الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

17105 27
الدرس الخامس عشر

أخصر المختصرات 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، مرحبًا بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) والذي نشرح فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام/ محمد بن بلبان الدمشقي الحنبلي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ المفضال الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان- باسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياكم الله شيخ عبد الحكيم}.
الله يحييك، أهلًا وسهلًا.
{الله يرفع قدرك ويبارك فيك، في اللقاء الماضي كنا قد توقفنا عند قوله: (فَصْلٌ وَالشُّرُوطُ فِي البَيْعِ ضَرْبَانِ)}.
نعم استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ وَالشُّرُوطُ فِي البَيْعِ ضَرْبَانِ: صَحِيحٌ كَشَرْطِ رَهْنٍ، وَضَامِنٍ، وَتَأْجِيلِ ثَمَنٍ. وَشَرْطِ بَائِعٍ نَفْعًا مَعْلُومًا فِي مَبِيعٍ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وَمُشْتَرٍ نَفْعَ بَائِعٍ؛ كَحَمْلِ حَطَبٍ أَوْ تَكْسِيرِهِ، وإن جَمَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ: بَطَلَ البَيْعُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الشاكرين، وأوليائه المتقين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا نسوا تذكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وأن يَعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذريتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا تزال هذه الجادة ممتدة بطلبة العلم، وموفقةً -بإذن الله جل وعلا- بمن انضوى في لوائها، واستقام على طريقها، وطلب العلم في مناهجها ومسالكها.
وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعل عملكم خالصًا، وأن يجعل تمامكم تمام خير وتوفيق وعلم كثير، وأن يجعل ذلك رفعة للعلم، ومنارًا له باقيًا خالدًا أبد الدهر، يا رب العالمين.
كنا في نهاية الدرس الماضي أتينا إلى إطلالة في (فَصْلٌ وَالشُّرُوطُ فِي البَيْعِ ضَرْبَانِ) فذكرنا الفرق بين الشروط في البيع، وشروط البيع، وذكرنا أنَّ الشروط في البيع منها ما هو صحيح، ومنها فاسد، وبدأنا في الصحيح، وذكرنا أنه ثلاثة أنواع، ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- منه نوعين وأغفل واحدًا، وذكرنا سبب الإغفال.
أولاً: هذا الكتاب مبناه على الاختصار، ثم ذلك متضمن في أصل العقد فلا يحتاج إليه.
وقبل أن نستكمل ما كنا قد توقفنا عنه عنده، وهو النوع الثالث من الضرب الأول، لابد أن يُعلم أنَّ الشروط في البيع عند فقهاء الحنابلة لابد أن يكون منصوصًا عليها في العقد أو في وقت الخيار.
بمعنى أنه إن حصلت هذه الشروط قبل العقد، ثم لم يُنص عليها في العقد فلا فائدة فيها، بمعنى: لو أردت شراء سيارة، فاشترطت أن يكون فيها مثلًا ساحبٌ -هذه الآلة التي يُسحب بها شجرة أو سيارة أخرى أو غير ذلك- فقال: نعم فيها، ثم لَمَّا جئت تكتب العقد لم تذكر هذا الشرط، ثم عقدتما فتبين أنه ليس فيها شيء من ذلك، فلا يلزمه لك شيء، لماذا؟ نقول: لأنَّ الشرط الذي يتعلق الوفاء به هو الذي في صلب العقد أو في وقت زمن الخيار.
والحقيقة أن الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فَرَقُوا هنا بين أمرين، وهو أنهم جعلوا ذلك هنا في البيع، ولكنهم في النكاح قالوا: والذي قبله معتبر فيه، أي: ما يتفقان عليه، ولعله اعتبار بأن أحوال النكاح يجري فيها أخذ ورد وأشياء كثيرة فاعتبروها.
ومما يُحتاج فيها أيضًا إلى بيان الفرق بدقة، ولعل ذلك أن يكون عند دراستنا له، أن نبحث فيما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في التفريق بينها؛ لأنَّ بعض الناس يكون منه عدم معرفة بهذه الأحكام، فإذا وقع وقع في ورطة، ودفع مالاً يظن أنه قد حَصَّل فيه نفعًا وقد فات عليه، وإنما أوتي من جهله بالحكم، وعدم معرفته بما يلزم في العقد.
{شيخنا أحسن الله إليك، هل الوقت المعتبر هو وقت إبرام الصفقة؟}
إمَّا أن يكون إبرام العقد مكتوبًا يتفقان ويمضيان في ذلك توقيعًا ونحوه، وإمَّا أن يكون شفهيًا، فهو الوقت الذي يحصل فيه الإيجاب والقبول، فإذا قال: بعتك بعشرين ألف، قال: اشتريت ولكن بشرط كذا وكذا وكذا، أو قال: الخيار لي أسبوع، وفي وقت الخيار أَشرط عليك أن يكون فيها كذا، لماذا؟
لأنه في وقت الخيار يمكن أن يترك البيع بدون إذن، فالبيع لم يتم من كل وجه، وبناء على ذلك إذا اشترطا في هذا فنعم، وأما ما قبله فلا.
قلنا: إن الشروط منها شرط لمصلحة العقد، وهذا مر بنا، كأن يشترط الرهن أو أن يشترط تأجيلًا أو نحوه في الثمن فيجوز.
النوع الثالث، قال: (وَشَرْطِ بَائِعٍ نَفْعًا مَعْلُومًا فِي مَبِيعٍ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا)، فأحيانًا يبيع الإنسان الدار، ويشترط أن يسكن فيها شهرًا، أو يبيع السيارة، ويقول: أشترط أن أنتفع بها إلى نهاية الفصل -هذه العشرة أيام- وبعد أن ينتهي أخر يوم من الاختبارات أسلمك السيارة، فنقول: هذا صحيح، سواء كان الاشتراط من جهة البائع أو كان من جهة المشتري.
فلو قال المشتري للبائع: بشرط أن تُوصل لي المبيع إلى البيت، ولكن هنا يقولون: لابد أن يكون البيت معلومًا مكانه؛ لئلا يكون مكان البيت بعيدًا فيتضرر من ذلك.
والدليل أنَّ النبي اشترط الحملان إلى المدينة، وذلك لَمَّا باع بعيره في طريق عودته من إحدى غزوته.
ويمكن أن يشترط البائع والمشتري شروطًا في آن واحد، يعني: هذا يشترط السكنى، وهذا يشترط مثلا أن تُصبغ الدار بعد الخروج، أو أن تُضيف إليها أدوات معينة مثلًا في أماكن الطبخ أو غير ذلك. فإذا شَرَطا شيئًا من هذا، فهما على ما اشترطا.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ: بَطَلَ) وفي هذا النوع -الثالث- يقول: لا يزيد على أكثر من شرط، وأما في الأول والثاني فيكن أن يكون شرطًا أو شرطين أو ثلاثة أو أربعة، وما دام أنها لمصلحة العقد فلا إشكال فيها.
سؤال: لماذا منع الفقهاء أكثر من شرط، فأجزتم الشرط ولم تجيزوا الشرطين؟
قالوا: جاء في بعض الأحاديث النهى عن شرطين في البيع، فقالوا بظاهر هذا الحديث، وإن كان في الرواية الثانية عند الحنابلة أنَّ الشرطين كالشرط، وتكلموا في الحديث من جهة الصحة، ومن جهة المعنى، ولهم في ذلك كلام طويل ليس هذا محلا له.
والحقيقة أنَّ عمل الناس اليوم، على أنه يمكن أن يكون من شرط، والفتيا على تصحيح ذلك، وله أصل صحيح، وقد احتيج إلى التنبيه على هذا لأهميته.
{قال -رحمه الله-: (وَفَاسِدٌ يُبْطِلُه كَشَرْطِ عَقْدٍ آخَرَ مِنْ قَرْضٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ مَا يُعَلِّقُ البَيْعَ؛ كَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أَوْ رَضِيَ زَيْدٌ)}.
الضرب الثاني هو الفاسد، والفاسد ثلاثة أنواع كالأول.
منه ما يبطله، كتعليق شرط بشرط، يقول مثلًا: بعتك السيارة بعشرة آلاف على أن تقرض أخي ثلاثة آلاف. هو لَمَّا اشترى السيارة بعشرة آلاف، والذي يقابلها عشرة آلاف وعقد لابد. هذا العقد كم يساوي؟ ما ندري.
قالوا: فيه تعليق عقد بعقد، والثمن ذا صار الثمن وعقد، ليس له ثمن محدد، وبناء على ذلك لم يصح، وبعضهم يُدخل هذا في النهي عن بيعتين في بيعه، فيحمل هذه على هذه الصور، ولذا منعوا منها.
قال: (مِنْ قَرْضٍ وَغَيْرِهِ)، مثل ذلك أن يقول: بعتك هذه الأرض على أن تؤجرني دارك الفلانية، أو أن تبيع زيدًا -عبدك فلان-، فيقولون: إن الثمن الذي هو المسمى، والعقد الآخر لا يمكن أن يعرف حقيقته كم يساوي.
{أحسن الله إليكم شيخنا، الآن من ضمن الصور المعاصرة الإجارة المنتهية بالتمليك، فهل تدخل في هذا؟}
عقد الإجارة المنتهية بالتمليك هو عقد ملفق في حقيقته، وهو مستورد من أناس لا حد لهم في العقود، يعني: من الجهات الشرعية والصحة ونحوها، فهم يتبايعون بالربا، ويتبايعون بالقمار، ويتبايعون بأي شيء، ولا حد لهم. وما الشريعة ما شرَّعوه، ولكن عندنا هذه أمور قد رعاها الشارع، وحفظ المصالح للعباد كل بحسبه، فلا يمكن أن نأتي بما نشاء، أو أن نجيز الربا، أو أن نجيز المحرم والقمار.
عقود الإجارة المنتهية بالتمليك صورها كثيرة، وهي من حيث الأصل مشتملة على عقدين في عقد، عقد بيع وعقد إجارة، وعقد البيع له أحكام تتنافى مع أحكام الإجارة، فالبيع العين منتقلة، والإجارة العين باقية، والمنفعة منتقلة.
