الدرس الثاني و العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1887 24
الدرس الثاني و العشرون

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الجميع.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نشرع من قول الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي الأشل مِنَ اْليَدِ وَالرِّجْلِ وَالذَّكَرِ، وَذَكَرِ اْلخَصِيِّ وَالعِنِّيْنِ، وَلِسَانِ اْلأَخْرَسِ، وَاْلعَيْنِ اْلقَائِمَةِ وَالْغَائِمَةِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ، وَالذَّكَرِ دُوْنَ حَشَفَتِهِ، وَالثَّدْيِ دُوْنَ حَلَمَتِهِ، وَاْلأَنْفِ دُوْنَ أَرْنَبَتِهِ، وَالزَّائِدِ مِنَ اْلأَصَابِعِ وَغَيْرِهَا؛ حُكُوْمَةٌ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ أسألُ الله -جلَّ وَعَلَا- أن يُفيضَ علينا وعليكم من رحماته، ويجعلنا وإيَّاكم من أهل فضله، وأن يبلغنا الخير والهدى وطاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنَّا في الدرس الماضي استفتحنا الكلام فيما يتعلَّق بالجراح، والكلام على دياتها، سواء كان ذلك فيما فيه عضو واحد من الإنسان، أو فيه عضوان، أو ثلاثة، أو أربعة، وذكرنا تفاصيل ذلك، وذكرنا ما فيه ديةٌ كاملة، وما فيه نصفُ الدية، وما فيه ربع الدية، إلى ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وإذا قلنا: "فيه نصف دية" بالنسبة لمن هي فيه، فإذا قيل: في اليد نصف دية؛ فنصف الدية بالنسبة للرجل غير نصف الدية بالنسبة للمرأة، وسيأتينا ما يتعلق بما أوجب الشَّرع فيه شيءٌ محدَّد، كبعير أو بعيرين أو ثلاثة أو عشرة؛ فهذا مستقر يستوي فيه الذكر والأنثى حتى يبلغ ثلث الدية ثم تكون المناصفة على مرَّت الإشارة إليه فيما مضى.
الآن يذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسائل جرى فيها شيءٌ من الإشكال، أو لم يكن العضو كاملًا لأي عرض من الأعراض، فما الأحوال التي يستحق العضو فيه الدية، وما الأحوال التي لا تُستحق فيه الدية، وإلى أي شيءٍ يصير الأمر؛ فهذا هو ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا.
فقال: (وَفِي الأشل مِنَ اْليَدِ وَالرِّجْلِ وَالذَّكَرِ، وَذَكَرِ اْلخَصِيِّ وَالعِنِّيْنِ، وَلِسَانِ اْلأَخْرَسِ، وَاْلعَيْنِ اْلقَائِمَةِ وَالْغَائِمَةِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ، وَالذَّكَرِ دُوْنَ حَشَفَتِهِ، وَالثَّدْيِ دُوْنَ حَلَمَتِهِ، وَاْلأَنْفِ دُوْنَ أَرْنَبَتِهِ، وَالزَّائِدِ مِنَ اْلأَصَابِعِ وَغَيْرِهَا؛ حُكُوْمَةٌ).
ذكرنا أنَّ الحكومة: هي أن يُحكم فيها بما يجتهد فيه مَن وُكِلَ إليه ذلك ممَّن هم أهلٌ للاختصاص والنَّظر، وهذه الجراح والشِّجاج ونحوها لها مَن يعرفها ويُحسن وصفها والحكمَ فيها، ويُقدرها بقدرها.
إذن؛ الحكومة أن يكون فيها شيء غير مُقدَّر، ويُرجع في تقديره إلى الحاكم أو القاضي الذي يقضي فيها، وقد يقضي فيها بنفسه، وقد يكلها إلى أهل النَّظر والاختصاص ممَّا يعرفون هذه الجراحات ويُحسنون التَّمييز بينها؛ لأنَّها في الجملة فيها شيء من التَّداخل والتَّقارب.
قال المؤلف: (وَفِي الأشل مِنَ اْليَدِ وَالرِّجْلِ)، لَمَّا كانت اليد أو الرجل شلَّاء؛ فهي ليست كاملة أو تامَّة حتى نوجب فيها ما يجب في اليد السَّليمة أو في الرِّجل السَّليمة، فلأجل ذلك ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّه يؤول أمرها إلى الحكومة، وهذا هو الأرجح عند أهل العلم، وإن كان بعضهم قد يُوجب فيها ثلث الدية باعتبار أنه جاء في أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي أحاديث حسنة في الأصحِّ من أقوال أهل الحديث، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- "أوجب في العين القائمة أو الغائمة ثلث الدية".
والعين القائمة -أو الغائمة: هي التي لا يُرَى بها، يكون فيها أحيانًا بياض، أو أحيانًا تميل إلى شيءٍ بين البياض والسَّواد.
وألحقوا بذلك كل ما كان العضو فيه نقص، كالعين القائمة التي لا منفعة فيها وهي باقيةٌ على خلقتها، فذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في ذلك: اليد الشلاء، والرجل الشلاء، وذكر الخصي.
فإنَّ الرجل إذا خُصِيَ فإنَّه لا ينتفع بذكره، فلا يكون منه إيلاج، ومثل ذلك العنِّين، وقد مرَّ الكلام على العنين في باب عيوب النكاح، وهو الذي إذا أراد الإيلاج اعترض ذكره.
الفرق بين الخصي والعنين:
الخصي: لا يستطيع الإيلاج بسبب الخصاء.
العنين: تكون آلته كاملة وله خصيتين، ومع ذلك لا يوجد فيهما ما يوجد في الرجال من الانتصاب والإنعاظ.
فإذا كان عنِّينًا فالذَّكرُ لا يُستفاد منه كما يُستفادُ مَن كان ذكره سليمًا مُعافًى.
قال: (وَلِسَانِ اْلأَخْرَسِ)، الأعظم في اللسان أن يتحصل به الإنسان الكلام، فإذا فاتَ لسان أخرسَ فلم يفُتْ عليه شيءٌ كثير، وإذا أردتَّ أن تتصوَّر ذلك تمامًا فلك أن تتصوَّرَ متكلِّمًا ذهب لسانه وأخرس ذهب لسانه، فغاية ما يكون في الأخرس الذي ذهب لسانه أنَّه ذهبت عليه منفعة يسيرة، كأنَّه قُطِعَ منه قطعة لحمٍ من أي جزء من أجزاء بدنه، لكن إذا ذهب لسانه المتكلِّم ذهب كلامه، وذهبت منفعة الكلام، وتحصَّل بذلك تبعةٌ كبيرة، فهنا أوجبنا دية كاملة، وفي لسان أخرس أوجبنا الحكومة.
والحكومة مردُّها إلى التقدير، والتَّقدير مردُّه إلى الحال، في كيفية القطع وما آل إليه الأمر وما ترتَّبَ على ذلك، إن كان فيه نوع تشويه، أو كان فيه ضررٌ، أو ألحقه بذلك تعبٌ، أو صار لا يُمسكُ لُعابَه، إلى غير ذلك من الأمور، فيُقدِّرُ أهل النَّظر بحسب ما آلَ إليه الأمر في مثل تلك الأحوال.
ومثل ذلك العين القائمة، صحيحٌ أنَّه لا يُنتَفعُ بها، لكن لا يعني ذلك أنَّه لا فائدة منها، فإنَّ شخصًا بعين قائمة أو غائمة أحسنُ ممَّن انخسَفت عينه فلا عين له، فبينهما بونٌ شاسعٌ في الجمال، أو في حسنِ الطَّلعة، أو في عدم التَّشوه ونحو ذلك.
قال: (وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ)، مثل ذلك السِّن السوداء، وتقدَّم هل يجب في السن السوداء ديةٌ أو تكون فيها حكومة، وأشار إلى ذلك المؤلف، وذكرها من جملة المسائل.
قوله: (وَالذَّكَرِ دُوْنَ حَشَفَتِهِ)، أبلغُ ما في الذَّكر حشفته، وهي التي يتحصَّل بها الاستمتاع ونحو ذلك.
قال: (وَالثَّدْيِ دُوْنَ حَلَمَتِهِ)، كذلك أبلغ ما في الثَّدي حلمته.
قال: (وَاْلأَنْفِ دُوْنَ أَرْنَبَتِهِ)، لو كان للإنسان أنفٌ لكن ذهبت أرنبته ذهب غالب ما في أنفه؛ فمعنَى ذلك لو أنَّ هذا الذي اعتُدِيَ عليه لم يكن له أرنبةٌ في أنفه؛ فمعنى ذلك أنَّ ما يفوته بالاعتداء على الأنفِ أو حصول انكسار الأنف أو ذهابه أقل ممَّا يفوته ممَّن كان سليمًا معافًى.
قال: (وَالزَّائِدِ مِنَ اْلأَصَابِعِ)، والحقيقة أنه قد يُقال إنَّ الأصبع الزَّائد شيءٌ في البدن، فحصل عليه الاعتداء فيلحقه بذلك؛ لكن لا شكَّ أنَّ الأصبع الزَّائدة فيها فرق بينها وبينَ ما تقدَّمَ من جهةِ أنَّها تشويه وليست عادة يكون بها جمالٌ، واليد الشَّلاء ونحو يحصل بها أنَّها على الأقل الأحوال أن الإنسان لا يفقد قوامها أو أعضاءه التي اعتاد الناس أن يرونه عليها، فيكون في ذلك نوعُ جمالٍ، ولذلك نرى أنَّ مَن فقدَ هذه الآلة يُفضي به الحال في هذه الأزمنة إلى صناعة آلةٍ ولو لم تكن متحرِّكَة، لِمَا يتأتَّى به التَّجميل، أو عدم فُحشِ التَّشويه.
وهل الأصبع الزَّائد تُلحَق باليد الشَّلاء ونحوه؟
على كلام المؤلِّف كأنَّ فيها حكومة.
وإذا قلنا حكومة، فهذا له وجهٌ من جهة أن القاضي سيحكم فيها بأقل الأمور، ليس كما لو كانت يدًا شلَّاء ونحوها، لأنَّهما يشتركان في أمرٍ، وهو ما يحصل من الإزالةِ وألمها وتعبها وضررها ونحو ذلك، وما يحصل من فقدِ ذلك العضو، ففقد اليد الشَّلاء والرجل الشَّلاء أعظم من فقدِ الأصبع الزائدة، فإذا قلنا فيها حكومة؛ فإن الحاكم -أو القاضي- سينظر فيها بهذا النَّظر.
وكما قلنا؛ وإن كانت الأصبع الزَّائدة الكلام فيها أقل، ولذلك بعضهم يقول: هي لا تساوي ذلك، فمن قال: إنه يُمكن إيجاب ثلث الدية، فإنهم لا يُلحقون الأصبع الزائدة بهذا القول؛ لأنَّها زائدةٌ من أصلها، ولا يُراد بقاؤها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِيْ اْلأَشَلِّ مِنَ اْلأُذُنِ وَاْلأَنْفِ اْلأَخْشَمِ، وَأُذُنِ اْلأَصَمِّ دِيَتُهَا كَامِلَةً)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسائل مشابهة لِمَا تقدَّم، ولكنها مخالفةٌ لها في الحكم، فقال: (وَفِيْ اْلأَشَلِّ مِنَ اْلأُذُنِ وَاْلأَنْفِ اْلأَخْشَمِ)، فأين الأشلُّ من اليد ومن الرِّجل ومن الذَّكر، فليس فيه إلَّا الحكومة، أو ثلث الدية على القول الآخر، فلماذا قال هنا أن في أشل الأنف الدية كاملة؟
قالوا: إنَّ الأنف ليست كاليد أو الرِّجل، فبقده تُفقَد جمال ظاهر، بغضِّ النَّظرِ عمَّا يتحصَّل بالأنف من فوات الشَّمِّ أو عدمه؛ لأنَّ هذه منفصلةٌ تمامًا، فلمَّا كانت منفصلة فبناء على ذلك وجبت الدية كاملة.
وكذلك الأذن إذا كانت شلَّاء -يعني لا تتحرك- ولا يُحسُّ فيها بشيء، لكن لا أحد يستطيع أن يعرف أنَّ هذه أذن شلَّاء أو ليست بشلَّاء، لكن يتقزَّزون ممَّن لا أذن له، ولا يتقزَّزون ممَّن له أذن شلَّاء، والأذن كجارحة يتأتَّى بها الحفظُ من الهوام ودخول الحشرات، ويحصلُ بها تجميع الصوت ونحو ذلك وإن كانت شلَّاء، فلمَّا كانت بهذه الحالة اختلفت عمَّا تقدَّمَ فوجب فيها الدية كاملة.
ومثل ذلك أنفُ الأخشم، والأخشم: هو الذي ليست له حاسَّة الشَّمِّ، فكأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ أنف الأخشم لا منفعة فيها، فهو أخشم لا يشمُّ شيئًا، والأصل في الأنف أنَّه للشَّمِّ، فنقول: صحيحٌ أنَّ الأنفَ للشَّمِّ، لكن لا يختلف أحدٌ أنَّ جهة أخرَى وهي جهة الجمال والكمال، فمن له أنفٌ تامَّةٌ فيُرَى في طلعةٍ تامَّة، ويلحقه بفواتها فواتٌ كبير، فلأجل ذلك جُعل ما لو ذهب العضو كاملًا في أحسن أحواله، وما لو حصل للإنسان ذهاب جماله؛ فكما أنَّه بتسويد وجهه تكون فيه دية كاملة؛ فكذلك في انقطاع أنف الأخشمِ ديةٌ كاملة فافترقـا.
وفي مثل هذه المسائل تفاصيل كثيرةٌ جدًّا، حسبُ الطَّالب فيها أن يعرف أصول هذا الباب.
مثلًا: لو قُطِعَت يدُ مَن لا أصابع له، أو مَن اُعتُديَ على أصابعه، ففي هذه الحالة يكون ذهاب اليد بعدَ ذهاب اليد بعدَ ذهاب الأصابع ليس ذهابًا للمنفعة بتمامها، فهو كالأشلِّ، وبناء عليه تجب فيه الحكومة.
ففيه أشياء تُلحَق بالنَّوع الأول، وفيه أشياء تُلحَق بالنوع الثاني، وربَّما كان في بعضها نوعُ خلافٍ بينَ أهل العلم في ذلك، لكن أعـان الله القضاة ومَن وليَ هذه الأمور، فمثل هذه الأشياء قليلٌ حصولها، لكن عادة الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن يذكروا المسائل بتمامها حتَّى لا يُعوَز الفقيه أن يبحث عن مسألةٍ فلا يجدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ الشِّجاَجِ وَغَيْرِهَ)}.
الشِّجاج تُقابل الجراح؛ كلها اعتداءٌ وجناية، وكلها تتعلق فيما دون النفس، ولكن كما ذكرنا في درس مضى أنَّه جرت عادة فقهاء الحنابلة والفقهاء عامَّة أنَّهم يُعبِّرون عن الجراح فيما دون النفس مما سوى الرأس، والجراح التي في الرأس يُسمُّونها شجاجًا، فلا يُقال: شجَّه في كتفه ولا شجَّه في بطنه، وإنَّما يُقال: شجَّه في رأسه، أو شجَّه في جمجمته، أو شجَّه في جبهته، أو شجَّه في ترقوته، ونحو ذلك في كل ما هو من عظام الوجه والرأس، فهذا هو التعبير عن الشِّجاج عادةً عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الشِّجَاجُ هِيَ: جُرُوْحُ الرَّأْسِ وَاْلوَجْهِ. وَهِيَ تِسْعٌ)}.
الشِّجاج -كما قال المؤلف: (جُرُوْحُ الرَّأْسِ وَاْلوَجْهِ)، وهذا قد بيَّناه، وأنَّه اصطلاح اصطلح عليه الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- وهي تسعٌ، وبعضهم يعدها عشرًا، وسيأتي الكلام على العاشرة، وهي أنَّها أعم من أن تكون متعلقة بالشِّجاج، لكن مع ذلك عادتهم أن يذكروها عشرًا وإن كانت العشرة ليست مختصَّةً بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوَّلُهَا اْلحَارِصَةُ: الَّتِيْ تَشُقُّ اْلجِلْدَ شَقًّا لاَ يَظْهَرُ مِنْهُ دَمٌ)}.
هي التي تشق الجلد وتسمَّى "حَارِصَةً"، تجد إذا جرَّه على جدارٍ أو على خشبةٍ ونحوه ذهبَ جلده، لكن في الغالب أنه لا يخرج مع ذلك دمٌ، فإذا كانت على هذه الصورة فإنها تسمَّى "حَارِصةً"، فهي لا يظهر منها دمٌ، وإنما يكون في الجلد أحيانًا احمرار، ويعلم أهل الاختصاص أنَّ الجلد قد زال، وأنه قد ظهرت الحمرة التي تحته.
أريد أن أنبِّه هنا إلى أنَّه قد يكون في الموضع الواحد نوعٌ من الشِّجاج أو نوعان أو ثلاث، فإذا كان ضربه بحديدةٍ على رأسه فربما يكون أوَّلها حارصة وآخرها مأمومة، وربَّما تكون حارصةً وبازلة أو باضعة، وسيأتي الكلام عليها.
من الذي يُحسن تصنيف ذلك والعلم به؟
هم أهل الاختصاص، وتكون لهم دربةٌ ومعرفة حتَّى يكون ذلك الأمر يسيرًا عليهم، لكن جرت عادة كثيرٍ من الناس أنْ لا يُدقِّقَ في هذه الأمور؛ لأنه لم يعرف أنه يتعلق بكل واحدٍ منها حكمٌ من الأحكام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اْلبَازِلَةُ: الَّتِيْ يَنْزِلُ مِنْهَا دَمٌ يَسِيْرٌ)}.
بعضهم يسمِّها: "الدَّامعة" لأنها تخرج منها نقاط دم كدمع العينِ، فهذه التي ينزل منها دم يسير هي أشدُّ من الأولى، ولا أظنُّ أحدًا يسمع هذا الدرس إلَّا وقد مرَّ به شيءٌ من ذلك.
وأحبُّ أن أعود وأنبِّه أنَّني لَمَّا أشرتُ بيدي أشرتُ إلى اليد، وهي ليست مما يتعلق بالشِّجاج، فاليد ونحوها تتعلق بالجراح، مع أنها من جهة المعنى واحد من جهة الحكم، فلو أزال جلدة اليد ففيها حكومة، وقد مرَّ أن ما لم يُذكر فيه ديةٌ ففيه حكومة، وسيتبيَّنُ ذلك في نهاية هذا الباب.
ولابدَّ من التَّمييز والسَّير على نحو اصطلاح الفقهاء في أنَّ محلَّ الكلام الذي نحن فيه إنَّما هو متعلقٌ بالرأس فحسب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اْلبَاضِعَةُ: الَّتِيْ تَبْضَعُ اللَّحْمَ بَعْدَ اْلجِلْدِ)}.
البَاضِعَة: من البُضع وهو الشَّق، ولذلك سُمِّيَ بُضع المرأة بُضعًا لأنَّه مشقوق، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» ، يعني إتيانه لأهله.
فهذه الباضعة: هي لو أنَّ شخصًا ضربَ آخر فشقَّ له اللحم.
لقائل أنْ يقول: كيف يشق اللحم؟
ربَّما يكون ذلك يسيرًا لكنَّه يوجد، على سبيل المثال لو كان في الخد، فالخد فيه لحمٌ، فإذا جرحه فانفتح الجرح من هنا ومن هنا فهذا قد بَضَعَ اللحم، ثم هو أشد أو ليس بأشد؛ فهذا هو محل الكلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْمُتَلاَحِمَةُ: الَّتِيْ أَخَذَتْ فِيْ اللَّحْمِ)}.
الباضعة هذه فقط شقَّت، ولكن تلك أخذت اللحم، ويُمكن أن يكون نُزع منها قطعة من اللحم، فهي أعظم من الباضعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ السِّمْحَاقُ: الَّتِيْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اْلعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيْقَةٌ)}.
السِّمحاق لم يتبيَّن فيها العظم بعد، فبينها وبين العظم قشرة، وهذه القشرة يسمونها سِمْحَاق، فإذا كانت سمحاقًا ففيها حكومة على ما سيذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَهَذِهِ اْلخَمْسُ لاَ تَوْقِيْتَ فِيْهَا، وَلاَ قِصَاصَ بِحَالٍ)}.
قوله (فَهَذِهِ اْلخَمْسُ)، فهي خمسٌ في أنواعها، وهي واحدةٌ في حكمها، وهي: الحارصة، ثم البازلة، ثم الباضعة، ثم المتلاحمة، ثم السِّمحاق.
وأمَّا من جهة الحكم فيقول المؤلف: (لاَ تَوْقِيْتَ فِيْهَا، وَلاَ قِصَاصَ بِحَالٍ)، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة وهو قول أكثر الفقهاء، أنَّه لا تحديد فيها، وربَّما جاء عن بعضهم أنه حكمَ فيها بشيءٍ، لكن هل هذا الحكم على سبيل التَّعيين والتَّخصيص، ففي هذه بعير وهذه بعيران؛ أو هو نوع اجتهاد في حالٍ بخصوصها، لكنه لا يمنع أن تكون مما يجب فيه حكومة، والحكومة ينظر فيها القاضي بنظره.
وكما قلنا: إنَّ كون الواجب فيها حكومة لا يعني أنَّ الواجب فيها شيءٌ واحدٌ على حدٍّ سواء؛ بل الواجب فيها ليس له حدٌّ، فقد تكون بالزلةً فيوجب فيها بعير، وقد تكون بازلةً ويُوجب فيها بعيرين، كأن تكون تلك ضيِّقَة وهذه أوسَع، فبناء على ذلك يرى فيها أكثر، وهكذا..
إذن؛ تكون الحكومة بحسب ما يراه الحاكم والقاضي في ذلك، فإنَّه يحكمُ فيها، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (لاَ تَوْقِيْتَ فِيْهَا، وَلاَ قِصَاصَ بِحَالٍ).
وأما كونها لا قصاص فيها؛ فذلك لعدم إمكان المماثلة -كما تقدَّم معنا- وبناء على ذلك لو كانت عمدًا ففيها الحكومة بكل حال، ولا قصاص فيها لتعذُّر القصاص، لا لكونه ليس مستحقًّا للعقوبة، وأما إذا كان خطأً فلا قصاص في الخطأ، والواجب فيها الدية لكونه ليس بمتعمِّدٍ.
ونقول: إنَّ المردَّ فيها إلى الحكومة، والحكومة عند القاضي، وقد يستعين بأهل الخبرة والاختصاص في توصيف ذلك، وكان يوجد في المحاكم مُقدِّري الشِّجاج والجروح، وكانوا يعتادونَ ذلك، وفيه من الرجال وفيه من النساء، والآن يُمكن أن يُستعان بأهل الطب، فهم في الغالب يقيسونها قياسًا أتم وأدق، وقد يُستعمل في ذلك بعض المصوَّرات أو الأشعة التي توضِّحُ درجة ذلك الجرح، والقدر الدقيق فيه.
ويجب أن يُعلم أن كل هذه الخمس لا تصل إلى دية ما هو أشد منها؛ لأنَّها كلها في شجاج الرأس، فلا يُمكن أن يأتي قاضٍ ويحكم في باضعة بخمسٍ من الإبل؛ لأنَّ الخمس من الإبل تجب في الموضحة التي أوشحت العظم، فلا يُمكن أن تكون هذه القليلة أكثر من تلك التي أعظم منها، فيكون فيها حكومة بما لا يبلغ الدية التي هذي أعظم منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْمُوْضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِيْ وَصَلَتْ إِلى اْلعَظْمِ، وَفِيْهَا خَمْسٌ مِنَ اْلإِبِلِ، وَاْلقِصَاصُ إِذاَ كَانَتْ عَمْدً)}.
سُمِّيت موضحة لأنَّها وضحَ معها العظم وبانَ، وهذا معروفٌ وكثير، وهو إذا ضُربَ حتَّى يُرَى بياض العظم، حتَّى ولو لم يكن واضحًا، لكن إذا كشف عليه أهل الاختصاص نظروا إلى العظم؛ لأن بعض الناس لا يقدرون على النظر في الشجَّة، لكن إذا كشفَ عنها وأزاح ما تراكم عليها من دمٍ متجمِّد أو لحمٍ انقطعَ وجدَ العظم، وبناء على ذلك تُسمَّى واضحة، وهذه فيها القصاص لأنَّها تنتهي إلى عظمٍ، وما انتهى إلى عظمٍ فإنَّه يُمكن استيفاؤه على وجهٍ فيه شيءٌ من الدِّقَّة والأمان من الحَيْف، فلذلك قال المؤلف: (وَاْلقِصَاصُ إِذاَ كَانَتْ عَمْدً)، وفيها الديةُ إذا كانت خطأ، أو يعفو المجني عليه من القصاص إلى الدية، فيكون الأمر إلى الدية في العمدِ إذا عفا صاحبه، أو فيما كان على طريق الخطأ.
لعلَّنا نكتفي بهذا القدر، ونؤجِّل الباقي إلى الدرس القادم، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك