم ذهبوا فدخلوا بيت شخصٍ فأخذوا ذهبًا ورموه في سلة المهملات، أو ألقوه في مكان تصريف المياه، ونحو ذلك؛ فنقول هنا: هم الذين تصرفوا، وهم الذين تسلطوا، وحَق الشخص محفوظ، والمال مضمون، وبناءً على ذلك عليهم الضمان، أو أثر جنايتهم.
لكن المسألة الأولى: هو الذي مكنهم، فلأجل ذلك لم يُضمن.
المسألة الثانية: المال مضمونٌ وتسلطوا عليه، فكان عليهم تبعة ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ بَلَغَ رَشِيدًا أَوْ مَجْنُونًا ثُمَّ عَقَلَ وَرَشَدَ انْفَكَّ الْحِجْرُ عَنْهُ بِلَا حُكْمٍ، وَأُعْطِيَ مَالَهُ لَا قَبْلَ ذَلِكَ بِحَال)}.
(وَمَنْ بَلَغَ رَشِيدًا)، يعني حتى يُعطى الإنسان ماله يُشترط في ذلك شرطان:
أولًا: أن يبلغ.
والثاني: أن يكون رشيدًا، وهو الصلاح في المال، وإحسان التصرف فيه، والرشد هنا هو الصلاح في المال، يعني: أن يحُسن التصرف في المال ولو كان سواه سيئًا، كما لو كان -نسأل الله السلامة- عِربيدًا أو فاجرًا أو فاسقًا أو نحو ذلك، فإنه لا يمنع أن يُعطى ماله، ولكن بشرط أن يكون يُحسن التصرف، فما يساوي عشرة لا يدفع فيه إلا مثل هذا المبلغ أو أقل، وإن كان أكثر من ذلك فأكثر فيما هو محلٌ للتأرجح والتفاوت دون ما سوى ذلك.
إذًا لا بد أن يكون بالغًا، وأن يكون رشيدًا، وإلا فلا يدفع إليه.
فكما قلنا الرشد هو الرشد في المال، يعني بالصلاح في التصرفات المالية، كما أنَّ الرشد في النكاح هو معرفة الكفء من عدمه، فكل محلٍ له رشدٌ يليق به.
قال: (أَوْ مَجْنُونًا ثُمَّ عَقَلَ)، الجنون منه ما هو جنونٌ مطبق -نسأل الله السلامة والعافية- وهؤلاء لا ينفكون من جنونهم، ولا يعود إليهم عقلهم، وهذا ليس بالقليل، فهؤلاء إذا بقي على جنونه فلا تزال عليه ولايةٌ، ولا يزال قائمٌ عليه من يصلح أمره وينفق عليه في لباسهِ وكسوته وما يَحسن البذل فيه من مأكٍل ومشربٍ يليق به.
أمَّا المجنون غير المطبق وهو الذي يشفى منه الإنسان، الآن الناس لا يعرفون هذا النوع أو لا يصفونه باسم الجنون فيشتبه عليهم، وهذا في تصنيفات العلوم الحديثة الآن يسمونه: انفصام الشخصية، والذي له شخصيتان.
وعلى كل حال: انفصام الشخصية ليست درجةً واحدة بل درجات، فمنها درجةٌ يكون فيها الشخص مجنونا في بعض الأحوال، وفي بعض الأحوال لا يكون مجنونًا، أو شخصٌ يكون كذلك فيه هلوسة والتضييع ثم يعقل؛ فهذا هو محل البحث.
إذا عقل بعد جنون، ففي هذه الحالة يُدفع، وكما قلنا: الناس لا يُطلقون عليه اسم مجنون، وهذا في الغالب إما أن يكون -نسأل الله السلامة- خِلقة خَلقه الله عليها، أو بسبب بعض ما عاناه من بعض الأمور التي تحدث له ذلك.
والأكثر من هذا: أن يكون من أثر تعاطٍ للمخدرات والسموم، ولكن إذا كان الجنون من أثر تعاطي المخدرات وما في حكمها، فعند أهل العلم أن هذا من جهة تصرفاته مُؤاخذ، بمعنى أنه لَمَّا كان جُنونه الذي وصل إليه بفعل نفسه، فكأنه هو الذي تسبب على نفسه بالجنون، وبناءً على ذلك لا ترفع عنه المؤاخذة، مثلًا لو شتم شخصًا، أو اعتدى عليه، أو طلق، أو نحو ذلك.
ولكن من جهة الولاية عليه والقيام عليه: فهذا شأنٌ آخر، فكل من زال عقله على سبيل التمام أو على سبيل التقطع، فإنه تجب عليه الولاية في تلك الحال، ويلزم من يقوم به لئلا يفسد ماله، ولئلا يتسلط عليه بالإهلاك.
ولذلك قال: (ثُمَّ عَقَلَ وَرَشَدَ انْفَكَّ الْحِجْرُ عَنْهُ بِلَا حُكْمٍ) أي: إذا عقل السفيه أو المجنون أو رشد الصغير بعد بلوغه، انفك الحجر عنه بلا حكم حاكم، يعني: بمجرد العلم؛ لأنه لا يختلف في ذلك، والولي مؤتمنٌ على هذا، ويحسن هذه معرفة ذلك، وبناءً على هذا قال: (وَأُعْطِيَ مَالَهُ لَا قَبْلَ ذَلِكَ بِحَال).
إذًا، إذا لم يعقل ولو طالب أو خيف عليه الهلكة فإنَّا لا نمكنه من المال، ومثل ذلك لو لم يبلغ، ولو كان ولدًا حصيفًا، وغلامًا يافعًا يحسن التصرفات لا نعطيه المال، أو بلغ لكنه ليس برشيد فلا يعطى، فإذًا حتى يعطى لابد من اكتمال هذه الأمور كلها.

{ثم قال -رحمه الله-: (وبلوغ ذكر بإمناء، أوْ بِتمَام خمس عشرَة سنة، أوْ بنبات شعر خشن حول قبله، وأنثى بذلك وبحيضٍ، وَحملهَا دَلِيل إمناءٍ)}.
إذًا هذا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ذِكر العلامات التي يحصل بها البلوغ، والعجبُ أن البلوغ يمر من أول كتاب الطهارة، والعادة عند الفقهاء أن يذكروا الشيء في أول ورودهِ، ولكن لعل سبب ذلك أن ذِكره هناك -يعني البلوغ- عرضًا، وذكره هنا هو محل بحثه، فلأجل ذلك أخروه إلى هذا الموضع؛ لأنه موضع ذكره أصالةً لا سواه.
وبناءً على ذلك: يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وبلوغ ذكر بإمناء)، إذًا ما هي علامات البلوغ؟ ذكر الفقهاء ثلاث علاماتِ للرجل، وتزيد المرأة برابعةٍ وهي الحيض.
فأولها إمناءٌ، والمني هو ماء أبيض غليظ يخرج من الإنسان دفقًا بلذة، يعني: بالغلبة، فلا يستطيع الإنسان منعه، فإذا بلغ الإنسان، ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ [النور:59]، يعني: القذف والاحتلام، فبناءً على ذلك فإنهم يعتبروا في مصاف الرجال، ويبقى أن يُعرف رشده فيدفع إليه ماله.
فإذًا هذه هي العلامة الأولى.
الثانية: (بِتمَام خمس عشرَة سنة)، فإذا بلغ خمسة عشرة سنة فإنه يكون بالغًا، لذلك ابن عمر عُرض على النبي وهو ابن أربعة عشرة سنة فرده عن لجهاد، فلما بلغ خمسة عشرة سنة قَبله وأذن له، فدل ذلك على أن هذا هو علامة للبلوغ، وإيذانٌ بالتكليف، فبناءً على ذلك جعله الفقهاء علامةً على ذلك ودليلًا عليه.
(أوْ بنبات شعرٍ خشنِ حول قُبله)، يعني لابد أن يكون الإنبات، وأن يكون حول القُبل، سواءً كان للذكر أو للأنثى، وأن يكون هذا الإنبات لشعرٍ خشن، فربما تنبت شُعيرات أو شعر لكنها مسترسلة، فهذه ليست علامةً من علامات البلوغ.
فلابد أن تكون حول الُقبل، وأن تكون خشنةً، وبناءً على هذا لو كانت عند القُبل لكنها ليست خشنة بل مسترسلة، فنقول: ليست علامةً من علامات البلوغ، لو نبتت على غير القُبل كما لو كانت مثلًا في الإبطين أو نحوها، فإنها ليست علامةً من علامات البلوغ.
إذًا هذا هو الثالث: إنبات شعرٍ خشن، والدليل في هذا جاء في قصة اليهود لَمَّا حُكم بسبي ذراريهم ونسائهم وقتل مقاتلتهم، كان يُكشف عن متزر الواحد، فمن أنبت قُتِلَ، ومن لا فإنه يكون حكمه حكم النساء والصبيان، فدل هذا أنه علامة من علامات البلوغ.
(وأنثى بذلك) يعني بالثلاث: الإمناء، وتمام خمسة عشرة سنة، وإنبات شعرٍ خشن حول قُبلها، وتزيد بالحيض، فإذا نزل الحيض وهو دمٌ ينزل في كل شهر في وقتٍ معتاد، له مدةٌ محددة لا يزيد عنها ولا ينقص، ويتكرر ذلك بتكرر كل شهر فهو علامةُ من علامات البلوغ.
لهذا قال النبي : «لا يَقبَلُ الله صلاةَ حائض إلا بخمارٍ» ، يعني: من بلغت الحيض؛ لأنها بلغت، وإلا الحائض لا تصلي، فالمقصود من بلغت سن المحيض.
والحيض قال فيه النبي : «إنَّ هذا شيءٌ قد كتبَهُ اللَّهُ على بَناتِ آدمَ» ، فهو مما يدل على بلوغها.
(وَحملهَا دَلِيل) على (إمناءٍ) يعني: إذا حملت المرأة، فالحمل ليس بنفسه هو الدليل على البلوغ، ولكن المرأة لا تحمل إلا أن تكون قد أمنْت؛ لأن النبي قال: «إِذَا سبق مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الأنثى أَذْكَرَ بإذن الله»، وفي روايةٍ: «إِذَا عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الأنثى أَذْكَرَ بإذن الله، وَإِذَا عَلا مَاءُ الأنثى ماء الرجل آنَثَ بإذن الله» .
فعلى كل حال: لا يمكن أن تكون المرأة حاملًا إلا بالإمناء وبالحيض، ولذلك تقول عائشة إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع حيضها، فدل ذلك أنه علامةٌ عليه.
إذًا هذه هي العلامات الخاصة بالبلوغ: ثلاثةٌ في حق الرجل، وأربعة في حق المرأة، ليس للبلوغ علامةٌ غيرها، وبناءً على ذلك ما يكون من خشونة صوت، أو ما يكون من إنبات شعر إبط، أو ما يكون من إنبات شعرٍ في الوجه، أو ما يكون من تفلك صدر الجارية، يعني: استدارة صدرها وبروزه؛ فكل هذه ليست علامات للبلوغ، وإن كانت قرينةً عليه، فهي من جهة بناء الأحكام وترتب أحكام البلوغ لا تعتبر، ولكنها قرينة، يعني: إذا رأينا كذلك نظن أنه قد بلغ، فينظر في الأشياء الأخرى.
وهنا مسألةُ مهمة: وهي أنَّ كثيرًا من الآباء والأمهات يبلغ الولد أو البنت بالعلامات غير السن، كالحيض والإمناء ودون ذلك، يعني: بعضهم بإحدى عشر، وبعضهم باثني عشر، وهذا يختلف فيه كل أحدٍ بحسبه، فأحيانًا المنطقة أو المكان يختلف، وأحيانًا الجينات وما جعله الله -جلّ وعلا- في هذه الأسرة أو في هذا العرق أو نحو ذلك.
فعلى كل حال: يكون منهم عدم عبءٍ بهذه الأمور، وقد يفضي هذا إلى أن البنت التي بلغت لا تصلي، أو لا تحافظ على واجباتها، أو لا تؤدي صيامها، وكثيًرا ما تأتي الأسئلة بأنها بلغت الحيض ولم تعلم أنَّ الصوم واجبٌ عليها لثلاث سنوات أو لسنتين.
والعلة في ذلك راجعةٌ إلى الآباء والأمهات، في أنهم لا يُعلمون أبناءهما ما يتعلق بذلك، ويجب على الآباء أن يرفعوا الحياء في مثل هذه المسائل، وأن يبينوا ما يليق بكل أحدٍ بحسبه، فالمرأة بالنسبة لبناتها تبين لهن ما يتعلق بهن من أحكام.
بقي مسألةٌ مهمةٌ وهي بالغةٌ في الأهمية، وهي أنَّ كثيرًا من عبارات أهل العصر، وهي عبارات أهل القانون، يعبرون بقاصر أو غير قاصر، فهل هذه كلمةٌ مرادفةٌ للبلوغ أو لا؟
فنقول: ليست مرادفة للبلوغ، بل بالعكس بينهما تباينٌ أو اختلاف، فعلى سبيل المثال: القاصر في عرف القوانين أو أكثرها من بلغت ثمانية عشر عامًا، وما دون ذلك يعتبرونها قاصرًا، فنقول في مثل هذه الحال:
أولًا: يجب أن يُعلم أنَّ مناط الأحكام والتكاليف إنما هي بالبلوغ، والبلوغ بالعلامات المتقدمة، وينبغي ألا يلتفت عن هذه الاصطلاحات الشرعية الفقهية المعلومة التي تنطبق عليها الأحكام إلى التعبير بالعبارات القانونية المحدثة.
ثم أيضًا إذا عُبّر بهذه التعبيرات فينبغي ألا يطلق الحكم مُباشرةً، بل يقال: ماذا تقصد بالقاصر؟ فإذا قال: القاصر هي امرأةٌ بنت إحدى عشر سنة، فنقول: هذه عندنا ما دام أنها لم تحض ولم يكن منها إنزالٌ، فإنها غير بالغ، فيصح أن يقال: إنها غير بالغ، وإذا سميتها غير قاصرٍ فصحيح.
لكن لو جاءتنا امرأةٌ تحيض أو امرأةٌ بلغت ستة عشر سنة فهي في عرفهم قاصر، ولكنها في عرف الشارع واصطلاح أهل الفقه والعلم بالغٌ.
وبناءً على ذلك: الانتقالُ إلى الاصطلاحات القانونية أو المحدثة أو غير الشرعية، يُفضي إلى شيءٍ من اللبسِ والإشكال في بعض الأحكام، وكثيرٌ من الناس تأتي عليه مثل هذه التعبيرات أو الاصطلاحات فيفوت الكثير من الأحكام الشرعية بناءً على ذلك.
فالمناط والحكم والمرد والمرجع إنما هو إلى اصطلاح الشارع، وإلى ما جاءت به النصوص، وإلى ما دلت عليه الأحكام، وإلى ما قرره علماء الفقهِ المعتبرون من أئمة المذاهب الأربعة دون ما جدّ من اعتبار هذه القوانين المخالفة لِمَا جاء به الشرع.
لكن هنا تأتي بعض المسائل التي يرد فيها الإشكال، فيقولون مثلًا في التزوج بالصغيرة، ويعبرون عنه بتزويج القاصر ونحو ذلك، طبعًا من جهة الحكم الشرعي أنَّ الأمر في ذلك فيه سعةٌ، وجاء في الشرع ما يدل على هذا، والنبي عقد على عائشة وهي ابنة ست، ودخل بها وهي بنت تسع سنين.
فهذا من جهة الشرع جائزُ، وله أحكامٌ مذكورةُ في أحكام الأولياء في باب النكاح، ستأتي بإذن الله، لكن إذا رأى السلطان الحدَّ من ذلك لإسراع الناس إلى تزويج من لا تكون أهلا للتزويج، أو تزوج بغير كفءٍ لأجل بعض الأعراف القبلية، أو لأجل الطمع المادي، أو لغير ذلك من التجاوزات
فللسلطان أن يقُيد المباح في ذلك تحصيلًا للمصلحة المتحققة من الإطلاق العام، فيكون في ذلك منعٌ للناس من التجاوزات، وهذا له أدلة، وله شواهد في الشرع، وفي عمل عمر -رضي الله تعالى عنه- وغيره.
ولكن ينبغي أن نعلم، وهي مسألةُ من الأهمية بمكان: أن الانتقال من المصطلحات الشرعية إلى المصطلحات القانونية مدعاةٌ إلى حصول اللبس أو الدخول في الإشكال وتغيير الأحكام، وحصول الخلل والغلط.
{شيخنا هنا قد تبقت مسألة: مثلًا هناك ثلاث علامات للبلوغ ذكرناها وهي: الإمناء، تمام خمسة عشر، ونبات شعر خشن، هل يشترط حتى يحصل البلوغ أن تتم كاملها الثلاثة، أم أن واحدة منها يكفي ويعتبر بالغًا؟}.
بلا شك هذه مسألة مهمة: متى ما حصلت واحدةٌ من هذه العلامات حصل البلوغ، وتعلق به التكليف، وانتهى حكم الصغر.
وبناءً على ذلك: أحيانًا يبلغ خمسة عشر عاماً ولم يكن منه إنباتٌ ولم يكن منه احتلام، ومثل ذلك المرأة حتى ولا يكون منها حيضُ، والعكس أحيانًا في سن الحادية عشر يكون من الصبي إنزال أو يكون من المرأة حيضٌ، أو يكون إنباتٌ، فإذا وجدت واحدةٌ من هذه العلامات وجد البلوغ.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُخْتَبَر بِمَا يَلِيقُ بِه، وَيُؤْنَسَ رُشْدُهُ، وَمَحَلُّهُ قَبْلَ بُلُوغٍ، وَالرُّشْدُ هُنَا إِصْلَاحُ الْمَالِ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فَلَا يُغْبَنَ غَالِبًا، وَلَا يَبْذُلَ مَالَهُ فِي حَرَامٍ وَغَيْرِ فَائِدَة)}.
قال: (وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُخْتَبَر بِمَا يَلِيقُ بِه)، هذا هو أمر الله -جلّ وعلا-: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء:6]، فأمر بالابتلاء، والابتلاء هو الاختبار والامتحان، نصت على ذلك الآية.
فإذًا البلوغ علامته ظاهرة، ولكن الرشد ومعرفة حسن التصرف في الأموال هذا أمرٌ خفي، فلما كان خفيًا كان لابد من العرض والاختبار والنظر، فبناءً على ذلك يُؤتى به، ويُعطى شيئًا من المال، وينظر هل يحسن التصرف فيه أو لا؟
وأهل العلم يقولون وهو ظاهر تعبير الماتن هنا، قال: (حَتَّى يُخْتَبَر بِمَا يَلِيقُ بِه)، يعني كلٌ بحسب ما كان عليه والده من صنعه، وما يعرفه من عمل.
وبعضهم يقول: لا، إنَّ التصرف هو شيءٌ من الملكة توجد في الإنسان، فإذا وضع إليه المال صار يعرف قيمته، فلا يَتصرف إلا بما يحسن، وإذا لم يتبين له في ذلك مصلحةٌ، فإنَّ رشده يستدعيه بأن يسأل أو يستأني حتى يطمئن إلى أن تلك المعاملة صحيحةٌ.
فعلى كل حال: لابد من الاختبار والتوقي سواء قيل بأنه بما ألفه من صنعة والده وأخيه ومن حوله، أو كان ذلك على سبيل العموم.
المسألة الثانية: هل يوكل إليه الأمر على سبيل الإطلاق، بمعنى أنه يعطى شيئًا من المال فيتصرف، فيمضي البيع ونحوه. هذا ظاهر كلام الحنابلة -رحمه الله تعالى- فيمتحن ويبيع ويشتري وينظرون، فحتى لو غُبن، فكأنهم يقولون: إنَّ المصلحة المترتبة على ذلك وهو أن يحفظ بقية ماله، كفيلةٌ بأن يؤذن له لينظر في هذا الأمر، أو في إحسانه وصلاحه في ماله.
وبعضهم وهو مذهب للشافعية ونحوه، قالوا: إنه لا يعطى الصلاحية المطلقة، بل إنما يُفوض إليه معالجة مُقدمات البيع وخطواته، يعني يُنظر هل سيساوم ويرفع فوق ما تستحق هذه السلعة ويستعجل إليها؟ هل سيفحص السلعة قبل قبضها، فينظر هل هي سليمةٌ من العيوب ونحو ذلك؟
المهم أنهم يقولون: إن الاختبار يتأتى بدون إتمام العقد، ولكن بتحصيل مقدماته.
على كل حال: إن تأتى ذلك فهذا هو الأكمل والأحفظ لماله، وقد تبين حقيقة حاله من رشدٍ أو عدمه، وإن قيل: إنه يختبر حتى يلي ذلك بنفسه ولو أخطأ، فإن المصلحة مرجحةٌ على ما فات من إفساده لذلك المال أو تفويته لذلك، فهذه مصلحةٌ كبرى تستحق هذا.
فعلى كل حال: هذا هو مما جرى به الخلاف بين الفقهاء.
قال: (وَمَحَلُّهُ قَبْلَ بُلُوغٍ)، يعني هذا الوقت يكون قبل وقت البلوغ بيسير، يعني: إذا قارب البلوغ، هذا يتبين إذا كان بالسن، ولكن إذا كان ذلك بالعلامات الأخرى فالظاهر أنه لا يتبين إلا إذا أحس منه، كأن يكون من الابن تتوق نفسه إلى النظر إلى الفتيات أو نحو ذلك، والبنت تغيرت نظرتها ونحو هذا، فيمكن أن يكون هذا.
على كل حال: إن تأتى العلم قبل ذلك بيسير ويختبر أكثر من مرة، قالوا: يختبر، ولا يكفي أن يكون الاختبار مرةً أو مرتين، بل يختبر أكثر من مرة حتى يطمئن إلى أن تعامله في ذلك صحيحٌ
ثم قال: (وَالرُّشْدُ هُنَا إِصْلَاحُ الْمَالِ)، ما الذي يتأتى به إصلاح المال؟
قالوا: يتأتى باثنين:
أن يبيع ويشتري فلا يغلب غالبًا، التفاوت في الأسعار، تفاوت أهل الأسواق معلوم، هو تفاوتٌ يزيد قليلًا وينقص قليلًا ويعتبر مقبولا، فلا يكون الذي زيد عليه هذه الزيادة متهمٌ في عدم رشدهِ أو حصول سفه، وبناءً على ذلك نعتبر ذلك وخاصة أن الإنسان يتمرن ويتدرب ويزداد خبرةً ومعرفةً ودقة، فإذا كان هذا الغبن أو إذا كان هذا التفاوت يسيرًا فلا يعتبر في دائرة الغبن، فبناءً على ذلك لا يصح الحكم برشده.
لكن كم هذا القدر الذي يتفاوت؟
بعضهم قال: إنه عشرين بالمائة.
من نفس القيمة والسلعة يعني؟
نعم، فإذا كانت مثلًا تساوي مئة فاشتراها بمئةٍ وخمسة عشر، يقولون: لا يعد من الغبن، وإنما هذا مما تتفاوت الأسواق والناس والحاجات ونحوها، لكن إذا تجاوز مئة وعشرين فيعتبرونه غبنًا.
على كل حال: قد مر بنا في خيار الغبن أنه منوطٌ بالعرف، فيمكن أن يكون المقصود هنا فيما العرف فيه ذلك، فيكون هذا أنهم شُهر عندهم أن العشرين في المئة يكون فيها غبن.
وعلى كل حال: لما اتسعت الأسواق، واختلفت الأمور، وتباينت المعطيات، فإن السلع قد تختلف الربح فيها، وما يحكم فيه بالغبن من عدمه، باعتبار أن هذه السلعة سلعةٌ يعتاد الناس شراءها كثيرًا ويحسون بالفرق القليل فيها فيعتبر الغبن فيها في أقل الأمور، وبعض السلع التي لا تُشترى إلا بين وقتٍ طويلٍ وآخر فالتجار يعوضون عدم رغبة الناس بزيادة سعرها زيادةً ربما تصل إلى الضعف أو سواه.
فعلى كل حال: الأسواق عالمةٌ وحاكمةٌ بما يكون فيه التفاوض، وما يكون فيه الغبن، وما لا يكون، فمرد ذلك إلى ما استقر به السوق وعُرف في كل حالٍ بحسبه، إذًا هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية قال: (وَلَا يَبْذُلَ مَالَهُ فِي حَرَامٍ وَغَيْرِ فَائِدَة)، بذل المال في الحرام إما أن يكون مرةً واحدة، في مثل هذه الحال لا ينفك أحد عن مثلها، ولو قلنا أنه يحجر بمثل هذا لأفضى ذلك إلى إشكالٍ كبير، وإن قيل بأنه يعتاد هذا أو يكثر فهذا بلا شك أنه يحجر عليه.
فمن يبذل ماله في الحرام كثيرًا، ويتجاوز ذلك فإنه يمكن الحجر عليه، فإذا علم مثلًا من هذا الولد أنه يذهب إلى أماكن الفسق والفجور فيفسد المال في الفواحش، أو في القمار، أو في نحو ذلك من الأمور المحرمة، فطلب إخوته أو أولاده إذا كان كبيرًا متزوجًا أن يمنع من التصرف ويحجر عليه للسفه فيكون.
والفقهاء ذكروا ما هو أيسر من ذلك بكثير، فقالوا: النفط، النفط عند الفقهاء المتقدمين هو مثل المفرقعات والألعاب النارية وما في حكمها، فيعتبرون هذا نوعٌ من السفه الذي يوجب الحجر.
الحقيقة: أن الناس في هذا الزمان لَمَّا رغدت أحوالهم بالمال والنعم، زادوا في الترف والرفاه والتكثر، وهنا تقدم بنا مسألة مهمة في أول باب البيع، وقلنا: إن شراء الغالي ليس في كل الأحوال يكون مذمومًا، بل ربما كان الرخيص لقلة بركته ولسرعة تلفه.
لكن هنا بذل المال في الحرام بالتبذير، بشراء ما لا فائدة فيه، فإذا كان الإنسان يشتري مئة ثوب وهو لا يحتاج إلا إلى خمسة أثواب، فهذا نوعٌ من الإسراف، وإذا كان الإنسان في كل يوم يطلق هذه الألعاب والمفرقعات، ونحوها.. فهذا نوع من التبذير.
قلنا هنا تبذير وهناك إسراف: ما الفرق بينهما؟
التبذير هو بذل المال في غير حلٍ كيفما كان، أما الإسراف هو بذل المال فوق ما يستحقه ما يبذل فيه، فمثلًا لو أنَّ إنسانًا دعا شخصا إلى عشاء، فهذا أمرٌ مشروع أن يبذل فيه مأدبةً وطعامًا ونحوه، فإذا زاد كان مسرفًا، لكن لو ذهب شخصٌ فاشترى بعض أشياءٍ فمزقها أو ألقاها أو أتلفها فهذا تبذير؛ لأن بذل المال في غير حله.
أما الإسراف فهو أن يبذل فوق ما يستحقه الشيء، فيزيد في ذلك زيادةً تخرج عن الحد المعتاد، أما بذل المال في الخير فلو بذل ماله كله فلا إسراف في الخير، كما قال غير واحدٍ من السلف، وإن بذلت ريالًا واحًدا في غير ما أو درهمٍ واحد في غير ما فائدة كان إسرافًا أو تبذيرًا بحسب الحال.
وهنا الناس يتفاوتون، وهي مسألةٌ مهمة وهي من الأهمية بمكان، وكثير من الناس لا يُحسن النظر فيها، فعلى سبيل المثال: لو اشترى شخصًا ساعة بعشرة آلاف ريال -على سبيل المثال- وهو من ذوي الثراء والمال، لم يكن ذلك في حقه إسرافًا، وربما لو اشترى شخصٌ ساعةً بألف ريال لكان في حقه إسرافًا، لكونه حال احتياج وفقر عن أن ينفق مثل هذا المال في مثل هذه الحاجة، ومثل ذلك مثلًا الجوالات، وهي كثير ما يطلب الناس التساوي فيها، ويأخذون آخر إصداراتها، لا، ربما كان شراء شخصٍ لآخر إصدارٍ منه نوع إسرافٍ لكونه لا يستطيع مثل ذلك ويعوزه غاية العوز، ويُلحق به الرهق والتعب.
وبناءً على ذلك يدخل هذا في نوعٍ من الإسراف، وربما يكون ما دونه من الإصدارات هو كفيلٌ بقضاء حاجته، ومناسبة سعره، وعدم التكلف في ذلك والإسراف.
ومثل هذا الآن تبذير في السفر، بعض الناس يسافر وينفق في ذلك أموالا طائلة بغير ما فائدة، فما كان في القدر الذي يحصل به نزهة النفس وهي إلى مكانٍ يباح له فيه السفر، ولا محذور عليه في ذلك، فلا غضاضة على الإنسان أن يروح عن نفسه وعن أهله، وله في ذلك أجرٌ إذا نوى به الإحسان إليهم ومنعهم من الحرام، وحملهم على الخير، وحثهم إذا رجعوا أن يقووا على عبادة، وينشطوا إلى طاعة، ويجتهدوا في دراسة، أو في عملٍ، أو في سوى ذلك؛ فهذا حسن، ولكن ما زاد عن هذا فلا، وكلٌ يختلف بحسبه، فإنه يعتبر في حقه ذنب.
وهذا الوقت الذي تداعت إلى الناس هذه المنصات، منصات التواصل، وهي فواصل وبلاء ومحنة وشدة كبيرة، أكثر مما يكون فيها من الخير، وتثقيف الناس وصلاح أمر بعضهم، فإن كثيرًا من الناس يتداعون إلى التساوي أو إلى التماثل في بعض الأغراض أو الحاجيات، ويتكلف الفقراء، فإن هذا كله داخلٌ في المحرم ويلحق بهم الإثم أن يتكلفوا شراء ذلك.
وعلى الذين يدعون الناس عبر المنصات بالتكثر والتفاخر بما هم فيه من نعمة، وربما كان في بعض أحوالٍ كثيرة أنها ليست حقيقة، وإنما هي وسيلةٌ لدعاية يقبضون عليها الأموال، ويشعرون الناس أنهم يتنعمون في ذلك ويتنقلون، فهذا أعظم ما يكون من السوء، وأشد ما يكون من البلاء، وأقرب ما يكون من تحصيل الشر على أنفسهم، وإن قبضوا بذلك بعض شهوة، أو حصل لهم بعض غرضٍ في مالٍ أو سواه، فإن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئًا، ولا ينبغي للناس أن يتسارعوا إلى هؤلاء متابعةً، ولا اقتداءً، ولا تكلفًا.
والعجب أنَّ كثيرًا من الناس لضحالة عقله في متابعة هؤلاء، ولعلنا إذا أذنتم لنا أن نخرج قليلاً، ولكنه متعلقٌ بما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّ بعض الناس في متابعة هؤلاء عبر هذه المنصات، يظن أنَّ هؤلاء في سعادةٍ ورفاةٍ لا تنتهي، وأنه لا يأتي إليهم البأس، ولا يتطرق إليهم الهم، وأنهم يتنقلون بين نعمةٍ ونعمةٍ لا يرون سواها البتة، وهذا خاطئ، فإنه لا ينفك أحدٌ من الهم، كتابٌ كتبه الله -جلّ وعلا- على أهل هذه البسيطة.
وهذا المنشور الذي يُنشر في الغالب إذا كان عبر هذه القنوات، هو يسجل لعشرات المرات حتى يخرج بهذه الصورة.
فأحيانًا دقيقة واحدة هي غاية ما يخرج في اليوم، "دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث أو خمس"، ويصور لعشرات المرات حتى يُخرج على هذه الصورة، لكن أين ثلاث وعشرين ساعة وخمسين دقيقة؟ يأتي فيها عليه ما يأتي عليك، إن كُفي مؤونة الأموال وغيرها، ابتُلِيَ في الصحة ونحوها، أو في العلاقة مع والد أو مع ولد، أو مع زوجة، أو مع أهل، أو غير ذلك، لا ينفك أحدٌ من هذه البليات.
فعلى الإنسان أن يقنع، وأن يقتنع، وأن يهنأ، وأن يطمئن بما آتاه الله، ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:131].
وإن من رحمات الله على عباده أن أسرع ما يُبين عن حال هؤلاء، فكثيرًا ما يخرجون في مرات وهم في حال بلاء، أو فتنة، أو في خلاف وخصومة، أو في منازعة، أو في شروٍر كثيرة، وهذه سنة الله -جلّ وعلا- في خلقه، فالله الله في البعد عن هؤلاء.
والله الله أيها المتفاخرون بما أوتيتم، أو المتكثرون بما لم تعطوا، اتقوا الله في أنفسكم وفي المسلمين، فوالله الذي لا إله غيرهُ، لبعض فعل الحرام صراحةً -يعني المعصية- في بعض الأحوال أهون من بعض هذه الممارسات، إذْ أن الناس يعرفون أن هذه معصيةُ وأنها حرامُ، وأن فاعلها يجب عليه الاستغفار.
لكن هذه ملتبسةُ، فيظنون أنها من التوسع في الدنيا، وهي حقيقتها إنما هي في المفاخرة المحرمة التي تُحرق قلوب أقوام، وتحمل أناسًا آخرين إلى أن يمتعضوا أو أن يتكلفوا أو أن يرهقوا أنفسهم بالديون، ولربما خربت بيوت، وحصل فيها طلاق، أو جرى فيها شقاق، أو تقاطع الأب مع أبيه؛ لأنه لم يوفر له ما يتعاطه ذلك بأبسط سبيل أو أيسر طريق.
فالله الله في الحذر من ذلك، والبعد من هذا، فإنه داخل فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من البذل في الحرام، والاسترسال فيه، وهذا أعظم أبوابه، وأكثر ما يكون بلاءً في هذا الزمان من طرقه.
{أحسن الله إليكم، شيخنا ذكرنا ثلاث معان بين الإسراف والتبذير، طيب نأتي مثلًا في المقدمة على الزهد، هل بينهما تلازم مترابط بين الإسراف والزهد؟}.
أول شيء الإسراف أمرٌ محرم، لا يجوز للإنسان أن يسرف، فإذا أسرف لحق به الإثم، ولكن شراء الإنسان ما يليق به، وهذا يختلف بعرف الناس، فإنه ليس فيه عليه غضاضة، ولا يلحقه تبعة، ولكن الإسراف هو فعل زائد في المشروع، فيلحق الإنسان الإثم بقدر ما زاد فيه وأسرف.
أمَّا الزهد فحقيقته ترك ما لا ينفع في الآخرة، وكثير من المباحات يترفع عنها، وكثير من التوسعات يبعد عنها طلبًا لِمَا يكون أقرب إلى ربهِ وأرجى عند مولاه، والتورع هو الذي قريب من الإسراف أو التبذير أو نحوه.
التورع هو درجةٌ أخرى تقابل الزهد، وهو ترك ما يخشى ضرره، يعني: عندنا فعل الإسراف محرم، عندنا شخص ما يدري هل هذا إسراف أو لا؟ فهذا يدخل في التورع، فما دام أنه يخاف أن هذا يضر، فهو يبعد عنه خشية أن يقع في الحرام.
وأمَّا الزاهد فهو كل ذلك قد أبعد عنه؛ حتى المباحات التي هي مباحةٌ يتقلل منها طلبًا لِمَا يكون أنفع له في آخرته، وأقرب له عند ربه.
{أحسن الله إليكم، وبارك الله لنا فيكم شيخنا المبارك}.
نُكمل إن شاء الله في الدرس القادم، ما أخذنا اليوم إلا قليل، ولعل فيه خير.
{الحديث معكم له شجون}.
بارك الله فيك.
{الشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك