الدرس الحادي و العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1889 24
الدرس الحادي و العشرون

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "دِيَاتِ اْلجِرَاحِ".
قال الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كُلُّ مَا فِيْ اْلإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَفِيْهِ دِيَةٌ، كَلِسَانِهِ، وَأَنْفِهِ، وَذَكَرِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، َوشَمِّهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَلاَمِهِ، وَبَطْشِهِ، وَمَشْيِهِ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ أسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يُفيضَ علينا وعليكم من رحمته، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يبلغنا الخير والهدى والبرَّ والتَّقوى، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
لَمَّا أنهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يتعلق بديات النَّفس، وذكر ما يتعلق بتفاصيلها، وامتدَّ في ذلك إلى بعضِ الجنايات، كجناية البهائم وما يُلحَق بها؛ عــاد إلى ديات الأعضاء -أو الجراح- فيما دون النَّفس، فما دون النَّفس من جراح قد يكون فيه ديةٌ، وهذه الدِّية مُتفاوتة بتفاوت هذه الأشياء، وفرَغَ الفقهاء في تفصيل ذلك وتفصيله بين الأعضاء والجراح التي في الرأس، ويُطلق الفقهاء على جراح الرأس "الشِّجاج"، ويذكرونها في بابٍ لاحقٍ لهذا الباب، كما قال المؤلف بعد ذلك: "بابُ الشِّجَاجِ وغيرها".
إذن؛ ديات الجراح مُتعلِّقةٌ بديات الأعضاء، وكل ما دون النفس في غير شجاج الرأس، لكون المؤلف سيذكرها في فصل خاصٍّ بذلك.
تقدَّم معنا ما يتعلق بالدِّية، والجرحُ هنا واضح، وهو: كلُّ ما كان في بدنِ الإنسان وأتلفَ فيه شيئًا فقد يُوجبُ ذلكَ ديةً، وهي التي يتكلَّم عنها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أو قد يجب فيها ما دونَ الدِّية، وهي التي يُسمِّيها الفقهاء: "حكومة" يحكم بها أهل الخبرة بما دون الدية التي تجب في ذلك العضو أو تلك الحاسة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كُلُّ مَا فِيْ اْلإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَفِيْهِ دِيَةٌ، كَلِسَانِهِ، وَأَنْفِهِ، وَذَكَرِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، َوشَمِّهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَلاَمِهِ، وَبَطْشِهِ، وَمَشْيِهِ)؛ فهذا قد حكمَ به الصَّحابة، وجاء ذكره في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأخذ به أهل العلم وحفظوه، يقولون: ذهاب منفعة شيءٍ في البدن كذهاب البدن كلِّه، فإذا ذهب لسان الإنسان ذهبَ كلامه، وإذا ذهب كلامه فهنا تجب فيه الدية كاملةً.
ومثل ذلك: إذا ذهب ذَكَرُ الإنسان، فإنَّ هذا يتعلق به ذهاب مَنفعةٍ وهي مَنفعة النَّسل والاستمتاع، فتجب في ذلك دية، كما حكم بذلك أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وجاء ذلك في حديث عمرو بن حزم على ما ذكرنا.
ومثل ذلك: إذا ذهب سمعه، كأن يضربه في أذنه ضربةً قويَّة حتَّى يذهب سمعه.
أيضًا إذا صاحَ به صيحةً فتروعه فيفقد عقله أو يفقد سمعه، أو في بعض الأحوال يفقد بصره، فما فقدَ من هذه الحواس فتجب فيها الدية.
ومحلُّ كلام أهل العلم في مثل هذه المسائل هو: إذا ذهبت على نحوٍ لا تَرجعُ فيه، ولذلك كان الفقهاء فيما مضى يجعلون بعض الاختبارات التي تقول إنه لا يتأتَّى بذلك رجوعٌ لهذه الحاسَّة، أو عودٌ لتلك المنفعة.
على سبيل المثال: لو قُطِعَ لسانُ الشَّخصِ فلا يخلو إمَّا أن يُذهبَ به إلى المستشفيات ونحوها فيُخاط فتعود منفعته، أو يعود بعضها، وفي مثل هذه الحال لا نقول بوجوب الدية؛ لأنَّ لسانه عادَ، وبناءً على ذلك يكون للقاضي فيها حكومة لا تبلغ مبلغ الدية في ذلك العضو.
ومثل ذلك لو قُطِعَ الذَّكر فأمكن عودُه وخياطته وتحصيل هذه المنفعة، فإذا عادت المنفعة لم يكن فيه دية.
لو أنَّه أُعيدَ ثمَّ لم ندرِ هل يعود أو لا يعود؟
في مثل هذه الحال ننتظر، فإذا آلَ الأمر إلى المدَّةِ التي يُظنُّ أنَّه يعود فيها فلم يَعُدْ؛ فيحكم أهل الطِّبِّ من أنه لا يُمكن أن يعود بعدَ ذلك، وبناء عليه يحكم القاضي بالدِّيَة وما يتعلق بذلك، ومثل ذلك السمع والبصر والشَّم.
والشَّمُّ من أصعب الأشياء التي يُمكنُ اختبار بقائه من عدمه، ولذلك ذكر الفقهاء -فيما مضى- بعض الأمثلة، ومثل ذلك ذهابُ البصر، فيقولون: يُجعل في مكان به شمس، ثمَّ يُنظر هل أرمشَ بعينه فإنَّ هذا يدل على شعوره، المهم أنَّ الفقهاء ذكروا أنواعًا من الاختبارات التي كانت تتهيَّأُ لهم في وقتهم.
وبناء على ذلك نقول: يُختَبرُ البصر بما تهيَّأَ من الاختبارات التي أمكن وصول العلم إليها، وبها يتحدَّد دقة حصول البصر من غيره.
وأظنُّ أنَّه في الجملة أنَّ هذه الأشياء موجودة كثيرًا في هذا الوقت، أي إمكان الوصول إلى بقاء البصر والعلم بذلك من عدمه، ومثل ذلك الشَّم، وإن كان الشَّمُّ لا يزال أصعب من البصر، لعدم وجود مؤشرات دقيقة -فيما أعلم- كالمؤشرات التي تتعلق بالإبصار ونحوها.
مسألة مهمَّة! الفقهاء يقرِّرون الأصل، والطريقة التي توصل إليه تَبقَى محلَّ نظرٍ واجتهادٍ بحسبِ ما يتسنَّى له.
مثلًا: يذكر الفقهاء أنَّ القِبْلَة شرطٌ للصلاة، ثم بعدَ ذلك يُفيضون في ذكر الطَّرائق التي يُمكن أن يُستدل بها إلى القبلة بحسب ما تسنَّى لهم، يلزم المتفقِّه في هذا الوقت أن يعلم الأسباب التي تُوصل إلى مثل هذه الطريقة، أو على الأقل العلم بمقدِّماتها التي يتحصَّل به الحكم في مثل هذه المسائل.
ولا يعني ذلك إغفالُ ما ذُكر في الزَّمن الأوَّل؛ لأنَّه ليسَ في كلِّ الأحوال تكون الأمور متهيِّأة بالطب الحديث والآلات الجديدة في كل مكان، فيحتاج الناس إلى ما مضى، وقد تنتهي مثل هذه الفورَة أو مثل هذا الانفجار فيعود الناس إلى الحاجة إلى أشياء قديمة، وجاء في مقدِّمات بعض الأدلَّة ما يدلُّ على أنه يُمكن أن يعود الناس إلى ذلك، فعلم الفقهاء وما ذكروه ينبغي أن يُضبَط حتَّى لو رأى المتفقِّه عدمَ الحاجة إلى ذلك، مع حاجته إلى أن يتعلَّم من الأسباب الحديثة التي يتأتَّى بها ما قرَّره الفقهاء، حتَّى ينتفع بالعلم الذي قصدَ، والفقهاء لم يزالوا فيما مضى يتعلَّمون ما جدَّ في أوقاتهم من أسبابٍ تُوصِل إلى تصوُّر المسألة على وجهٍ صحيحٍ.
ومثل ذلك الكلام والبطش ونحوه؛ فإذا ذهبَ كلامه حتَّى ولو لم يذهب اللسان ففيه الدية، وإذا ذهب اللسان ففيه الدية، وهذه من الأشياء التي يُمكن أن يكون فيها شيء من التَّداخل في بعض الأحوال.
مثلًا: إذا ذهبت الأصابع كلها ففيها دية، وإذا ذهبت اليد ففيها الدية، وتدخل الأصابع في دية اليد، وهكذا موجود عند الفقهاء تداخل في مثل هذا.
إذا ذهب اللسان وذهب معه الكلام فلا نقول تجب دية للسان ودية للكلام، فهما يتداخلان ويكونان شيئًا واحدًا، لكن لو ذهب الكلام بدون ذهاب اللسان فتجب الدية.
وإذا ذهبت العينان ففيها دية، وإذا ذهب البصر ففيه دية، فإذا ذهبت العينان ذهب معها البصر، فلا نقول تجب ديتان؛ بل يصير فيها تداخل فتجب دية واحدة بذهاب العينين.
{لو ذهب الكلام، ثم بعدَ فترة اعتدى عليه رجل آخر فقطع اللسان. فما الحكم؟}.
إذا اعتُديَ عليه في مثل هذه الحال فيكون فيه حكومة، فإذا ذهب اللسان ففيه الدية، وسيأتي الإشارة إلى شيءٍ من ذلك في نهاية الباب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكذلِكَ فِيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَعَرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ وَجْهَهُ فِيْ جَانِبِهِ، وَتَسْوِيْدِ وَجْهِهِ، وَخَدَيْهِ، وَاسْتِطْلاَقِ بَوْلِهِ أَوْ غَائِطِهِ، وَقَرْعِ رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ دِيَةٌ)}.
قول المؤلف: (وَكذلِكَ فِيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَعَرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ وَجْهَهُ فِيْ جَانِبِهِ).
الصَّعر: أن يميل الوجه.
فإذا مال الوجه فحينئذٍ ذهبت فائدة الوجه، والوجه شيءٌ واحدٌ في البدن، وبناء على ذلك تجب فيه دية واحدة.
وقوله: (وَتَسْوِيْدِ وَجْهِهِ وَخَدَيْهِ)، هو ما يُعرَف في الوقت الحديث بتيبُّس الدَّم في الوجه فيسود، فيذهب جلاء الوجه وجمال طلعته، فتجب فيه الدِّية في أشهر القولين.
قوله: (وَاسْتِطْلاَقِ بَوْلِهِ أَوْ غَائِطِهِ)، فإذا ضُربَ الإنسان على مقدَّم ذكره فصار لا يُمسك بولَه، فهنا ذهبت منفعة استمساك البول -وهي منفعة عظيمة- فكما لو ذهبت نفسه؛ وبناء على ذلك تجب فيه الدِّية التي هي دية النفس، مائةٌ من الإبلِ ونحو ذلك.
كذلك لو ضُربَ على مؤخَّرته أو من أسفله فصار غائطه لا يستمسك؛ فتجب في ذلك دية.
ولأجل هذا يُمكن أن يكون الإنسان فتجب فيه دية واحدة، مع أن كل هذه الأشياء تذهب، ويُمكن أن يأتي شخصٌ فيعتدي على آخر فيُتلف عينيه ويُتلف لسانه، ويُتلف ذَكَرَه؛ فتجب في كل واحد دية، فتجب في الشخص الواحد أكثر من دية حتَّى لو عشر ديات.
قال: (وَقَرْعِ رَأْسِهِ)، لو ضربه في رأسه فأصاب عرقًا فمات شعره حتَّى أصابه القرع.
والمقصود بالقرع هو أن لا يعُدْ، أمَّا إذا ضربه فأصابه القرع ثمَّ عادَ فهنا ليس فيه إلَّا حكومة، لكن إذا ذهبَ شعره فلم يعُدْ بسببِ اعتداءٍ عليه وجنايةٍ فتجب فيه ديةٌ كاملة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا فِيْهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، فَفِيْهِمَا الدِّيَةُ، وَفِيْ أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا،كَاْلعَيْنَيْنِ، وَاْلحَاجِبَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَاْلأُذُنَيْنِ، وَاللِّحْيَيْنِ، وَاْليَدَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَاْلأَلْيَتَيْنِ، وَاْلأُسْكَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ)}.
قوله: (وَمَا فِيْهِ مِنْهُ شَيْئَانِ فَفِيْهِمَا الدِّيَةُ، وَفِيْ أَحَدِهِمَا نِصْفُهَ)، يعني: ما في الإنسان منه شيئان، فإذا أُتلف هذان الشيئان وجبت الدية كاملة، وإذا أتلف أحدهما ففيه نصف الدية، كما جاءت بذلك الآثار، وهو مما تتابع عليه الفقهاء واستقرَّ القول به.
قال: (كَاْلعَيْنَيْنِ)، فإذا أَتلفَ شخصٌ عيني شخص ففيهما ديةٌ.
قال: (وَاْلحَاجِبَيْنِ)، إذا تسلَّطَ عليه حتَّى ذهب حاجباه فهنا تجب دية.
قال: (وَالشَّفَتَيْنِ)، فالشفتان اثنتان حتَّى وإن اختلف نفعهما، فنفع السفلى قد يكون أكثر من نفع العليا، فالأشهر من المذهب عند الحنابلة وهو قول جمع من الفقهاء أنَّ فيها ديةٌ واحدة، لكل شفاة نصف دية، فمن أتلف واحدةً ففيها نصف دية، وإذا أتلف الثنتين ففيهما ديةٌ واحدة.
قال: (وَاْلأُذُنَيْنِ)، لو أتلف أذنيه ففيها دية كاملة، بغضِّ النَّظر عن ذهاب السَّمع من عدمه، فذهاب السَّمع شيءٌ آخر، فلو ضربَ شخصٌ رجلًا فبقيت أذناه ولكن ذهب سمعه ففيه دية، ولو أنَّ شخصًّا قطعَ أُذني شخص فلم تعودا، وذلك بأن تُصلَحَ كما جدَّ في الوقت من العلوم الحديث بإمكان إعادة ترقيع ذلك حتَّى ينبت اللحم فتعود كما كانت أو قُربَ ما كانت؛ وبناء على ذلك الكلام إذا لم تعودا الأذنان ففيهما الدِّية، فإذا ذهبت الأذنان مع السَّمع ففيها ديةٌ واحدة.
قال: (وَاللِّحْيَيْنِ)، اللَّحيان هما اللذان في الوجه، فإذا أتلفهما شخصٌ حتَّى تحطَّمَت العظام فيهما ففيهما ديةٌ.
قال: (وَاْليَدَيْنِ)، مثل ما ذكرنا.
قال: (وَالثَّدْيَيْنِ)، ثديا المرأة أو الرجل على حدٍّ سواءٍ.
قال: (وَاْلأَلْيَتَيْنِ)، الألية هي ما علا الفخِذ، وفي الأليتين الدِّية، ولو أتلف إحداهما لوجب نصف دية.
ومثل ذلك الأنثيين، وهما يختصان بالرجل، فإذا ضُربت أنثييه -أو خصيتيه- فأتلفهما فتجب فيهما دية، وإذا أتلفَ إحداهما وجبت نصف الدية.
إذا أتلف إحدى الخصيتين والأخرى تضرَّرَت، ففيها نصف الديةِ وحكومة في قدر ما نقص في الثَّانية.
قال: (وَاْلأُسْكَتَيْنِ)، الأسكتان: هما طرفا فرج المرأة، وهما ما علا فرج المرأة كالشَّفتين على الفمِ، فهذان يسميان الأسكتان، فإذا أُتلفتا فقد أُتلف عضو لا يوجد مثله في البدن؛ وتجب فيهما الدية، وإذا أُتلف أحدهما وجب نصف الدية.
قال: (وَالرِّجْلَيْنِ)، ففيهما دية، وإذا أُتلفت رجلٌ واحدة ففيها الدية، والأصابع أيضًا فيها الدية، ولكن إذا أُدخلَت مع الرجل فإنهما يتداخلان وتكون فيهما دية واحدة، فالأصل أنَّه إذا ذهبت الأصابع تذهب منفعة باقي اليد أو الرجل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي اْلأَجْفَانِ اْلأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَفِيْ أَهْدَابِهَا الدِّيَةُ، وَفِيْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبْعُهَا، فَإِنْ قَلَعَهَا بِأَهْدَابِهَا، وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ)}.
قوله: (وَفِي اْلأَجْفَانِ اْلأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ)، الأجفان هي: الجفنان العاليان على العين، والسفليان منها، فهما أربعةٌ يُحيطانِ بالعين ويحفظانها، وهما من أعظمِ ما يحصل به منعُ الأذى على العين، وبه يُحفظ البصر، وتُمنع العين من الجرح أو حصول القذى فيها، أو وصول الحشرات إليها أو غير ذلك، فمنفعتهما معلومة، وبناء على ذلك لو أتلفت ولو بقيت العين يكون فهم الدية، أما لو أُتلفت وأُتلفت العين فهذه لهما حكم وهذه لها حكم باعتبار أنَّهما عضوان مختلفان تمامًا.
والأجفان في كل واحدٍ منها ربع الدِّية.
قال: (وَفِيْ أَهْدَابِهَا الدِّيَةُ، وَفِيْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبْعُهَا، فَإِنْ قَلَعَهَا بِأَهْدَابِهَا، وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ)، الأهداب: هي الشَّعر النابت على الجفنين، ففي الإنسان أربعةُ أهدابٍ، فبناء على ذلك لو أتلفت حتَّى ذهبت الأهداب فمنفعتها تختلف عن منفعة الشعر على الرأس والوجه، فذاك شعرٌ يحصلُ به الجمال، وهذا يحصل به الحفظ مع ما يكون فيه من الجمال، وبناء عليه لو أُتلفت الأهداب ففيها الدية، أمَّا لو أُتلفت الأجفان فيدخل فيهما الأهداب، فلا تكون فيهما إلَّا ديةٌ واحدة، فلا نقول للأهداب دية وللأجفان دية؛ وإنَّما تدخل الأهداب في الأجفان كما تدخل الأصابع في اليد.
قال: (وَفِيْ أَصَابِعِ اْليَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِيْ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِيْ كُلِّ إِصْبَعٍ عُشْرُهَ)}.
اليدين فيها ديةٌ كاملة، ولمَّا كان في اليدين عشرة أصابع، صار لكل أصبع عُشر الدية، وهذا هو الذي جاء به الأثر، وإن كان بعضها أنفع من بعض، فليست منفعة الخنصر كمنفعة الإبهام، وهذا إذا أُتلفت الأصابع وحدها، أمَّا لو أُتلفت مع اليد فتدخل مع دية اليد، وتكون الدية لليد وحدها.
{قال: (وَفِيْ كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِهَا، إِلاَّ اْلإِبْهَامَ فِيْ كُلِّ أَنْمُلَةٍ نِصْفُ عَقْلِهَ)}.
العَقْلُ: أي الدية، سُمِّيَت الديةُ عقلًا لأنَّها تُنسَب إلى العاقلة باعتبار أنَّها هي التي تدفعها في الأصل.
يقول المؤلف: (وَفِيْ كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِهَ)، لَمَّا كانت الأنامل ثلاثًا في كل أصبع قُسِمَت عليها أثلاثًا، فكان في كل واحدةٍ من الأنامل ثُلُث الدية.
قال: (إِلاَّ اْلإِبْهَامَ فِيْ كُلِّ أَنْمُلَةٍ نِصْفُ عَقْلِهَ)، لَمَّا كان في الإبهام أنملتان فقط، فتكون في كل أنملةٍ خمسٌ من الإبل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ اْلإِبِلِ إِذَا لَمْ تَعُدْ)}.
لو أنَّ شخصًا أَتلفَ سِنَّ آخرَ فلا يخلو:
- إمَّا أن تنبت، كما لو كان صغيرًا، أو كبيرًا في بعض الأحوال، فقد يكون عنده شدَّةٌ في نمو العظام وعدوها فتعود كما كانت؛ فبناء على ذلك لا يكون فيها دية، وإنَّما فيها الحكومة، فيُعطَى بحسب ما فاته من المنفعة وتحصَّل عليه من الجناية، وما جرى فيه من الجرح؛ بشرطِ ألَّا يبلغ بالجُرحِ ديته، فإذا كان في السِّنِ خمسٌ من الإبل، فمعنى ذلك أنَّه لو كسرَ السِّنَّ فلم يعد ففيه حكومة بشرط ألا تصل إلى خمس من الإبل، فهم يحكمون بما يرونه اجتهادًا، لكن لا يبلغونَ ديتَه -خمسًا من الإبل- وهكذا.
- أو لا تنبت: ففيها خمس من الإبل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ مَارِنِ اْلأَنْفِ، وَحَلَمَةِ الثَّدْيِ، وَاْلكَفِّ، وَاْلقَدَمِ، وَحَشَفَةِ الذَّكَرِ، وَمَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ، وَتَسْوِيْدِهَا دِيَةُ اْلعُضْوِ كُلِّهِ، وَفِيْ بَعْضِ ذلِكَ بِالْحِسَابِ مِنْ دِيَتِهِ)}.
قوله: (وَفِيْ مَارِنِ اْلأَنْفِ)، مارن الأنف هو مقدِّمته، وهو الجزء الذي فيه مرونة، سُمِّين "مارن" من مرونته وحركته، فإذا ذهبَ فهو كذهاب الأنف كله.
قوله: (وَحَلَمَةِ الثَّدْيِ)، حلمة الثَّدي إذا ذهبت كما لو ذهب الثَّدي كله، فهو خاصُّ منفعته ومتعلقه، فكما أنَّ الأصابع إذا تلفت ففيها ديةٌ كدية اليد، فكذلك إذا ذهبت حلمة الثَّدي ففيها دية الثَّدي، فإذا ذهبت حلمة ثدي المرأة ففيها نصف الدية كما أنَّ في أحد ثدييها نصف الدية، وهكذا الرَّجل سواء بسواء، يعني مثل دية النفس كاملة، فدية المرأة غير دية الرجل، وكذلك هنا.
قوله: (وَاْلكَفِّ)، كذلك دية الكفِّ فيها دية اليد كاملة، فلو ذهبت اليد من أعلها فكما لو ذهبت الكفُّ من مفصلها، فبناء على ذلك تجب فيها ما يجب في اليد لو ذهبت كاملة.
قال: (وَاْلقَدَمِ)، إذا ذهبت القدم كما لو ذهبت الرِّجل بتمامها، فتجب فيها نصف الدية.
قال: (وَحَشَفَةِ الذَّكَرِ)، حشفة الذَّكر هي التي يتأتَّى بها الاستمتاع ويحصل بها أتمُّ منفعة الذَّكر، وبناء على ذلك لو ذهبت الحشفة كما لو ذهب الذَّكَر كله.
قال: (وَمَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ)، لو أنَّ السِّنَّ لم يظهر إلَّا بعضه أي لم يكتمل- ثم جاء شخصٌ وأتلفه، فنقول: كما لو أتلفَ السِّنَّ بتمامه، حتى لو ما طلعَ إلَّا نصفه، فإنَّ منفعته كمنفعة السِّنِّ إذا طلعَ تامًّا، فبناء على ذلك تجب فيه دية السِّن كاملة.
قال: (وَتَسْوِيْدِهَا دِيَةُ اْلعُضْوِ كُلِّهِ)، يعني إذا اسودَّت السِّنُّ بسبب ضربةٍ، ففسد العظم وصار لا يصل إليه الدم فاسودَّ، وهذه أحوال تحصل وإن كانت قليلة، ولكن كانت أكثر فيما مضى؛ فلذلك يذكرها الفقهاء.
فنقول: تسويدُ السِّنِّ كما لو ذهب السنُّ كلها، وهذا في أظهر قولي أهل العلم.
قال: (وَفِيْ بَعْضِ ذلِكَ بِالْحِسَابِ مِنْ دِيَتِهِ)، لو ذهبت بعضُ الحلمة -ليست الحلمة كلها- ففيها بقدر ما ذهب، فإذا ذهب نصفها ففيها نصف دية الحلمة، إذا ذهب ربعها ففيها ربع الديةِ الحلمة، وإذا ذهب نصف الأنملة -ليست الأنملة بتمامها- ففيها نصف الثلث، فيكون سدس دية الأصبع.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، ونكمل بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في الدرس القادم.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك