الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1889 24
الدرس الرابع

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
هلا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أدامَ الله عليكم الخيرات، وجعلنا وإيَّاكم في أحسنِ الأحوال.
{قال الموفَّق بن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْا، وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ، إِذَا كَانُوْا فُقَرَاءَ، وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نعمَه، وأن يفيض علينا وعليكم من الخير، وأن يرحمنا ووالدينا وأزواجنا وذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين، وأن يحفظ البلاد والعباد من اللأواء والبلاء والمحنِ وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأنا واستهلَلنا أوَّلَ الكلام على بابِ النَّفَقات، ونفقات الأقارب والمماليك، ومن المعلوم أيضًا أنَّ المختصر مبنيٌّ على رؤوس المسائل في الأبواب، فليس فيه كثير تفصيل، وسنلتزم ما التزمَه المؤلف بالوقوف على أمِّهات الباب من المسائل وترك التَّفاصيل، إلَّا أن يُحتاج إلى ذلك في مسألةٍ بخصوصها، حفظًا للوقت، ومنعًا من التَّشعُّب الذي ربَّما يفوِّتنا التَّمام للكتاب والإنهاء لهذا المتن العظيم، أسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمته.
كنَّا ذكرنا ما يتعلَّق بالنَّفقة، وقلنا: إنَّ النَّفَقة نفقة على الأزواج، ونفقة على الأقارب، وتقدم الكلام على نفقة الأزواج فيما مضى، ولها بابها ومسائلها وتفصيل الكلام فيها.
وذكرنا أصل نفقة الأقارب، ثم تقسيم الأقارب إلى أُصول وفروع، وهؤلاء تجب لهم النَّفَقة بكل حالٍ متى ما كان الإنسانُ قادرًا على ذلك بعدَ نفقتِه ونفقةِ زوجهِ وعبده؛ فإنَّه يُنفق عليهم، وإذا تشاحَّت النَّفَقات، فيجب عليه الأقرب فالأقرب. فهذا ما يتعلَّق بنفقة الأقارب، وستأتي الإشارة إلى نفقة المماليك والبهائم، ولن نطيل الكلام فيها.
وتكميلًا لما كنا ابتدأناه، فقد وقفنا عند الشروط، فذكرنا أنَّ النَّفَقة على الأصول والفروع، ويقابلها النَّفَقة على سائر الورثة، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة وجوب النَّفَقة عليهم؛ لأنَّ الغنم بالغرم، وللآية: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233].
أمَّا جمهور أهل العلم فيقصرون النَّفَقة على الأصول والفروع.
هذا ما يتعلَّق بمَن يدخلون في النَّفقةِ اللازمة الواجبة، أمَّا النَّفَقةُ المستحبة والإحسان إلى الأقارب فهذا باب لا حدَّ له؛ بل هو أصلٌ من الأصول العظيمة التي ينبغي أن نستشعرها، أنَّ النَّفَقةَ على الأقارب مِن أعظم ما تكون من النَّفَقات، وأنها مِن أعظم أبوابِ البرِّ والإحسان والطَّاعات، فلو لم تكن نفقةٌ واجبةٌ لم يكن شيءٌ لازم؛ لكان الدخول في هذا الباب من أعظم الأبواب، ولأجل ذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث المشهور لما سأله الصحابي، فقال: «وَالصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» ، ففيها الصدقة وحصول الواجب وفيها الصِّلة.
ولما ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل الذي عنده دنانير، فقال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ أَنْتَ أَبْصَرُ» ، فجعل الإنفاق فيما سوى ذلك بعدَ النَّفَقةِ على الأقارب والأزواج.
وقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك» ، يدلُّ على أن النَّفَقة على الأهلِ أعظم ما تكون، فلا ينبغي للإنسان أن يتوانى أو يتأخرَ أو يدَّخرَ أو يبخلَ، احمد الله أن الله -جَلَّ وَعَلَا- جعل لك باب الإنفاق والإحسان إلى أهلك، وأن الله جعل يدك عليا تنفق وتعطي، ولستَ بآخذٍ ولا مستجدٍ، فهذا من أعظم ما ينبغي أن يستشعره الإنسان، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» .
وذكر الفقهاء أنَّ أعظم ما يكون من الوقف هو الوقف على الأقارب، وتكلموا في أبواب الوقف على الوقف على القبلة والأقارب والأولاد والبنات وأولاد البنات ونحوهم؛ كل هذا يدل على عظم هذا الأمر، وأنه ينبغي التواصي عليه.
فمحل الكلام هنا إنَّما هو في الأشياء اللازمة إذا تعذَّرَ مَن يقوم بها، وما أكثر الذي يُقصِّرون في هذا الباب ويتوانون عنه! فهناك ناسٌ يبخلون على أولادهم، وفيه أناس يقصِّرون عن أزواجهم، وخاصَّة إذا كان له أكثر من زوجة، فيلتفت عن هذه إلى هذه، أو إذا رأى شيئًا من النقص أو الضعف أو اختلاف الحال أو الكبر أو غيره أعرضَ والتفت إلى حاله، وزاد هنا ونقص هناك؛ فينبغي للإنسان ان يتقيَ الله -جَلَّ وَعَلَا.
وبعضُ النَّاس يكون عنده مِن الأموال والسَّعةِ وأفاضَ الله عليه من الخيرِ والدَّعةِ وأخوه الذي هو أقرب الناس إليه ابنُ أمِّه وأبيهِ يتقلَّبُ في الفقرِ والفَاقة، ويلحقه من نكدِ الدُّنيا ومشقَّتها ما لا يتحرَّك معه قلبه أن ينفق ولو بقليل، أو أن يُواسي حاجته، أو يسد عثرته، أو يقوم به، أو يمنعه مما حلَّ له! كل ذلك من الأمور التي ينبغي أن تُعلَم.
وأعظمُ من هذا أنَّ كثيرًا من الناس ربَّما أنفقَ على زوجه وزاد في النَّفَقة على ولده، وربَّما دخلَ في نفقاتٍ محرَّمةٍ من سفرٍ محرَّمٍ وبذلٍ فيما ما لا يجوز، إلى غيرِ ذلك من بذل المال في غيرِ حلِّهِ في اللهو والغناء وأنواع المحرَّمات وغيرها، حتى إذا جاءت النَّفَقة الواجبة لأمِّه وأبيه تململَ وأعرضَ وتباعدَ، يجلسُ مع أمه حتى إذا جاءَ أمر يتعلَّق بالإنفاقِ أو بالحاجةِ أو بعض ما يُصلح في البيت أعرضَ وقامَ وكأن الشَّيءَ لا يعنيه! أو وعدَ فأخلف! وأشدُّ من ذلك من لا يعبأ بطلبِ أمِّه ولا بحاجتها، وهذا شيءٌ كثيرٌ مشاهد!
وكثيرٌ من الناس أيضًا يتوسَّع حتى لا يبقى له شيءٌ من النَّفقة فيقول: أنا لستُ بقادرٍ على النَّفَقة على أمي! فما الذي حملك على التَّوسُّع؟! كلما ظهر هاتف جوال جديد اشتراه، وكلما مَرَّ عليه سنةٌ استبدل السَّيَّارة، أو أنفق في البيت نفقات زائدة أو غير ذلك!
حسبك أن تقتصد على ما يلزمكَ وما يجب، وما تقوم به حياتك، وأن تدَّخرَ شيئًا لما يحتاج إليه أبوك أو أمك أو غير ذلك.
وتذكروا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جاء ذاك الرجل يشتكي أباه فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي أخَذ مالي فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- للرَّجُلِ: «اذهَبْ فأتِني بأبيكَ)) فنزَل جِبْريلُ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: "إنَّ اللهَ يُقرِئُكَ السَّلامَ ويقولُ إذا جاءكَ الشَّيخُ فسَلْه عن شيءٍ قاله في نَفْسِه ما سمِعَتْه أُذناه". فلمَّا جاء الشَّيخُ قال له النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما زال ابنُكَ يشكوكَ أنَّكَ تأخُذُ مالَه» قال: سَلْه يا رسولَ اللهِ هل أُنفِقُه إلَّا على إحدى عَمَّاتِه أو خالاتِه أو على نَفْسي. فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إيهٍ دَعْنا مِن هذ». يعني: من كونك تأخذ من ولدك أو لا تأخذ، ثم قال: «أخبِرْني عن شيءٍ قُلْتَه في نَفْسِكَ ما سمِعَتْه أُذناكَ»، فقال الرجل -الأب: "ما يزالُ اللهُ يَزيدُنا بكَ يقينًا قُلْتُ في نَفْسي شيئًا ما سمِعَتْه أُذُناي"، يعني كيف عرفتَ أنِّي قلتُ شيئًا في نفسي؟!
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ وأنا أسمَعُ». فقال الرجل:
غَذَوْتُكَ مولودًا وَعْلتُكَ يافعًا * تُعَلُّ بما أُدْنِي إليك وتَنْهَلُ
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لم أَبِتْ * لشَكْواكَ إِلا ساهرًا أَتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دوَنكَ بالذي * طُرِقْتَ به دوني وعينيَ تَهْملُ
فليتكَ إذ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي * فَعَلْتَ كما الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
أبيات مبكية! فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المقالة المشهورة: «أنتَ ومالُكَ لِأبيكَ» ، فقضَى على الولد بذلك، ثم قالَ الرجلُ للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ الله سلْهُ: هل أنفقه إلَّا على زوجي وولدي؟
إذن؛ هذا بمثابة التَّنبيه والتَّذكير بأمرٍ يحصل فيه التَّفريطُ كثيرًا.
وممَّا يُلحَظ فيما يُقابل ذلك -وإن كنَّا أطلنا في هذا المقام ولكن المسألة يُحتاج إليها- أنَّك ترى أناسًا أقلَّ في أنفسهم وأضيق في عيشهم، وربَّما تغرَّبوا عن أوطانهم وحرموا أنفسهم عمَّا يحتاجون إليه من مسكنٍ أو نكاحٍ أو غيره، حتى إذا اجتمعت لهم قليل من الرِّيالات أو الدَّراهم أو الأموال اليسيرة؛ أرسلَ لأمِّهِ أو لأختهِ أو لأخيهِ، تفقَّدهم في بعضِ أحوالهم، إذا نزلَت بهم نازلة أو تغيَّر بهم حال ما أسرع ما يقوم بهم، وهذا مِن أعظم ما يكون، ويُرجَى أن تكون بركةً له في عمره ونفسه ودينه ودنياه، وأن يجعله الله -جَلَّ وَعَلَا- في خير حال، فينبغي لنا أن نقارن بينَ هذين الحالين الذين هما أبعدَ ما يكونُ في الحال، فهذا لديه مال وعنده سعة ويُمسك عمَّا يجب عليه، وهذا في ضيقٍ وتعبٍ ونكدٍ وتغرُّب وبلاء حتى إذا اجتمعت له قليل من الريالات آثر بها أهله وحرم نفسه مع تكبُّده للمشاقِّ والمصاعبِ وما يلحقه من الذُّلِّ والمهانة بالسَّفرِ والبُعد عن البلاد والأهل والأحبَّة، وفي ذلك أشياء كثيرة، ومع ذلك لا يزيد إلَّا بذلًا وإحسانًا.
هذه ربَّما تكون إطلالة في مستهلِّ هذا المجلس، وإن كنَّا أطلنا فيها، لكن المقام يُحتاج فيه إلى شيءٍ من ذلك.
ذكرنا في المجلس الماضي أنَّ النَّفقة على الوارث الذي هو قريب غير أبٍ ولا ولدٍ تجب بثلاثة شروط:
أولًا: أن يكونَ فقيرًا لا مال له ولا كسب، أما لو كان له مال أو قدر على الكسب فلم يتكسَّب فلا تجب له نفقة.
الثَّاني: أن يكون الْمُنفِق له مال يزيد عن حاجته وحاجة من يعول من أهله، فينفق بما زاد على سبيل الوجوب، أمَّا لو آثر هؤلاء عن أهله أو نفسه فهذا شيءٌ إليه، لكن الذي يجب عليه هو ما زاد، وإن كان الذي يزيد قليلًا فجيب عليه بقدر ما يزيد حتى ولو لم تحصل بذلك كفايتهم.
الثَّالث: أن يكون وارثًا لنصِّ الآية ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233]، ولأنَّ محل نظر الشَّرع أن الغُنمَ بالغرمِ، فكما أنَّ هذا يغنَم لو ماتَ قريبه وله مالٌ فهو يرثه، فكذلك إذا احتاج فإنَّه يُنفق عليه على سبيل المقابلة والمساواة والحكم بالمماثل، وهذا ظاهرٌ في الشَّرع في أمثلةٍ كثيرة.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- لم يذكر ما تحصل به النَّفقة ولم يعرض له، وقدر النَّفَقة محلُّه العرف والعادة، والنَّاس في ذلك يتفاوتون تفاوتًا كثيرًا، فما كانَ في أزمنةٍ مضت فإنَّ الناس يكفيهم في قِوَام العيش شيء من الشَّعير أو البُّرِّ أو التَّمرِ أو الأقط أو غيرها، وفي بعض البلدان شيء من الأرز أو الأشياء التي عُهدَت عندهم، المهم أنَّ الناس كانوا في حالٍ قليلة من اللباس والكسوة التي تحصل بها ستر عوراتهم ونحوها.
يقول أهل العلم: إنَّ العبرة في هذا بالعادة، فإذا اختلفت عادات الناس فما يأتي شخص الآن ويقول: أنا أعطيك ثيابًا بخمسة ريالات! فهذه لا تليق به، وليست عادة أن يلبس مثله شيئًا منه، فيلبس ما يليق به، أو أتى إليه بلبس أهل باكستان ليلبسه من يعيش هنا!
فنقول: هذه ليست بكسوة مُعتادة له، كما أنَّه لو كان واحد هناك وأعطي لباسنا لم يكن ذلك بمحصِّلٍ للمطلوب، فكذلك هنا.
إذن؛ لابدَّ أن يُعرَف أنَّ مردَّ النَّفَقة إلى المعتاد.
والمعتاد هنا شيء واضح جلي، من النَّفَقات التي تقوم بها الكفاية من السُّكنَى والكسوة، ثم تأتي المكملات وما يتوسَّع الناس فيه، فتكون أبعد.
هل يلزم في ذلك التَّزويج؟
نعم، إذا احتاج مَن تحتَ يدك ممن تُنفق عليهم إلى النكاح فيجب عليك وأنت قادرٌ على ذلك؛ لأنَّ النَّفَقة في الطعام والشراب وقضاء الشهوة، وهذا ربَّما كان في بعض الأحوال ألزم عليه من بعض شرابه وطعامه لِمَا قد يترتَّب عليه من إعفاف نفسه وحفظ دينه وعدم وقوعه فيما حرَّمَ الله عليه، وفيما يلحق به العار في الدنيا والنَّكال في الدنيا والآخرة.
إذن؛ تجب عليه النَّفَقة إن كان يقدر على أن يُنكِحَه ويُزوِّجه، حتَّى نصَّ الفقهاء وقالوا: ولا يُزوِّجه بقبيحة حتى تكون أقل في المهر ونحوه؛ بل يُزوجه بمن تليق به.
هل يلزمه أن ينفق عليه بما يعلمه به أو لا؟
هذا من الإشكالات، ونصَّ الفقهاء على أن يجعل له مُعلمًا ونحو ذلك، ولكن كان فيما مضى لا يُحتاج إلى كثيرٍ من النَّفقات في مثل هذه الأمور، أمَّا الآن فالنَّفقات في التَّعليم وما يتبعها ربَّما كانت نفقات طائلة، وتتفاوت حتى تبلغ مبالغ كبيرة، وربَّما يُقال أنَّه بها قوامه، فهي محل بحثٍ في دخولها في النَّفَقة، ولا يبعُدُ القول من أنَّها داخلة فيما يلزم ويتحتَّم على الإنسان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ لِلْفَقِيْرِ وَارِثَانِ فَأَكْثَرَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ، إِلاَّ مَنْ لَهُ أَبٌ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلى أَبِيْهِ خَاصَّة)}.
تقسيم النَّفَقة:
- إن كانت النَّفَقة على الأب، فتكون لازمةٌ له بكلِّ حالٍ، وهذا هو الأصل في الشَّرع ولا يُختَلف فيه.
- مَن سوى الأب، هو قائمٌ مقام الأب لَمَّا تعذَّر إنفاق الأب على ابنه.
فالأب إمَّا أن ينفردَ أو يشتركَ مع غيره، فإن انفردَ لزمته النَّفَقة كاملة إن استطاع تمامها أو ما يستطع منها بحسبِ ما يزيدُ من نفقته.
وإذا وُجدَ أكثر من شخص من الورثة فنقول: يجب عليهم بقدر إرثهم منه وانتفاعهم به؛ لأننا ذكرنا الأصل أنَّ الإرثَ يقابله النَّفَقة، وأن الغُنمَ يُقابله الغُرمُ؛ فينبغي أن يكون غُنمُه بقدرِ غُرمِه، وعطاؤه بقدر أخذه.
على سبيل المثال: لو كانَ شخص له أم وجد، لو مات هو عنهم فإنَّ الأم ستأخذ الثلث والجد سيأخذ الباقي، وبناءً على ذلك لو كان فقيرًا ووجدت أم مُوسرة وَجَدٌّ مُوسر؛ فتجب ثلث النَّفَقة على الأم، والثلثان على الجد، فإذا كان تكفيه من النَّفَقة ثلاثة آلاف كل شهر، فعلى الأم ألف وعلى الجد ألفان.
وهكذا لو كثروا، فلو افترضنا أنَّ له عشرة من الإخوة؛ فعلى كل واحد منهم عُشرُ نفقته، وإذا كان عشرة من الإخوة مع الأم، فالأم ترث السدس مع الإخوة فيكون عليها سُدُس النَّفَقة وعلى الإخوة البقيَّة بينهم على سواء، وتفاصيل ذلك معلومة، وذكر الفقهاء لها ترتيبات، وأيضًا مَن وليَ هذا من أهل القضاء أو مَن ترافع إليه فإنَّه يفصل فيها ويُبيِّنُ ما يتعلق بذلك على وجه التَّحديد.
يقول المؤلف: (فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ، إِلاَّ مَنْ لَهُ أَبٌ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلى أَبِيْهِ خَاصَّة)، مثل ما قلنا، وقد بيَّنَّا حدودَ النَّفَقات والإشارة إليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ،وَمَا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوْا، أُجْبِرُوْا عَلى بَيْعِهِمْ، إِذَا طَلَبُوْا ذلِكَ)}.
انتقل المؤلف إلى النَّفَقة على المماليك، وهذه مسألةٌ مُهمَّةٌ أشرنا إليها في مُناسبةٍ قديمةٍ، ونشير إليها الآن، وهي أنَّ هذا الشَّرع لم يترك شيئًا إلَّا أتَى عليه، ولذلك قال أبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لقد توفي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمًا"، وجاء يهودي إلى سلمان فقال له: علمكم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل شيء. قال: "أجل، علمنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل شيء حتى إذا أتينا الخراءة"، فحتى إلقاء الفضلة لم يترك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التعليم بها، فقال سلمان: "فأمرنا ألَّا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار"، وهذا لكمال النَّظافة والنَّزاهة، قال: "وألا نستنجي بروث أو رجيع"، لتعلُّق حق الغير به من الجن.
وهذا فيه دلالة على عِظَم هذه الشَّريعة وكمالها، ثم إن الشَّرع منع إطلاق الأيدي على استرقاق الأحرار، ثم ما كان من العبيد الذين مُلكوا بوجهٍ صحيحٍ في الحرب من السَّبايا ونحوهم رغَّبَ في إعتاقهم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ» ، إلى غير ذلك، وجعل العتق في كل الكفارات.
وفي حال مُلكِهم فإنَّه يجب القيام بحقِّهم، والحقوق مضمونةٌ على وجه التَّمام، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر وصية له: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، يعني: العبيد والأرقاء والجواري، ويقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ» ، ففي هذا من المراعاة والعناية والاهتمام، وهذا هو الذي قرَّره الفقهاء على سبيل التدقيق والتَّحقيق؛ بل إنَّ نفقة المملوك في الشرع وعند الفقهاء مُقدَّمةٌ على نفقة الولد؛ لأنَّ المملوك من الإنسان نفسه لأنَّه هو الذي يقوم على خدمته، فتجب عليه نفقته وأن يكسوه، وأن يشتري له ساعة وجوالًا إذا احتاج، وهذا بحسب الحال وبحسب العادة؛ بل قال الفقهاء إنه يُزوَّج، ويجب الإنفاق على المملوك في هذه الأحوال حتى ولو لم يكن خادمًا، حتى لو ما فيه فائدة أو نفع، أو كان ضعيفًا أو مريضًا؛ فتجب نفقته.
وإذا لم يستطع الإنفاق عليه وجب عليه إعتاقه أو بيعه لمن يُنفق عليه ويقوم به، ولذلك قال: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ،وَمَا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ).
المسألة الأولى: النَّفَقة على الْمَمْلُوْكِيْنَ واجبة في كل حال، ومَن ضيَّعَ مملوكًا فقد ضيَّع مَن يعول، وهو آثمٌ في ذلك وتلحقه الملامَة عندَ الله -جَلَّ وَعَلَا- ثم أنَّه إذا ارتفعَ إلى القاضي أو وصلَ الأمر إلى مَن له ولاية فإنَّه لا يُقرُّه على ذلك، فإمَّا أن يُلزمه بالنَّفَقةِ وإمَّا أن ينقل ملكه، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ).
المسألة الثَّانية: هذه النَّفَقة تكون بالمعروف، ولذلك قال المؤلف: (مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ)، فيُعطَون مما اعتاد الإنفاق به من مالٍ وطعام وشرابٍ إلى غير ذلك من الأشياء.
قال المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوْا، أُجْبِرُوْا عَلى بَيْعِهِمْ، إِذَا طَلَبُوْا ذلِكَ)، إذا لم يفعلوا ذلك سواء كان امتناعًا من النَّفَقة الواجبة عليهم أو كان ذلك لعدمِ قدرتهم، فربما يكون السَّيدُ ليس عنده من المال ما يستطيع به النَّفَقة على هذا العبد أو هذه الجارية؛ فأيًّا كان العذرُ في تركِ الإنفاق فإنَّه يُجبَرُ على البيع إذا طلبوا ذلك.
أما إذا قالوا نصبر؛ فالحق لهم وقد أسقطوه عن أنفسهم فيسقط، أما لو طالبوا فإنَّهم يُجابون إلى ذلك.
بهذا نكون قد أنهينا ما يتعلَّق بنفقةِ الأقارب والمماليك، وهنا يُكمل الفقهاء ما هو أوسع من هذا المختصر، فيذكرون نفقة البهائم، وأنَّه يجب النَّفَقة عليها والقيام بها، ويحرم حتَّى لعنها، فذكروا أنَّ ذلك محرَّم، وكذلك الإساءة إليها ووسمها بما يؤلهما ونحو ذلك، وذكروا مسائل كثيرة وتفريعات عظيمة.
وتكلموا أيضًا فيما هو أوسع، كالقيام على النَّباتات وغيرها، هل يلزم أو لا؛ باعتبار أن لا روحَ فيها، فلا يكون لازمًا على الإنسان الإبقاء على سقيها ونحو ذلك، ولهم في هذا تفاصيل، ولكن أشير إلى دقَّةِ الفقهاء واستجماعهم لما جاء في الشَّرع، وإتيانهم على ما دلَّت عليه دلائل النُّصوص، وكمال هذه الشَّريعة التي لا تكاد تجد شيئًا يُقاربها ولا يماثلها، وحتى لو وُجدَ شيء من الأحكام فلن يأتي إلا على نسقِ العدل والاتِّزان، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه من غيرِ ما وكسٍ ولا شططٍ ولا ظلمٍ ولا عدوانٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلوَلِيْمَةِ.
وَهِيَ:دَعْوَةُ اْلعُرْسِ)
}.
هذا من الأبواب التي يذكرها بعض الفقهاء في آخر الكتب، ويجعلها في مواطن يعتادونَ جمع فيها ما لا ينتظم تحت بابٍ، وبعضهم -وهم الأكثر- يذكرونها في كتاب النِّكاح، باعتبار أنَّ الوليمة وليمةَ نكاح، فيذكرونها بعدَ الصَّداق، وبينَ يدي الكلام عن العِشرَة بينَ الزَّوجين، ومنهم من يذكرها هنا باعتبار أنَّ فيها إنفاق وبذل، فيجعلونها مكمِّلة في هذا، والأمر في هذا يسير، ووجودها هناك أنسب من وجودها هنا، والأمر في ذلك على سبيل الأتمِّ والأكمل.
الوليمة من حيثُ الأصل: من الوَلْمُ وهو الاجتماع، وفي الوليمة من اجتماع الزَّوجين والاجتماع في دعوته ما هو ظاهرٌ بيِّنٌ، ولأجل ذلك اختصَّت الوليمة بهذا الإسم.
قال المؤلف: (دَعْوَةُ اْلعُرْسِ)، فهذه هي التي تسمَّى الوليمة، أما مَا سواها فثَمَّ اسم عام للدَّعوات وهو "مأدبة"، فإذا دعاكَ أحدٌ فتقول: دعاني إلى مأدبةٍ عندَه. ويُقال: مأدبته عامرة؛ لمن كانت دعوته فيها أصنافٌ من الطَّاعم وحسنِ القيام على الضَّيف وغيره.
وثَمَّ تسميات خاصَّة لبعض الدَّعوات التي اشتهرت عند الفقهاء، ولها أحكام يذكرونها على سبيل التَّكميل في حواشي هذا الباب، ونحن لن نقف عندها ولكن نشير إليها، مثلًا:
- دعوةُ الخُرْسِ: للولادة، إذا وُلِدَ له ولد فدعا الناس، وكان هذا مشهورٌ عند الناس، وهو لازال موجودًا في بعض المجتمعات.
- دعوةٌ العَذِيرَة: للختان، فَعَذَرَه بمعنى خَتَنَه.
وإذا قيل "هل عَذَرَك فلانٌ":
* قد يُفهم على أنَّه عَذَرَه في أمرٍ قد اعتذَرَ فيه أو أبدى فيه عذرًا عن تقصيره في أمر أو عدم إجابةٍ لدعوةٍ أو غير ذلك، وقد تكون بمعنى
* وقد يُفهَم بمعنى: هل خَتَنَكَ فلان.
- دعوة الوَكِيرَة: لمن نزلَ منزلًا جديدًا فدعا النَّاس.
- دعوة النَّقيعة: لقدوم الغائب.
- دعوة الحِذَاق: للطِّفل إذا أتقنَ حفظَ القرآن أو غيره، فيفرحون بذلك ويتداعون إليه.
ولها تفاصيل، وبعضهم عدَّ فيها عشر دعوات، وبعضهم عدَّ إلى ما هو أكثر من ستَّة عشر دعوة، والأمر فيه سَعة.
ولمَّا كانت وليمة النِّكاح هي التي جاء فيها أحكام بخصوصها، ورغَّب فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر بها؛ فلأجل ذلك هي التي بحثها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِيْنَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)}.
الكلام على إنشاء الوليمة وإقامتها، فيقول المؤلف: هي مُستحبة.
ولذلك لم يقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن أنه لم يصح نكاحك أو لم يتم؛ ولكن تكون الوليمة بحسب ما يتيسَّر فيها، ولذلك لما دخلَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصفيَّة ما كان فيه شيء، دعا بنطع -الجلد- وفرشه، وأمرَ الصَّحابة أن يأتون بشيء، فكان بعضهم يأتي بأقط وبعضهم يأتي ببُرِّ، فحصلَ في ذلك من إقامة الوليمة ما حصل من الخير، وباركَ الله في ذلك النَّطع وما جلب فيه من الطَّعام، وكان فيه خيرٌ كثير.
فكلما كانت دعوة النِّكاح أيسر كانت بركتها اعظم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً» .
ولما آل أمرُ الناس إلى المفاخرة وإلى التَّكلِّفِ والمبالغة في الوليمة كان سببًا لحصول الإشكالات وتراكم الديون، وأحيانًا لذهاب التَّوفيق، وما يتبع ذلك من الشَّر والفساد، وما دخل في ذلك من السُّوء والتَّداعي إلى الحرام بالإسراف، أو اختلاط الرِّجال بالنساء، وانتشار آلاتِ اللهو، وفعل ما لا يجوز من لبسِ الرِّجال للحرير، وتفسُّق النِّساء باللباس حتى تُرَى منهنَّ العورات، أبوابٌ كثيرة جُلبَت لنا من الكفار ومن ضعَفَةِ الإيمان من أهلِ الإسلام، حتى صارت شيئًا شائعًا، وحتى لحق الناس من السوء ما لا يعلمه إلا الله -جَلَّ وَعَلَا.
فينبغي للنَّاس أن يتداعوا إلى الخيرِ، وأن يحملوا أنفسَهم عليه، وأن يحفظوا هذه الشِّرعة على ما أمر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القيام بها استحبابًا واستنانًا، ومن الاقتصاد فيها تخفُّفًا وطلبًا للبركةِ كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ)، فالكلام عليها من حيثُ الأصل؛ لأنه توجد دعوات كثيرة في النكاح، فالدعوة المستحبَّة هي الأولى، والثانية أيضًا تستحب، وأما إذا زادت على ذلك فيُنهى عنها، ولذلك قال بعض الصَّحابة: إنَّها رياء وسُمعة، أن يجعلوا وليمةً بعدَ وليمة للنَّكاح، ثلاث أو أربع أو خمس ولائم، وجاء عن بعض السَّلف أنَّه حصبَ الدَّاعي -يعني ألقى عليه الحصى- كأنَّه يُنكر عليه أن تتكرر وليمة النِّكاح أكثر من مرَّة.
فينبغي أن يُتنبَّه لذلك، فالدَّعوة الأولى مستحبَّة، وتَردادها وتَكرارها ربَّما يدخل في المحظور ويصل إلى الممنوعِ كما ذكرنا عمَّن جاء عنهم من السَّلف الكلام فيها.
قال: (لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِيْنَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ:«بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»).
سواء كانت شاة أو شاتين أو بثلاث؛ فما دام أنَّ الناس كثير ويأكلون ذلك ولا يُرمى ولا يكون فيه بذخ، ولا يكون سببًا للمفاخرة؛ فالأمر فيه سَعة، المهم أنَّه يكون مقتصدًا بما يحتاج إليه الناس، وبما لا تًهانُ فيه النِّعمة ويكون فيه الابتذال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ»، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَطْعَمَ، دَعَا وَانْصَرَفَ)}.
الإجابة إلى وليمة النِّكاح واجبة، وجاء في حديث ابن عمر وغيره عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ، فَلْيُجِبْ» ، وأثر أبي هريرة: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، محل الشاهد قوله «وَمَنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ»، فهذا هو محل الحديث، أن عدم الإجابة عصيان، بمعنى أنَّه ممنوع ومحرَّم، ولذلك قال المؤلف: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ)، يعني: أن تركَ الإجابة ممنوعٌ ومحرَّمٌ.
ما معنى قول: "شرُّ الطَّعامِ طَعَامُ والوليمةِ"؟
نقول:
أولًا: إنَّ هذا قول أبي هريرة وليس قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: أبو هريرة انتقدَ حالًا مِن أحوال بعض الناس، وهي حالٌ قد تكون مشهورة أو ظاهرة، وهي أنهم يختصون بها الأغنياء والوجهاء الذين لا يفرحون بهذه الولائم ولا يسرعون الإجابة فيها، ويمنعون منها الفقراء، فكأن هذا الكلام وصيَّة من أبي هريرة أن يتلمَّس النَّاس الفقراء في هذه الدعوات -وهي دعوات مشروعة ومسنونة كما جاء في أول الباب- وأن يتلمَّسوا فيها ضعفاء المسلمين، فإن لهم حاجة إلى الطعام، وتُرجَى بركتهم -بإذن الله جل وعلا.
فليس في هذا الحديث ما يُعكِّرُ ما ذكرنا في أول الكلام من أنَّ دعوة العرس سنَّة، والإجابة إليها واجبة.
وقول المؤلف: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ)، هذا باعتبار الأصل، وليس في كل الأحوال، فإذا كانت دعوى الجفلى بأن يدعو الناس كلهم بدون أن يخص أحدًا؛ فهذه لا تجب فيها الإجابة.
ثم أيضًا إذا لم يكن فيها منكر، أما إذا كان فيها منكر من إظهار للفسق والفجور، أو الرَّقص والمجون، وآلات اللهو وغيرها، أو كان فيها بعض المظاهر السيئة، أو الاختلاط كذلك؛ فالإجابة فيها غير واجبة، أو إذا كانوا يتأخَّرون بحيث تفوت عليهم صلاة الفجر ويُعرضون عن الخير والهُدَى؛ فهنا الإجابة ليست واجبة. إذن الإجابة واجبة من حيث الأصل.
هل تجب على مَن كان في البلد؟
فيما مضى لم يكن الفقهاء يتصوَّرون أنَّ الوليمة يُدعَى إليها مَن كان خارج البلد، والذي يظهر أنَّ مَن كانَ مسافرًا أو كانَ بينه وبينهم سفرٌ وتلحقه المشقَّة فإنَّه لا يتعلَّق به حكم الوجوب، لأنَّ المسافر يُرخَّص له في الواجبات، ويُرخَّص له في الصَّلوات ونحوها في القَصرِ وفي الجمع، والمسح على الخفين، وفي الفطر في السفر، وترك الجماعة؛ إلى غير ذلك من الرُّخص التي أذن الله بها، وبناءً عليه لا يظهر أنَّ مَن كان مسافرًا أنَّ عليه الإجابة.
مثال: مَن يُدعَى وهو في جدة أو مكة ويأتي للرياض، فإن كان ذلك يسيرًا فهو من تمام المحبَّةِ، وممَّا تحصل به الألفة بينَ الناس، ويُجبَر به خاطر الدَّاعي، ولا مشقَّة عليه ولا يلحقه به كُلفةٌ في النَّفقةِ ونحوها؛ فإن أجاب فحسن، وإلَّا فإنَّ ذلك ليس بلازمٍ، وأمَّا إن كان عليه كُلفة، فينبغي للإنسان ألَّا يُكلِّفَ نفسَه، وألَّا يحملها على عنتٍ وبلاء، سواء كان عنت مشقَّة جسديَّة ونحوها، أو كان في بذل مالٍ لا يستطيعه، أو بذل مالٍ يحتاج إليه في نفقته اللازمة.
قال: (وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَطْعَمَ، دَعَا وَانْصَرَفَ).
هنا إشارة إلى مسألة مهمَّة، وهي أنَّ الإجابة تتأتَّى بالإتيان والدُّعاء، فليس من لازمها الأكل، فبمجرَّد أنَّك تحضر فإنَّ هذا يحصل به الإجابة ويسقط عنك الوجوب، وتمام ذلك بأن تطعم، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ» ، وأمرهم بأن يطعموا، ولكن إذا كان يقع في قلبه شيء، أو لم يستطع هذا الآتي أن يطعَمَ لكونه صائمًا أو مريضًا يحتاج إلى طعامٍ خاص، لكونه ليس من عادته أن يطعَمَ في هذا الوقت الذي فيه الدعوة والوليمة، المهم أنه لا يلزمه ولا يتعلق وجوب الإجابة بالدُّخول في الطَّعام، لكنه هو الأولى في كل حال، حتى جاء في بعض الأحوال أن الفطر للصائم أولى منه، ولأهل العلم في هذا تفصيل، فإن كان يجد في خاطره فالأولى للإنسان أن يفطر، وإذا كان لا يجد في نفسه ويعذره في صيامه فيبقى على صيامه ويدعو لصاحبه.
مسألة مهمَّة: الطَّعام في وليمة النِّكاح أو في غيرها من الضِّيافات تسمَّى عند الفقهاء إباحة وليست تمليكًا، يعني: أُبيحَ لك أن تطعم، تأكل قليلًا أو كثيرًا، فهذا مباحٌ لك، ولكن ليس تمليكًا، فلا يأتي شخص ويحمل الطَّعام ويضعه في جيبه، أو يأخذ صحنًا ويطعمه أناسًا خارجين، فليس له ذلك ولا يجوز له، فالطعام أبيح لك وليس لك أن تحمله أو تتملَّكه، فإذا أكلتَ فالحمد لله، وما سوى ذلك فلا، فهذا هو الفرق بين الإباحة والتَّمليك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنِّثَارُ وَاْلتِقَاطُهُ مُبَاحٌ مَعَ اْلكَرَاهَةِ، وَإِنْ قُسِّمَ عَلى اْلحَاضِرِيْنَ، كَانَ أَوْلى)}.
النثار: هو ما ينثرونه من حلوى أو أموال، ويختلف باختلاف الناس، وهو مباح، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذبح مرة ذبيحةً وقال: «من شاء اقتطع»، فكأنَّه نثرها بينهم وجعل الأمر إليهم.
قال: (وَاْلتِقَاطُهُ مُبَاحٌ مَعَ اْلكَرَاهَةِ)، أخذُ النِّثار مباح مع الكراهة لأنَّه تتزاحم عليه النُّفوس ويتدافع فيه النَّاس، ويُكره للإنسان أن يدخل في الشيء الذي يحصل فيه تدافع، لكن لو وقع في ثوبه ونحوه فأخذه فلا بأس، لكن التَّدافع فيه مكروه لأنَّ النُّفوسَ تطلَّعت إليه، فهذا تعلَّقت به نفسه وهذا تعلَّقت به نفسه، ويسبق آخر فيأخذه، فيبقى في نفسه أنه تمنى لو أنه أخذه أو كذا؛ فلأجل ذلك قالوا إنَّه مكروه.
قال: (وَإِنْ قُسِّمَ عَلى اْلحَاضِرِيْنَ، كَانَ أَوْلى)، قسمه على الحاضرين أولى من جهتين:
أولًا: لأنَّه أطيبُ للنفوس، فلا يقال هذا أخذ كثير وهذا ما أخذ، هذا سبق، هذا أخذ شيئًا وضعت يدي عليه ونحوه.
ثانيًا: لا يحمل النَّاس على أمرٍ مكروهٍ، فيحفظ للناس مقامهم، فمع الحاجة قد يتدافعون وقد يعوزهم ذلك إلى أن تتشوَّف نفوسهم إلى هذا، فإذا حفظتَ لهم مقامهم ووزَّعتَ عليهم فلا هو الذي جاء في نفوسهم من كون فلان أخذ وفلان لم يأخذ، وأيضًا قضيتَ ما تتشوَّف إليه نفوسهم وأرضيتهم بما وصل إليهم.
أسأل الله أن ينفعنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يوفقنا لتحصيله، وأن يجعله حجَّةً لنا وذخرًا يوم لقاء ربنا، إنَّ ربنا جوادٌ كريمٌ، نسأل الله أن يُلقيَ الصواب على ألسنتنا، وأن يحفظنا من الخطأ ومجانبة الحق، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
شكر الله لكم أيها الطُّلاب والطالبات، وشكر الله لأخينا وللقائمين على هذا البناء، وجعل الله ذلك في موازين حسناتهم، وأبقى عملهم، وأجرى بناءهم، وعظَّمَ آثارهم وثمارهم، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك