{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، أرحبُ بِك وبالإخوة كلَّما جدَّت لنا حلقة، وكلما لقيناهم، وسلامي
عليهم وترحيبي بهم في حالٍ وآنٍ ما داموا لهذا المنهج سالكين، ولهذا العلم طالبين،
أسأل الله أن يُتمَّ عليهم النِّعمَة وأن يزيدهم من الخير والهُدَى، وأن يفتح لهم
الفهوم، ويُكمل لهم الأمور، وأن يجعل عاقبتهم طيبةً في الدُّنيا والآخرة، وأن
يُزيلَ عنهم الهموم والغموم، وسائر المسلمين، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
{قال الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "عمدة الفقه": (وَإِنْ جَمَعَ
فِي النَّذْرِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَغَيْرِهَا،فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالطَّاعَةِ
وَحْدَهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَبْصَرَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً قاَئِمًا فِيْ الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَنْهُ،
فَقَالُوْا: أَبُوْ إِسْرَائِيْلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُوْمَ فِيْ الشَّمْسِ وَلاَ
يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُوْمَ، فَقَالَ: «مُرُوْهُ
فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتمَّ علينا النِّعمَة وأن يُفيضَ
علينا الرَّحمة، وأن يحفظَ العبادَ والبلادَ، وأن يلطفَ بإخواننا المستضعفين في
سائرِ الأمصار، وأن يعقبنا صلاحَ ديننا ودنيانا، وأن يحفظ علينا ولايتنا وجماعتنا،
وأن يتمَّ الرَّحمة في كلِّ حالٍ وآنٍ.
انتهينا في الدَّرس الماضي من ذِكرِ نذر ِالمعصية والنَّذرِ المباح والنَّذر الذي
لا يملكه الإنسان، ونذر اللجَاجِ والخصَام، وقلنا إنَّ المؤلف أشار إلى أنَّه لا
نذرَ فيما قصدَ به اليمين، وقلنا إنَّ هذه من المسائل الخلافيَّة بين الحنابلة
والجمهور، والمؤلف نحا منحى الجمهور، فلم يجعل النَّذر داخلًا في ذلك، وله وجهٌ
وجيه، واستدلَّ في هذا ببعض الآثار، وإن كان فيها شيء من الأحاديث المرفوعة إلى
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن فيها مقال؛ كقوله «لاَ نَذْرَ فِيْ
مَعْصِيَةٍ وَلاَ فِيْ مَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ، ولاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيْ مَا
ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى»، ففُهِمَ من ذلك أن نذرَ الطَّاعة هو كلُّ
ما جاء به الشَّرع مما أوجبَه، مثل الصِّيام والزَّكاة والصَّلاة ونحوها، فلو نذر
شخص أن يصلِّي عشر ركعات لوجب له الوفاء بذلك، ولو نذر الإنسان أن يتصدَّقَ بخمسة
آلاف لوجب عليه أن يفيَ بذلك، وهكذا.
أو تكون الطَّاعة مشروعة بأصل الشرع لكنها لا تجب بحالٍ، مثل الاعتكاف وعيادة
المريض ونحوه، فهذا في المشهور -وهو قول الأكثر- أنَّه إذا نذرها فإنه يجب الوفاء
بذلك ما دام أنَّها داخلةٌ في الطَّاعات، وفيما أمرَ الله -جَلَّ وَعَلَا- وفيما
يتعلَّق به الجزاء والحسنات، فتنتقل من كونها مسنونةً أو مستحبَّةً إلى تعلُّقها
باللزومِ والوجوبِ في حقِّه لإيجابه على نفسِه ما لم يُوجبه الله -جَلَّ وَعَلَا-
عليه، وقد تقدَّم ذكر ما يتعلَّق بكون الإنسان يبتدئ نذرًا أو عدمه.
ومِن خلال ما يردنا ومِن خلال متباعتنا لبرامج الإفتاء كثيرًا؛ نجد كثيرًا يسأل
ويستشكل النَّاذرون في نذورهم، ويقولون نذرنا كذا وكذا؛ وترى في أسئلتهم ما يطلبون
به ثغرةً أو رحمةً أو يلتمسون تسهيلًا وتيسيرًا، فما الذي حملكم على ذلك؟! ما الذي
جعلكم تدخلون هذه المداخل وتضيِّقونَ على أنفسكم ما وسَّعه الله؟!
فينبغي للإنسان أن يتقِيَ الله، وأن يعلمَ أنَّ هذا ليس شيئًا يلحقه به أجرٌ وعافية
بقدر ما يلحقه به تعنُّت نفسه وتعريضها للتَّفريط المفضي إلى لَحاقِ الإثمِ
والوبالِ عليه عندَ الله -جَلَّ وَعَلَا- فينبغي للإنسان أن يذر.
وأعجبُ شيءٍ أنِّني سمعتُ سائلًا يسأل أنَّه نذرَ في أمرٍ أن يذبحَ حمارًا! وهذا
كلُّه إمَّا أن يدلَّ على التَّكلُّفِ والتَّعجُرفِ الزَّائدِ، وهذا ليس من أمرِ
الله -جَلَّ وَعَلَا- ولا أمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإمَّا هو
الاستهتار والاستخفاف وعدم تعظيم شعائر الله -جَلَّ وَعَلَا-، وكلا الأمرين عظيم،
سواء كان منحاه التَّعجُرف والتَّكلُّف أو التَّساهُل وعدم المبالاة باليمين، فإن
كانَ الجهلُ فإنَّ الجهلَ آفةٌ عظيمةٌ وظُلمَةٌ كبيرةٌ، تُورِدُ الإنسان المهالك،
وتُلحق به الويل والثُّبور في الدنيا والآخرة.
إذن ينبغي للإنسان أن يتقيَ الله، وأن يُحجم عن هذا الأمر، وأن لا يُعْوِزَ نفسَه
إلى أمرٍ يلحقه بذلك مشقَّة، أو يلحقه بعدَ هذا تبعة عند عدم قيامه به؛ لأنَّ مَن
ماتَ ولم يُؤدِّ نذره فإنَّ الفقهاء يختلفون في أداء وليُّه عنه، فيقولون: إنَّ
للولي أن يؤدِّي النَّذرَ عنه، وذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب خلافًا
للظَّاهريَّة، وهذا في غيرِ جانب الصَّلاةِ؛ لأنَّه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، أمَّا
في الصِّيام فجازت النِّيابة فيه في النَّذر خاصَّة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا سُئل عن المرأة التي نذرت أن تصوم فلم تصم؛ فأذن -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصوم عنها وليُّها، وقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ
صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ، قال أهل العلم: هذا مخصوصٌ في النَّذر، وهذا في
المشهور من قولِ جماهير أهل العلم، وهو قولُ أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُقال فيه بالتَّعميم، وإن وردَت فتاوى مُتأخِّرة في
التَّعميم، وأنَّ الصِّيام تدخله النِّيابة مُطلقًا، فهذا ليس بمقبولٍ.
ننتقل إلى قول المؤلف: (وَإِنْ جَمَعَ فِي النَّذْرِ بَيْنَ الطَّاعَةِ
وَغَيْرِهَا، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالطَّاعَةِ وَحْدَهَ)، هذا تفريعٌ على الأصل
الذي أصَّله المؤلِّف وهو مذهب الجماهير، وهو أنَّ المباح لا يدخل في النُّذور.
فلو جمع في النَّذر بين طاعةٍ ومعصيةٍ، كأن يقول: "لله عليَّ نذرٌ أن أصلي في
المسجد وأن لا آتي قريبي ولا آكل خبزًا"، فنقول: هذا نذر معصية ونذر مباح؛ فيُصلي
في المسجد، ولا يجوز له أن يفي بالنَّذر الذي هو معصية في قول العموم -قول الحنابلة
وغيرهم.
إذا اجتمع في النَّذر ما هو مُشروعٌ وما هو مُباحٌ؛ كأن يقول: "لله عليَّ نذر أن
أعود َكلَّ مريضٍ من أقاربي، وأن لا أطعمَ لحمًا"، فنقول: هذا نذرُ طاعةٍ ومباحٌ،
فعلى قول المؤلف الذي هو قول الجماهير لا يدخل النَّذرَ المباحُ، فله أن يأكلَ ولا
كفارةَ عليه ولا شيء، وعليه أن يفيَ بإتيان كل مريضٍ مِن أقاربه، وأمَّا عند
الحنابلة فالنَّذر المباح داخل في الوفاء، فهو مخيَّرٌ بينَ الوفاء وبين التكفير
باليمين.
إذن؛ الفَرق عندهم بين النَّذرِ المباح ونذر الطَّاعة:
أن نذرَ الطَّاعة: لا يسقط إلا عند العجزِ، وتكون كفارته كفارة يمين.
أمَّا النَّذر المباح: فهو مخيَّرٌ بينَ الوفاء به وبينَ الكفارة.
وهذا عند الحنابلة، أما مذهب المؤلف والجمهور أنَّ المباح لا يدخله باب النَّذر
مُطلقًا.
واستدلَّ بحديث ابن عباس وهو في الصَّحيح لما أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الرَّجل أن يقعد وأن يستظل، لأنَّ هذا ليس من العبادات التي يُتقرَّب
بها إلى الله في أصل الشَّرع.
أمَّا ما يتعلَّق بالصِّيام الذي هو مشروعٌ أصله؛ فأمره النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصوم، فهذا الحديث هو ما استدلوا به على أن المباح لا يدخل
في باب النذور، وذكرنا متعلَّق الحنابلة في القياس على اليمين.
{ما الحكم لو قيَّدَ المباح بطاعةٍ، لو قال "والله لو أكلت خبزًا سأصوم"؟}.
هو نذر للصِّيام وليس نذرًا للأكل، فيصوم لأنَّه نذرَ الصِّيام، لكنَّه معلَّقٌ على
أمرٍ مباح وصحيح، فلا إشكال.
ولو قال "إن أكلتُ خبزًا سأذهبُ إلى الشَّارع ساعتين"؛ نقول: هذا نذرٌ مباحٌ، ولا
ينعقد عند الجمهور حتى لو أكلَ خبزًا حتى يخرج معه فمه؛ لكن عند الحنابلة مخيَّرٌ
بين أن يخرج للشَّارع إن أكلَ هذا الخبز وبين أن يُكفِّر كفارة يمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ قَالَ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّهِ،
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)}.
يعني نذرَ شيئًا غيرَ معيَّنٍ؛ فمعنى ذلك أنَّ عليه كفَّارة يمين، لأنَّه لا يُمكن
أن يفيَ بهذا النَّذر المسمَّى، ولكن تعظيمًا لهذا النَّذر وتعظيمًا لهذه العبادة
ولعقدِ هذه الطَّاعة فإنَّ عليه كفارة يمين، وأصل ذلك جاء عن ابن عباسٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الأَيْمَانِ
وَمَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّهُ فِيْ
وَقْتٍ، فَلَمْ يَفْعَلْهُ فِيْهِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُوْلَ:
إِنْ شَاءَ اللهُ مُتَّصِلاً بِيَمِيْنِهِ، أَوْ يَفْعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ
نَاسِيًا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ)}.
كما قلنا: إنَّ الفقهاء في الغالب يقولون "كتاب الأيمان والنذور"، ويجعلون النذور
في آخر كتاب الأيمان لتقاربهما في الأحكام.
ولعلنا أن نعرف مَنزع المؤلف في تقديمه للنَّذر؛ فكأنَّه فكَّ الارتباط بينهما ولم
يسلك مَسلك الحنابلة في أنَّ النَّذر كاليمينِ، ولذلك لم يُدخله في باب المباح ونحو
ذلك، ولم يُوجب فيه شيئًا، فهذا قد يُلتَمسُ في وجهِ كون المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-
قدَّم النَّذر على كتاب الأيمان مشيرًا إلى عدمِ الارتباط بينهما، خلافًا لمشهور
المذهب عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- وهذا ليس على سبيل التَّحقيق، وإنَّما
على سبيل التَّأمُّل، وهو ممَّا ينبغي النظر فيه.
الأيمان: جمعُ يمينٍ، واليمين هي الحلف والقسَم بمعظَّم.
واليمين بالله: هي الحلف بالله، أو بصفةٍ من صفات الله -جَلَّ وَعَلَا- بحرف من
أحرف القسم وهي "الواو - الباء - التاء"، فإذا قال: "والله، أو بالله، أو تالله"؛
فهذه حروف القسم.
والمحلوف به: هو اسم من أسماء الله "الله، العزيز، الحكيم، الرَّحيم، العليم،
الجبار"، أو صفةٍ من صفات الله -جَلَّ وَعَلَا- "وعزَّةِ الله، ورحمةِ الله"، ونحو
ذلك من الحلف بصفةٍ من صفات الله -جَلَّ وَعَلَا.
واليمينُ مشروعةٌ دلَّ عليها كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- فقال تعالى: ﴿لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: 225]، فدلَّ ذلك
على أن غير اللغو من اليمين مؤاخذ بها الإنسان، وفي ذلك أدلَّةٌ كثيرةٌ في كتاب
الله تعالى.
أيضًا دلالة السُّنَّة، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَلَفْتَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة وغيره.
إذن؛ الأدلَّة في ذلك كثيرة، والإجماع منعقدٌ على صحَّة اليمين، وأنَّها ممَّا
يُتعبَّد به الله -جَلَّ وَعَلَا.
ويُقال في اليمين ما قلناه في النَّذر من أنَّ اليمينَ مخصوصةٌ باللهِ، فلا يجوز
للمسلم أن يحلِفَ بغير الله -جَلَّ وَعَلَا- وهذا إجماعٌ نقله ابن عبد البر وغيره
من أهل العلم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بغيرِ اللهِ فقد
كَفَرَ وأَشْرَكَ» ، وقال: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أوْ
لِيَصْمُتْ» ، قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أحلف بغيره
صادقًا"، لأنَّ الحلف بالله كاذبًا معصية من المعاصي، والحلف بغير الله -جَلَّ
وَعَلَا- من الشِّرك الأصغر، ولذلك ما يكون من الحلف بالشَّرفِ أو بالكعبة أو الحلف
بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بحياة الولد، إلى غير ذلك ممَّا
يعتاده النَّاس؛ كلُّه حلفٌ بغيرِ اللهِ، وهو داخلٌ في المحرَّمِ ومتعلِّقٌ به
الوعيد، وهو ممَّا يقدح في أصل توحيد المرءِ وإيمانه بالله -سبحانه وتعالى- وإن كان
لا يُخرج الإنسان من الملَّة، لأنَّ باب باب الكفر الأصغر الذي لا يُخرج الإنسان من
الملَّة.
إذن؛ بيَّنَّا الأدلَّة الدَّالَّة من الكتاب والسُّنَّة على مَشروعيَّة اليمين،
ومعنى اليمين، ونحو ذلك.
ما حكم اليمين؟
النَّوع الأول: اليمين الواجبةً، وذلك إذا تعلَّق بها الخَلاصُ من الهلكة، فلا
يتأتَّى لك السَّلامة من هذا إلَّا باليمين، فتحلفَ لأنَّ حفظ النَّفس واجبة،
وإلقاؤها إلى التَّهلكةِ محرَّمٌ، فإذا حلفَ فهو حلف على يمينٍ يجب عليه الحلف فيها
إنقاذًا لنفسه من البلاء والتَّبعة.
النَّوع الثَّاني: اليمين المندوب إليه، وهو إذا تعلَّقت به مصلحةٌ دينيَّة أو
دنيويَّة، والمصلحة الشَّرعية أخص في هذا، وله في ذلك أن يحلف ويُقسِمَ، وعلى ذلك
أدلَّةٌ كثيرةٌ، مثل قوله تعالى: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ
مِنْ شَهَادَتِهِمَ﴾ [المائدة: 107]، فأمرَ الله بالإقسامِ ودعا إليه، فدلَّ ذلك
على اعتبارها في هذا.
النَّوع الثَّالث: الحلف الجائز، وهو الحلف على مباح، فإذا حلف الإنسان على أمرٍ
مباحٍ فقد حلف لى ما يجوز له عقدُ اليمين عليه، فيجوز له ذلك ولا يلحقه شيء.
قال المؤلف: (وَمَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ، أَوْ
لَيَفْعَلَنَّهُ فِيْ وَقْتٍ، فَلَمْ يَفْعَلْهُ فِيْهِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ).
تعلُّق اليمين يكون بالمكلَّف، أمَّا غير المكلَّف كالصَّغير والمجنون لا تنعقد
أيمانهم، لكن ينبغي أن يُربَّى الصِّغار على عدمِ الاستهتار باليمينِ، أو الاسترسال
فيها، ولذلك جاء عن السَّلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اليمين -يعني إذا حلفوا-
وذلك حتى لا يُستهان بتعظيم الله، لأنَّ أصلَ اليمينِ هو حلفٌ بمعظَّمٍ في القلبِ،
فلئلا يكون هذا المعظَّم محلًّا للاسترسال والاستهجان والتَّساهل في ذلك.
إذن الحلف على المباح جائزٌ، ولكن الحلف إنَّما يكون من عاقلٍ بالغٍ، وأن يكون
مختارًا، أمَّا لو كان مُكرهًا فلا يمين؛ لأنَّه كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عن أُمَّتِي الخطَأَ والنِّسيانَ وما اسْتُكرِهُوا عليْه» ،
والتَّكليف مرفوعٌ عن المُكرَه.
وكذلك الحلف يكون على أمرٍ ممكنٍ مُستقبلٍ، فيخرج بهذا إذا كان اليمينُ على أمرٍ
ماضٍ؛ وهذا له أحكام ستأتي، فإمَّا أن يكون صادقًا فتكون من لغو اليمين، وإمَّا أن
لا يكون صادقًا فتكون يمينًا غموسًا.
أمَّا إذا كان على أمرٍ مستقبلٍ ممكنٍ فهي يمين، ولذلك لو كانَ غيرَ ممكنٍ كالأمر
المستحيلِ بأن يقول: "والله لصعدتُّ السَّماء، أو لشربتُ ماء البحر"، فهذه يمين لا
تنعقد؛ لأنه لا يُتصوَّر ذلك لأنَّه أمر مستحيل.
فإذا اجتمعت هذه الشروط، فحلف ألا يفعل شيئًا ففعله أو ليفعلنَّه في وقتٍ فلم يفعله
فعليه كفَّارةُ يمين، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [المائدة: 89].
إذن كفارة اليمين لمن انعقدت يمينه بأن يكون مكلفًا مختارًا في أمرٍ تنعقد فيه
اليمين وهي على أمرٍ مستقبلٍ -فيخرج من ذلك ما كان على الأمر الماضي، وسيأتي بيانه-
فعليه كفارة اليمين.
وكفارةُ اليمينِ وما يتعلَّق بها قد عقدَ المؤلَّف لها بابًا، فنُرجئُ الكلام في
تفاصيل الكلام على الكفارات وخصال الكفارة والتنقل بينها ونحو ذلك إلى حين الوصول
إليه.
قال: (إِلاَّ أَنْ يَقُوْلَ: إِنْ شَاءَ اللهُ)، هذا يُسمَّى عند الفقهاء
-رَحِمَهُم اللهُ- بتعليق اليمين على الاستثناء، أو هو الاستثناء في اليمين
بالمشيئة بالله -جَلَّ وَعَلَا-، فإذا علَّقها بالمشيئة فلا تنعقد اليمين، ولا
تلزمه كفارة، ولذلك لما ذكرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصَّة سليمان
أنَّه لما حلف أن يطوف على تسعين امرأة؛ تلد كل واحدة منهن رجلًا يُجاهد في سبيل
الله؛ فطاف عليهنَّ فلم تلد إلا امرأة واحدة نصفَ رجلٍ، فقال النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ
دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ» .
قال أهل العلم: الاستثناء في اليمين له فائدتان:
الأولى: إن لم يفعل هذا المحلوف عليه فلا حِنثَ عليه ولا كفارة عليه، فلو قال:
"والله لا سافرت بالطَّيارة بعد اليوم إن شاء الله" فهذه يمين غير منعقد، أو يمن لا
حنث فيها؛ لأنه علقها بالمشيئة، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَمْ يَحْنَثْ».
ولو قال: "والله لا تأخَّرتُ عن صلاة الفجر بعد اليوم إن شاء الله"، فلو حصل له أن
نام عن صلاة الفجر أو تأخَّر عن فعلها فلا كفارة عليه؛ لأنَّه استثنى في يمينه،
وهذا الاستثناء في اليمين تعظيمٌ لله -جَلَّ وَعَلَا- وهو إظهار الفقر والفاقة؛
لأنَّ العبد يقول: إنَّ كل شيء بمشيئة الله، وأن فعلي لهذا أو عدمه وحملي على هذا
الأمر والانضباط فيه لا يتأتَّى إلا بمشيئة الله، فكأنَّ المرء علق اليمين بحصول
مشيئة الله، فإذا حصلَ منه خلاف ذلك فقد علم أنَّ الله قد شاءَ أن لا يكونَ منه
هذا، فصحَّ المعلق عليه، فلم تكن عليه يمينٌ يحتاج فيها إلى تكفيرٍ.
الثَّانية: أنَّها سببٌ لدركِ الحاجة وتحصيل المطلوب، والنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ»،
لأنَّ هذا فيه إظهارُ الضَّعف وإظهارُ التَّوكُّلِ على الله، وأنَّ الأمرَ بمشئة
الله وبيدِ الله، وأنَّ التَّقديرَ هو تقديرُ الله، وكلُّ شيءٍ من الله -جَلَّ
وَعَلَا.
وأوصي كلَّ شخصٍ أن لا يتعرَّض لليمين، فإن كانَ ولا بدَّ فإنه ينبغي له أن يقرنها
بالمشيئة، وذلك لأمور:
أولًا: حتى لا يُعرِّض نفسَه للتَّبعة في لزوم الكفارة.
ثانيًا: أنَّ ذلك أسهل لحصول مطلوبه، وأوفق للوصول إلى مراده بإذن الله -جَلَّ
وَعَلَا.
يقول المؤلف: (يَقُوْلَ: إِنْ شَاءَ اللهُ مُتَّصِلاً بِيَمِيْنِهِ).
هل يشترط أن يتصل الاستثناء باليمين؟ أو يصح أن تكون مُتصلة أو مُنفصلة؟
يقولون: لابدَّ أن تكون متَّصلة، سواء اتَّصالًا لفظيًّا أو اتِّصالًا حكميًّا، فلو
قال "والله العظيم إن شاء الله"، فهذا اتِّصال لفظي، فلا إشكال ولا غضاضةَ في أنَّ
هذا قد استثنَى في يمينه استثناءً يمنعه من الحنث في قول عامَّة أهل العلم.
ومثل ذلك أيضًا لو كان الاتِّصالُ حكميًّا، كما لو قال "والله العظيم..." ثم أدركته
سَعْلةٌ فسَعَلَ، ثم قال: "إن شاء الله"، فهذا وإن لم يكن اتِّصالًا لفظيًّا لكنه
اتصالٌ حُكميٌّ، فيتعلَّق به ذلك الحكم، وتكون يمينه قد استثنى فيها، فلا يحنث لو
لم يحصل المحلوف عليه.
ولو قال: "والله العظيم"، ثم قال بعد قليل: "إن شاء الله"؛ فظاهر كلام المؤلِّف هنا
وهو المشهور من المذهب عند الحنابلة وهو قول الجمهور؛ أنَّ هذا لم يستثنِ، وبناء
على ذلك حتى ولو قال: "إن شاء الله" بعدها فلا تنفعه، ولو حنث في المحلوف عليه
لوجبَت الكفَّارة عليه، خلافًا لمالك وقول لشيخ الإسلام ورواية عند أحمد؛ فإنَّهم
يُخفِّفون في هذا، ولكن المشهور الذي هو قول الحنابلة والجمهور أنَّ الاستثناء
لابدَّ أن يكون مُتصلًا، وإلَّا فلا فائدة فيه، ولا يحصل له المعنى الذي ذكره
المؤلف بسقوط الكفارة لو حصل منه المحلوف عليه.
ولَمَّا نتهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- من الاستثناء ذكر الأحوال التي تسقط فيها
الكفارة، فقال (أَوْ يَفْعَلَهُ مُكْرَهً)، يقولون: إن الفعل المكره لا يُنسَب إلى
الإنسان، فإذا قال "والله لا ضربتُ جاري"، فجاء شخصٌ وحملَه حتَّى أخذَ يدَه وضربَ
بها جارَه، أو أنَّه حمل عليه السِّلاح وقال له إن لم تضرب جارك قتلتك؛ فهذا
مُكرَهٌ، وهاتان صورتان من صور الإكراه عند أهل الأصول، وهو أن يكون للإنسان مدخل
فيه أو لا مدخل له فيه.
وعلى كل حالٍ؛ لا كفَّارة عليه لأنَّه وإن فعل المحلوف عليه لكن فعله حال الإكراه،
وحالُ الإكراه لا تُنسَب إلى الإنسان حقيقة، لأنَّ الفعل إنَّما يُنسَب إليه إذا
كان مختارًا، ولذلك قلنا إنَّ من شروط اليمين أن يكون مختارًا، وإلا فلا.
قال: (أَوْ نَاسِيً)، والنَّاسي قد رُفِعَ عنه التَّكليف كما جاء ذلك في الأحاديث،
من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عن أُمَّتِي الخطَأَ
والنِّسيانَ وما اسْتُكرِهُوا عليْه»، وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَ﴾ [البقرة: 286]، وجاء في صحيح مسلم أنَّ الله تعالى: «قدْ فَعَلْتُ» .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ كَفَّارَةَ فِي الْحَلْفِ عَلَى مَاضٍ، سَوَاءٌ
تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ ظَنَّهُ كَمَا حَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ)}.
الحلف في الماضي لا كفارة فيه، لأنَّه لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: إمَّا أن يكون صادقًا: فهذا يمين وقعت على وجهها، وصدَقَ فيها، فهذا
لا كفارة فيه إجماعًا، فلو قال شخص مثلًا "والله لقد بعث الله النبي محمد -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فهذه يمينٌ صحيحةٌ منعقدةٌ، وصادقٌ فيها قائلها، فلا
كفارة فيها لصحَّتها، ولا إشكال في ذلك، وهذا محل إجماع بين أهل العلم.
الحال الثَّانية: أن يكون يمينًا غموسًا على أمرٍ ماضٍ، يعني أن يكون قصد الكذب
-كما هو حال كثير من الناس- فيقول "والله لقد أعطيتُ فلانًا حقَّه خمسين ألف ريال"،
وهو لم يُعطه حقَّه ولم يصله منه ريال واحد!
فيقولون: هذه يمينٌ غموس، وهي التي جاء فيها قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، وهو فيها فاجِرٌ، يَقْتَطِعُ بها
مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ وهو عليه غَضْبانُ» ، فجاء
فيه الوعيد الشَّديد، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا لا تدخل في اليمين المكفَّرة،
والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكرها من السَّبع الموبقات، فلذلك في
الأشهر في مذهب الحنابلة وهو قول جماعة من أهل العلم أن هذه اليمين لا تدخلها
الكفارة، ولا برَّ فيها ولا حنث، لأنَّها على أمرٍ ماضٍ؛ ولأنَّ صاحبها تقصَّدَ
الكذب، فهو مُؤاخذ به، محمولٌ على سوء فعله ونيَّتِه، وبناء على ذلك لا تدخل.
الحال الثَّالثة: إذا حلفَ على أمرٍ ماضٍ كذبًا لكنَّه من غيرِ قصدٍ، فلو سأله
والده: هل صليتَ صلاة العصر؟ فيقول: "والله العظيم لقد صليتُ صلاة العصر"، وهو ساهٍ
قد ظهر في ذهنه صلاة عصر الأمس، والتبس عليه ذلك ونسي أنه ما صلَّى اليوم.
ففي هذه الحالة يكون من لغو اليمين؛ لأنَّه لم يتقحَّم السُّوء في ذلك، فدخلت في
لغو اليمين كما هو مشهور المذهب وهو قول جماعة من أهل العلم، وهذا هو قول المؤلف: (
أَوْ ظَنَّهُ كَمَا حَلَفَ).
إذن الحلف على الماضي منه نوعان لا إشكال فيهما، والنوع الثالث: اليمين الغموس التي
فيها شيء من الإشكال، والمشهور من المذهب عند الحنابلة كما قول الجماهير خلافًا
للشافعي أنَّه لا كفارة فيها لعِظَم شأنها، ولِعظَم الوعيد المترتب عليها، وكونها
من كبائر الذنوب، فلم تدخل فيها الكفارة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ فِيْ اْليَمِيْنِ اْلجَارِيَةِ عَلى لِسَانِهِ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ فْيْ عَرْضِ حَدِيْثِهِ: لاَ وَاللهِ، وَبَلى
وَاللهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ﴾)}.
هذا نوعٌ ثانٍ من أنواع اللغو في اليمين، أو بعبارة ثانية: يمين غير منعقدة ولا
يؤاخذ الإنسان عليها.
فلو قال: "بلى والله، لا والله"، أو قال: "والله ما أكلت اليوم" وربما يكون قد أكل
شيئًا يسيرًا أو نحوه؛ فنقول: لا يضرُّه ذلك؛ لأنَّ قوله: "لا والله، بلى والله"،
هذا ممَّا يجري على الألسنة ولا يُقصَد بها انعقاد اليمين أنَّه لم يتناول طعامًا،
أو لم يفعل ذلك الفعل أو أنَّه لا يأتي هذا الأمر، إلى غير ذلك من الأمور التي
يُحلَف عليها.
وهذا استنادًا إلى الآية ﴿لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾
فقد فسَّرها جماعةٌ من السلف بهذا، وبما سبق، وقد جاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ
عَنْها- أنها قالت في تفسير الآية: "هي قول الإنسان: لا والله، بلى والله في معارض
حديثه"، وعليه فلا تكون يمنًا؛ بل هي لغو يمين، وجاء عن غير واحدٍ من السلف ذلك.
ولأجل هذا نقول: مَن جرى منه شيءٌ من هذا فإنَّه يكون من لغو اليمين التي لا كفارة
فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلاَّ فِي الْيَمِيْنِ بِاللهِ
تَعَالَى، أَوِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ،
كَعِلْمِهِ،وَكَلاَمِهِ، وَعِزَّتِهِ،وَقُدْرَتِهِ،وَعَظَمَتِهِ، وَعَهْدِهِ،
وَمِيْثَاقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، إِلاَّ فِي النَّذْرِ الَّذِيْ يُقْصَدُ بِهِ
الْيَمِيْنُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)}.
لا تجب الكفارة إلَّا في اليمين بالله، أمَّا اليمين بغير الله فقد ذكرنا ما
يتعلَّق بذلك في أوَّلِ الكلام، من أنَّ اليمين بغير الله -جَلَّ وَعَلَا- لا تكون
يمينًا منعقدة، والتكفير فيها إنَّما هو لجانب حقِّ الله ولتعظيم الله، وأنَّ
الإنسان لمَّا عظَّم الله -جَلَّ وَعَلَا- بذكر اسمه في هذا الأمر ألا يفعله أو أن
يأتيه ثم لم يفعل؛ فإنه يُكفِّر لأنَّه ذكر الله -جَلَّ وَعَلَا- في معرض أمرٍ لم
يفِ به، وما دام أنَّ اليمين لغير الله فليس لغير الله حق لا في عقد اليمين من
أصلها، ولا في أن تُكفَّر عندَ فعل ما يُناقضها، فلا تجب الكفارة إلا في اليمين
بالله -جَلَّ وَعَلَا.
ولذلك يُعظَّم هنا شأنُ بعضِ أهلِ الضَّلال والهوَى الذين ربَّما لو طلبتَ منه
يمنًا بالله لحف عشرًا، ولو طلبتَ أن يعقد اليمين بالأولياء ونحوهم، أو بمن يعتقدون
أنَّ له سرٌّ -كما يزعم بعض طرائق الصوفية- لخاف ووجل ولحقه العرق!
فنقول: بئس ما فعل هؤلاء! أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- أهون عندهم من المخلوقين، حتى
ولو كان ذلك مِن المعظَّمين، حتى ولو كانَ ذلك مِن الأولياء الصَّالحين، حتى ولو
كان مِن الأنبياء المرسلين، حتى ولو كان مِن الملائكة المقربين، فشأنُ كلِّ أحدٍ
دونَ شأنِ الله، وحقه دونَ حق الله، والعبادة حقٌّ مصروفٌ لله، لا يُصرَف إلى مَن
سواه، نحفظُ لهم حقهم وقدرهم ومنزلتهم، لكن لا ننزلهم منزلة ربِّنا -جَلَّ وَعَلَا-
قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل
عمران: 80]، ما أمرنا الله أن نجعلهم كربِّنا في ربوبيَّته أو في ألوهيَّته أو في
عبادته والتَّوجُّه له -سبحانه وتعالى- ناهيكَ بمَن يُقدِّمونَ أو يُعظِّمون بعضَ
معبوداتهم على الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنَّ هذا أعظم الكفر والضَّلال، وأشد الفسق
والإنحراف، وهو درجةٌ في تسويل الشَّيطان لا يبلغها إلَّا مَن استحكَم قلبُه
بالكفرِ والإشراكِ بالله -جَلَّ وَعَلَا.
وهذا ليس كلامي ولا كلام جهة إفتاء، ولا ثُلَّةٌ خاصَّة، ولا علماء محسوبون على
جهةٍ أو بلدٍ أو غيره؛ بل إنَّ هذا كلام الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- من القرن
الرَّابع والخامس والسَّادس والسَّابع من الحنابلة والمالكيَّة والشَّافعيَّة
والحنفيَّة؛ كلهم يُقرِّرون هذا، وقلنا إنَّه مستقرٌّ عند الفقهاء جميعًا
-رَحِمَهُم اللهُ- أنَّ الحلف بغير الله محرَّمٌ وممنوع ولا يجوز.
ما اليمين التي تكون صحيحةٌ منعقدةٌ تتعلق بها كفارة؟ وما اليمين التي لا تنعقد؟
بيَّن المؤلف اليمين الصَّحيحة هي اليمين بالله، فتبيَّن أنَّ ما سواها غير منعقد،
فيقول -رَحِمَهُ اللهُ: (الْيَمِيْنِ بِاللهِ تَعَالَى، أَوِ اسْمٍ مِنْ
أَسْمَائِهِ)، فلو قال: "بالله، بالرحمن، بالعزيز، تالله، تالعزيز، تالعليم، والله،
والعزيز، والحكيم"؛ هذه كلها حلف بأسماء الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ)، أي كلُّ صفةٍ جاءت في كتاب الله وفي
سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا قال: "بعزَّةِ الله، برحمة
الله، وعزةُ الله، ورحمةُ الله، ويدُ الله"؛ فكل ذلك من صفاتِ الله -جَلَّ وَعَلَا-
التي جاءت في كتابِه وسنَّةِ نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (كَعِلْمِهِ، وَكَلاَمِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ)؛
فكلُّ ذلك داخلٌ في اليمين.
قال: (وَعَهْدِهِ، وَمِيْثَاقِهِ، وَأَمَانَتِهِ)، لو قال: "وعهد الله"، وقول:
"وميثاق الله جَلَّ وَعَلَا" الذي هو التَّوفية والأداء. أو قال: "وأمانة الله جل
وعلا"؛ فكلُّ هذا يدخل في اليمين بالله -جَلَّ وَعَلَا.
ومثل ذلك لو قال: "وأيمُ الله" فإنَّها جاءت في يمين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأصلها "وأيمُن الله".
ومثل ذلك لو قال: "أُقسِمُ بالله، أَحلفُ بالله" فكأنَّه قال: "بالله".
ولو قال: "لعمرُ الله" وهي من الألفاظ المشتهرة؛ وهذه من الألفاظ التي جرى فيها
شيءٌ من الاختلاف، والمشهور مِن المذهب عند الحنابلة أنها يمين، لكن يُمكن أن يُقال
إنها بحسب النِّيَّة كما هو قول بعض الفقهاء؛ لأنَّه جاء أنَّ "لعمرك" لفظٌ من
ألفاظ التَّأكيد التي أُلِفَت وعُهدَت في لغة العرب، فقد يُقصد بها اليمين وهو
الحلف بصفةٍ من صفاتِ الله وهي البقاء والخلود، وقد يُقصَد بها غير اليمين.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ فِي النَّذْرِ الَّذِيْ يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِيْنُ،
فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ).
النَّذر الذي يُقصَد به اليمين هو ما ذكرناه سابقًا، وهو نذر اللِّجاج والغضب، فهو
لا يقصد به حقيقة النَّذر بقدر ما هو للتصديق أو التكذيب أو الزجر؛ فيكون حكمه حكم
اليمين، وإن لم يكن يمينًا في أصله، لكن حكمه حكم اليمين لِمَا ذكرنا من الأثر: «لا
نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ اليَمِينِ» ، فنذرُ الغضبِ هو نذرُ
اللِّجاج، وعلى إثباتِ صحَّة الكلامِ مِن عَدمِه والصِّدق من سِواه، والفعل وترك
الفعل؛ كما يعهده كثير من الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ حَلَفَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَالْقُرْآنِ جَمِيْعِهِ
فَحَنِثَ، أَوْ كَرَّرَ الْيَمِيْنَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ قَبْلَ التَّكْفِيْرِ،
أَوْ حَلَفَ عَلَى أَشْيَاءَ بِيَمِيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ
كَفَّارَةٍ، وَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَشْيَاءَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ
يَمِيْنٍ كَفَّارَتُهَ)}.
قوله: (وَلَوْ حَلَفَ بِهَذَا كُلِّهِ)، يعني كل ما تقدَّم، فحلف بالله وبأسمائه
وبصفاته.
قوله: (وَالْقُرْآنِ جَمِيْعِهِ)، فالقرآن كلام الله، وكلام الله -جَلَّ وَعَلَا-
صفة من صفاته، فلو حلف بجميعه أو ببعض سوره كسورة طه، فسورة طه هي كلام الله -جَلَّ
وَعَلَا- إلى غير هذا من الأيمان المنعقدة بالله أو بصفةٍ من صفاته، فلا يخلو
الحال:
- إمَّا أن يوفي: فلا شيء عليه، ولذلك قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: 89]، وهذا
محمول على مقدَّرٍ وهو "فَحَنَثَ فكَفَّارت..."، وجاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة:
«إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ».
إذن؛ متى يُكفِّر عن يمينه؟
إذا أتَى الذي هو خير، أي الذي هو خلاف اليمين، وهو الحنث في اليمين.
وهذا يدلُّ على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث بشرطها، مثلما قلنا أن تكون يمينًا
منعقدةً صحيحةً بشروطها المتقدِّمَة على خلاف بين الفقهاء في ذلك.
إذن؛ إذا حَنَثَ كفَّر، وإلَّا فــلا.
وسيأتي التَّرتيب بين الكفَّارة واليمين، ومتى يستحبُّ للإنسان أن يكفر، ومتى يستحب
له الوفاء باليمين، سيكون ذلك -بإذن الله- في درسٍ قادمٍ في كفارة اليمين.
قال: (أَوْ كَرَّرَ الْيَمِيْنَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ قَبْلَ التَّكْفِيْرِ)، يعني
لو قال: "بالله الرحمن الرحيم، وتالله العزيز الحكيم؛ ألا آتي هذا المكان"، فهو قد
حلفَ وعقدَ على ذلك ثلاثًا من أسماء الله وثلاثًا من صفات الله؛ فسواء كان المحلوف
به اسم الله واحدًا أو كان أكثر من ذلك، أو القرآن كله أو سورة من سوره؛ فإن ذلك لا
يتفاوت في أنَّ الحنث واحد، وهو فعل المحلوف عليه، وبناء عليه فيه كفارة واحدة.
ومثل ذلك لو كرَّر اليمين فقال: "والله ما ذهبتُ إلى طرفِ هذه الصَّحراء مهما قلت،
وكرَّر اليمين، والمحلوف عليه واحدٌ فتكونا لكفارة واحدة، وهذا بشرط أن يكون تكرار
اليمين قبل التَّكفير، أمَّا لو قال: "والله لا ذهبتُ إلى هذه الصحراء، ثم حنَثَ
وكفَّر، ثم حلف مرَّة ثانية فتلزمه كفارة ثانية، لئلا تخلو اليمين من كفارة؛ لأن
الكفارة ما تسبق اليمين، فلما قال: "والله لا ذهبتُ إلى الصحراء" فأتت بعدها كفارة
فمسَحَتْهَا، وقد أدَّى ما عليه، لكن قوله الثاني: "والله لا أتيتُ هذه الصحراء" ما
قابله كفارة!
فلذلك إذا كرَّر اليمين على أمر واحدٍ؛ فإذا كان لم يُكفِّر، فتلزمه كفارة واحدة،
أما إذا كان قد كفَّر عن اليمين الأولى فعليه كفارة أخرى لليمين الثانية.
ثم قال: (أَوْ حَلَفَ عَلَى أَشْيَاءَ بِيَمِيْنٍ وَاحِدَةٍ)، فلو قال: "والله لا
ذهبتُ إلى زيد، ولا أتيتُ مدينة كذا، ولا دخلتُ بحرًا، ولا ركبتُ سفينةً، ولا حجزتُ
في طائرة، ولا استقلَلْتُ سيارة"، فحلف على هذه كلها؛ فنقول هذه يمين واحدة، حتى
ولو كان المحلوف عليه أشياء متعدِّدة، فكفارتها كفارةٌ واحدةٌ، ولا شيء عليه أكثر
من ذلك.
قال: (وَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَشْيَاءَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِيْنٍ
كَفَّارَتُهَ).
إذا قال: "والله لا كلمتُ زيدًا"، ثم في اليوم الثَّاني وقال "والله لا ذهبتُ إلى
الجامعة"، ثم في يوم ثالث قال: "والله لا شربتُ مرقًا"؛ فهذه أيمان على أشياء،
والمؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- كما هو مذهب أكثر أهل العلم أنَّ لكلِّ يمينٍ كفارة،
خلافًا لمشهورِ المذهبِ عندَ الحنابلة أنَّ فيها كفارة واحدة، وهي من المسائل
المفردات والغرائب، وأكثر أهل العلم على خلافها.
وبناء على ذلك نقول: ما دامَ أنَّها أيمان، والمحلوف عليها أشياء متفرقة؛ فلكلِّ
يمينٍ حكمها، وما دامَ أنَّ لكلِّ يمينٍ حكمها فتلزم كل يمين كفارة واحدة، ولا
تداخلَ في الكفَّارات في هذه المسألة، بخلاف تكرار اليمين على أمرٍ واحدٍ، أو الحلف
الواحد على أشياء متعدِّدَة، فهذه يعتبرونها يمن واحدة وكفارتها واحدة، أما في
المسألة التي معنا فالمحلوف عليه متعدِّد واليمينُ متعدِّدَة؛ فلكلٍّ حكمه ولا
تداخل في هذه المسألة.
هذا ما يتعلَّق بأنواع الكفَّارات ومتى يكون بينها تداخل ومتى لا يكون، ولعلنا
نؤجِّل مسألة التَّأويل إلى الدَّرس القادم لانتهاء الوقت.
أسألُ الله لي ولك التَّوفيق والسَّداد، وأسألُ الله أن يجزي الإخوة خير الجزاء على
ما يستفيدون وينتظمون في هذا البناء، ويجعلون مِن أوقاتهم لإدراك العلم وتحصيله
وترك أشغالهم، أسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يُبارك لهم في دينهم ودنياهم،
وأن يقضيَ حاجاتهم، وأن ييسر لهم الرفعة في الدين والدنيا، وأن ييسر لهم أمور
العقبى والأخرى، إن ربنا جواد كريم.
وشكرَ الله للقائمين على هذا البناء، بنى الله لهم الأمور، وأتمَّ الله لهم الرحمة،
وبارك لنا ولكم وللمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.