الضمان في الإجارة على المالك، وفي البيع انتقل الضمان للمشتري.
فهنا ما الذي حصل؟
حقيقة هذا العقد أنه جيء بكل ما في عقد البيع من مصلحة للبائع فأخذوها، وجيء إلى كل ما في البيع من تبعات فجعلت على الآخر.
وجيء إلى عقد الإجارة فكل ما فيه من منافع أخذوه، وكل ما فيه من تبعات أعطوه، فلأجل ذلك مثلًا يأخذ "الْمُقَدَّم"، وهذا "الْمُقَدَّم" لأي شيء؟ هل هو إجارة، أم ماذا؟
في الإجارة كلما استفدت منفعة -يومًا أو شهرًا أو نحوه- أعطيت أجرةً. إذًا لماذا هذا المقدم؟ هل هو شراء، أم تقول إن السلعة ليست لي؟ إذًا هنا تعارض.
نأتي إلى الضمان، خربت السيارة، هم يقولون ضمان على الذي هي بيده، فالذي بيده هو مستأجر، والأصل أن الضمان على المالك، وهو من يقوم بإصلاحها. لذلك صاروا مثلًا إلى عقود تأمين والخروج من ذلك، ولكن يلزمون بدفع هذا.
فالحقيقة أن هذا العقد -أول شيء- أغلق أبواب خيرٍ كثيرة، مثل: بيوع التقسيط التي الْحِلُّ فيها لا إشكال فيه ولا خلاف، والحكم فيها واضح من كل وجه، ثم جيء بعقود ملفقة وفيها إشكالات كثيرة، وفيها ظلم وعدوان، هذا من حيث الأصل.
ولذلك في المحاكم تجد كثيرًا من هذه الإشكالات، التي لا حد لها، طبعًا هذا من حيث الأصل كما قلت لك.
جاءت بعض الجهات الشرعية ونحوها، وحاولت أن تُكيف هذا العقد بما لا يحصل فيه مخالفة شرعية أو تعارض في الأحكام، ولكن جملتها فيها كالولد المخدَّج، ولا نستطيع في الحقيقة أن نحكم فيها جميعًا بالمنع، ولكن من حيث الأصل فهذه عقود فاسدة، وأنَّ تصحيحها بعيد، وأنَّ حصول ذلك صعب للغاية.
لكن من جهة الواقع والأحكام فلا أدخل فيها، وكل عقد بحسب ما فيه من الشروط، وقد تتباين هذه، وقد يفسد الشرط في بعضها ويبقى العقد صحيحًا، ويكون عقد بائع، وبعضها يكون عقد إجارة من كل وجه، وما فيه من أحكام بيع تُفسد، وبعضها لا يمكن إصلاحه من أي وجه كان.
قال: (أَوْ مَا يُعَلِّقُ البَيْعَ؛ كَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أَوْ رَضِيَ زَيْدٌ)، هذا هو النوع الثاني من الفاسد، والذي يفسد معه العقد، وهو تعليق عقد البيع، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة كما هو قول جمهور الفقهاء: تعليق البيع سبب للمنازعة، فتعليق البيع يُفضي إلى أنك لا تدري هل السلعة ستؤول إليك؟ ومتى ستؤول إليك؟
إن (رَضِيَ زَيْدٌ)، قد يرضى اليوم، وقد يرضى بعد شهر، وقد يرضى بعد سنة. ولأجل ذلك قالوا: إنَّ فيه تذبذب، فلا يدري الإنسان هل تنتقل إليه السلعة والمبيع، أم لا؟ وهل يُستحق عليه الثمن أو لا؟
فلما كان الأمر كذلك قالوا: هذا لا يجوز، والأصل أنَّ العقود عندها الحقوق، فلا ينبغي أن يكون فيها سبب لثغرة يكون منها المنازعة، أو يكون منها الظلم على واحد منهما. فقد يتأخر فيتضرر أحدهم، وقد يتعجل فيتضرر الآخر، وهكذا.
قال: (أَوْ رَضِيَ زَيْدٌ)، يظن أن زيدًا لا يزال أمامه شهر، وهذا الشهر يمكنه أن يجد له بيتًا آخر أو نحوه، وهو عرف أن زيد سيأتي، ومن الغد قال زيد: رضيت، فحصل على هذا إشكال، وهكذا.
ويستدلون من هذا التعليق على المشيئة -قول إن شاء الله؛ لأنَّ المقصود منها حصول .... ولا يقصد منها معنى التعليق في حقيقته.
وأيضًا ما يتعلق ببيع العربون، وبيع العربون فيه نوع تعليق، ولكن الحنابلة على القول بصحته؛ لأنه جاء عن بعض الصحابة، وهو أن يعطيه شيئًا من الثمن فيقول: إن اشتريت وإلا فهو لك.
لعل سبب التصحيح هنا أن لا يلحق الإنسان ضرر من كل وجه، بحيث أنه لو انقطع العقد أو فُسخ، فإنه يكون له، أو أخذ ما يُقابل ذلك من العربون المقدم له في أول العقد.
