الدرس الثالث و العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1886 24
الدرس الثالث و العشرون

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأقام الله هذا البناء على علمٍ وهُدًى وخيرٍ وتُقًى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْمُوْضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِيْ وَصَلَتْ إِلى اْلعَظْمِ، وَفِيْهَا خَمْسٌ مِنَ اْلإِبِلِ، وَاْلقِصَاصُ إِذاَ كَانَتْ عَمْدً)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نِعمه، وأن يُبلِّغنا طاعته، وأن يجعلنا من أهل فضله، وأن يُفيضَ علينا من رَحماته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنَّا في الدرس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بباب "الشِّجاجِ"، وقلنا: إنَّ الشِّجاج مُتعلقةٌ بالرأسِ والوجهِ ممَّا يكون من الجراح، والفقهاء يُطلقون "الجراح" على ما سوى ذلك من أجزاء البدن، فبناء على هذا عقد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعدَ الديات التي فيما دونَ النفس؛ هذا الباب الذي يتعلق بالوجه والرأس، وذكرَ أنَّ أسماء الشِّجاج التي تكون في الرأس والوجه تسعًا، خمسًا قد مضى بيانها وذكرها، وهي التي فيها حكومة، وقلنا: إنَّها تُقدَّر بما لا يبلغُ الدِّية التي هي أعظم منها.
هنا ينبغي أن يُعلم كيفية تقدير الحكومة، فالفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- يذكرون ذلك بطريقةٍ مُعيَّنةٍ، لكن الآن هي أعقدُ ممَّا مضَى، ذلك أنَّهم يقولون: نُقدِّر هذا الحُرُّ كأنه عبد، ثم ننظر كم يُساوي لو بيعَ وهو سليم، ثم كم يُساوي لو بيعَ وهو معيبٌ أو فيه هذه الشَّجَّة، فما نقص فتُجعل نسبة ذلك منسوبة إلى الدية التي فوق هذه الشَّجة.
مثال: إذا نقص 20 %، فمعنى ذلك أنه سيكون بعير واحد من خمسة أبعرة؛ لأنَّ الموضحة تجب فيها خمسًا من الإبل، وهكذا...
ولكن كانت في تلك الأزمنة أسعار العبيد معلومة وظاهرة ومتداولة في الأسواق، الآن لو جئنا نجعلها على هذا النَّحو لكان فيها صعوبة كثيرة، ولكن على كل حالٍ هي تقدير قدر النقص الذي حصلَ للإنسان، ولأهل المحاكم في ذلك طريقةٌ معلومةٌ قريبةٌ ممَّا ذكر الفقهاء، لكن هذا هو الذي تقرَّرَ عند أهل العلم وأهل الفقه -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
ذكرنا أنَّ الموضحة تجب فيها ديةٌ محدَّدةٌ، وجاء ذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقلنا: إنَّها سُمِّيَت موضحةً لأنها توضح العظم، كما أنَّ السِّمحاق سُمِّيَت سمحاقًا لأنَّها تصل إلى جلدةٍ تُسمَّى "السِّمحاق"، والمتلاحمة سُميت بذلك لأنَّها تقطع اللحم.
والموضحة يجب فيها خمس من الإبل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ويجب فيها القصاص لو كانت عمدًا، لأنَّها تنتهي إلى عظمٍ ويُمكن إجراء القصاص مع أمنِ الحيف فيها، أمَّا إذا كانت خطأ فلا يكون فيها إلَّا الدِّية على ما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْهَاشِمَةُ، وَهِيَ الَّتِيْ تُوْضِحُ اْلعَظْمَ وَتُهَشِّمُهُ، وَفِيْهَا عَشْرٌ مِنَ اْلإِبِلِ)}.
الهاشمة مأخوذٌ اسمها من حقيقتها، وذلك أنَّ هذه الهاشمة تهشم العظم، فالعظم في الموضحة يكون واضحًا أيضًا ينكسر، فهو واضحٌ ومكسور -أو مهشوم- فبناء على ذلك قال المؤلف على وجه التَّحديد: (وَهِيَ الَّتِيْ تُوْضِحُ اْلعَظْمَ وَتُهَشِّمُهُ)، والهَشْمُ والكسر شيءٌ مُتقارب.
قال: (وَفِيْهَا عَشْرٌ مِنَ اْلإِبِلِ)، وإن كانت درجة تلي درجة الواضحة فمع ذلك زادت خمسًا من الإبل؛ لأنَّ كسر العظم يُفضي إلى حصول خطر على الإنسان أكثر ممَّا يُتصوَّر، وأيضًا يتطلَّب علاجه وسلامة عظمه واستقامته شيئًا كثيرًا؛ فلأجل ذلك كان فيها عشرًا من الإبل، وهذا جاء في بعض الآثار عن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومثل هذا لا يُقال من قبيل الرأي، فكان كالتَّوقيف، وبناء على ذلك حكمَ به أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وجرى عليه الفقهاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ وَهِيَ الَّتِيْ تُوْضِحُ وَتُهَشِّمُ وَتَنْقُلُ عِظَامَهَا، وَفِيْهَا خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ اْلإِبِلِ)}.
لاحظ هنا أنَّ الهاشمةَ والمنقِّلَةَ لم يذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيها قصاصًا؛ لأنَّه لا يُمكن القصاص فيها، فالموضحة نصل إلى العظم فيها ونقف حدًّا، لكن لو هشمنا في الهاشمة لربما تكون مُنقِّلَة، وإنَّما قد جنى الجاني بهاشمةٍ، فلمَّا كانت لا تنتهي إلى شيءٍ لا يُمكنُ الأمن من الاستيفاء فيه بأن لا يزيد لا يكون فيها استيفاء، ولا يكون فيها قصاصٌ من هذه الجهة.
المنقِّلَة مثل الهاشمة، فهي توضح العظمَ وتهشمه وتنقله بأن يتحرَّكَ من مكانه، ومن ذلك سُمِّيَت مُنقِّلَةً.
قال: (وَفِيْهَا خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ اْلإِبِلِ)، وهذا أيضًا جاء في الأثر، وهو محل اتِّفاقٍ بينَ أهل العلم، فجاء في الكتاب الذي كتبه عمرو بن حزم (وفي المنقلة خمسة عشرة من الإبل).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْمَأْمُوْمَةُ وَهِيَ الَّتِيْ تَصِلُ إِلى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وَفِيْهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ)}.
المأمومة هي التي تصل إلى جلدةِ الدِّماغ، ففيه جلدة خفيفة بعدما تنتهي العظام، فهذه المأمومة تصل إلى أم الدِّماغ، وتُسمَّى "الآمَّة"؛ فهذه هي التاسعة من هذه الجراح.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ)، وجاء في هذا أثر عمرو بن شعيب، والحكمُ ظاهرٌ عندَ أهل العلم أنَّ المأمومة فيها ثلث الدية.
هذه تسعٌ:
• أولها: الحارصة.
• ثانيها: البازلة.
• ثالثها: الباضعة.
• رابعها: المتلاحمة.
• خامسها: السِّمحاق.
• سادها: الموضحة.
• سابعها: الهاشمة.
• ثامنها: المُنقِّلَة.
• تاسعها: المأمومة.
وبعضهم يجعلها عشرًا؛ فيقول: عاشرها: الدَّامغة وهي التي تصل إلى الدِّماغ، فتخرق جلدة المأمومة.
لِمَ يذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، لماذا؟
لأنَّها مأمومة وزيادة، والذي فيها إنما هو ثلث الدية، فلذلك جعلها والمأمومة سواء، فلم يجتَجْ إلى ذكرها وتَعدادها، فإنَّما الذِّكرُ في تدرُّج هذه والواجب فيها، فلمَّا كان الواجب في الدَّامغة كالواجب في المأمومة ذكرها -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- على حدٍّ سواء، وهي من جهة الشَّجَّةِ هي مختلفة، ومن جهة الحكم واحدة، فبعض أهل العلم ينقلها على نحو ما ذكر المؤلف هنا تسعًا باعتبار الاختلاف فيها، وبعضهم يذكرها عشرًا باعتبار صفة -أو صورة- هذه الشَّجَّة.
ذكرنا فيما مضى أنَّ البازلة -أو الحارصة ونحوها- إذا جاء مُقدِّر الشِّجاج فإنَّه يعرف كم اتِّساعها وكم ضيقها وكم زيادتها وكم نقصها؛ فهذا لا إشكال فيه، وتؤثِّر في الحكومة، وفي باب الموضحة لا، فهي موضحة سواء كان الذي وضحَ قدرَ رأس الإبرة أو أكثر؛ إلَّا أن تكون في موضعين في البدن، ولها حالين:
الأول: أن تكون بعضها في الرأس وبعضها في الوجه، فيجعلون موضحة الرأس تختلف عن موضحة الوجه؛ فتكون فيه موضحتان،
الثاني: أن يكون بينهما حاجز.
وهذا من جهة طريقة الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في الحكم في هذه الشِّجاج، أمَّا لو كان اتِّساعها كبيرًا وليس بينها فواصل فهي واحدة مهما كبُرَت، حتَّى ولو ملئَت جملة الرأس، فهي موضحةٌ واحدة، أو مُنقِّلةٌ واحدة، أو هاشمةٌ واحدة، أو مأمومة واحدة، على نحو ما ذكرنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فِيْ اْلجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهِيَ الَّتِيْ تَصِلُ إِلى اْلجَوْفِ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَهِيَ جَائِفَتَانِ)}.
الجَائفة: مأخوذةٌ من الجوف، والحقيقة أنَّ ذكرها هنا مردُّها إلى المأمومة من جهة مشابهتها لها في الدية، أمَّا الجائفة فليست في الرأسِ بحالٍ من الأحوال ولا في الوجه، فهي مُتعلقةٌ بجراح الجوف -البدن الذي هو سوى الرأس- ولذلك يقول الفقهاء: هي ما يكون في البطن، أو في الظَّهر، أو في النَّحر، أو في الصَّدر، أو في الفخذ، أو ما سوى ذلك؛ وتصل إلى جوفٍ، وهو ما جُوِّف من البدن، ويحصل فيه تغيُّر الغذاء وقوت البدن ونحوه؛ فهذه تُسمَّى جائفة، ولهم في تصوير الجائفة وتحديدها من الدِّقَّة والتَّعقيد.
وليس بلازم الجائفة أن تقطع الأمعاء -وإن كان هذا هو أصلها- لكن إذا كانت تصل إلى مجوَّف في البدن فهي جائفة، فلو ضربه في صدره حتَّى وصلَ إلى جوفه، أو في البطن، أو في الظَّهر؛ فهي جائفة.
ولو ضربه في ذكره فوصل إلى مثانته؛ فهذه لم تصل إلى الجوف، فلا يجعلونها جائفة.
ونقول: إنَّ تصوير الجائفة عند الفقهاء فيه دقَّة، وذكروا فيه تفاصيل لا يتأتَّى للإنسان دقَّةُ العلم بها حتَّى يُراجع جميع ما ذكروه في هذا.
والمؤلف هنا عرَّفها بالتَّعريف اليسير فقال: (وَهِيَ الَّتِيْ تَصِلُ إِلى اْلجَوْفِ)، لكن احتجنا أن نقول هنا: إنَّ هذه ليست متعلقة بالرأس ولا بالوجه، وأنَّ ذكرها مقاربٌ لذكر المأمومة في تساوي ديتهما.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَهِيَ جَائِفَتَانِ)، لنفرض كأنَّه ضُربَ من كلا جانبيه حتَّى وصل إلى الجوف، ولا يختلف الحال بين أن يكون ضُرب من جانبه الأيمن حتَّى خرج من جانبه الأيسر، أو ضُربَ من جانبيه -الأيمن والأيسر- حتَّى اتَّفقتا هاتان الحديدتان في الجوف، فبناء على ذلك قال الفقهاء إنَّ الضربة جائفتين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ الضَّلَعِ بَعِيْرٌ)}.
الآن رجع المؤلف إلى أحكام مُتقدِّمة، ولعلك تنظر أنَّه ذكر فيما مضى ما تجب فيه الدية من الجراح فيما دون النَّفس، ثم الآن بدأ في الجراح التي يجب فيها شيء محدَّد غير الحكومة، ولا تصل الدية أو نصفها أو ثلثها، إلَّا ما ذكر في الجائفة.
فقال هنا: (وَفِيْ الضَّلَعِ بَعِيْرٌ)، الأضلاع: هي التي في قفص الإنسان عند صدره، وفيه أضلاع في يمينه وشماله، فإذا انكسر واحدٌ منها ففيه بعير، إذا انكسر اثنان ففيه بعيران، وهكذا..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيْرَانِ)}.
التَّرقوتان: بفتح التَّاء لا بضمهما، وإن كان الضمُّ مًشهورًا عند الناس، ولكن الصَّح أن يُقال: "تَرقوة".
والمقصود بالتَّرقوة: العظم الذي فيه انحناء عند الرقبة أو في أعلى الصدر، الرابط بينَ الكتف والصدر، فهذه العظام تُسمَّى "تَرقوة".
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيْرَانِ)؛ لأنَّ انكسار هذا أعظم من انكسار الضلع الذي في قفص الصدر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ الزَّنْدَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ)}.
الزَّند: هو ما يربط بينَ ساعده وكفِّه.
وانكساره يكون شديد جدًّا سواء كان في إعادته أو في ألمه وما يتعلق به.
وبعض الناس يظنون أنَّ الزَّند هو الذي تحت الكتف، وهذا ليس بصحيحٍ؛ بل الزند هو ما يربط بينَ ساعده وكفِّه.
يقول المؤلف: (وَفِيْ الزَّنْدَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ)، يعني: في كل واحدٍ من الزندين بعيران، على ما جاء بذلك الأثر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا عَدَا هَذَا مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ فِيْهِ، وَلاَ هُوَ فِيْ مَعْنَاهُ، فَفِيْهِ حُكُوْمَةٌ)}.
يعني: فيه أشياء فيها تقدير فهو على تقديرها، وربما عرضها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- اختصارًا، أو ذكرها على سبيل الأصل ودخلت فيها جملةٌ من المسائل، فما لا تقدير فيه أو ما في معنى المقدَّر ففيه حكومة، وذكرنا أنَّ تقدير الحكومة يكون إلى القاضي فيما ينظر فيه، ولكن لا يُبلغ بها إلى دية الجرح الذي فوقه، أو الذي من جنسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لاَ جِنَايَةَ بِهِ، ثَمَّ يُقَوَّمَ، وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرَأَتْ، فَمَا نَقَصَ مِنْ قِيْمَتِهِ، فَلَهُ بِقِسْطِهِ مِنْ دِيَتِهِ)}.
يُقوَّم وهو صحيح، ثم يُقوَّم بعدَ بُرئه، فأحيانًا يكون للجُرح أثر، وأحيانًا يبقى لها ألم، أحيانًا يكون فيه تشوُّه، أحيانًا تُلقي بظلالها على الشخص فيكون فيه تخوُّفٍ وعدم إقدامٍ كان فيه سابق، وهكذا...، فما نقصت من قيمته فله بقسطه من الدية مثلما قلنا قبل قليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ اْلجِنَايَةُ عَلى عُضْوٍ فِيْهِ مُقَدَّرٌ، فَلاَ يُجَاوِزُ بِهِ أَرْشَ الْمُقَدَّرِ، مِثْلَ أَنْ يَشُجَّهُ دُوْنَ الْمُوْضِحَةِ، فَلاَ يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِهَا، أَوْ يَجْرَحُ أَنْمُلَةً، فَلاَ يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَ)}.
لو كسرَ الضِّلع ففيه بعير، والتَّرقوة فيها بعيران؛ أمَّا لو ضربَ الضلع فآلمه مع جرح يسير فقط ولم يكن فيه سوى ذلك؛ فلا يُمكَن أن يُبلغ بها مبلغَ ديةِ التَّرقوة أو الأضِّلاع -على ما تقدَّم.
ومثل ذلك ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما لو ضربه أقل من الموضحة ففيها حكومة، ولكن لا يبلغ بها الموضحة، فالموضحة فيها خمس بعير، فلا يستقيم أن نقول في البازلة أو في الحارصة أو في المتلاحمة عشر إبل، فهذا نوعُ تضاربٍ يُنزَّه عنه الشَّرع.
إذن ما لم يكن مقدَّرًا فالأمر فيه بحسب التَّقدير، فلو ضربه في ذكره، وقلنا: إنَّ الضرب في الذكر لا يكون جائفة في الصورة التي ذكرناها، ومع ذلك قد يكون فيها أكثر من ثلث الدية، باعتبار أنَّه يلحقه في ذلك نقصٌّ كثير أو ضعف أو ألم أو غير ذلك، فمثل هذا محل نظر.
قال المؤلف (أَوْ يَجْرَحُ أَنْمُلَةً، فَلاَ يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَ)؛ لأنَّ الأصبع فيه عشرة أبعر، وفي الأنملة ثُلث ذلك، فجرح الأنملة لا يبلغ به ثلاثة أبعر وثلث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ كَفاَّرَةِ اْلقَتْلِ)}.
جاءت كفارة القتل في الكتاب والسُّنَّة، وهي محل اتفاق بين أهل العلم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَمَّا قُتل عبد الله بن سهلٍ أوجبَ فيه الدية، وكذلك في المرأتين الهذليتين، فهذا محل إجماع بين أهل العلم.
والكفَّارة من حيث الأصل من التَّكفير، وهو التَّغطية، لأنَّها تُغطِّي إثمها وأثرها، وسُمِّيَ الكفرُ كفرًا لأنَّه يُغطي الإيمان ويُذهبه؛ فيُعلَم من ذلك سبب التَّقارب بين "الكفارة" و"الكفر" في أنَّ كلًّا منهما فيه تغطية، ولكن "الكفارة" تغطية للإثم، و"الكفر" تغطيةٌ للإسلام والإيمان.
وقول المؤلف: (باَبُ كَفاَّرَةِ اْلقَتْلِ) دليلٌ على أنَّ الكفارة مختصَّةٌ بالقتل، فما كان دون ذلك من الجراح والشِّجاج مهما بلغ أثرها ومهما عظمت الشَّناعة فيها؛ إلَّا أنَّه لا كفارة فيها، فلا يُمكن أن نقول في الجائفة ثُلث الدية فمن فعل جائفة فعليه ثلث كفارة، ولا نقول فيمن ضرب شخصًا حتَّى أذهبَ بصره فيه ديةٌ فعليه كفارة؛ تلك جراح فيما دون النفس، فلا كفارة فيها، والكفارة مخصوصةٌ ومختصَّةٌ بالقتل فحسب، ولا تُشرَع فيما دونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا أَوْ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ شَارَكَ فِيْهِ، أَوْ فِيْ إِسْقَاطِ جَنِيْنٍ، وَهِيَ تَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، تَوْبَةً مِنَ اللهِ)}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا أَوْ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ).
القتل الذي تجب فيه الكفارة هو القتل المضمون -أي الذي يجب فيه ضمان- فيخرج من ذلك ما كان قتلًا غير مضمونٍ، والقتل الغير مضمون مثل لو قتله بحق، كأن يأمره السلطان بقتله لكونه يستحق القتل لارتدادٍ أو لقصاصٍ، ومثل أن يكون مُباح الدَّم ممَّن لا عهدَ له ولا إيمانٌ كالحربي ونحوه، ففي مثل هذه الأحوال لا كفَّارة في ذلك.
أمَّا لو قتل الإنسان مُؤمنًا أو ذمِّيًا أو مُعاهَدًا ممَّن لا يجوز للإنسان قتله؛ فعليه في ذلك كفَّارةٌ، ولذلك قيَّدها المؤلف بقوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ)، وهذا كافٍ عن كل المسائل، ولكن ذكرناها على سبيل التوضيح والتبيين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ شَارَكَ فِيْهِ)، يعني: مَن قتلَ أو شاركَ في قتلٍ فعليه كفَّارة.
وهذا فيه إشارةٌ إلى مسألة مُهمَّة، فقد تقدَّم معنا في الديات أنَّه إذا اشترك اثنان في جناية فعليهما الدية كلٌّ بقدره، هذا يتحمل النصف وهذا النصف، أو هذا يتحمل الثلث وهذا الثلث وهذا الثلث، ونحو ذلك؛ لكن الكفَّارة -كما يقول الفقهاء- لا تتبعَّض، وبناء عليه إذا اشتركَ اثنان في قتلِ شخصٍ فعليهما ديةٌ واحدة، وعلى كل واحدٍ منهما كفَّارةٌ كاملة، لِمَا ذكرنا من أنَّ الكفارة لا تتبعَّض ولا تتجزَّأ؛ لأنَّ الدية حقٌّ لورثة المقتول، فتعلَّقت به قدر ديته، أمَّا الكفارة فهي مُتعلقةٌ بالفاعل، وكل واحدٍ منهما جرى منه فِعل القتل، فتعلَّقَ به حُكم التَّكفير مُنفردًا عن صاحبه، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا أَوْ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ شَارَكَ فِيْهِ).
ولو أنَّ عشرين رجلًا اشتركوا في قتل واحدٍ لوجبت عليهم ديةٌ واحدة، ووجبت عليهم عشرين كفَّارة، وهكذا...، ولا يُمكن أن يُقال إنَّ على كل واحد منهم كفارة بقدر الواجب عليه في الدية؛ بل على كل واحدٍ منهم كفارة.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ فِيْ إِسْقَاطِ جَنِيْنٍ)، أراد أن يُبينَ أنَّ قتل النفس الحيَّة يُلحق به قتل الجنين، وإن كان الجنين أقل شأنًا، لكنه لا يخرج عن كونه إتلاف نفس، فهو قتلٌ وإزهاق روح، فالجنين قد نُفِخَت فيه الرُّوح، واستحقَّت الكفارة كقتل المؤمن المعصوم سواء بسواء.
نأتي بعد ذلك إلى خصال الكفارة، ولعلها -بإذن الله جلَّ وعلا- أن تكون في ابتداء الحلقة القادمة، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يجعل هذا البناء بناءً صالحًا خالصًا متَّسقًا، بناءً قائمًا ثابتًا يتجدَّد ما تجدَّدَ الليل والنَّهار، يُفيضُ على الناس من الخير، ويتلقون منه العلم، ويفيدون منه إلى الهدى والبر والتَّقوى، وأسأل الله لي ولكم وللجميع التوفيق والسَّداد، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك