{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة، نسأل الله لنا ولكم التَّوفيق
والسَّداد.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رحمه الله: (وَإِذَا
بَلَغَ اْلغُلاَمُ سَبْعَ سِنِيْنَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ عِنْدَ مَنِ
اخْتَارَهُ مِنْهُمَا، وَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ سَبْعًا، فَأَبُوْهَا أَحَقُّ
بِهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم للهُدى والصَّواب،
وأن يُلهمنا الحقَّ وحسنَ الجوارِ، وأن يجنِّبنا الشَّرَّ والسُّوءَ والفساد، إنَّ
ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأنَا ما يتعلَّقُ بالكلامِ على بابِ الحضانةِ، وذكرنا
في مستهلِّ هذا الباب ما يلحقُ هذا الباب من وعورةٍ في بعض المسائل وكثرةِ الإشكال
في تحقيق المقال فيها، والنَّص على ما هو الأتم والأكمل والأكثر تحقيقًا عندَ أهلِ
العلم، ولا تنفكُّ مسائل العلم كلها من إشكال، ولابدَّ للطالبِ من مراجعةٍ، ولا
يُمكن للطَّالبِ لأوَّلِ وهلةٍ أن يتلقَّى المسألةَ بتمامها وتفاصيلها والانتقال
إلى الرَّاجحِ فيها، وإنَّما العلم يأتي قطرات، يأتي أوَّلَ مرةٍ على الأساس،
والمرة الأخرى على فكِّ الإشكال، والثالثة على دفعِ المخالفِ، إلى أن يستقرَّ
القولُ لدى الطَّالب بما يكون مؤهَّلًا -بإذن الله جل وعلا- إلى التَّحقيق
والإفتاء، وإلى حسنِ النَّظر، وإلى الموازنةِ بينَ الأقاويلِ عند العلماء، ومَن
طلبَ لأوَّلِ وهلةٍ أن يتنقَّلَ بينَ أقوالِ أهلِ العلم وأن يتخيَّرَ بينها، وأن
يردَّ مرجوحًا ويأخذَ براجحٍ؛ فقد رامَ أمرًا عظيمًا، ويوشك أن ينتقل إلى الهوى
والتَّلفيق والتَّشهِّي والتَّجنِّي على العلم، ونخشى أن يَدخلَ في قول الله -جَلَّ
وَعَلَا: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 169].
لذا أُوصي الطُّلابَ بالتَّروِّي في العلم والمهلةِ فيه، والتَّأنِّي وعدم
الاستعجال؛ فإنَّ ذلك -بإذن الله جلَّ وعلا- أعونَ لهم على الإخلاص، لأنَّ الإنسان
إنَّما يجرؤ حتى يُرِيَ النَّاس، وحتى يتفوَّقَ على الأقران، وهذا التَّأنِّي أعون
له على تحصيل بركةِ العلم، وأوفقُ له من الله -جَلَّ وَعَلَا- على أن ييسر له
المزيد، وأن ينقله إلى ما هو أتم، وأن يجعله في خيرٍ يستقبله، وأن يكون -بإذن الله
جل وعلا- في أتمِّ الأحوال وأكملها.
وكما قلنا إنَّ هذا الباب فيه وُعورةٍ يُحتاجُ فيه إلى شيءٍ من النَّظرِ.
وذكرنا مسألةً مهمَّة؛ وهي أنَّ هذه المسائل -وهي مسائل الحضانة- كلامُ الفقهاء
فيها إنَّما هو حالَ النِّزاعِ والاختلافِ، وهذه الحال يجبُ ألَّا تكونَ هي الحال
المستقرَّة؛ بل الأصل على الآباء والأمَّهات سواء في حالِ رضا أو في حالِ غضب، في
حالِ اتِّفاق أو في حالِ فراق، في حالِ زواج أو في حال طلاق؛ ألَّا يُعرِّضوا
الأبناء والبنات للبلاء والإشكال، وألَّا يجعلوهم حلبةَ صراعٍ، وميدانًا للنِّزاعِ،
وطريقًا للتَّشفِّي، يُريد أن يتشفَّى في هذه الزَّوجة فيؤذيها في أولادها، ويوشك
أن تحتال المرأة لتنزع أولاده منه، وليس الأمر كذلك، إن كانوا أولاده فهم أولادكِ،
وإن كانوا أولادكِ فهم أولاده، وإن كان من خيرٍ فالخير لهم، وخيرهم خيرٌ لكم، وأنتم
مسؤولون عنهم وموقوفون بينَ يدي الله فيهم، فمن فعلَ فعلةً لا يريد بها الخير لهم
وإنَّما يُريد التَّشفِّي أو إظهارَ غيظِ النَّفس والانتقام من الآخر فقد رامَ
شرًّا، وحصَّلَ سوءًا، ووقف بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا- في حالِ بلاءٍ ومحنةٍ،
ويوشك أن يدخل في قولِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ
يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ
لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ، ولذلك نصَّ الفقهاء
في أبواب الحضانة في غير ما مسألةٍ أنَّه إذا كانَ الأخذُ مُضارَّةً للآخر فإنَّه
لا يُوافَق على ذلك، وإذا تبيَّنَ هذا للقاضي فينبغي أن يأخذَه بسوءِ قصده، وأن
يعزِّرَه على ما جنحَ إليه، فهذه أمورٌ يجب أن يُتبيَّن الأمر فيها.
إذن؛ الحالُ حالُ اتِّفاق، فإذا تنازعا فإنَّما يتنازعا لقصدِ الأصلح للأولاد لا
لقصد الحصول عليهم والحيلولة بينهم وبينَ أبيهم أو بينهم وبينَ أمِّهم، وإنَّما إذا
ظنَّ كلُّ واحدٍ منهما أنَّه يكونُ الأصلح لأبنائه وبناته فنقول في مثل هذه الحال:
له أن يُطالِبَ بهم وأن يترافع إلى القضاء إن احتاجوا إلى القضاء، وإن لم يحتاجوا
إلى القضاء بأن يتَّفقوا فيما بينهم أو يجعلوا بينهم محكِّمًا ويُرسلوا بينهم
خبيرًا وشفيقًا عارفًا بالأحكام الشَّرعيَّة وقادرًا على جعلِ الأمورِ في مواضعها؛
فإنَّ ذلك أحسن من أن تُبتلَى النُّفوس وأن يتعرَّض الأبناء للمحاكم ذاهبين آيبين،
أو يلحق في نفوسهم شيءٌ من المهانةِ والذِّلةِ وضيقِ الصَّدرِ، ومقارنةِ أنفسهم
بغيرهم ممَّن استقرَّت أحوالهم وقامت أسرهم، وفرحوا باجتماع شملهم، فينبغي ألَّا
يُكوَى الأبناء والبنات بنارِ المنازعةِ فوق اكتوائهم بنار الفِرَاق والاختلاف
والطَّلاق.
هذه مسألةٌ مهمَّةٌ، وأرجو أن تكونَ على مرأى ومسمعٍ من كلِّ أبٍ وأمٍّ احتاج إلى
النَّظرِ في مثل هذه المسائل، وأن تكونَ نصبَ عينيه.
أخذنا في الدرس الماضي ما يتعلَّق بأنَّه لا حضانة لرقيقٍ ولا لفاسقٍ ولا لمرأة
مزوَّجةٍ بأجنبيٍّ، وذكرنا أنَّ هذه موانع تمنع من الولاية، وأنَّ حقيقتها أنَّها
شروط مشترطةٌ في الحاضن، ألَّا يكون فاسقًا، فيكون عدلًا، وألَّا تكون المرأة
مزوَّجة.
وذكرنا أنَّ مَن كان فيه مانعٌ فزالَ المانعُ بأن عتقَ العبدُ، أو زالَ الفسقُ، أو
طُلِّقَت المرأة؛ فإنَّه يعود لهم من الحقِّ ما كان، ولها أن تُطالب ولو سبق حكمُ
القاضي بانتقال الأبناء إلى أبيهم -هذا بالنِّسبة للمرأة- والعكسُ بالعكسِ
بالنِّسبةِ للفاسقِ إذا اعتدلَ وسلمَ من الفسق، ومن الرَّقيق إذا عتق.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا بَلَغَ اْلغُلاَمُ سَبْعَ سِنِيْنَ خُيِّرَ
بَيْنَ أَبَوَيْهِ).
تكلَّمنا في أوَّل البابِ عن الأحق بالحضانة، وذكرنا أنَّ في الحضانة حقٌّ للمحضون
فلا يضيعه بحالٍ من الأحوال، لكن لو انتقل من الفاضل إلى المفضول، أو إلى المتأخِّر
من المتقدِّم؛ لكن وجد مَن يحضنه فالحمد لله، لكن الكلام إذا لم يوجَد مَن يحضنه؛
فيأثم الأقارب والمسؤولون عن ذلك.
المسألة الثانية: إذا تنازعوا في الحضانة؛ فمن الأولى بها؟
بيَّنَّا المقدَّم فالمقدَّم من حيث الأصل الذي هو بالنسبةِ للصَّغيرِ الذي هو دونَ
سبعِ سنين، فهو مستحقٌّ عندَ من تقدَّم في الترتيب المذكور في الدَّرسِ الماضي.
والمسألة هنا في بلوغه سبع سنين، والكلام في الغلام، والغلام: اسمٌ للابن الذي بلغَ
السَّبعَ ولم يبلغ.
إذن؛ عندنا الغلام الي بلغَ وهو عاقل رشيد، فليس لأحدٍ ليه ولايةٌ ولا حضانة،
والصَّغير الذي هو دونَ سبعٍ تقدَّم الحكم في حقِّه، وهو أنَّه لا يُضيَّع، ثم يكون
الأولى به فالأولى، حسب الترتيب الذي ذكره الفقهاء.
إذا بلغ السَّبع -مع وجود قيود سنشير إليها- خُيِّر الغلام، فيُؤتَى به فيُخيَّر
بينَ أبويه، فإذا اختار الأب ذهب معه، وإذا اختار الأم ذهب معها، فإنَّ هذا قد حكم
به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا ترافعت امرأةٌ إليه وقالت: "إن
ابني هذا صار يخدمني ويستعذب لي الماء، أو يسقيني من بئر كذا وكذا...، وإن أباه
أراد ان ينتزعه مني"، فأحضرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحضر
الغلام، ثم عرضَ على الغلام أبويه.
ففي الشَّرع يُراعَى أنَّه مَن كان الطفل إليه أميل؛ فإنَّه يكون له أنفع في
استجابته في التربيه وتهذيبه على الأخلاق، وقربه لطيِّبِ الفِعال، بخلاف مَن يأنفُ
عنه أو ينفر منه؛ فإنَّه يُوشك ألَّا يتلقَّى منه.
على كلِّ حال؛ فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّره فاختار أمَّه،
فجعله يذهب معها، وكذا حصل ذلك في عهد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فالسُّنَّة مستقرَّة، وحكمُ الخلفاءِ جارٍ في هذه المسألة، ولا غضاضة في ذلك ولا
إشكال فيه؛ بل هو مستقرٌّ سائرٌ العمل به بعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
إذن نقول: إذا اختار أحدهما فهو مع مَن اختار.
وينبغي أن يُعلم أنَّه إذا اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر، فيُحكَم بعدَ ذلك بمَن
انتقل إليه، ويُنزَع ممَّن انتقل منه، وهكذا..
إذن؛ المسألة راجعة إلى اختيار الغلام ورغبته، ومحل الكلام هنا إنَّما هو في الغلام
العاقل، يقول الفقهاء: أمَّا الغلام المعتوه والغلام المجنون، ومَن ماثلهم في تلك
الأحوال؛ فإنَّه إنَّما يكون عند أمِّه على الإطلاق، وذلك لأنَّ الأم أكمل في
الشَّفقةِ، ولأنَّه لا ينفكُّ من أحوالٍ يُحتاج فيها إلى الأمِّ لا إلى الأب، لأنَّ
المعتوه أو المجنون لا يستطيع أن يُربَّى، وإنَّما يُشفَقُ عليه، يُحفَظُ من سوءٍ،
يُمنَعُ من خرزجٍ، يُحال بينه وبينَ ما يضرُّ ونحو ذلك، يُجرَى عليه الطَّعام الذي
يُلائمه ويُناسبه؛ وكلُّ تلك الأمور إنَّما تقومُ بها الأم.
أمَّا العاقل فإنَّ هذه الأمور في حقِّه أقل، فهو يستطيع أن يُخبِرَ عن نفسه بأنَّه
يُريد هذا الطَّعام أو أنَّه يتقي هذا الخطر ونحو ذلك، فحاجته إلى الأب أو الأم في
التَّربية، ولذا كان المقصود الأعظم هو تحصيل التَّربية وتنشِئته تنشأةً صالحة، فهو
مع مَن اختار يكون أطيبَ له وأتمَّ لحاله على ما ذكر الفقهاء، وجرت بذلك السُّنن عن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن؛ للغلام أربعة أحوال:
الحال الأول: أن يكون طفلًا دونَ السَّبع سنوات؛ فالأحق به أمُّه، ثم أمهاتها، ثم
الأب، ثم أمهاته، ثم أجداده؛ على ما جاء.
الحال الثاني: إذا بلغَ السَّبع؛ فلا يخلو:
- إما أن يكونَ عاقلًا: فيُخيَّر.
- أو غيرَ عاقل: فهو عندَ أمِّه على الإطلاق لِمَا ذكرنا.
الحال الثالثة: البلوغ، فإذا بلغَ العاقل الرَّشيد فإنَّه لا حضانةَ لأحدٍ عليه،
وبناءً على ذلك سواء جلس عندَ أمِّه أو عندَ أبيه، أو احتاجَ إلى الانفراد لكونه في
طلبِ معيشةٍ بعيدة أو نحو ذلك.
ولكن يقول الفقهاء: ولا ينبغي للغلام أن ينفرد عن أبويه وهو يقدرُ على ألَّا ينفرد،
ليقوم على برِّهم، ولئلَّا يُحرَم هذا الخيرَ الكثير والبرَّ العظيم، الذي هو
القيام على الوالدين والإحسان إليهما.
الحال الرابعة: إذا لم يكن عاقلًا بأن كانَ معتوهًا أو مجنونًا فتبقى حضانته لدَى
أمِّه لِمَا ذكرنا، لأنَّه لم يختلف حاله من حال الحاجة إلى الشَّفقةِ والاهتمام
والعناية في مأكله ومشربه وحفظه عمَّا يضرُّه، ونحو ذلك على ما ذكره الفقهاء
-رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
يأتي الكلام بعدَ ذلك في البنت التي بلغت سبع سنين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ سَبْعًا، فَأَبُوْهَا
أَحَقُّ بِهَ)}.
الجارية والغلام فيما دون سبع سنين حكمهما واحد في الأحق بهما، أما ما بعدَ السَّبع
فتختلف أحكامهم، ويختص كل واحدٍ بما يُلائمه، ولذلك يقول الفقهاء: الجارية تكون عند
أبيها؛ لأنَّها أحوج ما تكون إلى الصَّونِ والحفظِ والعنايةِ، والتَّأهيلِ
للتَّزويجِ وما يعقبه، وتلكَ حالٌ لا يقوم عليها إلا الأب، ولا يقوى عليها إلَّا
الوالد، فبناء على ذلك تكون عند أبيها لأنَّه أحفظُ لها.
وهذا الكلام في حال الخلاف، أمَّا حال الاتِّفاق فهما على ما اتَّفقا عليه، وينظران
في الأصلح لحالهما، وعند الاختلاف كونها عندها أولى من كونها عند أمِّها، وكل
الكلام أيضًا في حال كونِ الأبوين -أو المختلفين- مستحقَّانِ للحضانة، أمَّا إذا لم
يكونا مستحقَّانِ للحضانتة أو أحدهما ليس بمستحقٍّ للحضانة فلا يُنظَر في طلبه،
وإنَّما يُنتقَلُ إلى غيره، فلو كانت أمًّا فاسقةً فاجرة وعمًّا صالحًا؛ فيُمكن أن
يُنتقل إلى العم، ويُمكن أن يُنتقل إلى الخالة إذا وُجدت، وهذا بحسب الحال.
ذكروا بعض الأحوال لا نريد التَّفصيل فيها، فكما قلتُ لكم إنَّ هذه أبواب يُراد
منها أن يعرف الطالب أصل المسائل، ولكن ما يتعلق بتفاصيلها يحتاج فيه إلى حكم
القضاة، وإلى المحاميين والمعنيين بتثقيف الناس من طلبة العلم والخطباء وأئمة
المساجد ونحوهم؛ فيأخذون من هذا الباب أصله، ثم تفاصيله عند الحاجة إليها.
وذكر العلماء ما إذا مرضت البنت -أو ما في مثل تلك الحال- فإنَّها تكون عندَ
أمِّها، لأنَّها أشفق عليها، وأكثر مراعاةً لها، ولأن المريض يحتاج إلى طولِ عناية
وطول مُقامٍ عنده، وتحسُّسٍ فيما يحتاج إليه، ومعالجته فيما يضرُّه أو يؤلمه أو نحو
ذلك، فإذا كانَ الحالُ كذلك فيُمكن للبنت أن تنتقل عندَ أمِّها.
وذكروا أيضًا حالَ السَّفر، أو كون أحدهما في بلدٍ والآخر في بلد، ورأى الفقهاء في
ذلك ما هو الأصلح، فإذا كان يذهب ويجيء فهو عند المستقر منهما، أمَّا إذا كان ينتقل
والانتقال آمنٌ فتكون عند الأب، وهكذا، ولها تفاصيل ليس هذا محلُّ استقصائها وذكرُ
جميع ما يتعلق بها.
وإذا كانت الجارية معتوهة فتكون عندَ أمِّها لأنَّها أولى من المريضة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِه، إِلاَّ أَنْ
تَشَاءَ اْلأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا، فَتَكُوْنُ أَحَقَّ بِهِ
مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيْ حِبَالِ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً)}.
قوله: (وَعَلى اْلأَبِ)، "على" هنا للوجوب واللزوم والاستحقاق، فواجبٌ على الأب
ولازمٌ له أن يسترضع لولده، أي: يطلب له مَن تُرضعه، فهذا من واجبات الزَّوج لا
الزَّوجة، حتى ولو درَّ لبنُ الزَّوجةِ وأمكنها تحصيل ذلك، للآية: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233]، فدلَّ على أنَّ هذا من واجبات الأب ولزومه، وقال في
سورة الطلاق: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]،
فدلَّ ذلك على أنَّه مُستحقٌّ على الأب.
قال المؤلف: (إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ اْلأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ)، يعني: أنَّ الأب لا
يُجبرها ولا يُلزمها، سواء كانت مطلَّقة أو معه في حِبَالِ زوجيَّته، فلا يلزمها
هذا، وليس من واجباتها على الإطلاق، فتكون أحقُّ بها من غيرها إذا طلبت ذلك، لأنَّ
كمال شفقتها اعظم، فيحصل له من العناية والتَّمام وحسن الرِّعاية أكثر، فيُقَرُّ
بيدِ أمِّه، لكن لو لم تشأ أو رغبت عن ذلك بسببٍ أو بغيرٍ سبب حتى ولو درَّ ضرعها
وقالت لا أريد أن أُرضعه؛ فلا نلزمها بذلك.
يقول الفقهاء: "إنَّ اللزوم مختصَّةٌ بحالٍ واحدة، ألَّا يوجَد غيرها"، بمعنى
أنَّها حالُ الاضطرار بأن يُخاف على الولد الهلاك، لأنَّ النُّفوسَ محفوظةٌ
ومعصومةٌ، ويجبُ حفظها، ولا يجوز إتلافها وإهلاكها، وكفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّعَ
مَن يعول، وإذا لم يجُز لنا أن نترك الأجنبي الذي تعرَّضَ للهلكة؛ فمن باب أولى أن
يجب على الإنسان حفظُ قريبه وولده ومَن تحتَ يدهِ، وهكذا..
في مثل هذه الأوقات إمَّا أن يُنتقَل من الأم إلى مرضعة أخرى، وهذا لا إشكال فيه،
أمَّا إذا انتُقِلَ من الأمِّ إلى حليب صناعي، أو إلى هذه المستحضرات التي تُخَضُّ
مع الماء حتى يُسقى بها ذلك الرَّضيع؛ فهل نقول إنَّ الأم تُلزَم في مثل هذه الحال
أو لا تُلزَم؟
هذا محل إشكال، ونصَّ أهل العلم على أنَّه اجتناب إرضاع الطِّفل من البهائم ونحوها،
لأنَّ هذا يُذهب عنهم الذَّكاء، ويُلحق بهم الغباء، فهل نقول إنَّ هذا يُمكن أن
يكون معتمدًا لنا في إلزام الأم من عدمه في هذه الحال؟
الحقيقة هذا محلُّ بحثٍ ونظرٍ وتأمُّلٍ، ولكن إذا نظرنا إلى مثل هذه المستحضرات أو
المساحيق التي تؤول إلى سقاءٍ لهذا الطفل وفيها مكوِّناته الأصليَّة، وأثبتت
التَّجربة قيام الرُّضَّع بها، وقوَّتهم وسلامتهم في أعضائهم وفي عقولهم؛ فلا
يُبعَد أن يُقال أنَّها تقوم مقام الأم وأنَّه لا تُلزَم في مثل هذه الحال.
ويُشكل علينا ما ذكرناه من قول العلماء في الإرضاع بلبن البهائم؛ ونقول: أنَّ ما
يذكره أهل الطِّب المعاصرون هو درجة من درجات تمام العناية، ولأجل ذلك فإنَّ هذا من
الأمور الشَّائعة والمنتشرة والمشتهرة كثيرًا، وهي محل بحثٍ؛ ولكنِّي طرحتها لا على
سبيل التَّقرير والتَّأكيد، وإنَّما على سبيلِ النَّظرِ والتَّروِّي، ولكن فيها من
الوجه ما يُمكن أن يكون معتبرًا قويًّا، خاصَّة أنَّ الفقهاء ذكروا أنَّ الرَّيع
يُمكن أن يُسلَّم لغير أمِّه، ويفوت عليه من الشَّفقة شيئًا كثيرًا، ومن المعلوم
أنَّ المرضعات فيما مضى كان يجتمع لديهنَّ الرُّضَّع الكُثُر، فربما كان منها ضعفٌ
في كمال الرِّعاية لكثرة مَن عندها، فهذا ممَّا يقوى ما يؤول إلى إعطائهم من هذه
المستحضرات الحديثة التي تُستخلَص من حليب الأبقار والجواميس ما فيه قيامٌ بالقدرِ
المطلوبِ، أو يتحقَّقُ به الواجب، والله تعالى أعلم.
{أحسن الله إليكم..
لو جرت العادة أنَّ المرأة هي التي تتولَّى الإرضاع، فهل يكون فيه إلزام؟}.
أنت تقول: "لو جرت العادة"، وهنا يكون تحكيم للعادة، وتحكيم العادة مُعتبرٌ في
الشَّرع إذا لم يُوجَد نصٌ، إمَّا إذا وُجد نصٌّ فالنَّصُّ حاكمٌ وقاضٍ، والله
-جَلَّ وَعَلَا- قد حكم بذلك في كتابه، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]، يعني أنَّ الأمرَ ليسَ بمتحتِّم عليهنَّ
ولا بلازمٍ، ثم لو أنهنَّ أرضعنَ استحققنَ الأجرة، فدلَّ ذلك على عدمِ لزومه، فلا
يُمكن أن يُقال أنَّ ما رفعَ القرآن والشَّرعُ لزومه أن نأتي فنُلزمَ به ونوجبه،
وبناءً على ذلك تُهادِي أم الطفل، فإن أرضعت فحيَّ هلا، وإن أبت وامتنعت فلا،
خاصَّةً أنَّ بعض النِّساء ربما تمتنع لأسبابٍ تعلَّقُ بها؛ لأنَّ المرأة إذا أرضعت
تترهَّل ويَبينُ فيها الكبرُ ويكثُرُ فيها الضَّعف، وهي تعلم أنَّ الأمر إذا كان
كذلك فإنَّ الزَّوج ربَّما رغبَ عنها، أو التفتَ إلى غيرها ونحو ذلك، فيكون
امتناعها أو إعراضها مع وُجودِ ما يُمكن أن يقوم مقام إرضاعها وجهٌ وجيهٌ
بالنِّسبةِ للمرأة، فكيف وأصل الشَّرعِ قد جاء ساندًا لحالها، فلو لم يكن في ذلك
شيءٌ من هذه المسوغات لكفى بالشَّرعِ حاكمًا وقاضيًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلاَ مَالٌ، فَعَلى
وَرَثَتِهِ أَجْرُ رَضَاعِهِ، عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ مِنْهُ)}.
هذا إن لم يكن له أبٌّ ولا مال، أمَّا لو كان له مالٌ فيُنفَقُ عليه من ماله كسائر
نفقاته؛ ولأنَّ أولى ما يُنفق فيه مالُ المرء هو فيما تقومُ به حياته وتُحفَظُ به
مادَّةُ روحه، وألَّا يكون سببًا لتلفه وهلاكه ونحو ذلك، وكذلك إن لم يكن له أبٌ،
لأنَّ الأب هو الذي وجبَ عليه ذلك في بأصل الشَّرع كما في الآية المتقدِّمةِ معنا.
إذا لم يكن له واحدٌ من هذين؛ فهل يُضيَّع الطِّفلُ ويُترَك؟ وهل تكون حياته وموته
سواء؟
لا، وهذا مستقرٌّ عندَ الفقهاء أجمع لا يختلفون في ذلك، فإنَّه يجب القيام عليه،
ونصَّ المؤلف هنا على أنَّه يجب على ورثته، وهذا مبنيٌّ على ما سيأتينا بعدَ قليل
في باب النَّفقات، وأنَّ النَّفقات تجبُ على الورثة، لأنَّ الغُنمَ بالغُرمِ، قال
المؤلف: (فَعَلى وَرَثَتِهِ أَجْرُ رَضَاعِهِ)، فيُبحَث له عن مرضع وتُعطَى أجرتها،
إن تبرَّع أحد الأقارب أو أحد النَّاس أو أحد المنفقين ممَّن تلزم النَّفقة فالحمد
لله، أمَّا إذا لم يتبرَّع أحد فيكون على جميع الورثة القادرين على النَّفقة، الذين
عندهم ما يُمكن أن ينفقوه، أمَّا إذا لم يكن فنفسه ومن وجبت عليه نفقته أولى، ولكن
الكلام هنا في الوارث القادر على النَّفقة، فيجب عليه.
وبناءً على ذلك؛ لو كان له أخوين فيتناصفان أجرَ الرَّضاعة، كما أنَّه لو مات
يتناصفان إرثه لو كان له إرث، وسيأتينا ما يتعلَّق بهذه القاعدة فيما قرَّره
الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
وكلام الفقهاء في الرَّضاعِ هنا إنَّما هو للحولين، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: لو
أرادوا أن يُستَرضَع للطفل بعدَ بلوغه السَّنتين فلا يجب على أبٍ أن يدفع، ولا على
قريبٍ أن يُنفق؛ بل إن تبرَّع فالحمد، وإن لم يتبرَّع فإنَّه ما بعدَ الحولين لا
يحتاج حاجةً مُلحِّةً إلى الرَّضاع، لأنَّ الرَّاع إنما يكون في الحولين.
والعكس بالعكس؛ يقول الفقهاء: لو أرادَ فطامه قبلَ السَّنتين فليسَ للأب ذلك، إلَّا
أن يتراضى الأبوان بذلك؛ فإذا تراضيا فالحمد لله، لكن مدَّةُ السَّنتين لازمة للأبِ
بكلِّ حالٍ، وعلى سائر الورثة الذين تلزمهم النَّفقات عليه سواء بالرَّضاع أو غيره،
ما بعد السَّنتين فليس بلازمٍ إلَّا أن يتبرَّع. وهذا من مكمِّلاتِ هذا الباب، وهي
من المسائل المهمَّة المتعلِّقةِ به، لأنَّ كثيرًا من الصِّغار ربَّما يجوزون
السَّنتين ولا يزال يطلب اللبن ونحوه، فنقول إنَّ هذا على سبيل التَّبرُّع لا
اللزوم وعلى سبيل الاستحباب لا الوجوب.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ نَفَقَةِ اْلأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيْكِ).
تعرفون أنَّ المؤلف له ترتيب في الكتاب ليس على ما جرى عليه متوسطو الحنابلة
ومتأخريهم في أن تُجعل نفقة الأزواج والأقارب في بابٍ واحدٍ، ولمَّا درسنا عشرة
الزَّوجين أدخل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلَّق بنفقة الأزواجِ، ولأجل ذلك لم
يقل هنا "كتاب النفقة"، وإنما قال (باَبُ نَفَقَةِ اْلأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيْكِ).
وبعض المتأخرين يجمعونها، فيقولون "كتاب النفقة" ويبدؤون بنفقة الأزواج، ثم نفقة
المماليك، ثم نفقة الأقارب، ثم نفقة البهائم.
وهنا خصَّ المؤلفُ الأقارب والمماليك باعتبار أنَّ نفقة الأزواج قد مرَّت فيما
يتعلَّق بباب عِشرَة الزَّوجين، وهو نوع ترتيب والأمر فيه واسع.
لِمَ احتجنا إلى مثل هذا الكلام؟
لأنَّ الطالب ربَّما يأتي في بعض الأحوال فيبحث في الكتب فلا يجد نفقة الأزواج، فقد
تُذكَر في باب "عشرة الزوجين"، أو يذهب إلى "باب عشرة الأزواج" فلا يجد النفقة؛
فتكون في كتاب "النفقة"، فبعضهم يجمعها هنا، وبعضهم يفرقها بين الموضعين، والأكثر
على جمعها في كتابٍ واحدٍ يعنونون له بــ "كتاب النَّفقات".
ومرَّ بنا ما يتعلَّق بنفقةِ الأزواجِ، وأنَّها مقدَّمةٌ، لأنَّ بابها باب
المعاوضة، وذكرنا كيفيَّة الحكم بالنَّفقة هل هي معتبرةٌ بالزَّوج أو معتبرةٌ
بالزَّوجة أو هي معتبرة بحالهما -كما هو مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى- وذكرنا
الأدلَّة المتعلِّقة بلذك فيما مضى، ولا نحتاج إلى إعادة وتَكرار لضيق الوقت
وحاجتنا إلى التَّكميل والاستمرار.
وهذا أوان البحث في نفقة الأقارب، وذكرنا أنَّ النَّفقة: هي الشَّيء الذي يُنفَق
ويذهب، من نَفَقَ الشَّيء إذا بذله، لأنَّ هذه النَّفقات تُعطَى وتذهَب وتتجدَّدُ
غيرها.
مَن المقصود بالأقارب هنا؟
الأقارب هنا هم قرابته الذين يرثونه بالفرض أو التَّعصيب، أو نقول: هم الأصول
والفروع ومن يرثه من الأقارب، فهؤلاء هم الذين يدخلون في أحكام النَّفقة، ومَن
سواهم فلا، لأنَّ الفقهاء لهم مسالك متباينة في النَّفقات، والكلام فيها كالكلام في
الحضانة في الخلاف والإشكال، وإن كان الأمر فيها أظهر من الحضانات، فالحضانات
متفرِّعة تفرُّعًا لا يكاد يستقرُّ في مسلكٍ أو منهجٍ واحد، أمَّا النَّفقات فيها
شيءٌ من التَّبايُن، والفقهاء لهم منهجان معلومان ستأتينا الإشارةُ إليهما.
ونفقة المماليك واجبة، وهم ممَّن يعولُ الإنسان، وتضيعهم تضييعٌ، وتركهم حرام،
وسيأتي في نهاية الباب ما يتعلق بالكلام عليه.
ندخل إذن في باب النَّفقة، فبعد أن عرفنا أنَّ نفقة الأقارب والمماليك هي محل البحث
هنا، وأنَّ أصلها في الشرع في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وعلى المولود له رزقهن
وكسوتهن بالمعروف﴾ [البقرة: 233]، فهذا دليل على وجوب النفقة على مَن يُولد له،
وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ
يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ
كَسْبِكُمْ» ، وهذا لالآباء، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ
وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ؛ فكل هذه الأحاديث دالَّةٌ على استحقاق الآباء والأقارب،
وهذه تتوجَّه إلى الآباء والأبناء.
وهناك دليل آخر، قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الاستحقاق:
«أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ، وهو حديث
حسن، حسَّنه غير واحد، وصحَّحه الحاكم وغيره، ونقله الفقهاء محتجِّينَ به معتبرين
له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوْا،
وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْا وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ، إِذَا
كَانُوْا فُقَرَاءَ، وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ)}.
قوله: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ)، يفيدُ أنَّ المسألةَ متعلِّقةٌ بالوجوبِ مثلما قلنا
قبل قليل في قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَى الأبِ أَنْ يَستَرْضِعَ
لِوَلَدهِ)، فهذا واجبٌ لازمُ لِمَا ذكرنا من دلائل النُّصوص من قوله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»، وجعل ذلك
أخذًا قاطعًا، ولم يجعل الأمرَ خيارًا له ولا باستئذانه، وإنَّما هو حكمٌ قاطعٌ
فيمَن تخلَّفَ أو تأخَّرَ أو توانى عن النَّفقةِ على مَن تحته من زوجٍ وولدٍ
وقريبٍ، والأحاديث الأخرى أيضًا دالَّةٌ على ذلك دلالةً ظاهرة.
قال: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ)، والِدَا الإنسان هما من أولى
الناس بك، فأمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بررهما، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ [الإسراء: 23]، وأعظم
الإحسان وأوجبه ما يتعلَّق به حفظهما وحفظ أبدانهما، وحفظ أرواحهما، ومنعهما ممَّا
يضرُّهما أو يذلهما أو يُلحق بهما المهانةِ من التَّعرُّضِ للسُّؤال والصَّدقةِ
والزَّكاةِ وغيرها، فهذا من حيث العموم.
وكما قلنا في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ
مِنْ كَسْبِكُمْ»، دلالة على استحقاق الوالدين.
قوله: (وَإِنْ عَلَوْ)، يدخل في ذلك أم الأم، وأم الأب، وأم أم الأب، وأبو أم
الأم، وهكذا من جميع الأمهات، ولعلَّك تلحظ أنَّه لمَّا علَّقَ النَّفقةَ للوالدين
أطلق بالعلوِّ، ليدخل في ذلك كلُّ الآباء والأمهات، سواءٌ ورثوا أو لم يرثوا، كانوا
من الورثةِ أو من ذوي الأرحام، وقد تقدَّمَ بنا متى يكون وارثًا ومتى لا يكون
وارثًا، والقاعدة في الجد: أنَّ كل جدٍّ أدلى بأنثى بين ذكرين فإنَّه غيرُ وارثٍ،
وتقدَّم ما يتعلق بالأمِّ غير الوارثة وهي من أدلت بأنثى بعد ذكر، مثل أم أب الأم؛
فهذه غيرُ وارثةٍ.
هذا ما يتعلَّق بالوالدين وإن علو، أنَّهم آباء وأمهات، والآباء والأمهات لهم حق
البرِّ والإحسان، وهم داخلون في عموم هذه الدَّلائل والآيات، لأنَّ -جَلَّ وَعَلَا-
قال: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: 78]، فسمَّاه أبًا، فدلَّ ذلك عند
أهل العلم على أنَّه يلحقه ما يلحق الأبَ من البرِّ ووجوب النَّفقةِ.
ثَمَّ مسائل ربَّما اختلف فيها الجد عن الأب، لكنَّها على سبيل الاستثناء والخصوص،
ونقلها الفقهاء باعتبارات معيَّنة، وجاءت فيها النُّصوصُ دالَّة على التَّخصيصِ
فيها.
وبناءً على ذلك نقول: إنَّ الآباء والأمَّهات مستحقون للنَّفقةِ على سبيل الإطلاق.
قال: (وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْ)، يعني وإن نزلوا، فابنك وبنتك وابن ابنك
وابن بنتك وابن ابن بنت بنتك؛ كلهم داخلون فيما يجب عليك الإنفاق عليهم متى ما
احتاجوا وقدرتَ على ذلك، وسيأتي بيان قيود وشروط هذا.
ولا يتقيَّد ذلك بقيدٍ، ولا يخصُّ ذلك بحالٍ؛ بل كلُّ الأولاد داخلون فيه لِمَا
ذكرنا من دلالة الآيات والنُّصوص.
مسألة استحقاق الوالدين وإن علو والأولاد وإن سفلوا هو قولُ الحنابلة وجماهير
الفقهاء، لا يجري في ذلك خلافٌ معتبرٌ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ).
كلُّ أقارب الإنسان الذين يرثونه لو ماتَ؛ تجب النَّفقة لهم لو احتاجوا، وهذا هو
مشهور مذهب الحنابلة وهو من مفرداتهم، والجمهور على خلافه، وأصل ذلك عندَ الحنابلة
هو دليلُ النَّقلِ وما يؤيِّده من النَّظر،.
أمَّا النقل فيقولون: إنَّ الوارث في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233] معطوف على لزوم النَّفقة على الأب، يعني غير الآباء
والأمَّهات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلَّ شخصٍ يرث الإنسان لو ماتَ تجب عليه النَّفقة
له لو احتاج.
ويقولون: إنَّ القاعدة المتقرِّرة عند أهل العلم "الغنم بالغُرم"، فكما أنَّك تغنمه
لو مات فترثه إذا كان ذا مالٍ؛ فإنَّه يجب عليك النَّفقة عليه إذا احتاج.
قال المؤلف: (إِذَا كَانُوْا فُقَرَاءَ).
أوَّل قيدٍ في هذه القيود التي يُعتبر فيها الإنفاق على القريب: أن يكونَ فقيرًا،
أمَّا لو كان غنيًّا ويأتي إلى قريبه ويقول له أعطني! نقول: لا حقَّ لك، حتى ولو
كان هذا عنده مالٌ لا يكاد يُحدُّ بطرفٍ؛ فماله له ونفقته لنفسه، ولا يجب لك شيء،
لأنَّكَ غير محتاج، والنَّفقة إنَّما تكون حال الاحتياج.
وكونه فقيرًا بأن يكون ضعيفًا أو مريضًا، وألا يكون له كسب، أو ليست له حرفة، بمعنى
أنَّه لو كان شخصٌ له كسبٌ ثم هو مهمل فلا نفقة له، أو كان يستطيع الصَّنعة ولا
يريد أن يصنع ويريد أن ينام، فإنه لا يستحق شيئًا!
لكن لو افترضنا أنَّه مريض أو كبير أو امرأة ونحو ذلك، ولا يستطيع العمل؛ فإنَّ ذلك
يستحق، أو كان قويًّا ولا يجد صنعة ولا يُحسنُ شيئًا، ذهب ينْجُرُ فلم يُحسن
النجارة، وذهب يسوق فلم يُحسن القيادة، وغير ذلك، فمثل هذا مَن قلَّبَ على الأشغال
فلم يجد، ومن بحث على الوظائف فلم يحصل، وهذا إذا لم يكن متعنِّتًا بان يريد وظيفةً
بعينها أو شيئًا يختصُّ به، وإلا فلا، فإن كان قد بحث عمَّا يقوم بسداد عيشه فلم
يجد؛ فإنَّه مستحقٌّ للنفقة، ويجب على قريبه القيام عليه.
قال المؤلف: (وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ).
إذن المنفِق لابدَّ أن يكونَ له مالٌ يستطيع به النَّفقة عليهم، أمنَّا إذا كان ما
عنده مال فلا تجب عليه النَّفقة على غيره، أو عنده مال لكنه لا يزيد على كفايته
وكفاية ولده فلا تجب عليه، أو كان له مال لكنَّه رأسُ مالٍ، يعني هذا الشَّخص عنده
مثلًا خمسمائة ألف ريال، ولكن هذه الخمسمائة ريال هي التي يديرها فيُخرج منها قدرَ
كفايته وبيته، فلو أعطى من هذه الخمسمائة ألف لهذا القريب فإنَّه سيفضي ذلك إلى أن
تنقص عليه نفقته، أو كانَ عنده آلة نجارة تساوي مليون ريال، لكن لو باعَ هذه الآلة
ليُنفق على هذا لتعطَّلت عليه صنعته؛ فبناءً على ذلك نقول: لا تلزمهم النَّفقة.
إذن؛ لابدَّ أن يكون ذا مال يستطيع النَّفقة على قريبه.
بقيَ شرطٌ ثالث لعلَّنا نجعله بعدَ أن نستذكر ما أخذناه الآن في مستهلِّ المجلس
القادم، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، جزاك الله خيرًا، وجزى الله الإخوة
القائمين على هذا الصَّرح، وجعله الله مباركًا، ويسَّر له الأسباب في تخريج الطلاب
وفي الوصول إليهم وفي نفعهم، وفي بقاء هذه المجالس وزيادتها وانتشارها، وحصول الخير
والنَّفع بها، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى
ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}