{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك وبالإخوة المشاهدين والمشاهدات، وطلبة العلم، أسأل الله أن
ينفعنا جميعًا.
{نشرع من قول ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ تَأَوَّلَ فِيْ يَمِيْنِهِ،فَلَهُ
تَأْوِيْلُهُ،إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ ظَالِمًا، فَلاَ يَنْفَعُهُ
تَأْوِيْلُهُ؛لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِيْنُكَ عَلَى مَا
يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يشرح صدرونا بالعلم، وأن يوفِّقنا
لتحصيله، وأن يجعلنا من أهله، وأن يرفع به منارنا، وأن يرفع بنا منار العلم، وأن
يُبقينا فيه على خيرٍ وهُدَى، وأن يُميتنا على السُّنَّة والتُّقَى إنَّ ربَّنا
جوادٌ كريمٌ.
كنَّا في المجلس الماضي قد استهللنا ما يتعلق بأوَّلِ الكلام على كتاب الأيمان،
وذكرنا جملةً من المسائل المتعلِّقة بابتداء اليمين، وحكم ذلك، والفرق بينَ اليمين
الغموس وغير الغموس، وما يتعلَّق به من الكفَّارة، وما لا كفَّارة فيه، وما هو من
لغو اليمين الذي لا يترتَّبُ عليه شيء، وما يُؤمَر به الإنسان من استحضار المشيئة
في لفظه، فإنَّها حمايةٌ وحصنٌ ليمينه، لئلَّا تلحقه الكفَّارة، ولكي يصلَ إلى
مُرادِه كما جاء في حديث البخاري ومسلم المتقدِّم معنا لمَّا قال النَّبي في قصَّة
سليمان: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي
حَاجَتِهِ» ، إلى أن انتهى الحديث إلى هذه المسألة، وهي من المسائل المهمَّة، قال
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ تَأَوَّلَ فِيْ يَمِيْنِهِ).
التَّأويل: هو صرفُ الشَّيءِ عن ظاهرهِ إلى معنًى يحتفُّ به، قد يكونُ ظاهرًا وقد
يكونُ خفيًّا، مع أنَّ الظَّاهر خلاف ذلك.
فإرادة التَّأويل في الحديثِ ينبثقُ منها مسألة التَّأويل في اليمين.
والصِّدق: أن يقول الإنسان شيئًا موافقًا للواقع.
والكذب: أن يقول الإنسان شيئًا مخالفًا للواقع.
التَّأويل: أن يُظهِرَ في لفظه أنه يقصدُ شيئًا، ولكنه يقصد شيئًا آخر.
مثال: لو قال قائل: "ما لك عليَّ شيء" فــ "ما" نافية، ويكون المعنى: ليس لك عليَّ
شيء.
لكن "ما" تستعمل موصولة، فإذا كان المتكلم يقصد "ما لك عليَّ شيء" يعني: الذي عليَّ
لك شيء. وقد يقصد المعنى الثاني ويفهم المخاطب أنَّه قصَدَ الأوَّل؛ فبذلك يكون
الإنسان قد تأوَّلَ.
ما حكم التّأَوُّل؟
الكلام على التَّأوُّل في اليمين أخص، وفيها أحوال، فيقول أهل العلم:
الحال الأولى: إن كان الإنسان مظلومًا فلا شكَّ أنَّ التَّأويل نافع له وله مندوحةٌ
فيه، ولا غضاضةَ عليه في ذلك؛ بل أجازَ بعضُ اهل العلم الكذب الصَّريح في مثل هذه
الأحوال، وهذه مسألة ثانية ليست محل بحثنا، لكن التَّأويل هنا صحيحٌ، ولا غضاضةَ
على مَن فعلَه وقصَدَه.
الحال الثانية: أن يكونَ ظالمًا، فإذا كان ظالمًا وتأوَّل لتسويغ ظلمه أو تفويت
الحق الذي وجبَ عليه؛ فلا ينفعه ذلك، كما أن يكون لك عليَّ شيء وأقول: "ما لك عليَّ
شيء، والله ما لك عليَّ شيء"، وأنا ظالمٌ في هذا! فلا ينفع الإنسان التَّأوُّل في
مثل هذه الحال.
الحال الثالثة: هي الحال التي لا يكون الإنسان فيها مظلومًا ولا ظالمًا، وإنَّما
يُورِّي لأيِّ سببٍ من الأسباب.
على سبيل المثال: إذا قلتَ لشخصٍ: هل معكَ دراهم؟ فيقول: ما عندي دراهم -يخاف أن
تقترض منه- وهو معه، وهو يقصد بكلامه: الذي معي دراهم.
أو يقول: "ما عندي دراهم" ويُشير إلى يده، يعني: ما فيها شيء.
والمشهور من المذهب عند الحنابلة أن التَّأوَّل في مثل هذه الحالة صحيحٌ ولا غضاضةَ
فيه، وإن كان شيخُ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- يُشدِّدُ في ذلك، فهو الذي يرى أنَّ
المعاريض والتَّأويل -الذي هو محل بحثنا في هذا- لا يكون إلَّا للحاجة، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنَّ في المَعَارِيضِ لمَنْدُوحَةً عَنِ
الكَذِبِ»، فشيخ الإسلام وغيره يحملون هذا الحديث على حالِّ الحاجة إلى ذلك.
والمشهور من المذهب وهو قول جمع من الفقهاء: أنَّه ما دام ليس بظالمٍ، ولا يترتَّبُ
عليه حقٌّ يفوت، ولا يأخذ بذلك حقَّ غيره، واللفظ يحتمله؛ فيُمكن أن يُقبَل ذلك ولا
يكون على الإنسان فيه شيء.
وسواء قلنا بهذا أو بما قاله ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وبعض أهل العلم؛ إلَّا
أنَّه ينبغي للإنسان أن يتوقَّى ذلك إلَّا أن يحتاج إليه؛ لأنَّ مَن استمرأ مثل هذه
الأمور يوشك أن يقَعَ في الكذب، ويُوشك أن يستمرئ الحقوق، ويوشك أن يُضيِّع ما عليه
من الواجبات.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ تَأَوَّلَ فِيْ يَمِيْنِهِ فَلَهُ
تَأْوِيْلُهُ)، بشرط أن لا يكون ظالمًا، ولذلك قال: (إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ
ظَالِمًا، فَلاَ يَنْفَعُهُ تَأْوِيْلُهُ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»).
والقاعدة: "يمينك على ما يستحلفكَ به الحاكم"، فإذا حلفتَ عندَ الحاكم فالعبرَة بما
قصدَ الحاكم لا بما قصدتَّ، فتأويلك بقصدٍ آخر لا ينفعكَ ذلك البتَّة.
إذن؛ قوله: (وَمَنْ تَأَوَّلَ فِيْ يَمِيْنِهِ فَلَهُ تَأْوِيْلُهُ) يشمل الحالين:
• أن يكون مظلومًا: وهو الأولى في أن يتأوَّل الإنسان.
• أن يكون لا مظلومًا ولا ظالمًا: فيكونُ في سَعةٍ، فله التَّأويل، وهذه الحال هي
محلُّ الخلاف، والأولى للإنسان أن يتوقَّى لذلك حفظًا لنفسه من خلاف مَن منعها من
أهل العلم.
ويذكر أهل العلم لذلك أمثلة كثيرة جدًّا، فيقولون مثلًا: لو كانَ يُبحَث عن شخصٍ
لص، فيقول: ما جاءني اليوم! وهو يعلم أنَّه أتاه بالأمس وبقي عنده إلى اليوم.
فنقول: لا ينفعك ذلك!
لكن لو كان هذا الشَّخص يطلبه شخصٌ يُريدُ أن يفتكَ به، أو أن يعتدي عليه، فقال:
والله ما جاءني فلاني! ويقصد ما جاءه اليوم، وإن كان هو في بيته وقد جاءه من الأمس؛
فيكون ذلك صحيحًا ومقصودًا شرعيًّا، لا غضاضة على الإنسان فيما إذا حلف وتأوَّلَ في
اليمين على هذا المراد، أو نحو ذلك بحسب ما يطرأ عليه، ويحتمله اللفظ الذي ذكره.
{ما حكم التورية في المزح؟}.
التَّورية في المزح من المسائل التي تدخل في القسم الثَّاني؛ هل فيها سَعةٌ أو لا
سعة فيها؟
جمهور أهل العلم والحنابلة يقولون: لا غضاضة في ذلك، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال للمرأة العجوز: «لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» ، ويقصد أنها
تعود شابَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقول إلَّا حقًّا، وإن
كان قد أراد بذلك أن يُداعبها وأن يُمازحها. فهذا قول مَن يقول بذلك.
أمَّا الكذب فهو حرامٌ، وقد جاءت الأحاديث بالوعيد فيه، واستثنيَ من ذلك مواطن،
فعند أهل العلم أنَّ مواطن الكذب المباح ثلاثة:
• في الحرب.
• في كذب الرجل على امرأته.
• إذا كان لإصلاح ذات البين.
فهذه الأحوال الثلاثة يصح فيها الكذب ويُعتَبَرُ كذبًا مباحًا، وجاء في الصحيح:
«لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي
خَيْرً» .
وقال أهل العلم: وكذب المرأة على زوجها، وهذا جاء في بعض روايات الحديث، وجاء في
الأثر عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا قال رجل لامرأته: أتحبيني؟ قالت: نعم.
قال: أتحلفين على ذلك؟ قالت: والله لا أحبك. فطلقها، فارتفع الأمر إلى عمر، فقال
عمر: "ألا حلفتي، ليست البيوت تُبنَى على الحب، إنما هي المروؤات"، فسوَّغ لها أن
تحلف على ذلك كذبًا حفظًا لاجتماع البيت، وما يترتب عليه من مصلحة.
وبعض الناس يعرفون الشِّق الأوَّل، ولا يعرفون الشق الثاني وهو كذب المرأة على
زوجها.
والمقصود في هذا أيضًا: الذي لا يُفوِّت الحقوق، لا من الرجل على امراته ولا من
المرأة على زوجها، فلو أنَّها قالت له: أعطني النَّفقة. قال: والله ما عندي شيء!
وهو قد استلم راتبه أو تحصَّل له كسبٌ في هذا الشَّهر، وإنَّما أراد بذلك أن
يتخلَّصَ من حقها، فتأوَّل أو كذب!
نقول: لا ينفعك ذلك مهما قلت؛ لأنَّ الكذب إنَّما يكون في شيءٍ لا يُفوِّتُ حقًا.
وكذلك لو خرجت المرأة من بيت زوجها بغير إذنه، فقال لها: أينَ خرجتِ؟ قالت: ذهبتُ
للمستشفى! وهي قصدت بذلك أنَّها مرَّت بالمستشفى، أو ذهبت للمستشفى بالأمس أو نحوه.
فنقول: لا ينفعها ذلك؛ لأنَّ خروج المرأة من بيتها لا يكون إلَّا بإذنه، فهي فعلت
ما لا يجوز لها فعله، فلا يُسوِّغ ذلك الكذب المباح، فالكذب المباح إنَّما فيما
بينهما من المؤانسة وما يزيد بينهما من المحبَّة، وما يدفع به الغضب، وما يُفوِّت
الخلاف بينهما.
ومثل ذلك في الإصلاحِ وفي الحرب ونحوها، وذكرَ أهلُ العلمِ أنَّه يُقاس على ذلك ما
ماثله من الأمور.
وأهل العلم يُفرِّقون ويقولون: الكذب المباح والكذب الصَّريح، فلا يُباح إلا في
مواضع، وأمَّا المعاريض فهي جائزةٌ على الإطلاق، باستثناء ما إذا كان الإنسان
ظالمًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ جَامِعِ الأَيْمَانِ)}.
لمَّا كانت مسائل الأيمان لا حدَّ لها عندَ النَّاس؛ فإنَّ الفقهاء -رَحِمَهُم
اللهُ تَعالَى- يُكثرون فيها الأمثلَة، ويذكرون فيها ما اجتمع إليهم من أحوال
الناس، حتى يكون الفقيه على علم إمَّا بالمسألة بأن تكونَ ممَّا نصَّ عليه الفقهاء،
أو أن تكون على نحوها ومنوالها، ولذلك مرَّ بكم وتذكرون ذلك جيدًا ونبهنا إليه في
حينه؛ لمَّا جئنا إلى مسائل الطَّلاق وذكرنا ما ذكره الفقهاء من تعليق الطَّلاق
بالولادةِ أو بالحيضِ أو بالمشيئة؛ إنَّما هو استجماعٌ لمسائل كثيرة ووقائع
مُتعدِّدة لكثرة وقائع النَّاس في هذا الأمر، فيحتاج الفقيه إلى أن يتدرَّبَ على
ذلك في أنواعٍ شتَّى.
ولمَّا كان الأمر بهذا النَّحو ذكر الفقهاء ما يتعلَّق بهذا الجامع هنا؛ لأنَّ بعض
الناس يقول: إنَّ هذا نوعٌ من التَّكلُّف، أو نوعٌ من الزِّيادة التي لا حاجة فيها،
ولو أنَّ الفقهاء اختصروا!
نقول: مَن يقول هذا لا يفهم، فالفقهاء لا يتحدَّثون على نظرِ شخصٍ أو على واقعةٍ أو
على حالِ مجتمعٍ صغيرٍ؛ وإنَّما يتكلَّمون على حالِ النَّاس كلِّهم باعتبارِ ما
يجدُّ لهم هنا وهناك، وفي هذا الزَّمن، وفي الزَّمن الذي قبله وفي الزَّمن الذي
بعدَه، وما يعتاده أهل العلم، وما يعتاده مَن دونهم، وما يجري على ألسنةِ الجهلة،
ومَن لا يعبؤون بالأيمان، إلى غير ذلك.
إذن؛ هذا الجامع تُذكر فيه المسائل كلها ليكون ذلك أنظمَ للفقيه وأيسرَ في الفهمِ
وأتمَّ في ردِّ الحكم، فلأجل ذلك جعلوا فيه جامعًا للأيمان.
ويقول الفقهاء: إنَّ الأصل في الأيمان أنَّها على نيَّة صاحبها، فإذا كان له نيَّة
فالمعتبر ما كان في نيَّتهِ، وكلٌّ مُؤتمنٌ على ذلك، وإذا توافقَ القولُ مع
النِّيَّة فلا إشكال، ولكن إذا كان القول يشمل شيئًا لم يقصده؛ فهل نأخذ بالقول أو
نأخذ بالنِّيَّة؟ سيأتينا ما ذكره المؤلف في هذا من الأمثلة وهي كثيرة، ونستبين بها
هذا الأصل المراد.
{تحدَّثتم -أحسن الله إليكم- أنَّ هذا الباب جامع، وهذا مُلاحَظٌ في كتب الحديث
ومصنَّفات الفقه؛ فبعد ذكر الكتاب يُذكر باب جامع كذا...}.
كتب الأحاديث يختلف مسلكها عن مسلَك الفقه في بعض الأحوال، فيذكرون الجامع في
الحديث في المسائل التي لا ينظمها شيءٌ مخصوص، كأن تكون أحاديث متفرِّقَة في الباب
لكنَّها لا تنتظم في شيءٍ بعينه، فيذكرونها في آخر الباب، لأنَّها لم تنتظم لا في
هذا الفصل ولا في هذا؛ فيذكرونها جملةً في آخر الباب مكمِّلةً للباب، فكأنَّهم
يقولون: ما لم يُذكَر في فصل كذا ولا في باب كذا؛ هو مذكورٌ في هذا الجامع تكميلًا
وتتميمًا.
أمَّا الباب الجامع في الفقه يكون في وقائع الناس في الغالب، فهي مسائل واقعة، أو
مسائل لتقوية مَلَكة الفقهيه، لأنَّ من المسائل ما يظنُّها البعضُ أنَّها لم تقع ؛
فالفقهاء يعرفون أنَّه لم يقع مثل ذلك، لكن لمَّا كان ذكر هذه المسألة بخصوصها هو
الذي يتأتَّى به حفظ ضابط هذا الباب، يعني أنَّ هذا المثال بخصوصه هو الذي تنطبق
عليه الواقعة التي تقع في وقتنا والواقعة التي تقع في الوقت الماضي، فهي وإن كانت
في صورتها بعينها لم تقع، لكنَّها ناظمةٌ لوقائع ثلاث أو أربع أو عشر ولا يُحتاج أن
تُذكَر كل واحدة؛ فإذا ذُكِرَت هذه شَمِلَت تلك الثَّلاث أو الأربع أو العشر وقائع.
إذن؛ الجامع هو خلاصة وقائع الفقهاء، وما يظنُّون أنَّ الفقيه قد يحتاج إليه، وما
استغربوه، فأحيانًا تُذكَر المسألة وقد استغربوها، فيقولون: وإن استغربناها فإنَّه
يُمكن أن يأتي مَن يُوقعها على أصلٍ صحيحٍ فتنحلُّ بذلك إشكالاتٌ كثيرةٌ، وكما أنَّ
هذه المسألة واقعةٌ وقد استغربناها يُمكن أن يليَ ذلك أوقاتٌ تكثُر فيها هذه
النَّوادر، أو يُقبِلُ النَّاس فيها على الشَّواذ، وكم حصلَ شيءٌ من ذلك!
وعندنا مسلكان ينبغي التَّنبيه عليهما:
• مسلك التَّكلُّف المحض: وهذا قد يوجَد، ولكنَّه ليس بأصيلٍ في منهج الفقهاء
بالجُملَة، وليس بغالبٍ على كتبِ الفقهاء؛ فهذا مذموم عند أهل العلم، ومن ذلك
أنَّهم نهوا عن الأغلوطات.
والأغلوطات: هي المسائل نادرة الوقوع، أو التي تأتي على غيرِ وجهٍ صحيحٍ.
مثال: أن ينتظمَ أحدٌ بابَ التَّيمُّمِ؛ فيأتي واحدٌ له بمسألةٍ في بابِ
التَّيمُّمِ لا يُمكن تصوُّرها؛ فكأنَّه يُغالِطُه على الأصولِ التي أصَّلها، أو
تُشغِّبُ عليه فيما فهمه في هذا الباب.
• مسلك المسائل التي قد يقلُّ -أو يندُر- وقوعها يذكرها الفقهاء، فنظن أنَّ هذا من
الأغلوطات! لا، وإنَّما هذا لأنَّ الفقهاء لا يصنِّفون الكتب لي أو لك أو لهذا
المجتمع أو لهذا اليوم فحسب؛ بل هذا لأزمنةٍ متعدِّدة، ولقرونٍ طويلة، ولأماكن
مختلفَة، ولمجتمعاتٍ متباينة، فما لا يقع عندنا قد يقع عند غيرنا، وهكذا...
ثم إنَّ حصْرَ البابِ لابدَّ أن يكونَ فيه بعيدٌ وقريبٌ، فأنتَ الآن إذا قلتَ: هذا
مِلكُ فلانٍ، فأنا الآن أشرتُ إلى ما يملك فلان.
لكن لو قلتُ: من أين يبدأ وأين ينتهي؟ فلن تستطيع تحديد مِلكَه؛ فلابدَّ أن أقول
لك: هذا يبتدئ من هناك وينتهي هناك؛ وأذكرُ آخرَ شيءٍ وأوَّلَ شيءٍ، ثم أذكرُ ما
بينهما، وأنَّه يدخل فيه هذا وهذا.
وكذلك المسألة الفقهية؛ يُمكن أن أقول لك: التَّيمم أن تضع يديك وكذا...، فهذا
تعرفُ به أصلَ التَّيمُّمِ، ولكن هناك مسائل مكمِّلَة لابدَّ أن تُبيِّنَ حدَّها،
وإذا أردتَّ أن تُبيِّن حدَّها ستخرج من المسألة الأشهر إلى الأقلِّ إلى الأقلِّ
إلى أن تكونَ آخرُ المسائلِ بعيدةَ الوقوع وقد تكونُ نادرةً؛ فلا يتأتَّى فهمُ
البابِ كلِّه أو حدوده إلَّا بفهمِ ما بَعُدَ منه وما قرُبَ، فما بعُدَ منه وما
قرُبَ لا يُقال من أنَّه أُغلوطَة؛ بل هو بيانٌ للحدِّ وتقويةٌ للمَلَكةِ، وذكرُ ما
يندرجُ من أفرادِ المسائل في هذا الباب، فهذا يُمدَح به الفقهاء ويُثنَى به على أهل
العلم، وهو أصلٌ أصيلٌ عندَ الفقهاءِ باختلاف مذاهبهم، فيَفهَم بعض النَّاس إذا
درسَ الفقه فرأى مسألة أو مسألتين في الباب يحتاجها وعشر مسائل لا يحتاجها؛ قال
إنَّ الفقهاء يتكلَّفونَ ويُفرِّعونَ ويُشقِّقونَ المسائل، وما لي حاجة لهذا!!
ما له حاجة عندك أنت! لكنَّ الفقيه الذي يأتيه اتِّصالٌ من هنا وسؤال من هناك،
وتتعاقب عليه الأحوال؛ يعرف أنَّه قد يحتاج إلى هذا وإلى ذاك.
فهذه مسألةٌ ينبغي التَّنبُّه لها، وإن كانت ليست محلًّا أصالةً في هذا الباب، ولكن
بدٌّ من الحاجةِ إليها، وأظنُّ أنَّنا قد ذكرناها قديمًا في بعض الفوائد التي
ذكرناها في مقدِّمات الشَّرح، وربَّما ذكرناها على سبيل الاختصار، ولستُ في ذلك
بمتيقِّنٌ ولكنَّه ظنٌّ غالبٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُرْجَعُ فِيْهَا إِلَى النِّيَّةِ فِيْمَا مَا
يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِذَا حَلَفَ لاَ يُكَلِّمَ رَجُلاً، يُرِيْدُ وَاحِدًا
بِعَيْنِهِ، أَوْ لاَ يَتَغَذَّى يُرِيْدُ غِذَاءً بِعَيْنِهِ، اخْتَصَّتْ
يَمِيْنُهُ بِهِ)}.
اليمينُ تُحمَلُ على أحوالٍ:
الحال الأوَّل: تُحمَل على نيَّةِ الحالف، فإذا جاءنا شخصٌ وقال: أنا حلفتُ أن لا
أشرب ماءً؛ فأوَّلُ ما نسأله نقول: ماذا قصدت؟
فإذا قال: أكثرَ عليَّ فلانٌ في أن أشربَ فقلت: والله لا شربتُ ماءً!
فهنا اللَّفظُ عامٌّ يشمل الماء الذي قدَّمَه له فلان، والماء الذي يأخذه بيده، أو
غير ذلك؛ فهل نحمل على هذه فتدخل في يمينه فإذا فعل واحدةً من هذه كفَّرَ، أو نحمله
على قصده فنقول: إن أخذتَ من فلان -الذي حلفت أن لا تأخذَ منه- فتكون يمينًا
مكفَّرة، وإن أخذتَ من غيره فليس عليك شيء؟
نقول: تُحمَل على قصده، فما دامَ أنَّك قصدتَّ أن لا تأخذَ من فلانٍ، وإن كان لفظك
عامًّا؛ فإنَّه لا يمنع أن تُحمَل على القصدِ والنِّيَّة، ما دامَ أنَّ اللفظ يحتمل
النِّيَّة، أمَّا إذا كان ما يحتمل النِّيَّة فلا يُمكن أن يُقال أنَّ المقصودَ به
ذلك، فإذا قال: والله لا شربتُ منه ماءً؛ وقصدتُّ أن لا أُقبِّلَ رأسَه! فلا نقبل
هذا؛ لأنَّ اللفظ لا يحتمل ذلك.
إذن؛ يُرجع في اليمين إلى النِّيَّة، وينبغي أن يكون ذلك مُتعلقًا فيما يحتمله
اللفظ، ولذلك نصَّ عليه المؤلف فقال: (فِيْمَا مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ).
ثمَّ مثَّل فقال: (فَإِذَا حَلَفَ لاَ يُكَلِّمَ رَجُلاً، يُرِيْدُ وَاحِدًا
بِعَيْنِهِ)، كأن يقال: يا فلان بينك وبين هذا خصومة، ما الذي يحملك على هذا؟ إلى
متى وأنت تُخاصمه؟ هلَّا كلمتَه؟ فيقول: والله لا كلَّمتُ رجلًا.
فمعنى كلامه: أنَّه إذا كلَّم الرَّجل الذي يُقابله يحنَث، ولو كلَّم الرجل الذي
بينه وبينه خصومه حنثَ، إذا تكلَّم مع إمام المسجد حنثَ، وإذا كلَّم أحدًا في
الطريق حنث؛ لأنَّ هذا هو مقتضى اللفظ.
ونقول له: ماذا قصدتَّ؟
فإذا قال: أنا لم أقصد إلَّا ذلك الرجل الذي آذاني في أهلي وهو جاري فلان.
فنقول: لا تحنث إلا لو كلَّمتَ فلانًا، فإذا كلَّمَ رجال الدُّنيا كلَّها لم يكن
حانثًا؛ لأنَّ اللفظ وإن كان يشمل ذلك كلِّه إلَّا أنَّه كان له قصدٌ خاص، فهذا
اللفظ العام يُحمَل على القصد الخاص، فتُحمَل عليه اليمين، فلا يكون الحنث إلَّا
بذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَشْرَبُ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْعَطَشِ،
يُرِيْدُ قَطْعَ مِنَّتِهِ، حَنِثَ بِكُلِّ مَا فِيْهِ مِنَّةٌ، وَإِنْ حَلَفَ لاَ
يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، يُرِيْدُ قَطْعَ مِنَّتِهَا، فَبَاعَهُ
وَاْنتَفَعَ بِثَمَنِهِ، حَنِث)}.
قول المؤلف : (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَشْرَبُ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْعَطَشِ، يُرِيْدُ
قَطْعَ مِنَّتِهِ).
مثال: يقول رجلٌ لرجلٍ: اشرب، لا أحد يشربك إلَّا أنا -فهذه منَّة.
فقال له: والله لا شربتُ لك ماءً، ولا أريد منك شيئًا -يُريد أن يقطع منَّته.
فيقولون: يحنث لا بالماء فقط؛ بل بكلِّ ما فيه منَّة، فإذا أخذ منه ثوب حنث، وإذا
أكل منه طعامًا حنث، وإذا شرب منه ماءً حنث.
ولاحظ أنَّ المؤلف ذكرَ أمثلة متقابلة، أولها لفظٌ عام وكانت له نيَّة تخصُّه،
والثاني لفظٌ خاص وكان له قصدٌ عام فحملناه على العام.
إذن؛ النيَّة في الحلين يُعمل بها:
• فإن كان اللفظ يحتمل ذلك وهو يخص اللفظ العام وقد قصدَ ذلك فنخصِّصُه.
• وإن كان اللفظ خاصًّا لكنَّه قصدَ ما هو أعم من ذلك؛ فنحمله على قصده ما دام أنَّ
اللفظ يحتمله.
ثم قال: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، يُرِيْدُ قَطْعَ
مِنَّتِهَا، فَبَاعَهُ وَاْنتَفَعَ بِثَمَنِهِ، حَنِث).
الحال التي يتحوَّل فيها من حالٍ إلى حالٍ أخرى؛ فإذا حلف أن لا يلبس ثوبًا من
غزلها؛ فهنا المنَّة حاصلة بأخذه لهذا الثوب، سواء لبِسَه أو بَاعه، فمثل هذه الحال
نقول: في أيِّ الحالين انتفع بالثَّوب فيحنث في اليمين؛ لأنَّه قصدَ قطع منَّتها،
ومنتها لا تنقطع ببيع الثوب ونقله من مِلكِهِ؛ بل بمجرَّد قبضه سواء لَبسه أو
اقتناه ووضعه عنده أو باعه؛ ففي كل الأحوال قد حصلت منَّتُها، فحصلَ المحلوف عليه
فحنثَ في اليمين، فوجبت عليه الكفَّارة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا، يُرِيْدُ
أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَهُ، فَقَضَاهُ الْيَوْمَ، لَمْ يَحْنَثْ)}.
هذه الحال الثَّانية: وهي أن لا يكون له نيَّة، لكن لليمين سببٌ هيَّجها؛ فنحملها
على السَّبب.
مثال: إذا جاءه رجلٌ وقالَ: يا أخي أعطني مالي، اتقِ الله في نفسك.
فقال له: والله لأقضينَّكَ غدًا المبلغ كلَّه، ولا يبقى لك عندي شيء، فلمَّا جاء
بعد العشاء أعطاه ماله، وهو قد حلفَ ليقضينَّه غدًا وقد قضاه اليوم؛ فهو من جهة
المعنى حانث لأنَّه ما قضاه في الغد، لكن السَّبب الذي هيَّجَ اليمين هو أن لا
يتأخَّرَ عليه، فمعنى ذلك أنَّه لو تقدَّم فإنَّه لم يحنث؛ لأنَّ المحلوفَ عليه هو
عدمُ التَّأخُّر عليه بالسَّدادِ.
فبناءً على ذلك نقول في مثل هذه المسألة: ما دامَ أنَّه لا نيَّةَ له فنرجع إلى
الحال الثَّانية، وهي العمل على السَّبب المهيِّج لليمين -أي الذي استثار اليمين-
والذي حصلَ بسببه الحلف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبِيْعَ ثَوْبَهُ إِلاَّ بِمِئَةٍ،
فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، لَمْ يَحْنَثْ، إِذَا أَرَادَ أَنْ لاَ يَنْقُصَهُ
عَنْ مِئَةٍ)}.
إذا قال له والده: لا تذهب تبيع هذا الثوب لأنَّك لا تعرف قيمتَه.
فقال له: والله ما أبيعه إلَّا بمائة، والمائة هي قيمته وزيادة، فذهب وباعه بمائة
وعشرة.
فنقول: الأصل أنَّه حلف ألَّا يبيعه إلَّا بمائة، وهذا لم يبعه بمائة؛ فالأصل أنَّه
حنَثَ في يمينه.
لكن لو قال: أنا ليس لي نيَّة، ولكن السَّبب المهيِّج لليمين أن لا تنقص قيمتها؛
فبناءً على ذلك إذا باعَه بمائةٍ أو بألفٍ فهو قد أتمَّ يمينه ولم يحنث فيها،
وبناءً على ذلك فلا حنث عليه ولا تجب في ذمَّته كفَّارة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَتَزَوَجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، يُرِيْدُ
غَيْظَهَا، لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِتَزْوِيْجٍ يَغِيْظُهَ)}.
الفقهاء يذكرون أمثلة متنوِّعة، ولكن نقول: إنَّه ليس من حسنِ العِشرة أن يتزوَّج
الرَّجل ليغيظ زوجته؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19].
وهنا يقول المؤلف: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَتَزَوَجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، يُرِيْدُ
غَيْظَهَا، لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِتَزْوِيْجٍ يَغِيْظُهَ)؛ لو قال لها: والله
لأقطِّعنَّ قلبك بامرأةٍ تكون أوضأَ منكِ وأجملَ؛ ثم بعدَ أسبوعٍ أو شهرٍ أو سنةٍ؛
قالت له زوجته: يا فلان، جارتنا فلانة مات زوجها وهي مسكينة، تحتاج إلى مَن يرعاها
ويقوم على بعض شؤونها؛ فتزوجها.
فهذا الزَّواج لا يُغيظها، إمَّا لأنَّها ليست بأوضأَ منها ولا أجملَ، وإمَّا
لأنَّها هي التي طلبت منه ذلك، فهي إنَّما طلبَت منه شيئًا يبرُد على قلبها ولا
يغيظها؛ فقد يُقال: إنَّ زواجه في هذه الحالِ لا تبرُّ بها اليمين، ولابدَّ أن
يتزوَّج بما يُغيظها، ولو تزوَّجَ بدونِ أن يُخبرها فلا تبرُّ به اليمين، وإنَّما
تحصل الإغاظَة بالزَّواج إذا علِمَت المرأة به وظهرت غيرتها على زوجها وخوفها من
فواته، وبناء على ذلك لا يبرُّ في يمينه إلَّا بنكاحٍ يُغيظها به.
لا أغاظَ الله امرأةً على زوجها ولا زوجًا على امرأته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا، يُرِيْدُ تَأْلِيْمَهَا،
لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِضَرْبٍ يُؤْلِمُهَ)}.
المقصود بالضَّرب: الإيلام والعقاب، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا بما أحسَّ به البدن
وتألَّمَ به الجسَدُ، فإذا ضربَها برفقٍ فلا يبر بهذا، حتَّى يكون ضربًا يؤلمها
-كما ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ،
فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهَا بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَبَرَّ)}.
ظاهر اللفظ هنا أن يجمع أسواطًا عشرة فيضربها بها، وحقيقةُ المقصود بالعشرة أسواط
أنَّها كناية عن عشر ضربات، سواء كان بسوطٍ واحدٍ أو بسوطين أو بثلاثة، المهم
أنَّها عشر ضربات.
فبناء على ذلك يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: ( فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهَا بِهَا
ضَرْبَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَبَرَّ)؛ لأنَّ كونها بعشرة أسواط فليس هذا هو المقصود،
وليس هذا ما تُحمَل عليه اليمين؛ بل تُحمَل اليمين على العشر ضربات، فلا يبرُّ
إلَّا بعشر ضربات على ما جاء في قصده أو السَّبب الذي هيَّجها، بحسبِ ما ذكرناه
سابقًا، بعض الأشياء التي يخصُّها هنا لها سبب مهيِّج، وبعضها النِّيَّة والقصد،
فكأن المؤلف دمجَ بينهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَدِمَتِ النِّيَّةُ، رَجَعَ إِلَى سَبَبِ
الْيَمِيْنِ وَمَا هَيَّجَهَا، فَيَقُوْمُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، لِدِلاَلَتِهِ
عَلَيْهَ)}.
إذا عُدِمَت النِّيَّة رُجِعَ إلى سببِ اليمين وما هيَّجها، فيقوم ماقام نيَّته.
ولاحظوا أنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- لم يذكر لذلك أمثلة، لأنَّ الأمثلة
المتقدِّمَة كلها تعودُ إلى هذا، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ كلَّ الأمثلَة
السَّابقة إمَّا أن يكونَ له فيها نيَّة فنحمله على النيَّة، وإذا لم يكن له نيَّة
ننتقل إلى السَّبب، ونحملها على السَّبب.
على سبيل المثال:
لو قال: إن سمعتُ منكِ صوتًا فوالله لأطلقنَّكِ.
وكان السَّبب أنَّها كانت تُزعجه وما تركته ينام؛ فسَعَلَتْ سَعلةً أو كحَّتْ
كحَّةً، أو خرجَ منه صوتٌ من أثرِ قَرصةٍ فصاحتْ؛ فهذا ليسَ السَّبب الذي هيَّجَ
اليمين لأنَّه سببٌ خارجٌ عن إرادتها، وإنَّما السَّبب هو الإزعاج، فهنا لا تنعقد
اليمين.
إذن؛ كل هذه المسائل التي عُدمَت فيها النيَّة يُنتقل فيها إلى السَّبب الذي
هيَّجها، وذكرنا هذا فيما مضى في بعض الأمثلة حتى يقرُب من ذهن الإخوة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عُدِمَ ذلِكَ، حُمِلَتْ يَمِيْنُهُ عَلَى ظَاهِرِ
اللَّفْظِ)}.
هذه هي الحال الثَّالثة، وبعض الفقهاء يذكرون بين الحالِ الثَّانية والثَّالثة
حالًا بينهما، وهي أن يكون ثَمَّ تعيين، فإذا قالَ: والله لا كلَّمتُ زوجتكَ؛ فهذا
المُخاطَب طلَّق زوجته، فكلَّمها الأوَّل، فهنا كلَّم هذه المرأة ولم يُكلِّم
زوجته، فإذا قصدَ بذلك التَّعيين فكونه طلَّقها فإنَّ اليمين قد حصلَ الحنث فيها
فتلزمه الكفَّارة، أمَّا إذا لم يكن فيه تعيين فبحسب النيَّة واليمين، لأنَّ في بعض
الأحيان يقول: والله لا كلمتُ زوجتكَ، ويكون السَّبب الذي هيَّجه أنَّه الزَّوج
يظنُّ به سوءًا؛ فلو طُلِّقَت فكلَّمها فلا يحنث بذلك.
إذن؛ في هذه الحال قد يكون الأصل في اليمين هو السَّبب المهيِّج، وقد يُنتقل إلى
التَّعيين.
أمَّا الحال الثَّالثة: إذا لم يكن له لا نيَّة ولا سبب هيَّجَ تلكَ اليمين، فتُحمل
على اللفظ -كما يقول المؤلف- فما يدخل في هذا اللفظ فإنه يتعلق بيمينه، وما لا يدخل
في هذا اللفظ لا يتعلق بيمنه.
والألفاظ ثلاثة:
• لفظٌ شرعيٌّ.
• لفظٌ عرفيٌّ.
• حقيقةٌ لُغويَّة.
أولًا: إذا كانَ اللَّفظ له عرفٌ في الشَّرع فنحملُ الكلام عليه.
ثانيًا: إذا كانَ لا عُرفَ له في الشَّرع فننظر إلى معناه في عُرف النَّاس.
ثالثًا: إذا لم يكن لا عرفٌ شرعيٌّ ولا معنًى عُرفيٌّ؛ فيكون إلى الحقيقة اللغويَّة
المطلقة.
وسيذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- الأمثلة، وسيتبيَّن بما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ- هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ كَانَ لَهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، كَالصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ حُمِلَتْ يَمِيْنُهُ عَلَيْهِ، وَتَنَاوَلَتْ صَحِيْحَهُ)}.
فإذا قال: والله لا صَلَّيتُ في بيت فلان.
العرف الشَّرعي في الصَّلاة أنَّها أقوالٌ وأفعالٌ مفتتحةٌ بالتَّكبير ومختمةٌ
بالتَّسليم بشروط وأركان مخصوصة.
فإذا دخلَ بيت فلانٍ فدعا وقال: اللهم اغفر لي واغفر لفلان؛ والدَّعاء صلاة، فلا
يحنث بهذا، لأنَّ العرف الشَّرعي أنَّ الصَّلاة هي الصَّلاة الخاصَّة الشَّرعيَّة
التي جاءت في عموم الأدلَّة أنَّها إذا أطلقت فإنَّما يُراد بها ذلك.
والكلام هنا إذا لم يكن له نيَّةٌ ولا يُوجَد سببٌ يُهيِّجُ اليمين؛ فيُنتقَلُ إلى
ما يقتضيه اللفظ، وما يقتضيه اللفظ إمَّا أن يكون شرعيًّا أو يكون عرفيًّا، وإمَّا
أن يكون حقيقةُ لُغويَّة، فهنا يحصل الحنث بصلاته في بيت هذا الرَّجل الصَّلاة التي
مبدؤها التَّكبير وختامها التَّسليم، سواء كانت وترًا أو ضُحى، أو ركعتين في الليل،
أو كانَ ذلك في صلاةٍ مفروضةٍ؛ كلُّها صلاةٌ ويحنثُ بها، أمَّا الدَّعاء فلا يحصل
به حنث.
ومثل ذلك الزَّكاة، فإذا قال: والله لا أعطيتكَ زكاةً؛ ثم أعطاه صدقةً مستحبَّة،
فهذه يُطلَق عليها زكاة، لكن الزَّكاة في الشَّرع هي الزَّكاة الواجبة التي
استجمعَت الشُّرط واستُحقَّت في الأصناف المعلومة ونحو ذلك.
وبناء على هذا فلو أعطاه صدقةً فلا يحنث في يمينه، لأنَّ الزَّكاة التي حلفَ ألَّا
يعطيها فلان لا تكون إلَّا بالزَّكاة الواجبة، وهذا لم يُعطه زكاةً واجبة، فهذا هو
العُرف الشَّرعي.
وعلى سبيل المثال: لو قال لوالدته: والله لا اعتمرتُ أو حججتُ إلَّا وأنتِ معي؛
فزارَ بيت المقدس، فهذه الزِّيارة تعتبر عمرة؛ لأنَّ العمرة في اللغة هي الزِّيارة.
فلا نقول إنَّ هذه زيارة شرعيَّة ويحنث بذلك؛ وإنَّما يكون الحنث في العمرة التي
بإحرام من الميقات، ويحصل فيها طوافٌ وسعيٌ وإحلال بعدَ ذلك بالحلق أو التَّقصير.
إذن؛ هذا هو أوَّل المعاني وهو المعنى الشَّرعي.
وأظنُّ أنَّ الوقت قد داهمنا وانتهى، ولعلنا نُكمل ما يتعلَّق بهذه الأقسام -بإذن
الله جل وعلا- في مستهلِّ الحلقة القادمة.
شكرَ الله لكَ، وشكرَ الله للإخوة المشاهدين والمشاهدات، وشكرَ الله للقائمينَ على
هذا البناء العلمي، والمعينين له ممَّن نقلوه وصوَّروه وسجَّلوه وحفظوه وكتبوه،
أسألُ الله أن يجزي الجميع خيرًا، وأن يتولَّانا برحمته، وأن يغفر لنا لوالدينا
ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.