{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، كم نشتاق إلى هذا اللقاء وهذه المجالس المباركة! لا حرمنا الله العلم
ولا أهله، ولا حرمنا الدخول في منهاجه والوقوف على مسائله، والتَّزوُّدَ به.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَوْ
حَلَفَ لاَ يَبِيْعُ، فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، لَمْ يَحْنَثْ، إِلاَّ أَنْ
يُضِيْفَهُ إِلَى مَالاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَالْحُرِّ وَالْخَمْرِ، فَتَتَنَاوَلَ
يَمِيْنُهُ صُوْرَةَ الْبَيْع)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عبادهِ المتَّقين،
الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يرفعنا
ويحفظنا، وأن يحفظ العباد والبلاد، وأن يكفينا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.
كُنَّا في المجلس الماضي ابتدأنا فيما يتعلَّق بالكلام على جامع الأيمان، وذكرنا
أنَّ اليمينَ إمَّا أن تُحمَل على نيَّة الحالف إذا احتمله اللَّفظ، فهذا هو الأصل
وهو الأوَّل ممَّا تُحمَل عليه اليمين، فإذا لم يكن له قصدٌ فإنَّها تُحمَل على
السَّببِ الذي هيَّجها، والذي أثارها، فإذا لم يكن لليمين سببٌ ظاهرٌ هيَّجها
فتُحمَل على حقيقة اللفظِ، وحقيقةُ اللفظ له أنواعٌ ثلاثة:
• إمَّا أن يكونَ للكلمة عرفٌ شرعي.
• أو يكون لها معنًى عرفي.
• أو يكون لها حقيقةٌ لُغويَّة.
فإذا كانت الكلمة يُمكن أن يكون لها هذه المعاني الثَّلاثة فأوَّل ما تُحمَل عليه
هو المعنى الشَّرعي، كالصَّلاة والزَّكاة ونحوها.
وذكر المؤلِّف مثالًا آخر في أبواب المعاملات فيما يُحمَل عليه اليمين من المعنَى
الشَّرعي، فإذا حلف لا يبيع؛ فالبيعُ في الشَّرعِ محمولٌ على البيعِ الصَّحيحِ الذي
اكتملت فيه شروطُ البيعِ وهي سبعة، فبناءً على ذلك كل ما اكتملَت فيه شروطُ البيع
السَّبعة فهو بيعٌ صحيحٌ، فإذا فعل ذلك مكمِّلًا لهذه الشُّروط فقد باعَ، وإذا باعَ
فقد حنَثَ فيما حلفَ عليه، وبناء عل ذلك تجب عليه الكفَّارة.
والعكس بالعكس؛ بمعنى أنَّ لو باعَ بيعًا لكن هذا البيع ليس بصحيحٍ، كما لو باعَ من
مجنون، فباعه سيارة بعشرة آلاف؛ فالمجنون لا يصح بيعه، لأنَّ من شروط البيع أن يكون
جائز التَّصرُّف، وهذا لا تصرُّفَ له، بل عليه ولاية من أبيه أو أحد أوليائه أو
القاضي.
وبناءً على ذلك: لو حلفَ شخص أن لا يبيع ولا يشتري هذا اليوم؛ فباع أو اشترى من هذا
المجنون؛ فلا يصح البيع ولا يحنث في يمينه، وهذا وإن كانت صورته صورة البيع لكنه لم
يكن بيعًا شرعيًّا مكتمل الشروط، فلا يحنث في يمينه وليس عليه كفارة.
ولكن في بعض الأحوال قد تكون صورة البيع قائمة مقام البيع فيُحكَم بالحنث فيها.
على سبيل المثال: لو كان قد حلفَ أن لا يبيع حُرًّا، فَبَيعُ الحرِّ من حيث الأصل
في الشَّرع غير متصوَّر، وبناء على ذلك الذي حلفَ عليه أن تحصل منه بيع الحر في
الصُّورة، أمَّا في الحكم فلا يُحكَمُ به، ومعنى ذلك أنَّه ما دام أنه حلفَ أن لا
يبيع حرًّا فالحُرُّ لا يُتصوَّر إلَّا أن تقع منه صورة البيع.
وبناءً على ذلك لو قال: مَن يشتري هذا -وهو أخوه أو صديقه- ثم جاء شخص واشترى ذلك؛
فلا شكَّ أنَّ هذا البيع باطل؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:
«ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ بَاعَ
حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ» ؛ فإذن لا يصح البيع بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولكن مع ذلك
ما دام أنَّ هذه صورة بيع فنحكم عليه بالحنثِ، مع أنَّنا لم نحكم في المسألة
السَّابقة بالحنث. لماذا؟
لأنَّ صورة البيع لا تنطبق إلَّا على اليمين في المسألة الثَّانية، فإذا قال: والله
لا بعتُ حرًّا؛ فمن حيثُ الأصل لا يُتصوَّر إلَّا صورة البيع لا حقيقة البيع، فلا
يُتصوَّر في الشَّرعِ أن يُباع حرٌّ.
ولو حلف لا يبيعُ خمرًا؛ فالخمر لا تُباع في الشَّرع ولا ماليَّة لها ولا معاوضةَ
فيها؛ فبناء على ذلك تُحمَل على البيع الصُّوري -أو الفاسد- فنقول: هذه صورة بيعٍ،
وهو قصدَ صورة البيع، فإذا حصل منه إجراء لصورةِ البيع ولم يترتَّب عليه آثاره
بصحَّة البيع وثبوت الثَّمن والعوض وما يتعلَّق به؛ ويُحكَمُ عليه بالحنث، مع أنَّ
هذا البيع فاسدٌ في الشَّرع، والأصل أنَّ الحنث إنَّما يحصل بالبيع الصَّحيح، ولكن
لمَّا قيَّدها بالخمر، والخمر في الشَّرعِ لا تُباع فانتُقِلَ إلى الصُّورَة
الظَّاهرة التي فيها مُعاوضة وإن لم تترتَّب عليها آثارها.
وبناء على ذلك لو قال: والله لا بعتُ بيعًا؛ فلا يحصل منه حنث؛ لأنَّ هذه الصورة
تنطبق على البيع الصحيح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ وَكَانَ لَهُ
عُرْفٌ فِي الْعَادَةِ، كَالرَّاوَيَةِ وَالظَّعِيْنَةِ، حُمِلَتْ يَمِيْنُهُ
عَلَيْهِ، فَلَوْ حَلَفَ لاَ يَرْكَبُ دَابَّةً، فَيَمِيْنُهُ عَلَى الْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيْرِ)}.
انتقل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى النَّوع الثَّاني، فإذا لم يكن لهذا اللفظ عرفٌ
شرعيٌّ وكانَ له معنًى عرفيٌّ؛ فيُحمَل على المعنَى العُرفي، وذكر المؤلف لذلك
أمثلة، وبعض النُّسَخ تختلف عن بعض، ففي بعضها (كَالدَّابَّة)، وفي بعضها
(كَالرَّاوَيَةِ وَالظَّعِيْنَةِ).
والظَّعينة في أصل اللغة تُطلَق على النَّاقة التي يُركَبُ عليها، ولكنَّها في عُرف
النَّاس -فيما مضى- تُطلَق على المرأة؛ لأنَّ الغالب أنَّ المرأة تركب النَّاقة،
فأطلِقَت عليها باعتبارِ المقارنة.
وبناء على ذلك؛ لو حلف شخصٌ أن لا يُطعم ظعينتَه؛ فهل يحنَث بإطعام الناقة أو
بإطعام المرأة؟
يحنث بإطعام المرأة؛ لأنَّ هذا لفظٌ له معنًى عُرفيٌّ، والمعنى المعرفيُّ مُقدَّمٌ
على المعنَى اللغوي؛ لأنَّه أسبق إلى الذِّهنِ، وهو الذي يتداوله الناس أكثر، وذاك
المعنى مهجور، فبناءً على ذلك إذا أطعمَ ظعينةً أو تصدَّقَ على امرأةٍ فتلزمه
الكفَّارة؛ وذلك إذا حلفَ أن لا يُعطي ظعينةً أو لا يتصدَّقُ عليها.
أمَّا إذا حلف أن لا يُكلِّمُ ظعينةً فهذا ظاهر؛ لأنَّ البهيمة لا تُكلَّم.
والدَّابَّة من حيثُ الأصل تُطلَق على ما دبَّ على وجه الأرض، كما ذكر الله ذلك في
كتابه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ﴾ [النور: 45]، ولكن المعنى العرفي أخص من ذلك، فتُطلَق على الخيلِ
والبغالِ والحمير، فإذا حلفَ أن لا يشتري دابَّة، ثم اشترى سمكةً أو اشترى طيرًا؛
فهو في المعنى اللغوي دابَّة، ولكن في المعنى العرفي الدَّابَّة إنَّما هي خيلٌ أو
بغالٌ أو حمير، فما دامَ أنَّه اشترى سمكًا أو طيرًا فيُحمَل فعله على المعنى
العرفي؛ فلا يحنَث بشرائه دجاجة أو نحوها ممَّا يدبُّ على وجه الأرض.
الرَّاوية من حيث الأصل هي النَّاقة التي يُروَى عليها، لكنَّها في المعنى العرفي
تُطلَق على المزادة، وهي ما يُوضَع فيه الماء، لأنَّها في الغالب تُوضَع على
النَّاقة، فانتقل الاسم من النَّاقة إلى المزادة أو القربة.
فلو حلفَ شخص أن لا يشرب من راويةٍ؛ فلا شكَّ أنَّه يُقصدَ المزادة، أمَّا لو حلف
أن لا يشتري راوية، فلا يحنَث بشراء الدَّابة أو النَّاقة التي يُحمل عليها الماء؛
وإنَّما يحنث بشراء ذات الوعاء، لأنَّ هذا هو المعنى العرفي، والمعنى العرفي هو
الغالب على النَّاس، وهو أخص من المعنى اللغوي.
وقد يُهجَر المعنى اللغوي من حيث الأصل، مثل: العذرة.
فالأصل أن تُطلق العذرة على قَذَرِ الفناء، فيُقال: نظِّفوا أفنيتكم من العذرات،
يعني: من الأوساخ.
وتُطلَق العذرات على ما هو أخصُّ من ذلك وهي الفضلَة، وهو المعنى العرفي الذي
يتبادر إلى الذِّهن.
فلو قال: والله لا حملتُ عذرةً؛ فلو حملَ أوساخًا أو أوراقًا ونحوها فلا يحنث؛
لأنَّه وإن كانت العذرة في اللغة تُطلَق على ذلك كله لكنَّها في المعنى العرفي أخص
من ذلك وهي فضلة الآدمي.
ويذكرون في ذلك أمثلةً كثيرةً جدًّا، وأظنُّ أنَّ ما ذكرناه كافٍ في تحصيل المقصود
وفهم المراد الذي قصده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَشَمُّ الرَّيْحَانَ، فَيَمِيْنُهُ
عَلَى الْفَارِسِيْ)}.
الرَّيحان يشمل نبتٌ كثير، لكن في عرفهم أنَّ الفارسي هو ما يسمى بالرَّيحان، وما
عادوا يسمون النبت الآخر بالرَّيحان، فلو حلف أن لا يشمُّ ريحانًا؛ فيتبادر إلى
الذهن أنَّه أراد المعنى العرفي الذي هو الرَّيحان الفارسي، فلو شمَّ ريحانًا آخرَ
لا يحنث.
مثال: القماش في عرف النَّاس يُطلَق على ما يُنسَج، أمَّا في العربية أعم من ذلك
وهو كل مَتاع البيت من كراسي وأوانٍ، ويُسمَّى قماش الدَّار، فلو حلف واحدٌ أن لا
يشتري قُماشًا؛ فلا يحنث بشراء الأواني والكراسي؛ لأنَّه وإن كان هذا هو معناه في
اللغة لكن معناه في العرف أخص، وهو ما يُنسَج، فحُمِلَ على المعنَى العرفي لأنَّه
هو الذي يتبادر إلى الذِّهن.
مثال آخر: الثوب في اللغة هو كل ما يُلبَس، فالقميص ثوب، والطَّاقيَّة ثوب،
والعباءة ثوب، والإزار ثوب، والرِّداء ثوب، والدِّرع ثوب، أو ما يُسمِّيه الناس (تي
شيرت - أو فانيلة)، والسَّراويل ثوب، والتُّبَّان -وهو السَّراويل القصيرة جدًّا
التي لا تغطي إلى القُبُل والدُّبر- فهذه ثوب.
أمَّا عندنا مثلًا لا يعرف النَّاس إلا أنَّ الثَّوب هو القميص، فلو قلت له ناولني
الثَّوب؛ فلا يُمكن أن يُناولك لا عمامة ولا عباءة ولا غيرها.
لو حلف شخصٌ أن لا يشتري ثوبًا؛ فيُحمَل على المعنى العرفي، وهكذا باختلاف أعراف
الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ شِوَاءً، حَنِثَ بِأَكْلِ
اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ دُوْنَ غَيْرِهِ)}.
يُمكن أن يُشوَى بيض أو بعض الخضراوات، فإذا حلف لا يأكل شواءً فالأصل أنَّ أيَّ
شيءٍ عُرض على النَّار فهو مشويٌّ فيدخل في يمينه، لكن المعنى العرفي أخص وهو
اللحم، وبناء على ذلك نقول يحنث لم أكل لحمًا.
كلُّ هذا فيما إذا لم يكن له قصدٌ، ولم يكن ليمين سببٌ هيَّجها؛ فننتقل إلى الحال
الثَّالثة بتقاسيمها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَطَأُ امْرَأَتَهُ حَنِثَ
بِجِمَاعِهَ)}.
الوطء من حيث الأصل في اللغة: أن يطأ الشَّيءَ بقدمِه، فإذا حلفَ لا يطأ امرأته
فليس المقصود بذلك ألَّا يضع قدمه عليها؛ وإنَّما المقصود بالوطء شيء أخص من المعنى
اللغوي، وهو الجماع والمعاشرة وحصول الإيلاج ما يتبع ذلك.
وبناء على ذلك مَن حلف لا يطأ امراته فلا يحنَث لو وطئها أو وقعت قدمه عليها،
وإنَّما يحصل منه الحنث إذا جامعها وحصل منه إيلاج، والجماع هو الجماع الشَّرعي
الذي تترتَّب عليه الآثار بتغييب الحشفة أو بالتقاء الختان في الختان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَطَأُ دَارًا، حَنِثَ بِدُخُوْلِهَا
كَيْفَ مَا كَانَ)}.
إذا حلفَ لا يدخل دارًا؛ فالأصل في الدُّخول أن يكون كيفما كانَ، سواء دخل يمشي أو
راكبًا أو محمولًا، فكيفما كان فهو داخلٌ لهذه الدَّار، فيصدق على المعنى اللغوى
دخولٌ، وبناء على ذلك يترتَّب عليه الحنث بالدُّخول على أي الأحوالِ.
وكأن المؤلِّف انتقل بهذا المثال إلى المعاني اللغوي، وستأتي أمثلته الآن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ لَحْمًا وَلاَ رَأْسًا وَلاَ
بَيْضًا، فَيَمِيْنُهُ عَلَى كُلِّ لَحْمٍ وَرَأْسِ كُلِّ حَيَوَانٍ وَبَيْضِهِ)}.
انتقلَ المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا المثال إلى الحقيقة اللغويَّة، فإذا حلفَ
لا يأكل رأسًا، فلا نقول إنَّه مختص برأس بهيمة الأنعام أو بالضَّأن أو بالماعزِ؛
وإنَّما يصدق على أيِّ رأسٍ؛ لأنَّ هذه ليس لها معنًى عُرفي يختصُّ بها، فلو وُجد
معنًى عرفيٌّ في أحدِ الأمصار أو في أحد الأماكن أو في أحد الأزمان يختص بالرأس
فإنَّه ينتقل إلى القسم الأوَّل.
ومثل ذلك: لو حلفَ لا يأكل بيضًا؛ فلا يختصُّ ببيض الدَّجاج، فسواء أكل بيض
الدَّجاج أو بيض السمان أو بيض الحمام أو بيض النَّعام؛ أيُّ بيضٍ كان فهو داخلٌ في
هذا ومتعلِّقٌ به الحكم على نحو ما ذكر المؤلف من أنها حقيقة لغويَّة، تستوي هذه
الأشياء في هذا الاسم، فيدخل فيها جميعُ ما احتمله لفظه، لأنَّ هذه هي الحقيقة
اللُّغوية، ما دام أنَّه ليس له قصدٌ، وليس له سببٌ هيَّجَ اليمين، ولا يتعلَّق بها
معنًى شرعي ولا معنى عرفي.
هل يدخل لحم السَّمك في مُسمَّى اللحم؟
نقول: لو وصلَ الأمر إلى أن يكون عُرف النَّاس أنَّ لحم السَّمك لا يدخل في معنى
اللَّحم؛ فينتقل معنى اللَّحم إلى المعنى العرفي؛ لأنَّه أخص، وسواء خرج من شيء
قليل أو كثير.
فعند بعض النَّاس لا ينطبق اللحم إلَّا على بهيمة الأنعام، وبعضهم ينطبق اللَّحم
على أي لحم، سواء لحم الدَّجاج أو العصافير أو غيرها، ولكن ما اعتادوا أن يقولوا
على السَّمك من أنَّه لحكم.
وبناء على ذلك نقول: إنَّ الأصل في اللحم أن تدخل فيه هذه الأشياء كلها، فلو كانَ
عند أناس اختصُّوا بشيءٍ؛ فسينتقل الحكم من النَّوع الثَّالث إلى النَّوع الثَّاني
-الذي هو المعنى العرفي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالأُدْمُ كُلُّ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ
بِهِ، مِنْ مَائِعٍ وَجَامِدٍ، كَاللَّحْمِ، وَالْبَيْضِ، وَالْمِلْحِ،
وَالْجُبْنِ، وَالزَّيْتُوْنِ)}.
الأُدُم: جمعُ إدامٍ، والإدام هو كلُّ ما يُؤكل به الخبز، أو يُقال: هو كل ما
يُحلَّى به الطَّعام.
قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾، [المؤمنون: 20]، فما يُصبَغ به
الطَّعام ويُوضع فيه الخبز هو إدامٌ.
ولها كلمة دارجة بالإنجليزيَّة سنقولها لأنَّها تقرِّب المعنى وهي " Sauce- صوص"
مثل معجون الطَّماطم الذي يسميه النَّاس "كاتشب" و"المايونيز" يدخل في ذلك؛ لأنَّها
كلها يُحلَّى بها الطَّعام، وزيت الزَّيتون والخل يُحلَّى به الطعام، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ» .
عند الحنابلة أنَّ الإدام: هو ما يُصبَغ به الخبز؛ لأنَّه في الغالب يُغطَّى عليه
الخبز، مثل المرق وغيره، ويزيدون اللحم.
وبعضهم يقول: الإدام هو كلُّ ما يُحلَّى به الطَّعام، فيدخل في ذلك كل شيءٍ يُوضَع
على الطَّعام لتحليته.
لو حلف شخصٌ لا يأكل إدامًا؛ فنرجع إلى أنَّ الإدام هو ما يُصبَغ به الخُبز -في
الحقيقة اللغوية- وما يُصبَغ به اللحم -عند بعضهم- فإذا كان لهم عُرفٌ فيُحمَل على
العرف.
فيما مضى كان الإدام عندَ أهل الرياض وأهل نجد هو اللحم، فيقولون: ما عندنا اليوم
إدام -أي: ما عندنا لحم- لأنَّ جرت عادتهم أن يُحلُّوا الطعام كالأرز باللحم
باعتبار أنَّه إدام.
إذن؛ لو حلف لا يأكل إدامًا فلا يخلو:
• إمَّا أن يكون لهم عُرف: فيدخل كل أنواع الأُدُم.
• وإن كان لهم عُرفٌ: فيتعلَّق به الحنث به.
قول المؤلف: (كَاللَّحْمِ، وَالْبَيْضِ، وَالْمِلْحِ، وَالْجُبْنِ،
وَالزَّيْتُوْنِ)، فاللحم يدخل فيه، والبيض، والملح بأنواع سواء كان مطحونًا أو
غيرِ مطحونٍ، سواء كان من البحر أو من الجبل؛ والجُبن يدخل فيه بأنواعه الكثيرة،
وكذلك الزَّيتون أخضره وأسوده، وصغيره وكبيره؛ فكله يدخل في هذا، إلَّا أن يكون له
عرف فيتعلَّق به العرف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَسْكُنُ دَارًا، تَنَاوَلَ مَا يُسَمَّى
سَكَنًا، فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا بِهَا، فَأَقَامَ بِهَا بَعْدَ مَا أَمْكَنَهُ
الْخُرُوْجُ مِنْهَا، حَنِثَ، وَإِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ قُمَاشِهِ، أَوْ كَانَ
لَيْلاً، فَأَقَامَ حَتَّى يَصْبَحَ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَقَامَ حَتَّى
أَمِنَ، لَمْ يَحْنَثْ)}.
السُّكنَى لها معنى، وهو: الإيواء إلى الدَّار والبقاء فيها، فأيُّ بقاءٍ في
الدَّار وإيواءٌ إليها فهو سكنٌ.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: ( تَنَاوَلَ مَا يُسَمَّى سَكَنً)، أي شيء يدخل فيه
ويأوي إليه فهو يعتبرُ قد سكنَ هذه الدار وآوى إليها؛ وهو قد حنثَ في يمينه.
قول المؤلف ( فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا بِهَ)، يعني لو قال: والله لا سكنتُ دارًا؛
وهو في الدَّار نفسها
يقولون: إن لم يخرج فيحنث، فإن بقيَ وقتًا يُمكِنُ أن يخرجَ فيه فسكنَ واستقرَّ
فيحنث.
ولو قال: والله لا سكنتُ دارًا؛ فلمَّا أراد الخروج خافَ من لصوصٍ فبقيَ إلى
الصَّباح؛ فهذا بقاءُ انتظارٍ وتربُّصٍ وليس بقاء سُكنَى، وهذا يخرج عن حدِّ
السُّكنَى، فهو وإن بقيَ ومَكثَ لكنَّ مُكثَه ليس حقيقةَ السُّكنَى، فالسُّكنَى
إيواء واطمئنانٌ وهدوءٌ واستقرار، وهذا حالُ مُتربِّصٍ ومنتظرٍ ومُريدٍ للخروجِ؛
فبناء على ذلك حتى ولو انتظر للصَّباح فإنَّه لا يدخل في حدود السُّكنَى.
قوله: (وَإِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ قُمَاشِهِ)، القماش هو أساس البيت، يعني قال: والله
لا سكنتُ هذه الدَّار، وجلس يجمع أثاثه وما كان من حوائجه؛ فهذا المُقام ليس
سُكنَى، وبناء على ذلك لا يحنث بهذا المُقامِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ كَفَّارَةِ الْيَمِيْنِ)}.
لمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- باب الأيمان وما يتعلَّق بها ذكرَ الكفَّارة؛
لأنَّ في بعض أحوالها قد يُحتَاجُ إلى كفَّارةٍ، إمَّا لكونِ الإنسان قد أتى
المحلوف عليه، وإمَّا أنَّه أرادَ إتيان المحلوف عليه لكونِ الخير فيه، وتركِ ما
حلف عليه، فبناءً على ذلك كان ذكر الكفَّارة مُناسبًا، والله -جَلَّ وَعَلَا- قد
ذكر ذلك في كتابه في قوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [المائدة: 89].
وفي الآية إشارة إلى أنَّ هذه اليمين مُعظَّمةٌ عند الله -جَلَّ وَعَلَا- لأنَّها
حلفٌ بمعظَّمٍ، ولا ينبغي التَّلاعُبِ بذلك، ولذلك كان السلف يضربون صبيانهم على
ذلك، فماذا نقول للكبار إذا تلاعبوا! وماذا نقول للعقلاء إذا استهانوا!
فيجب على الناس أن يُعظِّموا الله، وإذا حلفوا برُّوا في أيمانهم، وأن لا يُعْوَز
إلى اليمين إلَّا إذا احتيجَ إلى ذلك، فينبغي أن يُعرَف أنَّ هذا بابٌ عظيمٌ،
ولمَّا كان بهذه المثابة، وكان أهل الإيمان الذين هم أهل الصَّلاح والإيقان لا
يأتون هذا الباب إلَّا إذا احتاجوا إليه؛ فقد يُعوزهم الأمر إلى كفَّارةٍ لكونهم قد
فعلوا ما حُلِفَ على تركه أو تركوا ما حلفوا على فعله، أو أنَّهم رأوا الخير في
تركِ اليمين التي عقدوها؛ فجعل الله -جَلَّ وَعَلَا- لهم في ذلك فسحةً في كفارة
اليمين.
ومن حيث الأصل فإنَّ الاستهانة باليمين محرَّمةٌ، وما وجبت الكفَّارةُ إلَّا
تعظيمًا لله، وإعلامًا للمكلَّفِ بأنَّه فعلَ أمرًا عظيمًا، ولذلك استوجبَ ما
يُقابل ذلك من الكفَّارةِ والاستغفار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَفَّارَتُهَا: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِيْنَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُوْنَ أَهْلِيْكُمْ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أوْ تَحْرِيْرُ
رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ تَقْدِيْمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَتَأْخِيْرِهَا عَنْهُ؛ لِقَوْلِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ
فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ وَلْيَأْتِ
الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ»)}.
الكفَّارة من حيث الأصل بمعنى: التَّغطية؛ لأنَّ اليمين إذا حنثَ فيها فالذي
يُغطِّيها ويمسحها ويُذهبها إنَّما هي الكفارة، ومن ذلك سُمِّيَ الزُّرَّاعُ
كُفَّارًا؛ لأنَّهم يُغطُّونَ البذرَ في الأرضِ حتَّى تكبُرَ وتنبت.
إذن؛ كفارةُ اليمين تُغطِّي أثرَ الحنث في اليمين، وتُذهبُ تبعتها -بإذن الله جلَّ
وعلا- ولكن بشرطِ أن لا يكون هناكَ استهانةٌ ولا استهتارٌ ولا تلاعبٌ باليمين،
وإلَّا دخلَ الإنسان في المحرَّم وتعلَّق به الإثم، ويُخشَى عليه ألَّا تكون
الكفَّارةُ في محلِّها، فيُلاحظ عندَ كثيرٍ من النَّاس التَّلاعب بالأيمان والإسراع
إليها، والتَّلاعب بالحلف بالطَّلاق مع عِظَمِ ما يترتَّب عليه من تفريق الأُسَر
والوقوع في المحرَّم، وكم نادى أناسٌ بالويل والثُّبورِ لكثرةِ ما حلفوا به من
الطلاق ووقعوا في ضدِّه، فتعلَّقت بهم تبعاتٌ، وتفرَّقت لهم أُسرٌ، ولحقَ بهم بذلك
بلاءٌ عظيمٌ.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَفَّارَتُهَ)، فيه إشارةٌ إلى خصال الكفَّارة،
وعادةُ الفقهاء أن يذكرون الخصال واحدةً واحدةً، لكن المؤلف على عادته -رَحِمَهُ
اللهُ- نقل الخصال من الآية ليستخرجها الطالب طلبًا للبركةِ بذكرِ الآيات والأحاديث
في هذا المختصر المبارك.
وخصالُ الكفَّارة:
• إمَّا إطعامٌ.
• وإمَّا كسوةٌ.
• وإمَّا عتقُ رقبةٍ.
هذه خصال الكفارة الثلاثة.
والكفَّارات على نوعين:
* إمَّا كفَّارةٌ مرتَّبَةٌ، مثل: كفارة الظهار، وكفارة القتل ونحوه.
* وإمَّا كفارةٌ مخيَّرةٌ -يُخيَّرُ فيها الإنسان- مثل: فدية محظورات الإحرام فهي
على التَّخيير، إمَّا صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستَّة مساكين، أو ذبح شاة للمساكين
في الحرم أو غيره، على التَّفصيل المتقدِّم.
هذه الكفَّارة بخصوصها هي التي جمع الله -جَلَّ وَعَلَا- فيها بينَ التَّخيير
والتَّرتيب، فيُخيَّر فيها بينَ ثلاثة أشياء (الإطعام والكسوة وإعتاق الرقبة)، فإن
لم يكن واجدًا لواحدٍ من هذه الثَّلاثة فينتقل إلى الصِّيام.
ومقتضى ذلك: لو أنَّ شخصًا حنثَ في يمينه فصامَ مع قدرته على الإطعامِ أو الكسوة أو
العتقِ لم يصح منه ذلك، فلا يصير إلى الصِّيام إلَّا إذا تعذَّرت عليه الخصال
الثَّلاث برُمَّتها، أمَّا مَن استطاع واحدًا من هذه الخصال أو استطاع جميعها
فإنَّه يفعل واحدةً منها على التَّخيير، ولا يُقيَّد بواحدةٍ دون الأخرى، فمن
استطاع الإطعام والكسوة والعتق فليفعل ما يشاء، ولا نقول لابدَّ أن تفعل الأشد أو
الأعظم وهو الإعتاق؛ فسواءٌ أطعمَ أو أعتقَ أو كسَا فقد حصل بذلك المراد وانفكَّت
بذلك يمينه، وكفَّر عن ما عقد له من حلف.
إذن؛ كفَّارة اليمين على التَّخيير والتَّرتيب، ومن المفاهيم المغلوطة عند كثيرٍ من
النَّاس أنَّهم يظنون أنَّ كفارة اليمين هي الصِّيام!
ونقول: هي خصلةٌ من خصالِ الكفارة، لكنَّها خصلةٌ مُؤخَّرةٌ، لا يُصارُ إليها إلَّا
عند تعذُّرِ الخصال المتقدِّمة، أمَّا الخصال الثَّلاث المتقدِّمة فهي على
التَّخيير يفعل الإنسان ما شاء منها.
قوله (وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَقْدِيْمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ
وَتَأْخِيْرِهَا عَنْهُ)، هذه مسألةٌ ثانية وهي: ما وقت الكفَّارة؟
عندنا ثلاثةُ أوقاتٍ:
الحال الأولى: لا تصحُّ بالإجماع وهي أن يُكفِّرَ قبل اليمين؛ لأنَّ الكفَّارة
إنَّما هي أثرٌ من آثار اليمين، فبناء على ذلك تكون هذه الكفَّارة لا اعتبار بها،
وهي صدقةٌ من الصَّدقات.
لو قالَ شخص: أذهبُ عندَ فلان وسأحلفُ عليه، وأعرفُ أنَّه لن يُطيعني، فهذه
كفَّارةٌ لليمين!
فنقول: هذه كفَّارةٌ لم تقع موقعها؛ لأنَّ الكفَّارة تكون عن اليمين، واليمين لم
تنعقد، فالكفارة لا تتأتَّى.
الحال الثَّانية: أن يُكفِّر بعدَ الحنث، فهذا لا إشكال فيه، فإنَّ مَن حنثَ وجبت
عليه الكفارة، ويقول الفقهاء: إنَّ وجوبها على الفور ولا يتأخَّر عنها إلَّا لسببٍ.
فإذا حلفَ شخصٌ لا يكلم أخاه، فنُصِحَ وقيل له اتقِ الله، وعدم تكليمك له إثمٌ
وقطيعةٌ وإعانةٌ للشَّيطان على نفسك وعلى أخيك؛ فكلَّمَ أخاه، فلزمته الكفَّارة،
ولا إشكال في ذلك.
الحال الثَّالث: التَّكفير بعدَ اليمين وقبل الحنث.
كما في المثال السَّابق: لو حلفَ شخصٌ لا يُكلِّم أخاه، فجاءه واحدٌ وقال له اتقِ
الله، لا يليق بك أن تقاطعه فهو أخوك الذي ولدته أمُّك والذي نشأ معك! والنَّاس
يَصلُون أرحامهم ويصِلُون جيرانهم ويصِلُون أصدقاءهم، وأنت تقطَع أقربَ النَّاس
إليك وهو أخوك؟!
فقال: أذهبُ إليه؛ فكفَّرَ عن يمينه ثم ذهب ليُكلِّمَه.
نقول: هذا صحيحٌ؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عبد
الرحمن بن سمُرَة قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ»، فبدأ
بالكفَّارةِ قبل إتيان الذي هو خير، وفي بعض الروايات « فأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ،
وكفِّرْ عَنْ يَمِينك» ، فسواء قلنا بهذه الرواية أو بتلك أو بهما جميعًا؛ فالواو
دالَّةٌ أصلًا على التَّشريك، ولا تقديم فيها ولا تأخير، فسواءٌ أتى الذي هو خيرٌ
كفَّرَ، أو كفَّر وأتى الذي هو خيرٌ فإنَّ ذلك صحيحٌ ومعتبرٌ، وهذا هو مشهور المذهب
عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
ما الفائدة من تقديم الكفَّارة على الحنث؟
هذا أسرعُ في الاستجابةِ، وأعظمُ في الامتثالِ، وإظهارٌ للنَّدمِ عندَ إرادة الحنث
قبلَ فعله، لكن لا تجب إلَّا بالحنثِ، فإذا حنثَ وجبت عليه، وإذا وجبت عليه وجبَ
الإسراعُ والفورُ فيها، ولو أخَّرها لكان متوانيًا عمَّا أوجبَ الله عليه، فيجبُ
عليه الاستغفار إلَّا أن يؤخِّرها لسببٍ من الأسباب الشرعيَّة يقتضي ذلك، فمتى ما
قدرَ على ذلك وجبَ عليه ولزمه فعل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُجْزِئُهُ فِي الْكِسْوَةِ مَا تَجُوْزُ الصَّلاَةُ
فِيْهِ، لِلرَّجُلِ ثَوْبٌ، وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ)}.
الكسوة أطلقها الشَّارع، فتكون هي الكسوة الشَّرعيَّة، وهي ما تجوز الصَّلاة فيها
بالنسبة للرَّجل وبالنِّسبة للمرأة، فيُصلِّي الرَّجل في ثوبٍ واحدٍ، وهذا فيه معنى
الثَّوب في الشَّرعِ، سواءٌ كان قميصًا أو إزارًا أو نحو ذلك.
وثوب المرأة: درعٌ وخمار.
والدِّرع: قد يكون مثل القميص بالنِّسبة للرَّجل، فيُسمَّى درعًا، ويُسمَّى
درَّاعة، وهي من المسمَّيات التي يستعملها النَّاس، وقد يكون أقصر وقد يكون أطول،
فكلُّه يدخل في الدِّرع.
والخمار: هو الذي يُغطي الرأس وينزل على البدن.
فهذه هي الكسوة التي يحصل بها الإجزاء في كفارة اليمين، فإذا زاد فذاك خيرٌ على
خيرٍ، لكن لا تنقص عن ذلك، فلو اشترى شخصٌ عشرةَ ثيابٍ فقسَّمها على الفقراء
والمحتاجين فقد كفَّرَ عن يمينه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةَ مَسَاكِيْنَ،
وَيَكْسُوَ خَمْسَةً)}.
إن أتى ببعضِ خصالِ الكفَّارة وبعضها الآخر فهذا جائزٌ عندَ الحنابلة، وهو محلٌّ
للبحث والنَّظر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ أَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةً،
أَوْ كَسَاهُمْ، أَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدَيْنِ، لَمْ يُجْزِئْهُ)}.
كأنَّ بابَ الكسوة والإطعام شيءٌ واحدٌ، فحتى لو حصَّلَ بعضَ هذا وبعضَ هذا فهي
كالشَّيء الواحد، فالكسوة من جنس الإطعام، لكن الإعتاق شيءٌ واحد وليس من جنس
الإطعام، فإمَّا إطعامٌ وإمَّا إعتاق.
ولو أعتق نصف عبدين؛ فهذا لا يتأتَّى به ما يتأتَّى بإعتاقِ العبدِ كاملًا الذي
يتخلَّص به من تبعة الرِّق والعبوديَّة وتحصل له الحريَّة؛ فلأجل ذلك لم يجعلوه
محصِّلًا لكفارة اليمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُكَفِّرُ الْعَبْدُ إِلاَّ بِالصِّيَامِ)}.
العبدُ لا يملك، فلا يُتصوَّر منه أن يُطعِم أو أن يكسو، أو أن يعتق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ
بِهِ فَاضِلاً عَنْ مُؤْنَتِهِ، وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ)}.
من الذي لا يستطيع الإطعام والكسوة والإعتاق؟
نقول: هو الذي لا يجد فاضلًا عن حاجته، فإذا كان الشَّخص عنده ما يكفيه لكن ليس
عنده شيءٌ يفضُل، فلو أعتق أو أطعم أو كسا مساكين فسيُنقِصُ على أهله، أو تذهب بعض
حوائجهم؛ فهذا ينتقل إلى الصِّيام.
أمَّا مَن وجدَ ما يكفي نفسَه وأهله وولدَه ومَن تجب عليه نفقته، وعنده ما يزيد، ثم
انتقل إلى الصِّيام ؛ فلا يصح ذلك منه؛ وإنَّما يصح ممَّن لا يجدُ فاضلًا عن حاجته
حتى ولو كان ذلك بشيءٍ من البيع، إلَّا أن يبيع ما يُحتاجُ إليه، فلو كان عنده
مثلًا سيَّارة يعمل عليها ويتكسَّب عليها وفاضلة عن حاجته وحاجة عياله لكن لا
يتأتَّى كسبه إلَّا بها، فلا نقول بعها لأنَّها داخلةٌ في حاجته الأصليَّة، وذكر
الفقهاء تفصيلًا لذلك فيما يتعلَّق بشرط الاستطاعة في الحج، والفاضل عن نفقته
الأصليَّة وحوائجه اللازمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيْعَ فِيْ ذلِكَ شَيْئًا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ، وَخَادِمٍ، وَأَثاَثٍ، وَكُتُبٍ، وَآنِيَةٍ،
وَبِضَاعَةٍ يَخْتَلُّ رِبْحُهَا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ)}.
يعني لو كانت هذه الأشياء يُحتاج إليها، ولو باعها لاختلَّت بذلك حاجته لم يلزمه
بيع ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ أَيْسَرَ بَعْدَ شُرُوْعِهِ فِيْ الصَّوْمِ، لَمْ
يَلْزَمْهُ اْلاِنْتِقَالُ عَنْهُ)}.
لأنَّه بدأ في الصِّيام، ثم جاءته أموال كأن يكون قد ورث أو أعطاه شخصٌ هدية جزلة
-كبيرة- فلا يلزمه الرُّجوع، لأنَّه بشروعه في الصِّيام وجب عليه، فتعلَّقَ بذمَّته
الصيَّام، ولكن لو قطع الصِّيام وقال أُطْعِمُ، فلَه ذلك، ولكن مِن حيثُ الأصل لو
أكملَ صيامه وأبقَى المال له، فقد فعلَ ما يجبُ عليه، لأنَّه بالشُّروعِ قد تحتَّمَ
عليه ذلك وانتقل الصيام إلى ذمَّته، وتخلَّصَ ممَّا سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مِسْكِيْنًا وَاحِدًا، رَدَّدَ
عَلَيْهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ)}.
الأصل في الإطعام والكسوة أن تكون لعشرة مساكين، فلمَّا ذكر الله -جَلَّ وَعَلَا-
عشرةً فوجبَ استيعابهم في العدد، ولم يجُزْ له أن يُعطي الشَّخصَ عشرًا من الكسوة
أو يُطعمه عشرَ مراتٍ؛ ولكن لو لم يجد مسكينًا فهذا حال اضطرارٍ، فيُعطي هذا
المسكين عشرًا، ولكن لا يُعطيه دُفعةً واحدة؛ بل يُطعمه مرَّةً بعدَ أخرَى، أو
يكسوه مرَّة بعدَ أخرَى حتى يحصل له التَّعدادُ المذكور في الآية.
انتهينا بذلك من هذا الباب.
أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن يُلهمنا الصَّواب، وأن
يوفِّقنا للحقِّ، وأن يزيدنا من الهُدَى، شكرَ الله للإخوة المشاهدين والمشاهدات،
وجعلهم الله -جَلَّ وَعَلَا- من العلماء العاملين، وأهل الفضل والعبادة
الرَّبَّانيين، وأن لا يُزيغ قلوبنا، وأن لا يُضلَّنا، وأن يحفظنا، وأن يُصلحنا
ووالدينا وأزواجنا وذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين، وأن يُصلح العباد والبلاد، وأن
يحفظنَا ويحفظَ علينا ولايتنا وجماعتنا ومقدَّراتنا ومقدَّساتنا إنَّ ربَّنا جوادٌ
كريمٌ.
{وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.