الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1889 24
الدرس الثامن عشر

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله طلبة العلم وطالباته، وأسأل الله أن يجزينا وإياكم خير الجزاء.
تحمَّلوا هذه المجالس وهذه الدروس؛ فربما لا تجدوا أنفسكم تَنْشَدُّ إلى تعلُّمها باعتبار أنها في القتل والدم، والضرب والكسر؛ لكنَّ العلم لا يأتي على الهوى، وإنَّما هو في الاتباع والاستنان، فكما أنَّ هذا يُفارق ذوق نفوسنا ومحبَّة قلوبنا، لكن نتعلَّمه استنانًا بسنَّة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا من تمام الفضل وكمال التوفيق، ويزداد الإنسان بذلك أجرًا، فإنَّ تعلُّم الإنسان للشَّيءَ الذي يُلائمه لا يحتاج إلى كثير مجاهدة، أما ما لا يلائمك تحتاج فيه إلى مجاهدة كثيرة، فكلما جاهدتَّ نفسكَ كان الأجر لك أكثر، والله -جلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]، فالمجاهدة حتَّى تبلغ التمام والكمال هي طريق الإحسان والفضل من الله -جلَّ وَعَلَا.
{نشرع من قول ابن قدامة -جلَّ وَعَلَا: (فَأَمَّا كَسْرُ اْلعِظَامِ، وَاْلقَطْعُ مِنَ السَّاعِدِ وَالسَّاقِ، فَلاَ قَوَدَ فِيْهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والبر والهُدَى، وأن يجعلنا من عِباده المتقين الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين في خيرٍ وأمنٍ وأمانٍ وعزٍّ وتمكينٍ، وأن يحفظنا من كل مَن أراد بنا سوءًا أو تملؤوا علينا، أو عقدوا لأجل ذلك شرًّا أبرموا سواءً.
شرعنا في الدرس الماضي -أيها الإخوة- في القَوَد والقصاص، وذكرنا جملةً من المسائل المتعلقةِ بذلك، من أهمها ما يتعلق بشروط القصاص في الجروح، وقلنا: إنه لابدَّ أن يكون مُكافئًا للجاني، وأن يُؤمَن التَّعدِّي، وأن يكون عمدًا عدوانًا، فالعمد العدوان يُخرج العمد غير العدوان، بأن يكون مُستحقًّا، كمن أمره السلطان -أو القاضي- بأن يقطع يدَ فلانٍ لكونه سارقًا، أو لكونه قطع يدَ فلانٍ، فهذا عمدٌ لكنَّه ليس عُدوانًا؛ بل هو عمدٌ بحقٍّ، وبناء على ذلك لا يترتب على مثل هذا قصاص ولا تبعةٌ.
إذن؛ لابدَّ أن يكون عمدًا عُدوانًا، وأن يكون مكافئًا، وأن يُؤمَن التَّعدِّي؛ لأنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- نهى عن الظُّلم، فجاء في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُو» .
ومن استعدَى على شخصٍ بأكثر من الجناية فإنَّ هذا من أعظم الظُّلم والعُدوانِ، ولذلك يذكر أهل العلم تفاصيل مسائل دقيقة، حتَّى في الدُّعاء، يقولون: لو أنَّ شخصًا اعتدى على آخر فأخذَ منه قطعةَ لحمٍ أو شيئًا من الطعام، ثم دعا عليه المظلوم وقال: اللهم اقصف أجله، وأذهب عمره، وعليك به وبزوجه وولده! فهذا نوعُ اعتداء حتَّى ولو في الدعاء، فتدعو عليه بقدر المظلمة التي ظلمك بها، وهذا قرَّره غير واحدٍ من أهل العلم، وأذكر أنَّ آخر مَن نصَّ عليه من العلماء ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ.
إذن؛ الأمن من التَّعدي حتَّى ولو كان الجاني ظالمًا، فكون الجاني جنى لا يُبيح ذلك دمه أو التطاول عليه أو الزيادة في الاستيفاء، فإن الشرع أمر بالعدل مع الجاني والمجني عليه، ومع كل أحدٍ، حتى الجاني في حال جنايته، فنحن نقتصُّ للمجني عليه، لكن لا نزيدُ في ذلك ولا نستطيل، فإنَّ الاستطالة أعظم ما يكون بها البلاء والشر.
وذكر الفقهاء أوجهًا لِمَا يحصل به الأمن من التَّعدي، وهو ما له حدٌّ ينتهي إليه، وبالنسبة لشجاج الرأس ما ينتهي إلى عظمٍ. وذكرنا جملة هذه المسائل.
وذكرنا أيضًا؛ هل لَمَّا تطوَّر الطِّبُّ والآلات الحديثة التي يكون معها شيءٌ من التَّصوير والدِّقَّة والعلم بالفعل في الجاني بمثل ما فعل؛ فهل يُمكن أن نزيد ونقول: إن بعض ما ذكره الفقهاء مما قالوا لا قصاص فيه يُمكن أن نقتصَّ فيه باعتبار علمنا بالأمن من التَّعدي، وإن كان لتحصيل ذلك على وجهٍ دقيق؟
أشرنا إلى هذه المسألة، ولكن سأشير إليها بوجهٍ أعم، أو بوجهٍ فيه مأخذ ينفع الإخوة، فنقول: الأمن من التَّعدي هل هو قيدٌ جاء من جهة خصوص المسائل؟ بمعنى أن الشارع قال إن الاستيفاء إنما يكون في الأطراف وفيما له حدٌّ ينتهي إليه أو مفصل، أو ذكر أنه ينتهي إلى عظمٍ إذا كان من جراح الرأس؟
لا، ولكن جملة الأدلة في الشرع دلَّت على العدل، وحق المجني على الجاني، وعدم الاعتداء والزيادة والظلم.
ثم إنَّ الفقهاء اجتهدوا في تصوير المسائل التي يتأتَّى بها العدل وعدم الظُّلم، وما يُمكن أن يكون له ضابطٌ يستطيع الناس إجراءه والعمل به، ويتَّفقون على ذلك؛ لأنَّه كما قلنا: إنَّ أحكام الشرع باعتبار العموم لا باعتبار الخصوص.
لَمَّا تطوَّرت الآن الصناعات والآلات الحديثة وإمكان الطب من جهة إشرافه على مثل هذا ونحوه، فهل يُمكن أن نقول: إنَّ ما ذكره الفقهاء مما لا قصاص فيه يُمكن أن يكون فيه قصاص إذا أمكن أداؤه على الوجه الذي فعله الجاني بالمجني عليه؟
نقول: من جهة عمومات النُّصوص ودلائل الشرع ليس فيه شيء يمنع من ذلك.
ولهذا قلنا: إنَّ ما نُقل عن ابن تيمية وبعض الفقهاء أنَّهم وسَّعوا هذا حتَّى ذكروا ما يتعلق باللطمة وما شابهها، يُمكن الاستيفاء من خلالها، والخلاف هنا في تحقيق المناط، فهل يُمكن أن يتحقق أو لا يتحقق؟ أو يُمكن أن يُقال: إن بعض الأمور يُمكن القطع بإمكان فعل ذلك من الأطباء أو لا يُمكن ذلك؟
فهذا هو محل النظر، وكما قلت لكم: إنَّ هذه من المسائل قليلة الوقوع، والله يُعين من وليها في الحكم فيها والبت، وتوجد بعض البحوث الخاصَّة على الشبكة العنكبوتية في الاستيفاء في ما لم يذكر الفقهاء فيه استيفاء، ويُمكن الاستعانة بالطب الحديث وآلات المعليات ونحوها، والتصوير بالأشعة التي يُمكن أن يُعلَم القدر الذي وصل إليه الجرح، وإذا أريد الاقتصاص فيتم التصوير، حتى إذا وصل إلى المكان الذي وصل إليه الجاني أوقفوه، ونحو ذلك.
فيُمكن أن نقول: إنَّ هذا محل بحث، ولكن محله لمن وليَ هذه الأمور، ولمن احتيج في حقه إلى مثل هذه المسائل، وينظر فيها أيضًا بحسب ما اجتمع له على القول به من الثقة بقول الأطباء أنَّ ذلك ممكنٌ، وأنَّه لا خُطورة في التعدي، ويُؤمَنُ من حصول التجاوز والسراية وعدم المماثلة فيما ذكره الفقهاء.
قول المؤلف: (فَأَمَّا كَسْرُ اْلعِظَامِ، وَاْلقَطْعُ مِنَ السَّاعِدِ وَالسَّاقِ، فَلاَ قَوَدَ فِيْهِ)
كما أشرنا إليها فيما مضى، لو كسرَ واحدٌ ساق آخر، فهذا الكسر قد يكون كسرًا يسيرًا، فيُمكن إذا كسرناه أن ينكسر كسرًا شديدًا، وإذا حصل كسر واحد وأردنا الاستيفاء فقد يحصل كسران، فلا يُؤمن هنا من التَّعدي، ويُمكن إذا كسرنا أن يتفتَّت بعض العظم فيبقى فيه فراغ أو تجويف أو نحوه، فكل ذلك ممكن، وبناء على هذا فليس من اليُسر والسهولة حتَّى مع ما تقدَّمَ من الطِّبِّ وما وُجِدَ من الآلات أن يُفعلَ نحوًا ممَّا فعل الجاني بالمجني عليه؛ لأنَّ هذه الحالة يخضع لها حال الجاني وحال المجني عليه، وتركيبة العظم واللحم والجسم ونحوه.
بخلاف ما نقله الفقهاء من الأطراف والمواضع التي ينتهي إليها حد المفصل؛ فهذا أمرٌ سهلٌ ويسيرٌ، ومعروف في عموم الناس، كما هو أظهر عند أهل الطب والاختصاص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ قَوَدَ فِيْ اْلجَائِفَةِ، وَلاَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ،إِلاَّ الْمُوْضِحَةِ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى فِيْمَا فَوْقَ اْلمُوْضِحَةِ بِمُوْضِحَةٍ)}.
قوله: (وَلاَ قَوَدَ فِيْ اْلجَائِفَةِ)، المقصود بالجائفة: الجراح التي تصل إلى الجوف، والجوف هو كل مجوَّفٌ في البدن، فهذه يُمكن الاقتصاص فيها أو لا؟
لو أنَّ شخصًا غرسَ سكِّينًا في بطنِ آخر؛ فلو قسنا هذه السكين فإذا هي دخلت بعشرة سنتيمتر؛ فهل يُمكن أن نأتي بشخص ونُغرس فيه السكين عشر سنتيمتر؟
لا؛ لأنَّه يُمكن أن يكون في بطن هذا تجويف، وفي بطن ذاك أمعاء، فَنُصِيبُ الأمعاء، فبدلَ أن نكون قد خرقنا فقط الجلد واللحم الذي على ظاهر البدن يُمكن أن يكون مع ذلك قطع للأمعاء، مع أنَّ المجني عليه لم تنقطع أمعاؤه، وهكذا..
إذن؛ هذه الجائفة لا يُمكن الطمأنينة إلى تحصيل ما يُشابهها عند الاقتصاص من الجاني، فيُصار إلى بدل ذلك من الديات والحكومة في كل مسألةٍ بحسبها، كما سيأتي بإذن الله -جلَّ وَعَلَا.
قال: (وَلاَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ)، شجاج الرأس لها عشر أحوال، منها: "الدَّامعة، والبازغة، والموضحة، والهامشة..."، كلها لها أحوال، بعضها يسيرٌ وسهلٌ، وغاية ما يكون فيه أن تذهب الجلدة، وبعضه يغوص في اللحم، وبعضه يصل إلى العظم، وبعضه كسر العظم، المهم أنَّ لها أحوالٌ ربَّما تأتي إلينا في الدِّيات.
المهم؛ أنَّ الشِّجاج في الرأس لا يُمكن ضبطها إلَّا ما يصل إلى العظم، فكل واحد منكم إذا مسَّ عظمه فيُمكن بقدرته اليسيرة يعرف، فكيف بأهل الخبرة! فكيف بأهل الاختصاص من أهل الطب وغيرهم!
أن يجرح نفسه حتَّى يصل إلى العظم -نسأل الله العافية لنا ولكم- لكن بإمكان الإنسان أن يفعل ذلك، فهو شيءٌ ممكنٌ ومقدورٌ عليه، ولا مأمونٌ من حصول التَّعدي فيه، فلأجل ذلك ذكره الفقهاء.
ما زاد عن ذلك كأن يكسر شيئًا من العظم؛ فإذا أردنا أن نكسر من نفس الموضع، فربما ينكسر من موضع آخر، وبدل أن يكون الكسر أخذ في هذا الاتجاه فقد يكون قد أخذَ من محيط ذلك الاتِّجاهات كلها. إذن؛ هذا ممَّا لا يؤمن فيه الاستيفاء.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ أَنْ يَرْضَى فِيْمَا فَوْقَ اْلمُوْضِحَةِ بِمُوْضِحَةٍ)، فإذا كان قد وصل إلى الدَّامغة -التي وصلت إلى الدماغ- أو الهاشمة -التي هشمت العظم- فرضيَ بموضحةٍ بأن يقطع اللحم ونحوه؛ فله ذلك، وكأنَّه يقول: أنا لا يهمني أن أفعل به مثلما فعل بي، وحسبي أن أجرح هذا الذي جرحني.
فنقول: ما دام أنَّه يُجرَح إلى العظم فقط -وهي الموضحة- فيُفعل، أما ما زاد عن ذلك فإنَّنا لا نأمن التَّعدِّي، وبناء على ذلك لا نُجيزُ شيئًا من هذه الأفعال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ فِيْ اْلأَنْفِ إِلاَّ مِنَ الْمَارِنِ، وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ)}.
لا قودَ في الأنف؛ لأنَّه متكون من الجانبين والمارن -وهو الوسط- وقصبته، فلو أنَّ شخصًا قطع الأنف من مارنه فهذا شيءٌ يُمكن ضبطه؛ لأنَّ بين العظم والمارن فاصلٌ واضح، فإذا أُجريَ على هذا النحو فلا إشكال في الأمن من التَّعدِّي، لكن لو كانت بعض عظام القصبة قد تكسَّرَت فنرجع إلى ما ذكرناه قبل قليل، أنَّنا لو جئنا نكسر بعضها، فإنَّ الناس يختلفون في عظامهم، وفي الضَّربةِ وفي طيقتها، فلا نأمنُ أن نأتي بضربةٍ تكون كالضربة التي من الجاني، ولا نأمنَ أن تفعل في هذا الجاني أكثر مما فعله بالمجني عليه، فيحصل بسبب ذلك تفاوُتٌ،ـ ولا يُؤمَن التَّعدي، فلأجل ذلك منع الفقهاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ التَّسَاوِيْ فِي اْلاِسْمِ وَالْمَوْضِعِ، فَلاَ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنَ اْليُمْنى وَاْليُسْرى وَاْلعُلْيَا وَالسُّفْلى إِلاَّ بِمِثْلِهَ)}.
قوله: (وَيُشْتَرَطُ التَّسَاوِيْ فِي اْلاِسْمِ وَالْمَوْضِعِ).
الاسم: أصبع سبابة.
الموضع: الأنملة، أو أنملتان، أو جميع الأصبع.
فكون هذه سبَّابة بسبَّابة؛ لكن هنا أخذ من الأنملة الأولى، والثاني أخذ منه من الثاني؛ فلا؛ لأنَّ فيه تعدٍّ.
إذن؛ لابدَّ من التساوي في الاسم -سبَّابة بسبَّابة- وموضع بموضع.
والتساوي في الاسم يتأتَّى به المقصود بغضِّ النَّظرِ عن حالِ ذلك الأصبع، فقد يكون هذا أصبعًا قويًّا، وهذا أصبعٌ ضعيف، وقد يكون هذا لشخص سمين وهذا لشخص هزيل، فكل ذلك لا فرق فيه، فما دام التَّساوي في الاسم حاصلٌ فالحكمُ صحيحٌ ولا إشكال، ما دام قد حصل ما ذكرنا من التساوي في الاسم والموضع.
فلا يُقال: أصبع بأصبع حتَّى يُقال أصبع سبابة من اليد اليُمنى من موضع أنملته العيا -أو التي دونها، أو الثالثة- وهكذا..
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلاَ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنَ اْليُمْنى وَاْليُسْرى وَاْلعُلْيَا وَالسُّفْلى إِلاَّ بِمِثْلِهَ)، فلو أنَّ شخصًا فقأ عينَ شخصٍ آخر في يُسراه فقال الجاني: لا تفقؤوا يُسراي، فإنَّ يُسراي أقوى في النَّظر، وهذا قد يُفوِّتُ عليَّ في القيادة ونحوها، فخذوا اليُمنَى!
نقول: لا، لا يُؤخَذ إلَّا ما ساوى ذلك في اسمه وموضعه. فالاسم: عينٌ. والموضع: يُمنى أو يُسرَى.
ومثل ذلك في الشَّفة العليا واليُسرَى، وهدبُ العين الأعلى يختلف عن الأسفل، وجانب الأنف الأيمن يختلف عن الأيسر؛ فلابدَّ من التساوي في كل هذا، وكذلك في الأنثيين، فتختلف اليُسرَى عن اليُمنَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ تُؤْخَذُ إِصْبَعٌ وَلاَ أَنْمُلَةٌ وَلاَ سِنٌّ إِلاَّ بِمِثْلِهَ)}.
أُصبع، أو إصبع، أو أَصبع؛ كيفما نطقتها فهي صحيحة، ففيها عشر لغاتٍ، وآخرها: أُصبُع.
قولها (وَلاَ تُؤْخَذُ إِصْبَعٌ وَلاَ أَنْمُلَةٌ وَلاَ سِنٌّ إِلاَّ بِمِثْلِهَ)؛ لأن الأسنان ليست على حدٍّ سواء، فما يكون من الناب أو ما في مقدَّمِ الفم تختلف عمَّا كان داخلًا من ذلك، وبناء على هذا لابدَّ أن تتساوى، فهذه بهذه، وهذه بتلك، السفلى من السفلى، والتي تساويها في موضعها ولا يُختلف في شيءٍ من هذا، وإلَّا لم يجُز القصاص في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ تُؤْخَذُ كَامِلَةُ اْلأَصَابِعِ بِنَاقِصَةٍ)}.
اليد التي فيها خمسة أصابع لا تُؤخذ بمن يده فيها ثلاثة أصابع أو أصبعين، أو فيها كفٌّ فقط بدون أصابع، وإن كانت هذه يد وتلك يدٌ، وهذه يُمنَى وتلك يُمنى؛ ولكن هذا له أصابع وذاك ليس له أصابع، فلا تساوٍ في مثل هذه الحال، وبناء عليه فلا تؤخذ هذه بهذه؛ لأنَّ ما يفوت على الجاني من المنفعة بأخذِ يُمنها التي فيها أصابع كاملة الصفات بتلك التي قد فاتت على المجني عليه، فلابدَّ من التساوي في هذا وإلَّا لم يكن فيها قصاص.
قال: (وَلاَ صَحِيْحَةٌ بِشَلاَّءَ)، لو أنَّ رجلًا قطعَ يدًا شلَّاءَ من رجلٍ آخر، ويدُ الجاني صحيحة، فهل يُمكن أن نقطع هذا الصحيح؟
لا؛ لأنَّه وإن كان جانيًا فإنَّ هذا فيه اعتداء؛ لأنَّ اليد الصحيحة تنفعه فيحمل بها ويُنظِّفُ بها نفسه، وتكون معينة له في أمورٍ كثيرة، فالذي فات على المجني عليه بقطع يده الشَّلاء ليس كالذي سيفوت على الجاني بقطع يده الصحيحة، وكما أنه لا يُمكن أن نأخذ يدًا بأصبع، ولا أن نقطع أذنًا برجل؛ فكذلك لا تقطع الصحيحة بالشَّلاء.
ولا يعتبر الفقهاء الفرق في أن تكون هذه قويَّة وهذه ضعيفة، أو هذا كبير وهذا صغير، هذا ذكر وهذه أنثى؛ فكل ذلك لا فرق فيه لتشابهها في الصفات وفي القدرات، وإن اختلفت في أفرادها وآحادها، والمعتبر أن تكون متساوية، الصحيحة بالصحيحة، والناقصة بالناقصة، وإلَّا فلا قصاص، ويُنتَقلُ إلى الدية في مثل تلك الأحوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بِاْلكَامِلَةِ، وَالشَّلاَّءُ بِالصَّحِيْحَةِ إِذَا أُمِنَ التَّلَفُ)}.
لو كان الجاني هو الذي يده شلَّاء، أو يده ناقصة؛ وقد قطع يدًا صحيحة، فقال الجاني: يدي شلَّاء كيف تقطعونها ويده صحيحة!
فقال المجني عليه: القصاص لي، وأرضى أن تُقطَع يده. حسبه أن يُقال: قُطِعَت يده بقطع يد فلان، أو باعتدائه على فلان، أو بحصول الجناية منه على فلان.
فنقول: هذا صحيح؛ لأنَّ غايةَ ما في هذه الصورة أن يكون المستوفي قد استوفى أقل من حقه، فلا يكون في مثل هذا شئٌ.
قال: (وَتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بِاْلكَامِلَةِ)، فلو كان الجاني يده فيها ثلاثة أصابع، والمجني عليه له يدٌ كاملةٌ تامَّةٌ بأصابعها الخمسة؛ فإذا أراد المجني عليه الاستيفاء من هذه اليد الناقصة فله ذلك؛ لأنَّ أكثر ما في هذا -كما ذكرنا- أنَّه استوفى أقل من حقه.
قوله: (إِذَا أُمِنَ التَّلَفُ)، هذه مسألة مهمَّة؛ لأنَّه في بعض الأحوال إذا كانت يدًا شلاء فلا يُؤمَن نزيف دمها، أو أن يقع فيها نتنٌ؛ لأنَّ اليد الشلاء وما في حكمها قد يكون فيها شيءٌ من التَّعفُّن أو ضعف مناعة البدن، فإذا كان لا يُؤمَن من ذلك فيُظنُّ أنَّه إذا أُخِذَت هذه الشَّلاء أنه يسري ذلك حتَّى يموت الإنسان أو يفقد كامل يده من كتفه أو غير ذلك، أو يسري بدمه، أو يحصل سمومٌ لدمه؛ فهذا يُفضي التَّعدِّي والظَّلم، وأن يستوفي الإنسان أكثر مما له؛ فلا يجـــوز؛ فلذلك قيَّد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: (إِذَا أُمِنَ التَّلَفُ)، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وأهل الاختصاص يعلمون الفرق في الأحوال وما يُمكن استيفاؤه على هذا النحو وما لا يُمكن.
{عدم الاستيفاء لا يعني أن يسقط حق المجني عليه}.
نعم، كل الكلام الآن في حصول القصاص، فإذا قلنا: إنَّه لا قصاص في حال فلا يعني ذهاب حقه بالكليَّة، بل يصير إلى الدية التي هي بدل عن القصاص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِي اْلجِناَيَةِ عَلى بَعْضِ اْلعُضْوِ.
وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ أَوْ مَارِنِهِ أَوْ شَفَتِهِ أَوْ حَشَفَتِهِ أَوْ أُذُنِهِ، أُخِذَ مِثْلُهُ، يُقَدَّرُ بِاْلأَجْزَاءِ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَ)
}.
بعضُ الأطراف التي يتأتَّى القصاص فيها، أو الأطراف التي تتجزَّأ، ويُمكن تصوُّر لك، فاللسان -على سبيل المثال- إذا قُطع جميعه فيُمكن الاقتصاص، أما لو قُطِع بعضه فهي قطعةُ لحمٍ يُمكن لأهل الاختصاص أن يقيسها، ثم ينظر ما الذي فاتَ على هذا، وينظر ما يُماثله في هذا اللسان، سواء بسواء، ويأخذه على هذا النَّحو، ولأجل ذلك قال المؤلف: (وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ.............. يُقَدَّرُ بِاْلأَجْزَاءِ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَ).
لماذا قال المؤلف: (يُقَدَّرُ بِاْلأَجْزَاءِ)؟
يتنبَّه الإخوة! فبعض الناس لسانه طويلٌ، وبعض الناس لسانه قصير، فلو أخذنا هذا المقطوع ونظرنا فيه فإذا طوله عشرة سنتيميتر، وهذا لسانه كله عشرة سنتيمتر، فهل نقطع لسانه كلَّه ونكون أخذنا لسان هذا بنصف لسان هذا؟
لا؛ بل نأتي بلسان المجني عليه، فإذا نظرنا إذا به خمسة عشر سنتيمتر، فلمَّا نظرنا إلى الجزء المقطوع إذا هو سبعة ونصف سنتيمتر، ثم نأتي إلى الجاني وننظر فإذا لسانه عشرة سنتيمتر، فمعنى ذلك أنَّنا نأخذ منه خمسة سنتيمتر؛ لأنَّنا أخذنا نصف هذا بنصف هذا، فيكون على سبيل التساوي، أمَّا لو قطع الجاني خمسة، ثم قطعنا منه خمسة؛ فيكون فيه تفاوت، فما يكون خمسةً عندَ هذا هي نصف لسانه قد تكون ربع لسان الآخر، أو قد تكون كل لسان الآخر، فيفوت معها مصلحة الكلام، ومصلحة الذَّوق، ويفوت معها مصالح كثيرة، ولأجل ذلك لا يكون فيه تساوٍ، أمَّا لو قُدِّرَت بالأجزاء فإنَّ هذا يدلُّ على التَّساوي الكامل، وعلى دقَّة الفقهاء في وصف هذه الأحكام وبيان صورها، ولذلك قال المؤلف: (يُقَدَّرُ بِاْلأَجْزَاءِ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَ).
والأصل أنَّه لو قطعَ شخصٌ يدَ شخصٍ، فقد تكون هذه اليد فيها أصابع طويلة، وهذه فيها أصابع قصيرة، وهذه مليئة باللحم والعظم وهذه صغيرةٌ جدًّا؛ فلا فرق في ذلك، وكذلك هنا.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ مَارِنِهِ)، يعني: مارن الأنف وهو ما لانَ منه، فإذا قُطِعَ بعضه يُمكنُ أن يُقطَع من الإنسان بعضه، وهذه يُتصوَّر فيها التَّساوي، على ما ذكرنا في اللسان أنَّه جزءٌ بجزء، وليس أن يُساوى القدر المقطوع بأن يُقطَع مثله من الآخر.
قال: (أَوْ شَفَتِهِ)، إذا قطعَ بعضَ شَفَته من نصف الفم -مثلًا- فنقطع نصف شفة الآخر كذلك.
قال: (أَوْ حَشَفَتِهِ)، الحشفة: هي أعلى ذكر الإنسان، وهي التي يحصل بها تمام الاستمتاع ونحوه، وبناء على ذلك لو قطعَ بعض حشفته فيُمكن قطع بعضها من الجاني؛ لأنَّ هذه ما قارب اللحم، فيُمكن قطعه على القدرِ الذي نريد؛ لأنَّ أكثر ما فيها أن يُنظَر هذا ويُنظَر هذا، ويُوزن هذا بهذا -يعني بالقدر بالأجزاء- ثمَّ يُعلَّم عليه بأداةٍ، والفقهاء ذكروا صورةً أو طريقةً لتحصيل ذلك في زمنهم، ولأهل الطِّبِّ والاختصاص في هذه الأزمنة طريقةٌ في تحصيل ذلك وفعله على ما يفعلونه في طريقتهم للطب وتعاطي الاستشفاء للمرضى ونحوهم، فيكون كذلك عندَ الحاجة لقطع شيءٍ من ذلك.
قال: (أَوْ أُذُنِهِ)، فالذي قطعَ أذنَ شخصٍ نقطع أذنه، والذي قطع نصفها نقطع نصفها، وقد تكون نصف هذه أكبر من نصف هذه، فهذا لا يضر ما دامَ أنَّنا أخذنا النصف بنصف فهذا قدرٌ كافٍ ولله الحمد والمنَّة.
ثم يقول -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أُخِذَتْ دِيَتُهُ، أُخِذَ بِاْلقِسْطِ مِنْهَ)، فربع لسانٍ فيه ربع دية اللسان، ونصفُ مارنٍ فيه نصف دية المارن، وهكذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كُسِرَ بَعْضُ سِنِّهِ، بُرِدَ مِنْ سِنِّ اْلجَانِيْ مِثْلُهُ، إِذَا أُمِنَ انْقِلاَعُهَ)}.
مَن كسرَ سنَّ شخصٍ حتَّى ذهبت السِّنُّ من أصلها فهذا ظاهر ولا إشكال فيه، ولكن مَن ضربَ شخصًا حتَّى كسرَ نصفَ سنِّه، فهل يُمكن كسر بعض سنِّه؟
نعم، مع أنَّ القاعدة في العظام أنَّه لا يُؤمَن فيها الحَيف، ولكن لَمَّا كان السِّنُّ ظاهرًا فيُمكن أن يُؤتَى بالمبرد فيُبرد حتَّى يذهب الربع أو النِّصف بقدر ما حصل منه من الجناية على ذلك الشَّخص.
وهنا يُنبئك عن دقَّة الفقهاء وتتبُّعهم للمسائل التي يكون بينها اختلاف، فمع كون هذه داخلة في أصلٍ، وهذا الأصل قد حُكِمَ فيه بحكمٍ، ولكنَّهم رجعوا وقرَّروا في مثل هذه الصورة بخصوصها حكمًا آخر لاختلاف المسوِّغات التي يُمكن أن يُبنَى عليها الحكم، فهذا يدل على دقَّة الفقهاء وحسن نظرهم، وطلبهم للحقِّ، وتلمُّسهم لدقائق المسائل، وإرادة إصابةِ ما أمر الله -جلَّ وَعَلَا- بإصابته من الحق والعدل وعدم الظُّلمِ أو العدوان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ السِّنِّ حَتَّى يَيْأَسَ مِنْ عَوْدِهَا، وَلاَ مِنَ اْلجُرْحِ حَتَّى يَبْرَ)}.
قوله: (وَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ السِّنِّ حَتَّى يَيْأَسَ مِنْ عَوْدِهَ)، فإنَّ الأسنان تعودُ وتنبتُ وهذا ظاهر في الصِّغار، ويُمكن أنه يكون في الكبار، وإن كان ذلك ليس بمعهودٍ وليس بكثير، فبناء على ذلك لابدَّ أن نأمنَ أنَّ هذا السن التي كُسرَت -أو قُلِعَت- لا يُمكن عودها، وبناء على ذلك يُمكن أن نقول بالقصاص هنا.
قال: (وَلاَ مِنَ اْلجُرْحِ حَتَّى يَبْرَ)؛ لأنَّ الجُرح يُمكن أن يسري فيموت الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- ويُمكن أن يسري حتى يصل إلى ما هو أشدُّ من ذلك، فبعدَ أن كان الجُرحُ في أوَّلِ وهلةٍ كرأس الإبرة ونحوها، ثم بعدَ يومين تفتَّح حتَّى كان أكبر من ذلك، فلو أنَّنا اقتصصنا في أوَّلِ الأمرِ ثم انفتح الجُرح، فلم يحصل هنا التَّساوي، وقد يُعوزنا ذلك إلى الرجوع للجاني وأن يُفعل به مرة ثانية، وهذه تكون جنايتين بجناية!
فنقول: لا نقتصُّ حتَّى نأمنَ أن الجرح قد اندمل وذهبت سرايته وأُمِنَت من زيادته، وإلَّا فلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسِرَايَةُ اْلقَوَدِ مُهْدَرَةٌ، وَسِرَايَةُ اْلجِنَايَةِ مَضْمُوْنَةٌ بِاْلقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ يُسْتَوْفَى قِصَاصُهَا قَبْلَ بُرْئِهَا، فَيَسْقُطُ ضَمَانُهَ)}.
هذه قاعدة عند الفقهاء "سِرَايَةُ اْلقَوَدِ مُهْدَرَةٌ".
فلو افترضنا أنَّ شخصًا جنى على آخر فقطع يده، فجئنا لنقطع يد هذا الجاني وقد استكمل الشروط والأركان؛ فقطعنا يده، ثم بعدَ ذلك ضعُفَ وذبُلَ حتى مات، لا نقول إنَّ هذه السراية مضمونة، فلا نعاقب القاضي أو الحاكم بذلك؛ لأنَّ سراية القَوَد مُهدرة، وبناء على ذلك فلا ضمان فيها لو حصلت، بشرط أن لا يكون في الأصل تجاوز واعتداء، أمَّا لو علمنا أننا لو قطعنا هذه اليد الشَّلاء أنَّها تسري، فهذا تعدِّي منَّا، فيلحق الحكم بمَن تعدَّى، ولكن الكلام هنا فيمن استجمع شروط القَوَد والقصاص، حتَّى إذا اكتملت، ثم قُصَّ من هذا الجاني فحصلت سرايةٌ بعدَ ذلك فنحن لا نضمنها؛ لأنَّ قابلية الأجسام للجروح وتعاطيها معها ترجع في بعض الأحوال إلى أسباب ظاهرة يُمكن تفاديها، وفي بعض الأحوال ترجع إلى أسباب خفيَّة لا يُدرَى عنها، فما دام أنَّنا استجمعنا الأسباب الصحيحة واستكملنا ما يتعلق بذلك فحصلت جناية فلا إشكال.
والعكسُ بالعكسِ؛ فسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية، فلو أنَّ شخصًا فقأ عينَ شخصٍ، ثم سَرَت حتَّى مات، فهي سرايةٌ مضمونةٌ، فيُقتل هذا القاتل بقتله لهذا.
ولو أنَّ شخصًا جنى على أصبع شخصٍ فسَرَت هذه الجناية حتَّى قُطِعَت يده، فما نقول إن هذا الجاني قطع أصبع فلان فنقطع أصبعه؛ بل نقطع يده، لأنَّ هذه اليد التي تلفت إنما تلفت بسبب جرحه، فكما لو كانت هي جنايته، وهكذا فيما ماثلَ ذلك، فلو أنَّ شخصًا قطع خصيةَ شخصٍ حتَّى ذبُلَت الأخرى وذهبت، فصار خصيًّا، فنقول إنَّ هذه سرايةٌ مضمونة، فيكون كما لو أتلف خصيتي آخر، فلذاك قالوا "سرايةُ الجناية مضمونة بالقصاص والدية" أي في الحالين جميعًا، سواء حُكِمَ بالقصاص فيها أو بالدِّيَةِ، أو أنَّه استُوفيَ من إحداهما، ثم سرَت الأخرى بدونِ تعدٍّ، فيُمكن الاستيفاء من الثانية بالقصاص أو بالدِّيَة.
قال: (إِلاَّ أَنْ يُسْتَوْفَى قِصَاصُهَا قَبْلَ بُرْئِهَا، فَيَسْقُطُ ضَمَانُهَ).
هذه مسألة أخرى، مثال: شخص فُقِأَت عينه، فجاؤوا ينظرون متى يندمل الجرح حتى يُعلم القدر الذي يُقتص منه، فبينما ينتظرون هذا قام المجني عليه على الجاني وفقأ عينه، فهذا اقتصَّ قبل البرء.
فنقول: هو الذي فوَّتَ حقَّه؛ لأنَّه اقتصَّ قبل البُرء، فبناء على ذلك يكون قد أسقطَ ما يكون تبعًا لذلك من السِّراية.
أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، أسأل الله أن يوفقنا لكلِّ خيرٍ وهُدى، وأن يجعلنا من أهل البر والتَّقوى، جعلكم الله مباركين على أنفسكم، وعلى المسلمين، وجعل الله -جلَّ وَعَلَا- هذه القناة وهذا البناء بناءً علميًّا راشدًا هاديًا مهديًّا، على سَننٍ صحيحةٍ، وعلى معتقدِ أهل السُّنَّة والجماعة، مبيِّنًا للحقِّ مظهرًا له، معينًا على العلم مقربًا له، وأن يحفظنا من الزَّيغِ والزَّللِ، وأن يرقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا ولذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، وأن يشكر سعيكم وسعي الإخوة القائمين على ذلك، ومَن دعمها بمالٍ أو عملٍ أو جاهٍ أو جُهدٍ.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
|

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك