{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أرجو أن
يكونَ الدَّرس الماضي سهلًا على الإخوة، وأن لا تكونَ فيه صعولةٌ ولا وُعورة، فقد
كان في بعض المسائل شيءٌ من التَّدقيق.
{نشرع من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْ شُرُوْطِ
اسْتِيْفَاءِ اْلقِصَاصِ.
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اسْتِيْفَاءِ اْلقِصَاصِ ثَلاَثَةٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ، فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والهُدَى، وأن
يُعقبنا البرَّ والتُّقى، وأن يجعل العلم حجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، وأن يرزقنا
حسنَ القولِ والعملِ، والصَّوابَ في العلمِ والعمل، والتَّوفيقَ للهُدَى في كلِّ
الأحوالِ، وأن يغفرَ لنا ولوالدينا ولأزواجنا ولذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- مُكمِّلٌ لمَا مرَّ، فقد ذكرَ
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الباب شروط وجوب القِصاص، وشروط استيفائه،
فلمَّا أنهى ما يتعلَّق بشروط وجوب القصاص وهي أربعة:
• كون القاتل مُكلَّفًا.
• كون المقتول معصومًا.
• كون القاتل مكافئًا للمقتول.
• أن لا يكون القاتل أبًا للمقتول، وذكرنا ما يدخل في الأبوَّة أنَّها الأبوَّة
الصُّلبيَّة وما علَا منها، وكذلك يدخل فيها الأمومة، فالأمُّ كذلك في الحكم سواءً
بسواءٍ، لا تُقتَلُ بقتلها لولدها -نسأل الله السلامة والعافية.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد ذلك: (وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اسْتِيْفَاءِ
اْلقِصَاصِ).
الاستيفاء بمعنى: التَّوفية، يعني حصول استيفاء القصاص وإجرائه والاقتصاص من هذا
الجاني بعدَ اكتمالِ الشُّروطِ وتحقُّقِ ما يلزم من ذلك.
فإذا كان هذا القاتل ممَّن توفَّرت فيه الشُّروط الأربعة فهو مُكلَّفٌ، والمقتولُ
معصومٌ، والقاتل مكافئٌ للمجني عليه، وليس والدًا له ولا والدة.
يقول المؤلف إلى حال الاستيفاء، الآن سنقدِّمه حتَّى يُقتَل، لكن نحتاج أن نتأكَّدَ
من ثلاثةِ شروطٍ، ولذلك قال المؤلف: (وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اسْتِيْفَاءِ
اْلقِصَاصِ ثَلاَثَةٌ)، فلابدَّ أن يكون الاستيفاء مستكملًا لهذه الشروط الثلاثة،
وهي مُتعلقةٌ بهذا المجني عليه أو أوليائه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهَا: أَنْ يَكُوْنَ لِمُكَلَّفٍ، فَإِنْ كَانَ
لِغَيْرِهِ، أَوْ لَهُ فِيْه حَقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يَجُزِ اسْتِيْفَاؤُهُ)}.
معنى قوله: (أَنْ يَكُوْنَ لِمُكَلَّفٍ)، أي: يكون القصاص لمكلَّف، فيكون أولياء
الدم كلهم مكلَّفون، فإن كان أولياء الدَّم غير مكلَّفين، كأن يكون هذا المقتول
أبناؤه صغارٌ، فعند ذلك لا يُمكن الاستيفاء ولو كان هذا المقتول ليس له إلَّا ولدٌ
واحدٌ وهو مجنون، فهذا هو وليُّ الدَّم، القصاص هنا لغير مكلَّف، فلا يحصل في هذا
الاستيفاء.
لماذا قال المؤلف: (أَنْ يَكُوْنَ لِمُكَلَّفٍ)؟
لأنَّ بابَ القصاص هو باب التَّشفِّي، وتحصيله والمطالبة به أو العفو عنه وإسقاطه
حقٌّ للإنسان في نفسه، ولا يقوم غيره مقامه، فهو ليس مثل الأمور الماليَّة أو
الأعمال والمعاوضات فيجوز فيها التوكيل والوصاية والولاية وما يترتَّب على ذلك؛ بل
إنَّ مردَّها إلى النفس، فالقصاص لابدَّ أن يكون لمكلَّفٍ، بمعنى أنَّه يعلم أنَّ
هذا الدَّم حقه، وأنَّه إمَّا أن يُطالبَ به وإمَّا أن يعفو عنه، ولذلك جاء عن
الصحابة فيمن قُتِلَ وأولاده صغار أنَّهم انتظروا حتَّى يكبروا؛ لأنَّهم في حال
الصغر لا يعون ولا يعرفون؛ هل يُطلبون بالقصاص فيجب القتل، أو أنَّهم سيعفون وبناءً
على ذلك يسقط حقُّهم.
ولا يقوم أحدٌ مقامه، لأنَّ الولي يُمكن أن يعفو، ثم إذا كبر الصَّغير يقول لماذا
تركتم قاتل أبي؟
إذن هذه أشياء لا تدخلها النِّيابَة، ولمَّا كانت لا تدخلها النِّيابة فلابدَّ فيها
من الانتظار، فليس للولي أن يعفو وليس له أن يُطالب؛ لأنه ربَّما طالب ولو بلغ
الصَّبيُّ أو عقل المجنون لعفا؛ والعكسُ بالعكسِ، فلربما استوفى الكبير، ثم لَمَّا
كبر الصَّغير قال: هذا لا يحصل به المراد، لابدَّ أن أعفو فيُطلَق؛ فلأجل ذلك قال
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (أَنْ يَكُوْنَ لِمُكَلَّفٍ)، فلابدَّ أن يكون القصاص لمَن
بلغ سنَّ التَّكليف.
وانتظار الصغير حتَّى يكبر ظاهر، حتَّى ولو طالت المدَّة، ولو كان حملًا في بطن
أمِّه، فإنَّه يُنتَظَرُ حتَّى خمسة عشر عامًا، لعلَّه أن يعفو فيُطلَق هذا القاتل،
وإن لم يعفُ فإنَّه يحصل المقصود من هذا القصاص وهو تشفِّي أولياء الدَّم من ظالمِ
القاتل؛ ولأنَّه لا تدخله نيابةٌ ولا وكالةٌ ولا ولايةٌ ولا وصايةٌ.
والمُشكل هو انتظار المجنون حتَّى يعقل؛ لأنَّه لا حدَّ لانتهائه، فلو كان هذا
المقتول له ولدٌ مجنونٌ، فسيبقى هذا القاتل إلى غيرِ ما أمدٍ، يُمكنُ أن يفيق هذا
من جنونه، وهذا احتمال ضعيفٌ جدًّا، فهل لغيره أن يستوفي أو لا؟
ظاهر المذهب عند الحنابلة وهو قولُ جمعٍ من الفقهاء أنَّه ليس لغيره أن يستوفي،
لِمَا ذكرناه من أنَّ القصاص محلَّه تشفِّي النُّفوس، والنُّفوسُ تختلفُ في ذلك،
فلا يُلبَث إمَّا أن يموتَ وهو في سجنه، وإمَّا أن يُفيقَ هذا المجنون ويُطالب
بحقِّه أو يعفو عنه، وإمَّا أن يموتَ هذا المجنون فينتقل إلى أوليائه من ولدٍ
وغيره، أو إخوة؛ فيُطلبون أو يُسقِطونَ.
لماذا لم نقل بالعفو في حال ما إذا كان ولي الدم مجنونًا؟
لئلَّا يُستَغل ذلك، فإذا علم هؤلاء أنَّ لهذا ولدٌ مجنونٌ لربَّما تتسلَّط نفوسهم
فيجنونَ عليه ويتسلَّطون عليه، فيعظُمُ بذلك الضَّرَر، وربَّما كان بينهم وبينَ هذا
المجنون تواطؤ، خاصَّة إذا كانوا كلهم قرابة وأرادوا أن ينتقموا من هذا الشخص
ونحوه؛ فلمَّا كان الأمر كذلك كانَ الأمر مقطوعًا وممنوعًا، وإن كان فيه خلافٌ
خاصَّة في المجنون، أنَّه إذا كان هذا المجنون يحتاج إلى نفقةٍ، فللولي أن يعوف
تحصيلًا لمصلحةِ هذا المجنونِ بأن يُحصِّل له هذه الدِّيَة أو ما يصطلحان عليه من
مالٍ ولو كان كثيرًا ليُنفق به عليه، ولتقوم به حياته، وتستقر بذلك أيَّامه.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ)، بأن يكون صغيرًا أو أن
يكونَ مجنونًا.
قال: (أَوْ لَهُ فِيْه حَقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يَجُزِ اسْتِيْفَاؤُهُ)، يعني:
سواء كان وليُّ الدَّم صغير ليس مشاركٌ له، أو كانَ هو مع أولياء كبار، أو كان
المجنون مع أولياء عقلاء، فكونه وارثًا لبعض الدَّم فلا يُستوفَى حتَّى يُكلَّف،
فمعنى ذلك أنَّ وليَّ الدَّمِ لابدَّ أن يكون مكلَّفًا، سواءٌ كانَ واحدًا أو عشرةً
أو مائة، فلابدَّ أن يكونوا مُكلَّفينَ، يُمكن أن يكونوا مائةٍ ويُمكن أن يكونوا
أكثر من ذلك، وهذا إذا كان قد قُتل عن عشرة من الولد، ومات هؤلاء العشرة من الولد
وكل واحدٍ منهم عنده عشرة، وبعضهم عنده أولادُ أولادٍ، المهم أنَّ أولاده هم الذين
سيرثونَ عنه؛ فعلى كل حالٍ سيكون هؤلاء المائة.
فإن كان هذا الصَّبي أو هذا المجنون له بعض حق فإنَّه لا يُستوفَى حتَّى يكبُر هذا
الصَّغير أو يعقل هذا المجنون، وإلَّا لم يُستوفَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَإِنِ اسْتَوْفَى غَيْرُ الْمُكَلَّفِ حَقَّهُ
بِنَفْسِهِ، أَجْزَأَ ذلِكَ)}.
المعنى: أنَّ هذا القاتل مُستحقٌّ للقتل، غاية ما في ذلك أنَّ الولي هذا تجرَّأ
واستوفى بنفسه، أي أنَّه افتات على الإمامِ، لكنَّه قتلَ مَن يستحق القتل، لكنَّه
جرى منه تفويتٌ على سائر الأولياء وتفويتٌ على السُّلطان، فلكلِّ حالٍ ما يُناسبه
مما يجب لذلك، فللسلطان حق التَّعزير، وسيأتي الكلام على حق الأولياء في المسألة
التي بعدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: اتِّفَاقُ جَمِيْعِ الْمُسْتَحِقِّيْنَ عَلى
اسْتِيْفَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيْهِ بَعْضُهُمْ، أَوْ كَانَ فِيْهِمْ
غَائِبٌ، لَمْ يَجُزِ اسْتِيْفَاؤُهُ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ بَعْضُهُمْ، فَلاَ
قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ بَقِيَّةُ دِيَتِهِ لَهُ، وَلِشُرَكَائِهِ حَقُّهُمْ
فِيْ تَرِكَةِ الْجَانِيْ)}.
قوله: (اتِّفَاقُ جَمِيْعِ الْمُسْتَحِقِّيْنَ عَلى اسْتِيْفَائِهِ)، يعني: إذا كان
أولياء القصاص واحدًا فلابدَّ أن يُطالب بذلك، وإن كانوا اثنين فلابد أن يُطالب
الاثنان بالدم، وإذا كانوا عشرة فلابدَّ أن يتَّفق العشرةُ على المطالبة بأن تحصل
منهم المطالبةُ حقيقةً، وأن يكونوا أهلًا لذلك.
إذن؛ الشرط الأول: لابدَّ أن يكونوا مكلَّفين.
الشرط الثاني: أن تحصل منهم المطالبة.
فإن حصل منهم العفو فلا قصاص في مثل هذه الحال؛ لأنَّ الدَّم لا يتجزَّأ، فإذا عفا
بعض الأولياء -واحد أو أكثر- فلا يُمكن الاستيفاء، فيُنتقل إلى البدل وهي الدِّيَة،
ولذلك كان في عهد عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لَمَّا عفت زوجة القاتل، قال:
"الله أكبر! عتق القتيل"، وإن كانت لا ترث الدم وحدها؛ لكن الدليل دالٌّ على أنَّه
إذا عفا أحد الأولياء سقط حق الباقين في الدَّم إن كان حقهم مُستوفيًا في الدية.
قال: ( فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيْهِ بَعْضُهُمْ)، يعني: ما طالبوا بالقصاص أو عفوا
واحتسبوا الأجر عند الله -جلَّ وَعَلَا- فلا قصاص في مثل هذه الحال؛ لأنَّ الحق لهم
جميعهم، ولا يُفتات على بعضهم دونَ بعضٍ، وإذا عفا البعض فإنَّ بعض دمه مُستحق وبعض
دمه محفوظٌ؛ لأنَّهم تنازلوا عن حقهم في إباحة الدَّمِ، ولا يُمكن أن يُستوفَى
البعض ويُترَك البعض، وبناء عليه فلا يُستوفَى شيءٌ من ذلك ولا يُقتل، مثلما قلنا
في قصَّة عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- ولذلك قال المؤلف: (فَإِنْ لَمْ
يَأْذَنْ فِيْهِ بَعْضُهُمْ).
قال: (أَوْ كَانَ فِيْهِمْ غَائِبٌ، لَمْ يَجُزِ اسْتِيْفَاؤُهُ)، لابدَّ أن
يُنتَظَر، ما يُقال أنَّه يُعرَف منه أنَّه شديد؛ فلابد أن يُنظَر لأنَّه حقٌّ له
لا يُفتاتُ عليه، ولا يقوم أحدٌ مقامه، وإذا كان يُنتَظَر الصَّغيرُ حتَّى يبلغ،
ويُنتَظر المجنون حتَّى يعقل؛ فمن باب أولَى أن يُنتَظَر الغائب حتى يحضُر، ولأنَّ
غيبةَ الغائب في الغالب أنَّها أقلُّ وأقصر من بلوغ الصغيرِ أو عقل المجنون.
قال: (فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ بَعْضُهُمْ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ
بَقِيَّةُ دِيَتِهِ لَهُ)، يعني: بعض ورثة الدم خاف أن يتنازل إخوته، فلما رأى
القاتل طعنه بسكِّينٍ، ففي مثل هذه الصُّورة هو قتل مَن يستحق القتل؛ لأنَّه لا
يرتفع عنه حُكم القتل حتى يعفوا، وهم لم يعفوا بعد، فالأصل أنَّه مُستحقٌّ للقتل،
وبناء على ذلك نقول: هو استوفَى القتل الذي هو حقٌ لهم، ولكنَّه فوَّتَ على ورثةِ
الدَّم العفوَ، أو الانتقال إلى الدِّيَةِ، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ:
(فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ)، فلا يُقتَل لأنَّه لم يقتل مُعصومًا، وإنَّما قتلَ
مُستحقًّا للقتل، وإنَّما غايةُ ما كانَ منه أنَّه افتات على إخوته أو ورثة الدم
الآخرين، فيجب عليه ما يستحقونه من بدل القصاص وهو الدية، فيُعطيهم ما يُقابل حقهم
من الدِّيَة، فلا يُعطيهم الدِّية كاملة؛ لأنَّه له حق في الدم، فهم أزهق بعض نفسٍ
وليس جميعها، فإذا كان إخوته ثلاثةٌ وهو رابعهم فمعنى ذلك أنه سيعطي كلَّ واحدٍ
منهم ربع الدية، ولأنَّه استوفَى ربع الدية التي يستحقه بقتله له، وبناء على ذلك
قال المؤلف: (وَعَلَيْهِ بَقِيَّةُ دِيَتِهِ لَهُ)، أي: لوارث ولي الدَّم، سواء كان
واحدًا أو أكثر من ذلك.
قال: (وَلِشُرَكَائِهِ حَقُّهُمْ فِيْ تَرِكَةِ الْجَانِيْ)، إذا كان قد قتل أكثر
من شخصٍ، فاستوفى هذا وإخوته حقهم، أما الآخرون لم يستوفوا، ولا نقصد بذلك أنَّ
بقيَّة الورثة لهم دية عند الجاني، الآن الجاني استوفى هو وإخوته منه سواء كان قد
فوَّتَ على إخوانه أو استوفى معهم، فلما استوفى هو بدون رضاهم كان الدية عليه، لكن
لو كان هذا القاتل قتل شخصين؛ فهؤلاء الذين استوفوا قد أخذوا حقهم، أما الآخرون
الذين ينتظرون القصاص من قاتل أبيهم، فلا يبقى لهم إلا الدية في تركة الجاني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَسْتَحِقُّ اْلقِصَاصَ كُلُّ مَنْ يَرِثُ الْمَالَ عَلى
قَدْرِ مَوَارِيْثِهِمْ)}.
أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا أن يُبيِّنَ مَن هو وليُّ الدَّمِ؛ فيقول: (كُلُّ
مَنْ يَرِثُ الْمَالَ عَلى قَدْرِ مَوَارِيْثِهِمْ)، فإذا هالك هالكٌ عن: ثلاثة
إخوة، وأم ، وأب، فهؤلاء كلهم ورثَة، فالأم لها الثلث، والأب له الباقي -الثالثان-
والإخوة لا يرثون، فمعنى ذلك أنَّ الإخوة ليسوا أولياء دمٍ، وليُّ الدَّم سيكون
الأب والأم.
أما لو هلك عن إخوة أشقاء وأم وأبناء أخ؛ فنقول: الورثة هم الأم والإخوة، وأبناء
الأخ ساقطون بالإخوة الأشقاء.
وإذا وُجدَت زوجةٌ وجدَّةٌ وثلاث إخوة لأم، فيسكون إرث الدم لهم على قدرِ ميراثهم،
فالأم لها السدس، والإخوة لأم لهم الثلث، والجدَّة تسقط بالأم، ثم تأتي مسألة
الرَّدِّ، المهم أنَّ أولياء الدم هم الأم والإخوة لأم، وإذا كان معهم زوجة فهي
تستحق الربع في هذه المسألة، والزوجة داخلةٌ في إرث الدَّم، والدليل على هذا ما
تقدَّمَ قبل قليل من أثر عمر لَمَّا عفت الزَّوجة، قال -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى
عَنْهُ: "الله أكبر! عتق القتيل"، فهذا دليل على أنَّ الزَّوجة يكون لها إرثٌ في
الدَّم كما يكون لغيرها، خلافًا لمن جعل ذلك لسائر الورثة سوى الزوجة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: اْلأَمْنُ مِنَ التَّعَدِّيْ فِيْ
اْلاِسْتِيْفَاءِ، فَلَوْ كَانَ اْلجَانِيْ حَامِلاً، لَمْ يَجُزِ اسْتِيْفَاءُ
الْقِصَاصِ مِنْهَا فِيْ نَفْسٍ وَلاَ جُرْحٍ، وَلاَ اسْتِيْفَاءُ حَدٍّ مِنْهَا،
حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَ)}.
قوله: (اْلأَمْنُ مِنَ التَّعَدِّيْ فِيْ اْلاِسْتِيْفَاءِ)، إذًا لا يحصل
الاستيفاء إلَّا بتجاوز الحد حتَّى يلحق العقاب بمَن لا جناية له فلا استيفاء،
وأكثر ما يُمكن أن يُضرَبَ به المثل المرأة الحامل، فلو أنَّنا قتلنا المرأة وهي
حاملٌ لأفضى ذلك إلى إتلاف حملها وإهلاك ولدها، وليس ولدُها بجانٍ ولا بمستحقٍّ
للقتل، وبناء على ذلك لا يُقتَصُّ منها، وقد جاء في ذلك بعض الآثار، لَمَّا استحقت
المرأة القصاص وكانت حاملًا، أمر الصَّحابة أن ترجع حتَّى تضع ما في بطنها ثم ترجع
حتى يُقضَى عليها، وإن كان الولد لا يُستغني عنها أوَّلَ ولادتها له؛ فإنَّه
يُنتَظر حتَّى يُوجَد مَن تُرضعه، أو يُمكن أن يقوم بنفسه بأن يعتمد على طعامه
وشرابه، ثم تُقتَلُ بعدَ ذلك، وذلك للأمنِ من التَّعدِّي في الاستيفاء.
وأُخِذَ هذا من حديث الغامديَّة، وإن كان ذاك في الحدود لكنَّ الباب واحدٌ من جهةِ
أنَّها استحقَّت القتل ولم يستحقه حملها، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالانتظار حتَّى تضع؛ فجاء في الحديث أنَّها جاءت به ومعه كسرة خبز حتى
تُظهر أنه يستغني بطعامه عن ثديها.
وأيضًا عمومات الأدلَّة في الشَّرع تدل على ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، وما جاء في الحديث القدسي: «إِنِّي حَرَّمْتُ
الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمً» ، وهذا الحمل الذي في
بطنها ليس بجانٍ ولا بمستحقٍّ للعقوبة، وليس ثَمَّ وجهٌ يقتضي إلحاق شيء به من
أنواع العقوبَة؛ فبناء على ذلك يُنتَظر، ويُمكن الاستيفاء بعدَ هذا، يعني لا
يتعذَّر الانتظار حتَّى تضع ثم يُستوفَى منها.
وبناء على ذلك قالوا: إنَّ الأمن في التَّعدِّي في الاستيفاء شرط، وهذا هو الذي
فهمه الصحابة من عمومات النصوص ومن قصَّة الغامديَّة وعمومات الدلائل؛ فكان ذلك
أمرًا مستقرًّا، فلو كان الجاني امرأة حامل فلا يجوز استيفاء القصاص منها في نفسٍ
ولا جُرح، فلو كانت قطعَت يدَ أحدٍ أو كسرت سنًّا أو نحو ذلك؛ فلا يُقتصُّ منها في
سنٍّ أو في عظمٍ أو في غيره، لأنَّ هذا أيضًا يؤثِّرُ على حملها، فقد يحصلُ منها
وضعٌ أو موتٌ لجنينها مع تعبها وهزالها أو غير ذلك.
قال: ( وَلاَ اسْتِيْفَاءُ حَدٍّ مِنْهَا، حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، وَيَسْتَغْنِيَ
عَنْهَ)، استيفاء الحدود سواء كان ذلك بالقتل كما في قصَّة الغامديَّة، أو كان ذلك
بالجلدِ، لأنَّ جلدَ الحامل مؤثِّرٌ عليها، ويُمكن أن يسقطَ ما في بطنها، ويُمكن أن
يلحقها بذلك تعبٌ حتى يومت أو يضعف فيلحقُ به مرض أو ضعفٌ أو غير ذلك، فلا يُستوفَى
منها حتى تضع ولدها ويستغنيَ عنها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْ سُقُوْطِ اْلقِصَاصِ.
وَيَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوْبِهِ بِأُمُوْرٍ ثَلاَثَةٍ).
إذن هذا الترتيب هو ترتيبٌ عظيمٌ من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ:
• أوَّلًا: شرائط الوجوب.
• ثانيًا: شرائط الاستيفاء.
• ثالثًا: ما يحصل به العفو وسقوط ذلك القصاص.
يقول المؤلف: (وَيَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوْبِهِ بِأُمُوْرٍ ثَلاَثَةٍ)، الكلام هنا عن
السقوط بعدَ الوجوب، أمَّا إذا لم يجب فقد مرَّ بنا، كأن يكون القاتل صغيرًا أو
مجنونًا، أو أن يكون المقتول غير معصوم، أو أن يكون القاتل أبًا للمقتول، أو أن لا
يكون بينهما مكافأةٌ -كما مرَّ بنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهَا: اْلعَفْوُ عَنْهُ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، فَلَوْ
عَفَى بَعْضُ اْلوَرَثَةِ عَنْ حَقِّهِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، سَقَطَ كُلُّهُ،
وَلِلْبَاقِيْنَ حَقُّهُمْ مِنَ الدَّيَةِ)}.
قوله: (اْلعَفْوُ عَنْهُ)، إذا عفا أولياء الدم كلهم، سواء كانوا واحدًا أو عشرة؛
فلا قصاص.
قوله: (أَوْ عَنْ بَعْضِهِ)، وذلك بأن يعفو واحدٌ منهم عن نصيبه؛ فإنَّه عفا عن بعض
الدم، وقلنا قبل قليلٍ إنَّ الدَّم لا يتجزأ، وبناء على ذلك لا يُمكن إقامة القصاص
عليه، ويُنتَقل إلى البدل وهي الدِّية، ولذلك قال (فَلَوْ عَفَى بَعْضُ اْلوَرَثَةِ
عَنْ حَقِّهِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، سَقَطَ كُلُّهُ).
مثلًا: قتل الأب عن ابنين، فكل واحدٍ منهما يرث نصف الدم، فلو قال أحدهما: عفوت عن
نصف حقي، فهو قد عفا حقيقةً عن ربع الدم، فهو عفا عن بعض حقه؛ فنقول: كما أنَّه إذا
عفا واحدٌ فيسري ذلك إلى الآخرين فيكون عفوٌ منهم كلهم عن الدم ويُنتقلُ إلى
الدِّيَة، فكذلك إذا عفا أحدهم عن بعض حقه فإنَّ الحق لا يتجزَّأ، أو إذا كان ذلك
يسري على غيره فمن بابِ أولى أن يسري على حقه الذي بقيَ له فيكون عدمُ إقامةِ الحد،
ولا يجوز بعد ذلك إجراء القصاص، بل يقول الفقهاء: لو حصل أن أحدَ الأولياء قتل بعد
عفو مَن عفا فإنه لا يستحق القصاص؛ لأنَّ بعض الأولياء يغضب ويقول لإخوانه لا
تعفون، فإذا عفا بعضهم يخاف ألا يُقتص لوالده وخاصَّة في قيام العصبيَّة الجاهلية
والقبليَّة أن كيف هؤلاء يعفون عن قاتل أبيهم؟! فيذهب ويقتل ذلك القتل لأي سبب من
الأسباب، فنقول: هذا قتلَ بعد أن عفا الأولياء، فدمه معصوم، وهذا القاتل قاتلٌ
لمعصومٍ، وبناء على ذلك يجب عليه القصاص، ويتعلق بحقِّه حكم القتل العمد العدوان،
ويجري فيه ما جرى في القتل الأول من استجماع الشروط المتقدمة، وتعلق الأحكام التي
مرَّت من شروط وجوب القصاص وشروط استيفائه.
قال: (وَلِلْبَاقِيْنَ حَقُّهُمْ مِنَ الدَّيَةِ)، لا يضيع حقهم، فلو كانوا مثلًا
أربعة فلكل واحدٍ منهم ريع الدية، والذي عفا إلى غير بدلٍ يسقط حقُّه وليس له شيء،
ويُعصَم دم القاتل، ويكون للبقية ثلاثة أرباع دية يُعطَى كل واحد منهم ربعًا.
وإذا كان الذي عفا إنَّما عفا عن القصاص والقتل فحسب فيكون له الدِّيةُ مع إخوانه،
فكل واحد منهم يأخذ بحسبها، وكما قلنا فيما مضى: إنَّ لهم الصلح على القتل العمد
العدوان بأكثر من الدية، فإذا اصطلحوا على مليون ريال أو خمسة ملايين ونحوها؛ فيكون
ذلك مقسَّمٌ بينهم تقسيمَ ميراثٍ، فيستحق كل واحد منهم قدر نصيبه من الميراث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ اْلعَفْوُ عَلى مَالٍ، فَلَهُ حَقُّهُ مِنَ
الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الثَّوْابُ)}.
يعني: إذا كان قد عفا لغير بدلٍ فله الثواب من الله -جلَّ وَعَلَا- فلو أنَّه قال:
عفوتُ. وقالوا: تريدُ شيئًا؟ قال: أبدًا لا أريد إلَّا الأجرَ من الله.
فلمَّا ذهبت مدَّة أصابته فاقةٌ ورأى إخوانه قد أخذوا شيئًا من الدِّيَة وتوسَّعوا
في بعض أمورهم، فقال: أين حقي في الدية؟
نقول: ذهب حقك، وأسقطتَّ مالك، فليس لك إلَّا الثواب والأجر من الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: أَنْ يَرِثَ اْلقَاتِلُ، أَوْ بَعْضِ وَلَدِهِ
شَيْئًا مِنْ دَمِهِ)}.
هذا القاتل الذي قتل -مثلًا- عمَّه، فالذين يُطالبون الآن بالدَّم هم أبناءُ عمِّه،
فمات أبناءُ عمِّه وليس أحدٌ أقربَ منه، فهو الذي ورث الدَّم، فصارَ الدَّم الذي
يُطالبونه به هو الذي يُطالبُ به، وهو نفسه المُطالَب- القاتل- فبناء على ذلك يسقط
القصاص ويحصل العفو، ويذهب الحق في القتل في هذا.
كذلك لو ورث الدم بعض ولده، كأن يكون قتل أمَّ زوجته، فزوجته وإخوانها هم ورثة
الدم، وهم المطالبون به، فماتت الزوجة، فسيرث حقها في الدم أبناؤها، وأبناؤها هم
أبناؤه، فبناء على ذلك إذا ورث ولده شيئًا من الدم، فكما أنَّ الوالد لا يُقتَل
بولده فكذلك إذا ورث الولدُ الدَّمَ فإنَّه لا يُطالب بقتل والده، فيُنتقل في مثل
هذه الحال إلى الدِّية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: أَنْ يَمُوْتَ اْلقَاتِلُ، فَيَسْقُطُ،
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِيْ تَرِكَتِهِ)}.
إذا مات القاتل ذهب محل الاستيفاء، وانتهى محل وجوب القصاص، وكان هذا قبل أن يعفو،
فإذا كان الواجب أحد الأمرين القصاص أو الدية؛ فات القصاص وبقيت الدية، فكان
المتعلَّق بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدٌ اثْنَيْنِ عَمْدًا، فَاتَّفَقَ
أَوْلِيَاؤُهُمَا عَلى قَتْلِهِ بِهِمَا، جَازَ)}.
هذا الذي قتل اثنين عمدًا هو جانٍ لأكثر من جناية، فاتَّفقَ أولياء الأوَّل وأولياء
الثاني على أن يُقتَل، فإذا قُتِلَ جازَ، وكانوا جميعًا قد استوفوا حقهم، وهذا ليس
محل البحث والإشكال لأنه واضح، لكن البحث في المسألة التي بعدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَشَاحُّوْا فِيْ اْلمُسْتَوْفِيْ، قُتِلَ
بِاْلأَوَّلِ، وَلِلثَّانِيْ الدِّيَةُ)}.
تشاحوا: يعني كلٌّ يريد أن يستوفي منه وأن يتشفَّى حتَّى يُقال: قتل فلانٌ بقتلِه
فلانٍ، حتَّى تبردَ نفسه ويجدَ أمام الناس رد اعتباره، ونحو ذلك مما يكون في
المجتمعات البسيطة والقَبَليَّة ونحوها.
فاذا تشاحُّوا؛ فيُستوفى من الأوَّل، لأنَّه هو الأحق بالاستيفاء، فإذا قتل بهذا
وأولياء الثاني لم يستوفوا فتجب لهم الدية.
وصورتها: لو كان أولياء الأول كلهم مُكلفون وطالبوا بالقصاص، وأولياء الثاني فيهم
صغير أو غائب، فقالوا لأولياء الأول: لا تستوفوا منه، حتى نستوفي نحن وأنتم سواء.
فقال أولياء الأول: ما ننتظر! هو قتل أبانا ولا زالت حرقة ذلط في نفوسنا، وقد
استجمعنا الشروط وهو مستحق للقتل، فسنقتله.
فنقول: نعم، لا يُنتَظر ويُقتَل، وأولياء الثاني إذا استجمعوا أمرهم يجب لهم ما
يليق بهم، فإذا كان ذلك قبل الاستيفاء وطلبوا الاستيفاء فيكون الاستيفاء عن الجميع،
وإذا ل يطلبوا الاستيفاء أو كان ذلك بعدَ قتله بالأوَّلِ؛ فإنَّهم يصيرون إلى
الدية، ولذلك قال المؤلف: (قُتِلَ بِاْلأَوَّلِ، وَلِلثَّانِيْ الدِّيَةُ)، فأولياء
الدم الثاني ليس لهم إلَّا الدية، لأن القتل قد فات عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ سَقَطَ قِصَاصُ اْلأَوَّلِ، فَلِأَوْلِيَاءِ
الثَّانِيْ اسْتِيْفَاؤُهُ)}.
إذا سقطَ قصاص الأوَّل بأي حالٍ من الأحوال، بأن يعفو واحد منهم، أو أن يرث الدَّمَ
ولده، أو أن يدخل بعض ورثته في الدم، فعند هذا سيُقتَل بالثَّاني، وبما قال بعضهم:
ما دام هو مقتول، سأعفو وآخذ الدية وآخذ الأجر من الله -جلَّ وَعَلَا- وهو مقتول
بالثَّاني!
فأولياء الأول سواء عفوا إلى الدية، أو عفوا إلى غير شيءٍ أو عفا بعضهم وبعضهم لم
يعفوا؛ فنقول: لا قتل في مثل هذه الحال، وينتقل إلى وجوب الدية أو عدم وجوبها، بحسب
عفو مَن عفا ومطالبةِ مَن طالبَ؛ فيُنتَقل إلى الثاني، فإن أرادوا استيفاء القصاص
اقتُصَّ منه، وإن عفا الأولياء أو عفا بعضهم إلى غير بدلٍ أو إلى الدِّيَة، أو عفا
بعضهم ولم يعفوا الآخرون فلم تجب إلَّا الدِّيَة لمن لم يعفُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسْتَوْفَى اْلقِصَاصُ بِالسَّيْفِ فِيْ العُنُقِ، وَلاَ
يُمَثَّلُ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا، فَيُفْعَلُ بِهِ مِثْلُهُ)}.
قوله: (وَيُسْتَوْفَى اْلقِصَاصُ بِالسَّيْفِ فِيْ العُنُقِ)، هذه المسألة ربما
أشرنا إليها في أوَّل الكلام على كتاب الجنايات.
بِمَ يكون الاستيفاء؟ هل يكون بالسَّيفِ في كلِّ الأحوال؟ أم أنَّه بمثل ما قتل به
القاتل؟
المشهور من المذهب عندَ الحنابلة -رَحِمَهُم الله تعالى: أن الاستيفاء يكون
بالسَّيف، واستدلوا بالحديث «لا قَوَدَ إلا بالسيفِ» ، وهذا الحديث وإن كان في
أسانيده مقالٌ لكنهم يقولون: إنَّه أسهل في الاستيفاء وأمنع من الاعتداء، وأقربُ
إلى الإراحة وعدم حصول الإشكال، ولأنَّه لا يُتصوَّر أنَّ كلَّ صفةٍ قَتَل بها
القاتل أن يُقتَل بها، فلأجل ذلك قالوا: إن القود لا يكون إلَّا بالسيف.
واستشكل بعض أهل العلم أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتل ذلك
اليهودي الذي قتل الجارية بحجرٍ؛ قتله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بينَ حجرين، وهذا شاملٌ لمعنى القصاص، فحقيقةُ القصاص أن يُقتَل القاتل، وتمامه أن
يُقتل بمثل ما قتل إذا أمكن ذلك، وبناء على ذلك قالوا: إنَّه يُقتل بما قتل به.
وقوله: ( وَلاَ يُمَثَّلُ بِهِ)، يعني لا تُقطَّعَ آذانه أو أنفه، ولا تُخرَج عينه.
وكأن المؤلف هنا لم ينحُ منحَى الحنابلة في مشهور المذهب، وإنَّما رواح بين
القولين، فلم يقل بالقتل بالمماثلةِ، ولم يقل بالاستيفاء بالسيف في كل حال؛ وأيًّا
كان فكأن المؤلف يقول: يستوفى بالقصاص إذا لم يُمكن أن يُقتَل بما قتلَ به، ولكن
يُجتَنبُ في ذلك التَّمثيل، فإذا آلَ إلى التَّمثيل فنرجع إلى السَّيف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلاِشْتِرَاكِ فِي اْلقَتْلِ)}.
الاشتراك في القتل من المسائل المهمَّة، وهي مسألةٌ عظيمَة، وذلك أن يشترك جماعةٌ
في قتل واحد، فهل يُقتلون بذلك؟ وهل يُقتل بذلك واحدٌ؟ أو يُقتَلُ جميعهم؟ أو لا
يُقتَلُ أحدٌ منهم البتَّة؟
في تصوُّر العقل أنَّ الواحد يُقتَل بالواحد، فكيف يُقتَل عشرة أو مائةٌ بواحد؟
فلأجل ذلك بحث الفقهاء هذا الباب، فقالوا: (باَبُ اْلاِشْتِرَاكِ فِي اْلقَتْلِ)،
هل يتعلق به حكم أن يُقتَلُ الجماعة بالواحد أو لا؟ وإذا كانت الجماعة تُقتَل
بالواحد فمتى يكون كذلك؟ وإذا كان فيه حال تُفرَقُ عن الحال الأخرَى فيُورَد محالُّ
التَّفصيل التي يُحكَمُ في بعضها بالجماعةِ وفي بعضها يُحكمُ بواحدٍ، وفي بعضها
يُقتَلُ اثنينِ بواحدٍ وثلاثةٌ لا يُقتَلون؟
فتفاصيل هذه المسائل وما يندرج تحتها من تفريعات مذكورةٌ في هذا الباب.
والأصل أنَّ الجماعة تُقتَل بالواحد، لأنَّنا لو قلنا أنَّ الجماعة لا تقتل بالواحد
لأفضى إلى أن ينفتح باب الشَّرِّ على الناس، فبدل أن يَقتل واحدٌ واحدًا فيُقتَل به
أن نجتمع فنقتل فلانًا فلا نُقتَلُ بذلك!
ولهذا جاء عن عمر وعن علي وعن غيرهم من الصَّحابة أنَّهم قالوا: تُقتَل الجماعة
بالواحد، وجاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أنه قال: "لَوْ تَمَالَأَ
عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا"، يعني: لو أنَّ أهل صنعاء كلهم
قتلوا شخصًا لقتلهم؛ وهذا فيه دلالة على منع هذا الباب، ودرءِ هذا الشَّرِّ، فلو
قلنا: إنَّ الجماعة لا تقتل بالواحد لاجتمع الناس على قتل مَن يُريدوا قتله فيذهب
دمه هدرًا ولا يُقتلون بذلك، فلئلَّا يفتح الناس هذا الباب ويتجرؤوا على هذا الأمر
كانت الجماعة تُقتَل بالواحد، وبهذا حكمَ الصحابة، وهو مقتضَى العدل وما جاءت به
عمومات النصوص من كتاب الله -جلَّ وَعَلَا- وسنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُقْتَلُ اْلجَمَاعَةُ بِاْلوَاحِدِ)}.
لِمَا ذكرنا من المعنى، ولِمَا ذكرنا من قول الصحابة، وهذا هو الحق والعدل، وهو
مشهور المذهب، وهو قول جماهير أهل العلم.
وقتل الجماعة بالواحد مشروطٌ بشرط: وهو أن تكون شراكة كل واحدٍ منهم لو انفردت لقتل
بها.
مثال: لو اجتمع ثلاثة، واحد منهم ضربه على رأسه، واثنان عرسا في بطنه سكِّينًا؛
فهذا الذي ضربه لو انفردَ لا يقتله، فهذا ليس بقاتل ولا يدخل في هذا الحكم، لكن
الذين غرسوا هذه السكين في بطنه لو انفرد كل واحد منهم لكان مما يقتل به ويموت به
ذلك الرجل، فيُقتلان به.
إذن المشروط في هذا: أن يكون عمل كل واحدٍ منهم لو انفردَ يكون محصِّلٌ للقتل
ومتحققة فيه شروط قتل العمد العدوان، فهذا ينبغي أن يُتنبَّه له.
يقول أهل العلم: ليس بلازم ذلك بحالٍ من الأحوالِ أن تتساوى أعمالهم من كلِّ جهةٍ،
لأنَّنا لا يُمكن أن نتصوَّر أن يتساوى عمل هذا وعمل هذا، وسيذكرون مسألة ما إذا
تمايزت الأعمال فتبيَّن أنَّه مات بهذا ولم يمت بهذا فإنه يُقتل به الذي أدَّى ما
يكون به قتله.
فلو أن ثلاثة طعنوه، فطعنه واحد في فخذه، وواحد طعنه في كتفه، وآخر طعنه في ظهره،
فبرئت جراحه التي في فخذه، فمعنى ذلك أنَّ الذي ضربه في فخذه لم يكن سببًا لموته في
الظاهر، وبناء على ذلك لا يُقتل بهذا، ويُقتل بذلك الآخران، وهكذا..
المقصود هنا: أن تُقتل الجماعة الذين فعلوا ما يكون به القتل والإماتة، فهذا هو
الذي يتعلق بهم حكم القصاص، ويدخلون في هذا الحكم على ما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم
اللهُ تعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ تَعَذَّرَ قَتْلُ أَحَدِهِمْ؛ لِأُبُوَّتِهِ، أَوْ
عَدَمِ مُكَافَأَةِ اْلقَتِيْلِ لَهُ، أَوِ اْلعَفْوِ عَنْهُ، قُتِلَ
شُرَكَاؤُهُ)}.
فهؤلاء الذين فعلوا ما يَقتل فاستحقوا القتل، لكن وُجد عند أحد منهم ما يمنع القتل
كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ تَعَذَّرَ قَتْلُ أَحَدِهِمْ؛
لِأُبُوَّتِهِ)، أحد الذين قتلوا أبا للمقتول.
قال: (أَوْ عَدَمِ مُكَافَأَةِ اْلقَتِيْلِ لَهُ)، كأن يكون كل الذين طعنوه عبيدٌ
مثله إلا واحد هو حر، والحر لا يُقتَل بالعبد في المشهور من المذهب وهو قول
الجمهور.
فنقول: لا يُقتل هذا الحر لا لأجل أنَّ الجماعة لا يُقتلون بالواحد، ولكن لأنَّ هذا
غير مكافئ له، فلو أنه منفردٌ بقتله لم يُقتل، فكذلك لو اشترك مع هؤلاء لم يُقتل،
وقُتل أولئك وتعلق بهذا جنايته المترتبة على ما يُفعل بنحو مَن فعل ذلك منهم.
قال: (أَوِ اْلعَفْوِ عَنْهُ، قُتِلَ شُرَكَاؤُهُ)، فلو جاء ثلاثة فقتلوه، كلهم
فاعلٌ ما يستحق القتل، وكلهم مكافئ له مستحقٌّ لذلك، لكن أولياء الدم قالوا: لا
نريد قتل فلان، له علينا دالَّة أو نعلم صدقه أو صلاح قلبه، أو لأنه حفظ القرآن؛
فال تقتلوه؛ فيُعفَى عنه ويسقط عنه حق القتل، ويكون القتل مستحقًّا للآخرين.
لعلنا نقف عند هذا الحد، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والإعانة والخير
والشاد، وأن يحملنا على كل برٍّ وتقوى، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهداة المهتدين،
والموفَّقينَ المتقين، إن ربنا جوادٌ كريم، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.