{قال -رحمه الله-: (وَفَاسِدٌ لَا يُبْطِلُهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا خَسَارَةَ أَوْ مَتَى نَفَقَ وَإِلَّا رَدَّهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَرَطَ البَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَبْرَأ)}.
قال: (وَفَاسِدٌ لَا يُبْطِلُهُ) هذا النوع الثالث، وهو الفاسد الذي لا يُبطل العقد، وهو يُنافي حقيقة العقد، ولكن يمكن معه صحة العقد، فيقولون: لو شرط ألا خسارة، والأصل في الإنسان أنه إذا اشترى الشيء لا يمكن أن يُضمن له الربح، وإلا كانت حقيقته ليست معاوضة ولا بيع ولا شراء، وبناء على هذا يقولون: إذا شرط (ألا خسارة) نقول: إنَّ شرطك هذا لاغٍ ولا اعتبار به، ولكن العقد صحيح.
ومثل ذلك: (مَتَى نَفَقَ)، نفق من النفاق وهو الرواج، وأما إذا قلنا: "نَفِقَ" فإنها تكون لمعنى آخر، ولا يصح؛ لأنه يكون بمعنى: الهلاك والتلف.
إذًا (مَتَى نَفَقَ وَإِلَّا رَدَّهُ) هذا بسبب أنَّ الملك إذا اشتراه الإنسان، فإنه ينتقل تعلق أثاره وعينه بالمشتري، فلا يمكن أن يعود على البائع بالرد في حال عدم رواج السلعة ورغبة الناس فيها.
بعض الشركات إذا لم تروج السلعة أو لم يستطع صاحب المحل أو نحوه بيع السلعة؛ فإنهم يردونها، فهنا كيف تكون الصورة؟
الحقيقة أنَّ أقرب ما تكون الصورة فيها أنها ليست بيعًا، وأنَّ صاحب المحل إنما هو كالوسيط، يأخذ سمسرة مُقابل بيعها، وهي باقية على مِلك صاحبها، ولكن حتى تكون الصرة صحيحة لابد أن يكون فيها شرط واحد، وهو أنه لو تلفت بدون تعدٍ ولا تفريطٍ من صاحب المحل، فهي تتلف على صاحبها الأصلي.
الواقع أنها إذا تلفت بسبب الجو وما شابه حسبوا على صاحب المحل، فإذا كانت بهذه الصورة لا يمكن أن نقول إنه وسيط؛ لأنَّ الوسيط أمين، والأمين لا يضمن إلا أن يكون مُتعديًا أو مُفرطًا.
وبناء على ذلك: تكون من هذا النوع فلا تجوز، أو فيكون الشرط فاسدًا فلا يصح فيها البيع، والأصل في هذا قصة بريرة لَمَّا أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها، فاشترط أهل بريرة أنَّ الولاء لهم، قال : «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لهمُ الوَلَاءَ، فإنَّ الوَلَاءَ لِمَن أَعْتَقَ» يعني: شرطهم فاسد، وقال: «فَما بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليسَتْ في كِتَابِ اللهِ، ما كانَ مِن شَرْطٍ ليسَ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهو بَاطِلٌ، وإنْ كانَ مِئَةَ شَرْطٍ» ، لم يكن أو وجودها كعدمها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ شَرَطَ البَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَبْرَأ)، هذا يحصل في الأسواق كثيرًا، وأما شرط البراءة من عيب معلوم -هو يعرف العيب ولم يخبر به- فهذا تضليل، ويلحقه التبعة، ولا يجوز له فعل ذلك. لكن يقول: السلعة لا أدري ما حقيقتها، نقول: حتى وإن لم تدر، فإذا شرط البراءة سواء كان هذا العيب الذي بدا ظاهرًا أو كان خفيًا، أي في باطنها؛ فإنه ما دام أنَّ هذه العين كانت تبعك، فما فيها من العيوب عليك تبعتها بكل حال.
يقول بعض الفقهاء: إذا كان العيب باطنًا فيبرأ بالبراءة، وَوسَّعُوا في ذلك، ولكن الأصل أنَّ هذه العين تبعك، ومتعلق بها كل ما فيها من حسن أو نقص، فيلحق بالإنسان الضمان، إذا وجد فيها، أو الخيار للمشترين إذا وجد فيها شيء من هذه العيوب، ولو طلب البراءة لم يبرأ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ: وَالخِيَارُ سَبْعَةُ أَقْسَامٍ: خِيَارُ مَجْلِسٍ، فَالمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا عُرْفًا)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في الخيار، والخيار من: "اختار، يختار، اختيارًا"، والخيار اسم مصدر، والفرق بين المصدر واسم المصدر أنَّ اسم المصدر يشتمل على معنى المصدر دون حروف، اختار، اختيارًا، فكل ما في الفعل "اختار" موجود في المصدر، لكن اختار خيارًا، نجد أن بعض الحروف ذهبت.
وبناء على ذلك يقولون: هو اسم مصدر، والخيار الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هو طلب خير الأمرين، من الفسخ أو إمضاء العقد.
والأصل فيه: السنة واتفاق أهل العلم من حيث الجملة على جوازه؛ لأنَّ النبي  يقول: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا» ، والإجماع منعقد على ذلك في الجملة، وهو قول عامة أهل العلم لا يختلفون في ذلك. ولأنه لَمَّا كانت عقود الناس قد يلحق الإنسان فيها أحيانًا الندامة أو يجد فيه شيئًا في نفسه، فجعل له الخيار فسحة له؛ لئلا تفوت عليه أمواله، أو تفوت عليه سلعته، أو نحو ذلك، وهذا خيرة لهما جميعًا -للمتعاقدين- على حد سواء، فإنهما قد يمضيان الشيء ثم يتبين لهما خلافه، فلمن تبين له الخيار ما لم يُضر بصاحبه.
وذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنواع هذا الخيار حسب ما جاءت في الأدلة، استقصاها الفقهاء وجمعوها في هذا الفصل.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (خِيَارُ مَجْلِسٍ)، والمجلس يراد به المجلس أو المكان الذي تم فيه عقد البيع، فالمتبايعان بالخيار؛ لأنَّ النبي قال: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا» يعني: من مجلسهما، ولكل واحد قد عقد هذا البيع، ثم لحقه شيء من الندامة، تحسف على ما أمضى فقال: لا أريد البيع، أو رجعت عن إمضاء العقد، فله ذلك.
ولا يشترط رضا الآخر ما دام أنه في زمن الخيار، فلكل واحدٍ منهما أن يختار إمَّا الإمضاء أو الفسخ.
الخيار في البيع وما في معناه مثل ما ذكر الفقهاء حتى في: الإجارة، أو في السلم، أو في الصلح الذي بمعنى البيع، في كل هذه الأشياء يقولون: إنها يدخل فيها الخيار، كما يدخل في البيع، وهي فروع عنه.
قال: (فَالمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا)، إذًا لو انشغلا ببعض حديث أو نحوه لم يدخل في ذلك، يقولون: التفرق بالأبدان مرده إلى العرف، ففي الدار الكبيرة يكون بالخروج من الغرفة التي فيها العقد إلى غرفة أخرى، وإذا كانوا في سفينة يكون بذهاب أحدهما إلى أعلاها وذلك إذا كان في أسفلها، وإذا كان في أعلاها نزل إلى أسفلها، فقد تفرقا وهكذا، وإذا كانوا في صحراء بأن يعطي هذا دبره، وهذا يذهب إلى جهة أخرى وهكذا.
لكن يقول أهل العلم: إن التفرق مبناه على التفرق المعتاد، لذلك لا يجوز لأحد منهما أن يتقصد التفرق حتى يُفوت صاحبه الخيار، ولا يحل له أن يخرج خشية أن يستقيله صاحبه.
وقد جاء عن ابن عمر شيء من هذا، ولكن أهل العلم قالوا: إنَّ العبرة بالحديث، وأن ما جاء عن ابن عمر أنه كان يخرج أو يمشي الخطوات ليثبت البيع، أن هذا اجتهاد منه ولم يصل إليه الحديث، وهذه طريقة أهل العلم في الالتماس خاصة لمن هو من أصحاب النبي ، وكابن عمر الذي هو حريص على السنة في العذر له فيما خالف ظاهر هذا الحديث، وقد يكون له أيضًا اجتهاد في لم نعرف وجهه، فلأجل ذلك كان معذورًا -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
الآن ما يتعلق بالمبايعات التي تتم عن بعد، متى ينتهي فيها الخيار؟
{ينتهي الخيار إذا كان الشراء من خلال المواقع الإلكترونية بعد إغلاق الصفحة}.
طيب الهاتف؟
{بعد إغلاق المكالمة، أو إذا أعطاه مثلا مهلة}.
قال بعض الفقهاء: إذا خرج من المكان الذي أصدر فيه القبول، يعني أنه من الإيجاب، قال: بعتك وأرسل لها الورقة مثلًا، ووصلت إليه بعد يومين، قال: قبلت. يقولون: ما دام قال قبلت، فإذا خرج من هذا المكان انتهى وقت الخيار.
{ولكن هو في الغالب يكون قبل}.
الأشهر عند أهل العلم المعاصرين أن ما كان بالهاتف ينتهي بإغلاق السماعة ونحوه.
لكنهم نصوا على أنه إذا خرج من المكان الذي أصدر فيه القبول؛ لأنه في ظاهر النصوص أن متعلق التفرق هو الأبدان، فالبيع يتم بعد القبول، فلأجل ذلك يكون بعد خروجه، وهي محل بحث، وهذا ما يذكر، أو ما عليه العمل، أو ما اشتهر من أنه إذا أغلق الصفحة، أو إذا أغلق الجوال، أو إذا خرج من الواتساب فقد انتهى.
وهذا له وجه وهو الذي عليه الفتوى وعليه العمل، ولكن يحتمل ما ذكرناه خاصة أنه قد نصَّ عليه بعض الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
{قال -رحمه الله-: (وَخِيَارُ شَرْطٍ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا مُدَّةً مَعْلُومَةً)}.
خيار الشرط يعني: أن يشترط أحدهما على الآخر، قال: أنا أشتري منك بشرط أن يكون الخيار ثلاثة أيام، أو بشرط أن يكون الخيار يومًا، أو بشرط أن يكون الخيار أسبوعًا، أو بشرط أن يكون الخيار شهرًا؛ لأنَّ النبي  قال: «أو يُخيِّرُ أحدُهما صاحبه»، فجعل مرد ذلك إلى ما يتفقان عليه من وقت الخيار.
والمشهور عند الحنابلة، وإن خالف فيه من خالف من الفقهاء، يقولون: حتى ولو كانت المدة طويلة؛ لأنَّ هذا هو الذي اتفقا عليه، وقد جعل لهم الشارع ولم يقيده، فلم تقيدونه بثلاثة أيام أو نحوها؟
قال بعضهم: لئلا تطول فيتضرر أحدهما أو نحوه، ولكن قالوا: ما دام أنَّ الحديث فيه الإطلاق، وجعل له الشارع فسحة، فإنها لا تقيد بقيد ما لم يأت ذلك بنص، أو يدل عليه دليل.
{شيخ أحسن الله إليكم. هل الطول هذا له ضابط؟}.
يقولون: إذا اتفقا عليه، فما دام أنهما قد اتفقا عليه، وهي مدة معلومة -أهم شيء أن تكون المدة معلومة- سواء كان شهرًا أو أكثر أو أقل.
ولأجل هذا الذي تقوله: أي أنه إذا كانت المدة طويلة، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنها تقيد بثلاث.
{قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ حِيلَةً ليربح في قرض وَلَمْ يَصِحَّ اَلْبَيْعُ)}
ما معنى هذا؟ هذ معناه أنه جرى عمل بعض الناس على أنَّ البيع ليس مقصودًا، ولكنه طريق إلى أن ينتفع المقرض من المقترض. بمعنى: فلان يملك دارًا ولا يرغب في بيعها، ولكنه في حاجة إلى مئة ألف، ولم يجد أحدًا يقرضه هذه المئة ألف، فيأتي هذا الشخص ويقول لغيره: هل تشتري مني هذه الدار بمئة ألف ولي الخيار ثلاثة أشهر؟ ثم بعد الأشهر الثلاثة، يرد البيع ويرد المئة ألف ومن ثم يأخذ داره!
ماذا حصل ها هنا؟
كأنه اقترض قرضًا جرَّ نفعًا -أي: لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَرْضٍ يَجُرُّ نَفْعًا- وهي سكنى الدار، فهو جعلها حيلة لنفع المقرض، فيكون بابه باب الربا، وهو القرض الذي جرَّ نفعًا، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا كان قد فعلا ذلك على سبيل الحيلة للقرض لينتفع فلا يجوز، وأمَّا لو حصل ذلك اتفاقًا فلا إشكال، يعني هو اشترى البيت، ودفع وجعل الخيار ثلاثة أشهر، ولكن في نهاية الثلاثة أشهر قال: لا أريد، فَرَدَّ هذا عليه المبلغ وأخذ الدار. فنقول: لا بأس بذلك، ولكن إذا كان قد أنشأها حيلة لأجل أن يصل إلى هذا، فهذا الذي يكون محرمًا ويحاسبان على ما وقع في نيتهما.
{قال -رحمه الله-: (وَيَنْتَقِلُ المِلْكُ فِيهِمَا لِمُشْتَرٍ)}
هذه مسألة من المسائل التي فيها إشكال كثير، وهي الملك في زمن الخيارين لمن؟ بمعنى لو أن شخصًا باع سيارة بعشرين ألف مثلًا، وجعل الخيار مدة شهر، ففي هذا الشهر تكون السيارة في ملك المشتري أم في ملك البائع؟
ما الذي يترتب على هذا؟
يترتب عليه أشياء كثيرة، فبعض أهل العلم كما هو ظاهر قول الحنابلة -رحمهم الله تعالى- هنا أنَّ الملك للمشتري، فيكون الغنم له والغرم عليه، فإذا كان لها نماء منفصل كأجرة أو نحوها فله، ولو حصل عليها نقص أو تلف أو غيره فعليه، فله الغنم وعليه الغرم.
ومن الفقهاء من قال: الملك يبقى عند البائع، وهذا قول عند الحنابلة، وقول لمالك، والشافعي له ثلاثة أقوال، قول كقول الحنابلة، وقول كقول مالك، ولهذا كان في هذا مورد للتجاذب، فمنهم من يقول: إنَّ الأحكام تنتقل؛ لأنها أقرب إليه، ومنهم من قال: إنَّ الملك لا ينتقل إلا بعد تمام العقد ولزومه.
إذًا أصل الخلاف، هل هو بإنشاء العقد أو هو بلزومه؟
فمن رأى أنه بإنشاء العقد قال: إن الملك انتقل، ومن رأى أنه بلزومه قال: إنه لم ينتقل، وهو قول لمالك وقول للشافعي وقول حتى عند الحنابلة وهذه من المسائل التي اشتد فيها الخلاف، ولكل واحد من المذاهب في الغالب قولان، كالحنابلة والشافعية -رحمهم الله تعالى-.
قلنا ما الذي يترتب على ذلك؟
إذا قلنا: إن الملك للمشتري معناه أنَّ له النماء المنفصل، وأمَّا النماء المتصل فلا، لأن النَّماء المتصل تبع للأصل ولا يمكن فصله، وهذا يعني لو أنَّ البهيمة سمنت فترجع بسمنها؛ لأن النماء متصل، وأما المنفصل كأجرة، أو ثمرة مثلًا أو نحو ذلك تكون للمشتري في زمان الخيار، حتى ولو رد، أي حتى ولو جاء وقال: لم أعد أبغي السيارة، نقول له: الأجرة لك، والثمرة التي أخذتها لك وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (لكِنْ يَحْرُمُ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفٌ فِي مَبِيعٍ وَعِوَضِهِ مُدَّتَهُمَا، إِلَّا عِتْقَ مُشْتَرٍ مُطْلَقًا، وَإِلَّا تَصَرُّفَهُ فِي مَبِيعٍ، وَالخِيَارُ لَهُ)}.
(لكِنْ يَحْرُمُ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفٌ فِي مَبِيعٍ وَعِوَضِهِ مُدَّتَهُمَا)، أي: مدة الخيارين، حتى ولو قلنا: الملك للمشتري لا يعني أنه يتصرف فيه؛ لأنه لا زال للبائع فيه علقة، لأنه يجوز له أن يفسخ البيع، فإذا تصرفت فيه فكأنك فَوَّت على البائع حقه في الفسخ، والعكس بالعكس، فلو أنَّ البائع هو الذي تصرف في الثمن مثلا، أخذنا الجوال بالساعة، فالساعة كانت ثمنًا للجوال، وتصرف، فهذا فوت، طيب يعيد الجوال ويأخذ ساعته -هو في زمن الخيار- وبتصرفك هذا تكون قد فوت، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنَّ أي تصرف من المشتري أو البائع في زمن الخيار وهو لهما، لا يجوز، أي: آثم من فعل ذلك، ثم لا يصح، مثلاً: أنا بعت الساعة، نقول: الساعة ترجع، أنت بعت الجوال، نقول الجوال يرجع. وهبته لابنك أو أجرته، كل هذه التصرفات غير صحيحة.
وبناء على ذلك قالوا: إنه لا تصح.
قال: (إِلَّا عِتْقَ مُشْتَرٍ مُطْلَقًا) فالعتق كما يقولون: له سرايا، له نفاذ، والحنابلة أجازوه، وإن كان بعضهم يقول: لا، حتى العتق؛ لأنَّ التفويت، ولكن الحنابلة من باب أن الشارع يتطلع، وما جاء من السرايا حتى لو أعتق واحد شقصه، يعني: نصيبه في العبد، فإنه يعتق على صاحبه ويلزمه العوض، فقالوا: هنا له نفاذ، وبناء على ذلك حكموا في (إِلَّا عِتْقَ مُشْتَرٍ مُطْلَقًا)، لما ذكرنا من أن العتق له خصوصية فذكروا.
قال: (وَإِلَّا تَصَرُّفَهُ فِي مَبِيعٍ، وَالخِيَارُ لَهُ)، أما إذا تصرف من له الخيار فقط، يعني: لو كان الخيار لأحدهما، فقال: أنا اشتريت منك لكن الخيار لي ثلاثة أيام، ثم ذهب وباع السيارة، فأنا لم أُضرَّ بالبائع لماذا؟ لأن الخيار لي، وأكثر ما فيه أني فوت على نفسي الخيار في هذا البيع.
وبناء على ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِلَّا تَصَرُّفَهُ فِي مَبِيعٍ، وَالخِيَارُ لَهُ).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَخِيَارُ غَبْنٍ يَخْرُجُ عَنِ العَادَةِ لِنَجْشٍ، أَوْ غَيْرِهِ لَا لِاسْتِعْجَالٍ)}.
هنا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- خيار الغبن، والنبي  لَمَّا كان ذلك الرجل يغلب قال: «إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلَابَةَ»، فهذا أصل في أنه إذا كانت الزيادة خارجة عن القدر المعتاد، فله الخيار، ولذلك قال: أن يخدع العاقد في السلعة أو في الثمن بشيء خارج عن المعتاد عرفًا، فالمرد في ذلك إلى العرف، ولذلك قال: (يَخْرُجُ عَنِ العَادَةِ)، وهذا مختلف في كل شيء بحسبه.
بعض أشياء قد يكون الأمر ليس كثير، وبعضهًا قد يكون كثيرا جدًا.
فالمهم أنه ما اعتاد عليه الناس، وعرف في الأسواق أنه خارج عن المعتاد، فيعتبر داخل في الغبن، وبناء على ذلك يستحق صاحبه الخيار.
بعضهم قال: عشرون في المئة، ولكن ظاهر كلامهم هنا لما قال يخرج عن العادة، أن المتعلق هو العادة وأن ما ذكر كالمثال لا على الإطلاق.
والحنابلة لم يجعلوا خيار الغبن على الإطلاق، ولكن جعلوا له صورًا ثلاث، وهي التي يتحقق فيها الغبن فيستحق فيها الخيار.
قالوا: أول شيء بيع النجش، ما معنى بيع النجش؟
هو أن يأتي شخص ليزيد في السلعة وهو لا يريد الشراء، إما أن يريد نفع البائع أو الإضرار بالمشتري، بل حتى البائع ما يعرفه. هذا يعرف أنه جاره وبينهما إشكال، عرف أنه يشتري هذه السيارة ولا يستغني عنها، فكلما قال بواحد وعشرين ألف، قال هو: باثنين وعشرين ألف، أي يزيد. فهو يريد أن يأخذ السيارة بسعر غالٍ جدًا للإضرار بجاره، أو يعرف أن هذا صديقه، قال هذا لا يعرف الأسعار، كل ما زاد هذا زاد الآخر، لأنه يريد نفع البائع.
والنجش قد جاء النهي عنه في الأحاديث الصريحة الصحيحة.
الصورة الثانية: مثل الذي لا يعرف البيع والشراء، ولا يدخل الأسواق عادة، ولا يحسن المماكسة، ولا يعرف الأثمنة وغيرها، فهنا يقولون: إذا اشترى فقال: لا خلابة أو غبن غبنًا فاحشًا فله أن يرجع، وهذا كثير في النساء؛ لأنهن لا يعتدن البيع والشراء، ويُصدقن البائع مع ما يكون فيه من تضليل، وقد لا يقول الحقيقة وما يحتاج فيه إلى شيء من النظر أو البحث، أو بعض الإعلانات التسويقية التي فيها مبالغة أو تزييد، ولكن هذا يمكن أن يكون أقرب من التدليس منه إلى الغبن.
لماذا قلنا إنها مترددة بين هذا وذاك؟
أحيانًا الذي يذكرونه ليس شيئًا كذبًا ولكنه يُظهر الشيء على صورة أتم ما تكون وفي الواقع أقل من ذلك، أو هي مبالغ فيها.
على كل حال يمكن أن تكون أقرب إلى التدليس من الغبن، فهذا إذًا ما يتعلق بخيار الغبن.
الخيار الثالث: تلقي الركبان، الركبان هم البوادي الذين يجمعون محصولًا مما يصنعون، أو مما يجمعونه من لبن، أو صوف أو خلاف ذلك، فيأتون إلى الأسواق، فقبل أن يأتي أحدهم إلى السوق ويعرف الأثمنة، يتلقاه متلقٍ قبل أن ينزل السوق، فيعطيه ثمنًا، ويظن أن هذا الثمن كثير، ولكنه في الحقيقة رخيص، فإذا هبط السوق فوجد الأثمنة زائدة عن ذلك زيادة غير معتادة، فله الفسخ؛ لأنَّ النبي  نهى عن تلقي الركبان لِمَا يحصل فيه من الإضرار بهم، وتفويت المصلحة عليهم.
قال هنا: (لَا لِاسْتِعْجَالٍ) هذه مسألة مهمة جدًا، ونجد كثيرًا في المحاكم من يرفع طلب الغبن، يغبن في السلعة، يغبن في السلعة، والحقيقة أنه ليس بمغبون ولا مثله يغبن، فلا يدخل لا في الصورة الأولى ولا في الصورة الثالثة، ولكن الصورة الثانية هي التي يتكئون عليها.
كيف تغبن وأنت صاحب بيع وشراء في هذا؟ لكن بعضهم قد يستعجل، أو أحيانًا يرضي بسعر أقل؛ لأنه أراد أن يشتري شيئًا آخر، فاستعجل على تحصيل الثمن، ثم لم يتسن له ذلك، أو تيسر له مال يمكن أن يشتري به، فلحقته الندامة فأراد أن يعود.
فنقول: هذا لا شك أنه لا يصح -كما ذكر المؤلف- (لَا لِاسْتِعْجَالٍ)، وأن هذا لمن يفعل مثل هذه الأمور هو وإن حصل له بعض مقصوده، أو أظهر أنه ممن يُغبن فاستعاد سلعته، لكنه آثم في ذلك، وفاعل للمحرم، ومتعرض للإثم الكثير.
ولذا من كان مستعجلًا، أو كان قاصدًا البيع، ويعرف أن السلعة أقل ثم يدَّعي الغبن لفوات مقصوده، أو لتحصيل المقصود بطريق آخر، فكل ذلك مما يدخل في النهي، ولا يحصل له المقصود.
وحقيقة لا يستحق خيار الغبن الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وبارك الله لكم، وفتح الله عليكم، وزادكم من فضله، نكتفي بهذا القدر}.
أسأل الله -جل وعلا- أن يتم علينا وعليكم الخير والهدى، وأن يُعيننا على التمام والكمال، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يُوفقنا وكل من كان سببًا في هذه المجالس، وهذه الجادة القائمة، الجادة المستقيمة، الجادة الرفيعة المنيرة، لكل من سلكها، واستمسك بعراها، واستفاد ونهل من دروسها.
أسأل الله أن لا يضيع أجركم، وألا يفوت العلم عليكم، وأن يزيدكم عملاً، وأن يعقبكم خيرًا وأجرًا كثيرًا، وأن يغفر لنا ولكم وللمسلمين.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في الدرس القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك