{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وفي مطلعِ هذه الدُّروس المباركة أرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم
بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا، أسأل الله لكم دوام التوفيق
والسَّداد.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ أَمَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَا، أَوِ امْرَأَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ ذ?لِكَ مُنْذُ
أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لاَ يُوْلَدُ لِمِثْلِهِ،
كَمَنْ لَهُ دُوْنَ عَشْرِ سِنِيْنَ، أَوِ اْلخَصِيِّ أَوِ الْمَجْبُوْبِ، لَمْ
يَلْحَقْهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله لي ولكم دوامَ التَّوفيقِ والسَّدادِ، والإعانة على الخير
والرَّشاد، وأن يُجنِّبنا الشَّر والبغيَ والظُّلمَ والضَّلالَ والفسادَ، إنَّ
ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
لا يزال الحديثُ موصولًا فيما كنَّا قد ابتدأناه في آخرِ المجلس الماضي، وهو الفصل
الذي عقده المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في لحاقِ النَّسبِ، وبينَ يدي
الكلامِ على هذه المسألة فإنَّا نقول: إنَّ الشَّرع متشوفٌ إلى ثباتِ الأنسابِ
وبقائها، ولذلك مرَّ بنا في اللقيط -وأشرنا إلى ذلك- أنَّه لو جاء شخصٌ فقال: هذا
ابني؛ فإنَّه يُنسَب إليه بشرطِهِ -كما مرَّ ذلك فيما مضى- لِعظَم مصلحة بقاءِ
الأنساب، حتى ولو كانَ المدَّعي لهذا النَّسبِ كافرًا، لكنَّه لا يوافَق أو يُقرُّ
على دين الكافر حتى يُقيم البيِّنة أنَّه ولده، ولكن من حيثُ الأصل لو قال "هذا
ولدي" فنكتب مثلًا "محمد بن جون"، لأن كونه "محمد بن جون" أحسن من كونه "محمدًا"
بلا شيء.
والكلام ليس فيمن يُولَد على الفراشِ، وإنَّما الكلام فيمَن يُلقى في العراءِ ولا
يُعرَف نسبه ولا أحد يعرفه، فإذا قال شخص "هذا ولدي" فنقبله، حتى ولو لم يكن بينهما
شبهٌ أو ظهور ما يدل على القرابة ونحوها والأبوَّة والبنوَّة لعظم ما يتعلق بهذه
المصلحة.
ومرَّ بنا أنَّ الولد للفراش على الإطلاق، متى ما كانت هذه فراشًا لهذا وأمكنَ كونه
منه فيُنسَب إليه الولد، ولذلك فإنَّ ابن عشر سنين حتى ولو لم يكن بالغًا فإنَّه
يُنسَب إليه الولد اعتبارًا بالحكم الظَّاهر، وتشوفًا من الشَّارع إلى حفظ الأنساب،
ولكن مع ذلك إذا لم يُمكن كونه منه فلا فائدة، ولا يُمكن أن نجعل شخصًا لآخر يُنسَب
إليه ونحن نقطع بعدمه.
ولأجل ذلك قال المؤلف: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ
أَمَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَ).
كأن تقول: وطئني في رمضان، ثمَّ ولدته في ذي الحجَّة وعاشَ الولدُ؛ فقطعًا يُعلَم
أنَّ هذا الولد لم ينشأ من ذلك الجماع والوطء، وإنَّما من جماعٍ سابقٍ؛ لأنَّه لا
يُمكن أن يعيشَ الولد في أقل من ستَّة أشهر، وبناءً على ذلك يُحكم بمثل هذا.
يقول المؤلف: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ أَمَتُهُ
لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَا، أَوِ امْرَأَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ
ذلِكَ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَ)، وهذا متصوَّر كثيرًا في الأزمنةِ
القديمةِ، فيقولون: لابدَّ أن يُتصوَّر الاجتماع، فلو كانَ شخصٌ معروفٌ أنَّه في
أقصى شرق الأرض -كما لو كان في استراليا- وزوُّج بالوكالةِ في الرياض أو في مكَّة،
ثم بعدَ ذلك ولدت المرأة بعدَ ثمانية أشهر، فكونها ولدت بعد العقد بثمانية أشهر يصح
أن يكونَ منه لو كان يُمكن أن يُتصوَّر أنَّه اجتمع بها، ولكن فيما مضى لا يُمكن أن
يُتصوَّر أنَّ شخصًا يأتي من استراليا إلى مكة في مدَّة قصيرة، بل لربما احتاج إلى
ستَّة أشهرٍ أو سبعة أو أكثر من ذلك، فعند هذا يقولون أن إمكان الاجتماع، وهذا من
القيود التي جرى فيها كلام كثير.
وفي مثل هذه الأوقات أيسر ما يكون الاجتماع، ويحصل خفيةً ونحو ذلك في ساعةٍ قليلةٍ،
فيُمكنُ عدم الاعتبار بهذا لإمكانِ الاجتماع بأيِّ حالٍ من الأحوالِ ولسهولةِ
التَّنقُّلات ولتجدُّد الطَّائرات ونحوها ممَّا يُسرَع به في الانتقال، ويُتغيَّر
به في الحال.
فبناءً على هذا نقول: إذا أمكنَ كونه منه وكانَ لستة أشهرٍ فالحمد لله، أما إذا كان
لأقل من ستَّة أشهر أو كانَ لأكثر مِن ستَّة أشهر لكن ما كان بينهما اجتماع؛ فبناء
على ذلك لا نحكم في مثل هذه الحال بأنَّ هذا الولد ولد فلان؛ لأنَّها وإن ولدته
لأكثر من ستَّة أشهر إلَّا أنَّه يُقطَع ويُتيَقَّن أنَّ فلانًا لم يُجامَع زوجته
لكونه مسجونًا، أو لكونه في مكانٍ بعيدٍ لم يخرج منه بحالٍ من الأحوال.
قال: (أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لاَ يُوْلَدُ لِمِثْلِهِ، كَمَنْ لَهُ دُوْنَ
عَشْرِ سِنِيْنَ)، يعني لو كان الزَّوج دون العشر سنين وادَّعى أنَّ هذا الولد ولده
فلا يُقبَل ذلك ولا يُمكن أن يُنسب إليه، أو ادَّعت المرأة أنَّ هذا أبًا للمولود،
فلا يُقبل لأنَّه لا يُتصوَّر أنَّ مَن دون العشر سنين يحصل منه الإنزال الذي تتكون
منه النُّطفة التي يكون منها الولد.
قال: (أَوِ اْلخَصِيِّ والْمَجْبُوْبِ، لَمْ يَلْحَقْهُ)، إذا كان خصيًّا ومجبوبًا،
أما إذا كان مجبوبًا وليس بخصيٍّ -أي مقطوع الذَّكر- فإنَّه يُمكن أن تتحرك شهوته
فتَقذف خصيتيه بالماء، لكن لو كان الأمران جميعًا بأن يكون خصيًّا ومجبوبًا فلا
يُتصوَّر في هذه الحال أن يكون قد أنزل، وبناء على ذلك لا يُحكَم بأنَّ هذا الولد
ولده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ ثُبُوْتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ
اْلقَائِفِ
وَإِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ بِشُبْهَةٍ، أَوْ وَطِئَ
الشَّرِيْكَانِ أَمَتَهَمَا فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، أَوِ ادَّعَى
نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ رَجُلاَنِ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَارَضَ
قَوْلُ اْلقَافَةِ، أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ،
فَيُلْحَقَ بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَ)}.
لو رأيتم تدرج الفقهاء -رحمهم الله- فهو تدرج بديع!
أولًا: ذكروا مسائل اللِّعان التي يُقطَع فيها بنفي النَّسب بالحالِ الخاصَّة
وبالشُّروط المعتبرة من تمام اللعان ونحو ذلك، إلى ما ذكرنا.
ثانيًا: ذكروا الأحكام التي يُحكَم فيها بالنَّسبِ وهو الفراش، وإن كان كونه منه
بأن يولَد لأكثر مِن ستَّة أشهر وأقل من أربع سنين، وأن يكونَ هو ممَّن يُولَد
لمثلهِ بأن يكونَ ابن عشر سنين، وليسَ فيه مانعٌ حسيٌّ يمنع ذلك كأن يكون مجبوبًا
وخصيًّا.
ثالثًا: انتقلَ إلى الأحوالِ التي يتردَّدُ فيها لحاقُ النَّسبِ بين جهتين، وهذه
الأحوال ليست مثل الحال الأولى التي فيها قذف وزنا ونحوه؛ ولكنها أحوال فيها
إعذارٌ، ومع ذلك يتوارد على المحلِّ جهتان مختلفتان في النَّسبِ.
قال المؤلف: (وَإِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ بِشُبْهَةٍ)،
إذا وطء رجلان امرأة واحدةً ظنَّ كل واحد أنَّها زوجته، كأن يتزوَّج واحدٌ امرأةً
ويُقال له هي في هذه الغرفة، فدخل فوجد هذه المرأة فوطئها وهو لم يعرف أنَّها زوجته
أو ليست بزوجته؛ لأنَّه لم يَرَهَا قبل ذلك.
ووطء الشُّبهةِ ليس فيه حدٌّ، ويُلحق فيه بالنَّسب ويجبُ عليها لأجله العدَّة.
والأصل لو أنَّ شخصًا وطء امرأةً بشبهةٍ فيكون الولد ولده، مثلًا: إذا جاء شخص من
سفر إلى بيته، ووجد امرأةً على فراشه في ظلمةِ الليل، فظنَّ أنَّ هذه امرأته، فقام
وجامعها وهي لم تشعر حتى جُومِعَت، فهذا الوطء وطء شبهة، وبناء على ذلك يلحق فيها
النَّسب ولا إشكال.
أمَّا لو وطئها اثنان كلاهما بشبهة، فلا ندري أولد هذا أم ولد ذاك؟!
فيقول المؤلف في هذه الحال: يكون المردُّ إلى القافة وهم الذين يحكمون، وسيأتي بيان
الأصل في الحكم بالقافة، ومعناه وما يترتَّب على ذلك.
قال: المؤلف: (أَوْ وَطِئَ الشَّرِيْكَانِ أَمَتَهَمَا فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ،
فَأَتَتْ بِوَلَدٍ).
إذا ملكَ الإنسان أمةً فإن له أن يطأها ويكون ولده منها ولدٌ له، لكن لو أنَّ شخصين
امتلكا أمةً واحدةً، فالأصل في هذا أنَّه لا يجوز لواحد منهما أن يستمتع بها حتى لو
قال أحدهما للآخر "استمتع بها وأنا لا حاجة لي فيها"، فنقول: لم يتمحَّض مِلكُ
أحدِهما عليها حتى يجوز له الاستمتاع بها، ولا يجوز لهما جميعًا أن يستمتعا بها
لأجل ذلك، وهذا محل إجماع واتِّفاق بين أهل العلم.
ولكن لو افترضنا أنَّهما فيهما شيءٌ من الجهالة، يظنُّان أنَّ مُجرَّد المِلك يجوز
لهما الاستمتاع، فوطء هذا ووطء هذا ثم حملت، فلم ندرِ ولد مَن منهما!
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يُعرض على القافة.
ويذكر أهل العلم أنَّ الشُّبهة:
- إما أن تكون في العقد: كأن ظنَّه عقدًا وهو ليس بعقد.
- أو شبهة في العين: كأن يُقال له: "هذه زوجتك" فدخل على أنها زوجته، ثم تبيَّن
أنَّها ليست زوجته، وهو يعلم هذه المرأة التي دخل عليها ولكنه لم يظن أنَّها ليست
زوجة له، ويُذكر أن زوجين أخوين تزوَّجا أختين، فدخل كل واحد منهما على زوجة أخيه
ووطئها، ولم يدرِ أحد! فهي شبهة في عينها لكن ليس في الحال.
- أو شُبهة في الحال: كأن يدخل على امرأة يظنها زوجته فيُجامعها.
وهذا له كلام طويل قد يُشكل على الإخوة.
إذن؛ الحال الثانية: أن يطأ رجلان أمةً ملكاها يظنَّان أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما أن
يطأها.
قال: المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوِ ادَّعَى نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ
رَجُلاَنِ).
قلنا قبل قليل أنَّه لو طلبه شخصٌ واحدٌ وقال "هذا ولدي" وأمكن كونه منه وهو مجهول
النَّسب ولم يكن له معارض فيُقبَل، أمَّا لو كان أكثر من واحد فلا، ولذلك يذكر
الفقهاء مسألة لطيفة هنا، يقولون: حتى لو كان هذا الولد ميِّت وقال "هذا ولدي" وهو
يقصد أن ينتفع به من إرثه، فالمصلحة لهذا الميت في أن يُحفَظ نسبه أكثر من المصلحة
التي يحصل بها هذا الشخص على إرثه، وإن كانت هذه المسألة فيها خلاف.
قول المؤلف: (أَوِ ادَّعَى نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ رَجُلاَنِ)، أي: إذا
ادَّعاه رجلان وانطبقت عليه الشُّروط، ولم يكن أحد منهما غير ممكنٍ كونه منه، وهذا
مجهول النَّسب؛ فيُقال: أُرِيَ القافة.
القافة: هم قومٌ يعرفون الأنساب بالشَّبهِ، فإذا رأوا هذا الشَّخص قالوا "هذا ابن
فلان"، وبعضهم يعرفها مِن النَّظر إلى قدمه حتى ولو لم يرى وجهه، فيقول "هذه قدمٌ
هي قدمٌ لذاك"، ولذلك لمَّا كان النَّاس يتحدَّثون في أسامة بن زيد ووالده زيد بن
حارثة لاختلاف لونهما، فجاء مجزَّز المدلجي وهما مغطَّيان وجههما ورأى أرجلهما وهي
متباينة، فقال: "إن هذه الأرجل لمن بعض"، فاستبشر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ودخل على عائشة متهلل أسارير وجهه، وقال: «فَقَالَ أَلَمْ تَرَيْ إِلَى
مُجَزِّزٍ» ، فهذا يدفع الشُّبهةَ التي تؤذي أسامة بن زيد وهو حبُّ رسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن حبِّه.
إذن هؤلاء القافة يعرفون؛ بل بعضهم يعرف حتى بأثرِ الخُطوات في الأرضِ، فيقول: هذه
الخطوة من آل فلان، أو لفلان بن فلان؛ لشدَّة حذقهم ومعرفتهم، وهذه من علوم
الفَراسة التي تكلَّم عنها ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وتكلَّم عنها غيره،
وهي معروفةٌ وموجودةٌ إلى الآن، تتنوَّع أحوالها في أحوال الناس، لكنَّها موجودة
معلومة، وليست في عائلة محدَّدة كقول بعضهم أنَّهم من بني مُرَّةٍ أو غيره؛ بل تكون
فيهم وتكون في غيرهم، وهذا أمر معلوم.
ويقول العلماء: إذا أراد أن يُعرَض على القافة فيُختبَر القافة، فيؤتى أوَّل شيء
بهذا الولد وأحد ممَّن لا يدَّعيه، فإن ألحقوه بواحدٍ منهم دلَّ على أنَّهم لا
يعرفون، وإذا لم يُلحقوه بواحدٍ منهم أُتيَ بمجموعةٍ وفيهم مَن ادَّعاه -إذا كان
المدَّعين اثنان أو أكثر- فيلحق بمن ألحقوه به.
قالوا: أُرِيَ القافة معهما أو مع أقاربهما.
قال المؤلف: (فَيُلْحَقَ بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَ)، وهذا راجعٌ إلى ما
ذكرناه سابقًا، وهي أنَّ الأمر دائرٌ بين أمرين:
- إمَّا ضياع النَّسب.
- وإمَّا الحكم بهذا الظَّن، فهو ظنٌّ صحيحٌ وليس بقاطعٍ، ومع ذلك لمَّا كان هذا
الظَّن راجحًا وجُرِّبَت عليهم الإصابة، وعلم منهم الحذق، ولا يُتَّهمون في ينهم؛
فيُحفظ النسب بناء على ذلك الظَّن خيرٌ من أن يضيع نسبهم ويبقوا بلا نسبٍ في
النَّاس.
يقول الفقهاء: (وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُ اْلقَائِفِ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ عَدْلًا،
ذَكَرًا، مُجَرَّبًا فِي اْلإِصَابَةِ)؛ فإذا كان الأمر كذلك فإنَّه يُحكَم بقوله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإنْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا لَحِقَ بِهِمَ)}.
يعني: ألحقوه بأكثر من واحد، فيُلحق بهم، فقد جاء في عهد الصَّحابة وحكموا بذلك،
لما ألحلق القافة في عهد عمر شخصًا مجهول النسب برجلين لحق بهما، فيقولون: هذا ابن
فلانٍ وفلانٍ، لِمَا ذكرنا أنَّه من أن يُنسَب إلى شخصين خيرٌ من أن يضيعَ نسبه،
وهذا مأخوذ من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ،
فيقولون: إنَّ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الماءين يُمكن أن يحدث منهما نطفةٌ واحدة،
فلمَّا كان كذلك يُمكن إثبات اللحاق بهما على هذه الحال، وهذه لأهل العلم فيها
كلام.
إذا ألحق القافةُ مجهولَ النَّسبِ برجلين فيُلحَق بهما معًا.
وهذه المسألة تجرُّ إلى مسألة نازلة: وهي مسألة (DNA) أو الحمض النَّووي، أو
الفحوصات الحديثة سواء من هذه أو غيرها، ولا شكَّ أنَّ هذه الفحوصات ممَّا يُستهدَى
بها، وهي قرينة للحكمِ بذلك، فإذا دلَّت مثل هذه الأمور على أنَّه لفلانٍ أو
لفلانٍ؛ فتكون قرينة للحكم بذلك؛ لأنَّ الإصابة فيها كالإصابة في القافةِ وأظهر.
وهم في العلم الحديث يقولون: إنَّ هذه الفحوصات لا يُمكن أن تُخطئ!
وثبوت عدم خطئها إنَّما هو قولٌ، فيُمكن في وقتٍ لاحقٍ يثبت في ذلك خطأ، وحتى مع غض
النَّظر عن كونهم يُخطؤون أو لا يُخطؤون؛ ولكن ما دام أنَّ الإصابةَ فيها ظاهرة فلا
أقلَّ مِن أن يحكَم بها كالحكم بالقافةِ ويُعتبر ذلك، ولأجلِ هذا لازال القضاة
ونحوهم يستعينون بها ويعتبرونها، ويُحيلون مواطن إلى مثل هذه الفحوصات ليستهدوا
بإشارتها إلى مَن يكون أبًا لذلك المجهول للنسب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَارَضَ قَوْلُ
اْلقَافَةِ، أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيُلْحَقَ
بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَ)}.
إن قال القافة "لا نعرفه"، وعُرض على قائف واثنين وثلاثة، ففي مثل هذه الحال لا
يُمكن أن يُنسَب إلى شخصٍ بعينه.
أو تعارض القافة، كأن يقول واحد هذا، وواحد يقول هذا.
ففي الأمر الأوَّل: اثنان من القافة كلٌّ قال هذا ابن فلان وفلان؛ فهذ حكم مرَّ
بنا.
أمَّا الأمر الثاني: تعارض القافة، هذا يقول هو ابن زيد، والآخر يقول هو ابن علي؛
فلا يُمكن أن نحكم لواحد منهما، لأنَّ قول كل واحدٍ منهما يُكذِّب الآخر.
قال: (أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ)، كما هو كثير في بعض البلدان، حتى ولو كان عندهم
من قد يعرف الأشباه والأنساب، لكنه لا يستطيع أن يحذق في هذا وتكثر إصابته ويقل
خطأه؛ فبناء على ذلك نقول: ما دام أنَّه لم يأتِ قائف يُلحقه بشخص والمدَّعون لنسبه
أكثر من واحد؛ فلا يُمكن أن نعتبر قول أحدهما ونُلغي الآخر، ولا يُمكن أن نلحقه
بهما جميعًا، فقولهما متعارض من حيث الأصل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُ اْلقَائِفِ إِلاَّ أَنْ
يَكُوْنَ عَدْلًا، ذَكَرًا، مُجَرَّبًا فِي اْلإِصَابَةِ)}.
أن يكون عدلًا: هذا ظاهر؛ لأن الفاسق لا يُؤمَن في خبره، ويُمكن أن لبَّسَ، ويُمكن
أن يكون قد دُفِعَ له مال حتى يقول هو ابن فلان، ويُمكن أن يكون أراد أن يتشفَّى من
شخصٍ ويمنعه ولده فيقول: هو ابن فلان الآخر، فغيرُ العدل لا يُمكن أن يوثَق به،
وبناء على ذلك لابدَّ أن يكون القائف عدلًا.
أن يكون مجرَّبًا في الإصابة: لأنَّ غير المجرَّب في الإصابة فلا يُمكن أن يُعتبر
بقوله خاصَّةً أنَّ هذه مِن الأمور الخفيَّة جدًّا، فإذا لم تُعرف إجادته ولم وحذقه
وإصابته فلا يعتبر.
أن يكون ذكرًا: لأنَّه نوعُ حكمٍ، والحكمُ للذكور؛ لأنَّ هذا هو الذي جاء به
النَّص، والأصل هو البقاء على مورد النَّص حتى يدل دليل على العموم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلحَضَانَةِ)}.
باب الحضانة من أهمِّ الأبواب وأعظمها، لأنَّ الشَّريعة جاءت بحفظِ الأُسَرِ
والصِّغار والبيوتات وقيامها، والإحسان إلى الصَّغير، والقيام بالمعتوه، والعناية
بالجواري، وعدم التَّضييع لهم، ولذلك جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ، فلأجل ذلك
كان هذا الباب.
ودلَّت على هذا الباب أدلَّة، وكثُرَت فيه النُّصوص في اعتباره وتعظيمه، وعِظَم ما
يتعلَّق به، «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ
يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .
فالحضانة من أعظم ما يجب على الأولياء، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟:
قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»،
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثم أدناك أدناك» ،
فوجود الوشيجة والقرابة والتَّعلُّق والقيام بالحقوق من الابن لأبيه ومن القريب
لقريبه هذا أمرٌ جاءت به الشَّريعة ودلَّت عليه النُّصوص، وقامت على ذلك كثير من
الأحكام، كالعصبة وما يتعلَّق بها، والولاية وغيرها.
وكلُّ هذا يدلُّ على هذا الأصل، وهذا مما تميَّزَت به الشَّريعة، وعظُمَ بين
الشَّرائع منزلتها وأثرها، والعلة معروفة النَّاس وما لهم وما عليهم فيها؛ فكان ذلك
من أعظم ما يدلُّ على شمول هذه الشَّريعة وخصوصيتها ومزيَّتها على ما سواها.
ولمَّا كانَ هذا الصَّغير أو هذا المعتوه أو هذه الجارية التي لا تحسن القيام على
نفسها، ويُمكن أن يلحق الصَّغير في تلك الحالِ من الضَّررِ في بدنِهِ وفي أمورهِ
وفي خُلُقهِ وأدبهِ؛ استدعى أن تكون الحضانة مِن أعظم الواجبات التي يجب القيام بها
وأداء حقها.
والحضانة من حيث هي: واجبة، ولا يجوز لمن له الحضانة أن يضيعها، وثَـمَّ ترتيبٌ في
الأحقِّ بها، فبناء على ذلك إذا وُجدَ مَن يقومُ على المحضون مِن قريبٍ أو بعيدٍ
تحصَّل المقصود والحمد لله، لكن لو آل الأمر إلى أنَّ هذا المحضون لا أحدَ يقوم
عليه؛ فهنا يكون عليهم الإثم كل بحسبه، والأقرب فالأقرب.
ومِن جهة أخرى: لو تزاحم الناس في الحضانة كلٌّ يريدها فـثَمَّ تقديمٌ وتأخيرٌ،
فالأقرب أحق، والأبعد متأخِّرٌ عن ذلك أو محقوق، وبناء على ذلك جاء اعتبار الحضانة
من حيث الأصل وجاء اعتبار الأحق بها في هذا الباب.
وتدلُّ الأدلَّة على الحضانة، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ﴾، فأمر ببذل المال لهذا
الرَّضيع، لأنَّ هذا نوعٌ من الحضانة والقيام عليه، وفي ذلك أدلَّةٌ كثيرةٌ.
ومن السُّنَّة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم
تَنْكِحِي» ، وقضاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتلك المرأة التي
تداعت مع زوجها في الولد المحضون، لما قالت: "إنَّ بطني كان له وعاء، وثدي كان له
سقاء، وحجري كان له حواء"، إلى أن قال لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي»، وقضى بالحضانة لها.
والحضانة -والحمد لله- هي مستقرَّة ومستمرَّة في الزَّوجين إذا قامَ بيتُ
الزَّوجيَّة واستقام؛ لكن أكثر ما يكون تجاذبًا إذا حصل الطَّلاق ووقع الفراق، أو
قاربَ ذلك بأن حصلَ انفصالٌ وتباعدٌ بينهما فيتجاذبان الأولاد، وليس الأمر في
تجاذبهما للأولاد وطلب كل واحدٍ منهما الحضانة، ولكن الأشدَّ في ذلك أن يكون طلب
الحضانة لا للقيام عليها أو لأداء حقِّها، وإنَّما التَّشفِّي في الآخر في إبعاد
ولده عنه، فالمرأة تُطالب بالأولاد ليس لأنَّها حريصةٌ على القيامِ بهم، وإنَّما
حتى تؤلم قلبَ زوجها في بُعد ولدِه عنه، والعكسُ بالعكسِ -وهو الغالب- أنَّ بعض
الآباء إذا كره الزوجة سواء طلَّقها أو باعدَها؛ فإنَّه لا يزال يأخذ الولاد
ويُبعدهم عن أمِّهم حتى يقطعَ قلبها حسرةً وألمًا، خاصَّة إذا كانت قد طلبت الفراق،
أو دعت إلى الخلع أو نحو ذلك.
وحتى بعد الحكم بالحضانة لواحدٍ مِن الزَّوجين؛ فإنَّ هذا الحكم لا يمنع حقَّ الآخر
في ولده، وأن يُحال بينه وبينه، أو أن تُدعَى إلى سوء المعاشرة، وسوء البر، فتقول:
أبوك فيه كذا وكذا...، حتى تبعده، أو تمنعه من الزيارة.
وكذلك لو حصل هذا من الأب لابنه أو بنته؛ فإنَّ هذا أعظم ما يكون به الإثم والعدوان
والأذية للأولاد والإفك والظُّلم، ويوشك مَن فعل ذلك أن يلحقه وبالٌ شديدٌ في
الدنيا والآخرة، وهو داخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى
بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»، وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ
يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ
لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
أي شيءٍ أعظم من أن يمنع الوالد ولده من أمِّه! أو تمنع الوالدة الولد من أبيه!
إذن؛ نحن حينما نتكلَّم عن الأولى بالحضانة والأحق بالقيام بالمحضون والعنايةِ به
والرِّعاية له وتأديبهِ وتأهيلهِ حتى يكبرَ وينكحَ ويعملَ، وتُنكَح المرأة وتستقر
ويصلح حالها وتكتفي بنفسها، وليسَ المقصودُ بذلك أن يكون مَيدانًا للصِّراعِ أو
حَلبةً للتَّشفِّي والانتقامِ، فإنَّ هذا مِن أعظم ما يكون.
وأمور الحضانة لا تخلو مِن إشكالٍ في الأحقِّ بها، ولذلك فإنَّ القضاة يحكمون
بعلاماتٍ ودلالاتٍ ظاهرةٍ ولكنَّها ليست قاطعة، فلابدَّ أن يجتهد كلُّ واحدٍ من
الأبوين في دعوى الحضانة إليه ما دامَ له وجهٌ في الاستحقاقِ، فإذا فاتت عليه
فينبغي له أن يُعينَ الحاضِنَ على حضانته وأن يقومَ معه، وأن يؤدِّيَ ما يستطيع أن
يؤدِّيَه عن بُعدٍ، وأن يُكمِّلَ له ذلك، وأن إذا وفدَ إليه ألَّا يحول بينه وبين
حضانته أو ألَّا يفسدها عليهم، أو ألَّا يُداخل عليهم بسوءٍ أو بشرٍّ، وأن يرضى
بحكمِ الله -عزَّ وجلَّ- وحكمِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما تفرَّع
عن ذلك من قضاء القاضي بهذا أو ذاك.
وهذه أمورٌ أوليَّة ظاهرةٌ وبيِّنةٌ؛ فيجب علينا أن نرعَاها وأن نخافها، ومَن وليَ
من الحضانةِ شيئًا فليعلم أنَّه مسؤول أمام الله -جلَّ وعَلَا- فلا يفرِّط فيها،
ولا يتقاصر عن أدائها والقيام بحقِّها.
أيضًا تجاذب الأولياء للمحضونين فيه محل تردُّدٍ، وهي من المسائل التي يكون فيها
إشكالٌ كبيرٌ، والقاضي إنَّما يجتهد، فمن المسائل ما هو ظاهرٌ وبيِّنٌ، ومنها ما هو
خفيٌّ، فيبذلَ في ذلك وُسعَه، ويستنفذَ في ذلك طاقته، ولذلك لما سُئل الشَّيخ عبد
العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في بعض تفاصيل مسائل الحضانة توقَّف
قليلًا وقال: "تحتاج إلى بحثٍ، أعان الله القضاة، أعان الله القضاة"، وكان ذلك حال
القراءة فيما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن أحكام الحضانة والأولى
بها، وقد ذكرَ في هذا تحقيقًا لطيفًا وجميلًا في المجلد الرَّابع من "زاد المعاد"
لمن أراد الرُّجوع إليه، وإن كان ما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-
ربَّما يُخالِفُ ما ذكره كثيرٌ مِن الفقهاء، لكن المعنى الذي أخذه واعتمدَ عليه في
تقديمِ وتأخيرِ الحاضنِ معنًى دقيقًا وله وجهٌ وجيهٌ، ولذلك ربَّما أخذَ به بعضُ
المتأخِّرين كالشَّيخ ابن السَّعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجمع من أهل العلم.
إذن؛ هذه المسائل مسائل اجتهاديَّة، فإذا فاتَ على الإنسان شيءٌ من ذلك فينبغي له
أن يرضى بقضاء الله -جل وعلا- وحكم القاضي، وأن يبذل ما يستطيع أن يبذله في حال
بعدهم كما لو كان يحرص على البذلِ لهم في حال قربهم، والله -جل وعلا- يوفِّق لذلك
مَن شاء من عباده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَحَقُّ النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ أُمُّهُ،
ثُمَّ أُمُّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ، ثُمَّ اْلأَبُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)}.
قلنا: إنَّ الحضانة واجبة من حيثُ هي، ثم إنَّ المؤلف أراد أن ينتقل إلى مسألة
الأحق فيما لو تنازع الأقارب في الحضانة، فالأولى به أمُّه؛ لأنَّ الأم أكثر شفقةً
ورعايةً وحنانًا وبذلًا وتحمُّلًا، وهذا لا أحدَ يشكُّ فيهِ، ولذلك لمَّا تنازعوا
في ابنة حمزة، قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَالَةُ
بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» ، يعني أنَّ الأم أصلٌ في حضانةِ المحضونِ والقيامِ عليه.
قال المؤلف: (أُمُّهُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ)؛ لأنَّ الأمَّهات وإن
عَلَوْنَ مِن جهة الأبِ أو من جهة الأم فيهنَّ من الحنوِّ والشَّفقةِ ما فيهنَّ،
وبناءً على ذلك يُقدَّمنَ على مَن سواهنَّ.
أيُّهما يُقدَّم؛ أمُّهات الأم أو أمَّهات الأب، القربى من هذه أو البُعدَى من هذه؟
هذه مسألةٌ فيها شيءٌ من الإشكال، يعني لو كانت أمُّ أم الأم، وأم أب، فأم الأب
أقرب، لكن أم أم الأم من جهة الأم؛ فهل هذه أشفق فتكون مقدَّمة أو لا؟
فيها كلام -كما قلتُ لكم- وابن القيِّمِ عرضَ لها بنحوِ ما عرضَ، والفقهاءُ يرونَ
أنَّ الأمومة أولى، فتُقدَّم حتى وإن بعُدَت، ثم انتقلوا إلى أم الأب.
وعلى كلِّ حالٍ؛ هذه تفاصيل قد لا نأتي على تحقيق القول فيها؛ لأنَّها في الغالب
ليست إلينا، وإنَّما إلى القضاة، لكن طالب العلم في مثل هذه المسائل حريٌّ به أن
يعرف أصل هذا الباب، أمَّا تفاصيل المسائل إذا احتاج إلى الفصل فيها والبدء يُمكن
أن يزداد في ذلك بحثًا، وأن ينظر في ذلك تحقيقًا فيصل إلى المراد.
قال: (ثُمَّ اْلأَبُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، فالأب أيضًا له من كمال الشَّفقة، ولذلك
لمَّا طالب الأب بولده لم يقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لا حضانة
لك"، وإنَّما قال: «أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي»، فدلَّ على أنَّ للأبِ
حقٌّ وحضانة في ولده، وليس غير الأب بأكثر شفقة من الأب، فبناء على ذلك كان
مقدَّمًا على مَن سواه.
قال: (ثُمَّ اْلجَدُّ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، لأنَّ الجدَّ أب، وهذا هو الذي ذكرتُ
لك، ولذلك قال: (ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، يعني أم الأب وأم الجد لا يُقدَّمن على
أمِّهات الأم، لأنَّ أمَّهات الأم وإن كانت بعيدة، فأم أم أم أم مقدَّمة على أمِّ
الأبِ، وأمُّ أم الأبِ مقدَّمة على أمِّ الجد، وأم أم أم الأب مقدَّمة على أمِّ
الجدِّ، وهكذا..
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اْلأُخْتُ مِنَ اْلأَبَوَيْنِ، ثُمَّ
اْلأُخْتُ مِنَ اْلأَبِ، ثُمَّ اْلأُخْتُ مِنَ اْلأُمِّ).
الأخوات في درجةٍ واحدةٍ، فيُنظَر أيُّهن أقوى، فلمَّا كانت الشَّقيقة مدليةٌ
بقرابتين فهي أولى، ثم الأخت لأب، ثم الأخت لأم.
هل تُقدَّم الأخت لأم باعتبار أنَّ الأمومة مقدَّمة؟
هذا قول لبعضهم، ولكن هنا المؤلف مشى على أنَّ الأخت لأب أولى بالعصبة، فهي أولى في
الولاية.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْخَالَةُ ثُمَّ اْلعَمَّةُ).
الخالة مقدَّمة في المذهب، للحديث «الخالة كالأم».
وجاء في الحاشية: (ثم الخالة ثم العمَّة.
قال الشَّارح: وعلى الرِّواية التي تقول بتقديم أم الأب على أم الأم ينبغي أن
تقدَّم العمَّات على الخالات، لأنَّهنَّ يُدلينَ بالأب وهو عصبة، فهنَّ أولى من
الخالات، واختار شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تقديم أم الأب على أم الأم
-كما هو في مجموع الفتاوى).
هنا مَن قدَّم أم الأب على أم أم الأم يقول إنَّ العمَّة مقدَّمَةٌ على الخالة،
لأنَّهنَّ يجتمعنَ في الأنوثة وهي أقرب في القرابة، ولكن مَن يرى أنَّ الأمومَة
مقدَّمةٌ على الأبوَّةِ، فالخالةُ في إدلائها بالأمومة أكثر من إدلاء العامَّة،
وبناء على ذلك يحصل الفرق.
والأصلُ في المذهبِ أنَّ الخالةَ مُقدَّمةٌ على العمَّة، وخالفَ ابن تيمية فقال:
"العمَّة والخالة كلاهما إناثٌ فيستوين في الشَّفقة، وهذه مدليةٌ بالأبِ، والأبُ
أقربُ فتُقدَّم العمَّة على الخالة"، على ما ذكرتُ لكَ ممَّا ذكر ابنُ القيم
مفصَّلًا في مأخذهم في هذه المسألة.
قال المؤلف: (ثُمَّ عَصَابَتُهُ اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ)، أي: الأقرب من
الأقارب، وكلٌّ بحسبِ إدلائه، فمن كان أقربَ فهو مقدَّمٌ على مَن كان أبعد، فمثلًا:
العم مقدَّمٌ على ابن العم، وابن الأخ مقدَّمٌ على العم، وهكذا في الولاية
والشَّفقة والحضانة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ حَضَانَةَ لِرَقِيْقٍ، وَلاَ فَاسِقٍ، وَلاَ
امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ لأَجْنَبِيٍّ مِنَ الطِّفْلِ).
قوله: (وَلاَ حَضَانَةَ لِرَقِيْقٍ)، لأنَّ الرقيق مملوك، ومنافعه لسيِّده ومشغولٌ
بخدمته، فلا يتأتَّى منه القيام بالحضانة وأداء حقِّها، فلأجل ذلك لا حقَّ له فيها.
قال: (وَلاَ فَاسِقٍ)، فإنَّ المقصود من الحضانة هو القيام على الصَّغير، وقيل هي:
حفظُ صغيرٍ ومعتوه، وتأهيله وتأديبه، والقيام عليه بما ينفعه.
والفاسق لا يؤمَن أن يُخلِّي بينهم وبين الشُّرورِ والمنكرات، وربما يتجرَّأ في بعض
الأفاعيل أو نحوها، فلا يُوثَق به ولا ولايةَ له.
فلو كانَ أحدُ الأبوين فاسقًا فلا ولايةَ له، حتى لو كانَ أبًا أقرب من غيره،
فنسلِّم هذا المحضون إلى عمِّه أو خالتهِ وتُرفَع ولايةُ أبيه لكونه فاسقًا.
قال: (وَلاَ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ لأَجْنَبِيٍّ مِنَ الطِّفْلِ)، إذا كانت المرأة
مزوَّجة فهي مشغولةٌ بزوجها، ومحبوسة منافعها لزوجها، وبناء على ذلك لا يُمكن أن
تقوم على هذا المحضون، فيفوت حقه في التَّربية والعناية.
قالوا: لو كان غير أجنبي من الطفل، كأن يكون عم الطفل ونحوه فهو له ولاية، فسيجتمع
في هذا أنَّهما لهما على هذا الولد ولاية ولهما حقٌّ في الحضانة، فيكون ذلك داعيًا
كما قُضيَ لتلك البنت لجعفر لكونه عصبةً لها، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «الخالة بمنزلة الأم»، وحكم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
للخالة مع كونها مزوَّجة، ولكن كانَ الزَّوجُ عصبةً، فجاز في مثل هذه الحال ألا
يكون مانعًا من الحضانة والولاية.
قال: (فَإِنْ زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنْهُمْ، عَادَ حَقُّهُمْ مِنَ الْحَضَانَةِ).
يعني لو أنَّ الرَّقيقَ عتقَ، ثم طالبَ بحقِّهِ في هذا المحضونِ وكانَ مُقدَّمًا
على غيره فيَقضِي له القاضي بذاك، لأنَّ المانع الذي حالَ بينه وبينَ الحضانة قد
زالَ.
ومثل ذلك الفاسق، فلو أنَّه كان فاسقًا أو عربيدًا أو ضالًّا أو غير ذلك، ثم عرَضَ
له بعدَ ذلك من الصَّلاحِ والتَّوبةِ والرُّجوعِ إلى الله -جلَّ وعلا- وظهرَ صلاحُه
وقيامه بحق الله -جل وعلا- وطالب بحقِّه في الحضانة ونحوها؛ فيُطلَب في ذلك له الحق
ويُقدَّم على غيره.
وإذا طُلِّقَت المرأة المزوَّجة فإنَّ حقها في الولاية قد عادَ، وبناء على ذلك إذا
ارتفعت إلى القاضي حكم القاضي بعود الولاية إلى المرأة في الأحوال التي تُقدَّم فيه
على الأب.
لعلَّنا نكتفي بهذا القدر -أيُّها الإخوة- أسألُ الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد،
وأسألُ الله أن يفتح أبواب العلم لنا، وأن يوفقنا لتحصيله، وأن يجعلنا من أهله، وأن
يقضي عنَّا، ويغفر لنا، ويتمَّ علينا النِّعمَةَ، ويُفيضَ علينا مِن الرحمةِ، إنَّ
ربَّنا جوادٌ كريمٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الله بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.