{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أسأل اللهلي
ولكم التَّوفيقَ والسَّداد.
{اللهم آمين.
سنشرعُ في هذه الحلقةِ -بإذنِ الله- فيما تبقَّى من كتابِ الذَّكاة.
قال الموفَّق ابن قدامة-رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ أَكَلَ مَا
قُتِلَ بِحَدِّهِ دُوْنَ مَا قُتِلَ بِعَرْضِهِ، وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ
لِلصَّيْدِ وَسَمَّى فَعَقَرَتِ الصَّيْدَ أَوْ قَتَلَتْهُ؛ حَلَّ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- لي ولكم الإخلاصَ في القولِ والعملِ، وأن
يرزقنا العلم والهُدَى، وأن يُبلغنا البرَّ والتُّقَى، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً
مُهتدين، غيرَ ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ.
ما أسرع الأيَّام! وما أسرع هذه المجالس! وما أسرع ما يُعانُالإنسان على مثل هذا
العلم والهُدَى!
كم استمرَّت هذه المنارة العلميَّة والبناء من مُددٍ طويلةٍ! لا تُعدُّ بدرسٍ ولا
بدرسين ولا بعشرةٍ ولا بثلاثين؛ بل تجاوزَت المئات وتجاوزت السِّنين والأمد
الطَّويل، ولولا فضل الله -تعالى- عليكم لَمَا بلغتُم الذي بلغتموه، ولا أُعنتم
الذي أُعنتم عليه، ولا يسَّر الله -جَلَّ وَعَلَا- لكم الثَّبات، فأسأل الله أنْ
كما يسَّر ما مضَى أن يُثِّبتَكم فيما بقي، وأن يزيدكم من الخيرِ والهُدَى، وهذا
فضل الله على عباده، إذا أُعطِيَ النَّاسُ الدُّنيا وإذا فُتِحَ في الشَّهوات؛ فأَن
يُفتَح للإنسان الخيرُ والعلمُ والبِرُّ والتُّقَى فتلك مِنَّةٌ عظيمةٌ مِن الله
-جَلَّ وَعَلَا-؛ لأنَّ الإنسان يُحال بينه وبين شياطينه، ويُحال بينَه وبينَ
رغباته ونفسِه الأمَّارة بالسُّوء، ويُسدَّد حتى يكون ذلك مِلئَ قلبه ومِلئَ وقته
ومِلئَ حياته، على ذلك يقومُ، وعلى ذلك يقعدُ، وعلى ذلك يُرتِّبُ، تراه إذا قامَ في
الصَّباحِ يقول متى درس اليوم؟ وإذا ذهب يقول متى أرجع لئلَّا يفوتني الدَّرس؟
وهكذا...
فكل ذلك هو تيسيرٌ من الله، وكلُّ ذلك هو أجرٌ من الله -جَلَّ وَعَلَا- لك ما دمتَ
تستعينُ بالله في الجدِّ والمثابرةِ والمصَابرَة على هذه المجالس والبقاء فيها،
ولِمَن قام على هذا البناء وأقام بناءَه وأحسَنَ العمل فيه وأتمَّ مجالسه، وباشَر
ذلك لكِّ صنوفِ المباشرةِ والإعانةِ والتَّسديدِ سواء كان ذلك في التَّنسيقِ، أو
كان ذلك في التَّقديمِ، أو كانَ ذلك في التَّصويرِ، أو كان ذلك في هذا كلِّه وغيره؛
فإنَّه أيضًا فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- علينا، فنسأل الله أن كما بلَّغنا هذا
الأمرَ أن يُبلغنا الإخلاصَ فيه، وألَّا يُزيغَ قلوبنا، وألَّا يصرفنا عن الخيرِ
والهُدَى.
كما رأيتم -أيُّها الإخوة- في المجلسِ الماضي أخذنا "كتاب الأطعمة" ودخلنا في
مسائلَ كثيرةٍ مُهمَّةٍ نافعةٍ، وذكرتُ لكم الإشكالَ في بعضِ الأطعمةِ الحديثة وما
يدخل فيها من مُستحضرات هي محلٌّ للبحثِ، وفيها مِن النَّوازل ما فيها، لكن قد
يتعذَّرُ علينا الإتيان على جُملةِ هذه الأشياء والتَّفاصيل فيها مع هذه المجالس
المختصرة.
ثُمَّ دخلنا فيما يتعلَّق بالذَّكاةِ وتذكيةِ بهيمة الأنعام، وما يجب فيه الذَّكاة
وما لا يجب، وما يتعلَّق به حكمها وما لا يتعلَّق، إلى أن وقفَ الحديث عند ما
يُقتَل به الصَّيدُ من معراض، وذكرنا أنَّ المعراض هو: الشَّيء الذي يضربُ بقوَّته
وبحجمِه لا بحدِّهِومَخْرِقِه، كالحجرة الكبيرة التي تقع على البهيمة فتُرديها بدون
أن يخرج منه قطرةُ دمٍ؛ فهذا مِعراضٌ لا يحصل به تذكية.
إذن؛ التَّذكية لابدَّ فيها من إنهارِ الدَّمِ، سواء كان ذلك من الودجين والحلقوم
والمريء، أو كان ذلك عندَ تعذُّره من سائر الجسد كما قررنا ذلك في الصيد.
فلذلك أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يُبيِّن أنَّ العلَّة في المعراض ليس كونه
معراضًا، ولكن كونه يصيدُ بدونِ إنهارٍ للدَّمِ، ولذلك قال: (وَإِنْ صَادَ
بِالْمِعْرَاضِ أَكَلَ مَا قُتِلَ بِحَدِّهِ)، يعني: لو افترضنا أنَّ لهذا المعراض
حدٌّ في بعضِ جهاته فكانَ القتلُ بهذا الحدِّ لا بالعرضِ والثِّقَل؛ فإنَّه يأخذ
حكم ما قُتل من المُحدَّد وما أُنهِرَ فيه الدَّم، فيكون حِلًّا حَلالًا، ويكون
طيِّبًا مُباركًا، ولا غضاضة على الإنسان في تعاطيه وأكله إذا اكتملت الشُّروط
الأخرى.
فهذا هو مقصود المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-، وهذا عندالفقهاء تحريرٌ للمعنى المراد بهذه
المسائل، فالعلَّة ليست كونه معراضًا كما ذكرنا في السِّنِّ والظُّفر أنَّ العلَّة
في ذاتها، لكن هنا العلَّة في المعراض في كونه لا يُنهر الدَّم، فلذلك لو افترضنا
أنَّه أنهرَ الدَّمَ فإنَّه يتأتَّى به المقصود.
والعكسُ بالعكسِ؛ فلو أنَّ المُحدَّدَ الذي عادةً ما يصيدُ بحدِّه صادَ بعرضه،
كساطور مثلًا أو سكينٍ كبيرٍ ثقيل سقطت على أرنبٍ ونحوه فقتلته بدون إنهارٍ للدَّمِ
فإنَّه لا يحل.
إذن؛ محلُّ الكلام هو حصول إنهار الدَّم بالمُحدَّدِ أو بما يؤول إلى إنهار الدَّم،
كالمعراض إذا صِيدَ بحدِّه.
ثم قال: (وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ).
المناجل: هي قطع حديد توضع، حتى إذا مرَّ عليها الصَّيد قتلته، كما لو تحجرُه في
جهةٍ ضيِّقةٍ، ثمَّ تُجعَل هذه الحدائدُ -التي هي حادَّةٌ- حتى إذا أراد الصَّيدُ
أن يدخلَ من خلالها قطعت أحشاءه وخرج الدم، فهذا يُعتَبرُ مما صِيدَ بالحدِّ، فيدخل
في الصيد ما دام أنه ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا.
لقائل أن يقول: هذه المناجيل توضع لمدة يومين أو ثلاثة أو خمسةَ أيَّام وما مرَّ
عليها الصيد!
نقول: هذا ليس علَّةً في الحلِّ والإباحة؛ بل ما أرسلتَ من كلبٍ أو آلةَ صيدٍ
فذكرتَ اسم الله فصادَ فإنَّه حلال، ولم يأتِ في الشَّرع اشتراط حصول الصَّيد
مُباشرٌ لحصولِ الإرسالِأو الإطلاق.
وحتى الكلَّب، فلو افترضنا أنَّه سمَّى على الكلبِ وأطلقه، ولم يزل هذا الكلب يدور
ويلحق بهذا الصَّيد حتى ذهبت ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، حتى صاد آخر النَّهار
فيحل صيده، طالما تيَّقنَّا أنَّه ذُكر اسمُ الله عليه، فيحصل بذلك المقصود.
إذن؛ الصَّيدُ بالمناجل هو صيدٌ حصل فيه إنهارٌ للدَّمِ وحصلت فيه التَّسمية، وحصلَ
فيه القصد؛ وتوفَّرت فيه الشُّروط المتقدِّمة واللاحقة فيكون فيها الإحلال والجواز،
فلأجل ذلك قال: (وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ وَسَمَّى)، هنا اشتراط
التَّسمية. قال: (فَعَقَرَتِ الصَّيْدَ أَوْ قَتَلَتْهُ)، يعني: قطعته. قال:
(حَلَّ).
وهذا هو نهاية هذه المسائل في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم يا شيخ.
ما يُسمَّى بالفخاخ اليوم -وهو قريبٌ من المناجل- فهذه الفخاخ أحيانًا تقتُل
واحيانًا لا تقتل، فهل هذا مما يصيد بعرضه أو بحدِّه؟}.
نقول: الفخاخُ مثل الشَّبكة، يجعلون شبكة ثم تأتي الطيور، حتى إذا دخلت في هذه
الشَّبكة لا تستطع الخلاص؛ فهذه الشَّبكة ليست مُنهِرة للدَّم، وبناءً على ذلك لو
افترضنا أنَّ شخصًا نصبَ هذه الشِّباك ثم وجدَ فيها طيورًا فنقول: لا تخلو إمَّا أن
تكون هذه الطيور حيَّة أو ميتة، فما مات فهو ميتة لم يُذكَّى ولم يحل أكله ولا
تعاطيه، وأمَّا ما بقيَ حيًّا فذُبِحَ وأُنهِرَ دمه تعلَّقَت به أحكام الذَّكاة من
التَّسمية وأهليَّة المذكِّي ونحوه، فيكون حلالًا.
وعلى سبيل المثال: الحُفَر، فلو أنَّه حفرَ حفرةً حتى إذا جاء الصيدُ يلتقطُ حبًّا
سقطَ في هذه الحفرة؛ فنقول: هذه فخاخ، ولو مات الصَّيدُ بهذه الطَّريقة فلا يكون
حلالًا، لأنَّه ليس فيه الشَّرط المذكور وهو حصول إنهار الدَّم.
ولا حدَّ للآلات أو للطَّرائق التي يُصادُ بها، فهذه الصُّيود لا تخلو من حالين:
- إمَّا بآلةٍ: سواء كانت كلاب أو طيور ونحوها -بشرطها كما سيأتي-، فإذا قتلت
وأنهرَت الدَّم فالحمد لله، سواء كانت بالكلاب ومثله الفهود ونحوها.
- أو بالسِّهام.
ومثل ذلك ما ذكرنا في الرَّصاص، فقلنا: إنَّ الرَّصاص هو من الأشياء الحادثة،
واختلف فيها مُتقدمو الفقهاء:
- بعضهم يقول: إنه ممَّا ينفُذُ إلى الجوف فهو مُحدَّدٌ، وبناء على ذلك يحل -وهذا
ظاهر.
- ومنهم من قال: بعضها لا يكون محدَّد.
ونقول: حتى غير المحدَّدِ يكون له نفاذ في الجسدِ لقوَّةِ الرَّمي والإطلاقِ،
وبناءً على ذلك يكون في حُكمِ المحدَّدِ في كونه له نفاذٌ ومورٌ في البدنِ وإنهارٌ
للدَّم، فيحصل به المقصود ويتعلَّق به الحُكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْ شُرُوْطِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَاْلعَقْرِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيْ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ خَاصَّةً شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَيَقْطَعُ اْلحُلْقُوْمَ
وَالْمَرِيْءَ،وَمَا لاَ تَبْقَى اْلحَيَاةُ مَعَ قَطْعِهِ)}.
المؤلِّف-رَحِمَهُ اللهُ- لمَّا قرَّر ما يدخل فيه الذَّكاة ولا ما لا تدخل فيه
الذَّكاة؛ انتقل إلى ما تتأتَّى به الذَّكاة، أو ما يُحكم من أنَّه ذُكِّيَ أو لمْ
يُذكَّ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ فِيْ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ خَاصَّةً
شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ)، فلو أنَّه قطعَه مِن
قدمه أو نصَفَه نصفين من بطنه فهذا فيه إنهارٌ للدَّمِ ونحوه، ولكن لا يحصل به
إباحةٌ لأنَّه لم يكن في الحلقِ أو اللُّبَّة.
وذكرنا أنَّ الحلق: هو ما امتدَّ بين أصلِ البدنِ والرأسِ -التي هي الرَّقبة.
اللُّبَّة: شيءٌ يكون أسفل عنق البعير، بينها وبين الصَّدر.
فإذا كان الذَّبح في ههذ المواطن فإنَّه يتأتَّى به المقصود.
ما يتأتَّى به التَّذكية:
- الحلقوم والمرئي، الحلقوم هو مجرى الطَّعام والشَّراب، والمريء هو مجرى النَّفَس.
- الودجان: هما عرقان يمرَّان من خلال الرَّقبة.
لماذا كانت الرَّقبة هي محل التَّذكية؟
لأنَّها محمَع العروق، فإذا ذُبِحَت الرَّقبة فكل الدم الذي في البدن يخرُج، وبناء
على ذلك تعلَّق بها الحكم.
متى نقول بكمال التَّذكية إذا ذبح من الرَّقبة؟
- مشهور المذهب عند الحنابلة: إذا كان الذبح من الحلقوم والمريء، وهذا هو قولُ
الشَّافعيَّة وقولُ جمهور أهل العلم؛ لأنَّه إذا قُطع الحلقوم والمريء -اللذان هما
مجرى الطعام والنَّفس- لا تبقى حياةٌ بحالٍ من الأحوال، فتعلق الحكم بذلك.وهذا
القول لا شكَّ أنَّه هو الأتم والأحوط.
- ومنهم من يقول: كيفما حصلَ إنهارُ الدَّمِ بإمرارِ السِّكينِ ونحوها ومن
المحدّدات على الرَّقبة حصلت التَّذكية، يعني: بقطع الودجين، أو بقطعِ ودجٍ
والحلقومِ والمريء.
ويتأتَّى لنا من هذا أنَّه:
- إذا قُطعت الأربعة؛ فهذا جائز بالإجماع.
- وإذا قُطِعَ الحلقوم والمريء وأحدُ الودجين فهذا أيضًا في قولِ عامَّة أهل العلم.
- أما لو قُطِعَ الحلقوم والمريء فهذا في قول جماهير أهل العلم.
- ولو كان القطع لأحدِ الودجين وللحلقوم -أو المريء- فهذا الخلاف فيه أشد.
- إذا لم يتأتَّى إلى قطعِ أحدِ الودجين فالجماهيرُ على عدمِ صحَّة التَّذكية في
تلك الحال، خلافًا لشيخ الإسلام وبعض الفقهاء الذين يقولون: إنَّ عموم الأحاديث
دالَّةٌ على الإنهار «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ ، فَكُلْ» ،
فجعلوا ذلك محلٌّ للإطلاق يتأتَّى بما حصل به المقصود في هذا. والله أعلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ الْمَذْبُوْحِ حَيَاةٌ
يُذْهِبُهَا الذَّبْحُ)}.
هذا شرطٌ مهمٌّ! إذا وردت التَّذكية على محلِّها في الحي؛ أمَّا لو كان ميتًا
فقطُعَت رأسه فهذا ما فيه فائدة، فلو وجدَ واحدٌ غنمة عنده في حظيرته ميتة، فقام
وقطع رقبتها -حتى ولو كانت ميِّتة قبل دقيقة- ورأى دمًا يخرج؛ فهذا لا ينفع فيها
لأنَّها ميتة، وقال تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾[المائدة: 3]،
والتَّكية لا تكون إلا لما فيه حياة.
ومثل ذلك لو كانت التَّذكية فيما هو مُلحَقٌ بالأموات، فعلَى سبيل المثال: لو أنَّ
حيوانًا قد حصلَ له ما جعله في حكم الميِّت بأن بقِيَت فيه حركة لا تنفعه، ولا
يُمكن أن تدبَّ فيه الحياة بوجهٍ من الوجوهِ بعد ذلك لكونِه قد تحتَّم موتُه؛
فيُعتبر في حكم الميِّتِ، فلو قطع الحلقوم والمريء والودجين فلا ينفع ذلك.
إذن؛ لابدَّ أن تكون فيه حياةٌ مُستقرَّة.
لو قُطِعَ الحيُّ ممَّا فيه مرضٌ أو علَّة أو جُرح لكن لازالت حياته مُستقرَّة،
يتنفَّس ويتحرَّك ونحو ذلك؛ فهنا تنفع فيه التَّذكية، أمَّا ما آلَ إلى أن يكونَ في
حُكمِ الميِّت وهو الذي فيه حركةُ المذبوح فقط ولا يُمكن أن تدبَّ فيه الحياة
بحالٍ؛ فلا تنفع فيه التَّذكية.
والعكسُ بالعكس؛ لو أنَّه كان حيًّا حياةً مُستقرَّة أو حيًّا وهو مجروح لكن لا
يزال يُمكن أن تكون فيه حياة فذبَحَه فلا بأس، ولذلك ذُكر للنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ جاريةً كانت ترعى غنمًا لأهلها، فوجدت شاةً ترفُسُ -أو
فيها ما يدلُّ على احتضارها- فأخذت حجرًا فكسرته ثم ذبحتها، فسُئِلَ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك فأذن بأكلها، لأنَّها ذُبحَت وفيها حياةٌ
مستقرَّة.
ولأجل ذلك قرَّرَ الفقهاء أنَّ التَّذكية إنَّما تكونُ بما فيه حياةٌ مستقرَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ إِلاَّ كَحَيَاةِ اْلمَذْبُوْحِ،
وَمَا أُبِيْنَتْ حَشْوَتُهُ، لَمْ يَحِلَّ بِالذَّبْحِ وَلاَ النَّحْرِ)}.
إذا لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح مثل أن ترفس رجله؛ فهذا لا يحل.
قال: (وَمَا أُبِيْنَتْ حَشْوَتُهُ)، يعني ما خرجَت أمعاؤه، فإذا خرجت الأمعاء
فالغالب أنَّه ما هي إلَّا ثوانٍ يسيرة ثم تُفتَلتُ روحه، فكلُّ هذا في حكم
الميِّت، فلو أنَّ شخصًا ذكَّى ما خرجت أمعاؤه فلا، أمَّا إذا أدركه وفيه حياةٌ
مستقرَّة حتى ولو كان يُظن أنَّه يموت لكن حياته لازالت مستقرَّة؛ فذُبِحَ فإنَّه
يحل.
إذن الفرق بينهما يسرٌ جدًّا من جهة التَّصوُّر، لكن من جهة الأثر متقابلين:
- يعني إمَّا أن يكون فيه جرحٌ أو مرضٌ ويُظنُّ أنَّه يموت لكن لازالت حياته
مُستقرَّة وموجودة فيه؛ فإذا ذُكِّيَ حلَّ.
- ويُقابله ما فيه حركة، لكنها كهيئة المذبوح، أو عُلِمَيقينًا انَّه قد ذهبت حياته
ولم يبقَ فيه إلَّا هذه الحركة اليسيرة فالتَّذكية لا تنفع فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذلِكَ حَلَّ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ لَنَا غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ
لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتاً، فَكَسَرَتْ حَجَراً، فَذَبَحَتْهَا
بِهِ،فَسُئِلَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذلِكَ، فَأَمَرَ
بِأَكْلِهَ)}.
قوله (فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْت)، يعني: أنَّها
ستموت، فأدركت ذلك حتى تحل فذكَّتها، فنفعت التَّذكية، فكانت ليست بميتة وصارت
ممَّا طابَ أكلها وحلَّ تعاطيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اْلعَقْرُ، فَهُوَ: اْلقَتْلُ بِجُرْحٍ فِيْ
غَيْرِ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَيُشْرَعُ فِيْ كُلِّ حَيَوَانٍ مَعْجُوْزٍ عَنْهُ
مِنَ الصَّيْدِ وَاْلأَنْعَامِ، لِمَا رَوَى رَافِعٌ أَنَّ بَعِيْرًا نَدَّ
فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ لِهَذِهِ اْلبَهَائِمِ أَوَابِدُ
كَأَوَابِدِ اْلوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوْا بِهِ هَكَذَ»)}.
قلنا إنَّ التَّذكية تحصلُ بثلاثة أشياء:
- إمَّا الذَّبح أو النَّحر، وقد تقدَّم الكلام عليهما وما ييُعتَبر فيهما.
- العقر: وهو طريقة تحصل به التَّذكية، وهو مختصٌّ بالصَّيد وما في حكمه.
كل هذا الكلام فيما تجبُ فيه التَّذكية، أمَّا صيدُ البحر فلا يحتاج فيه إلى تذكيه،
وبخاصَّة ممَّا لا يعيش إلا في البحر.
نرجع إلى المثال السَّابق: لو جاء شخصٌ بشبكةٍ وضعها في البحر فصادت سمكًا، فرفعها
حتى جمعها، فإذا فيها ميِّتٌ وحيٌّ؛ فنقول: كله حلال، لأنَّ صيدَ البحر لا يحتاج
إلى تذكية، فموته ذكاته. إذن محلُّ الكلام هو فيما يُحتَاجُ فيه إلى تذكية.
ثمذكرَ المؤلف حال ثالثة وهي حال مختص بالصَّيد وما في حُكمه، وهو الذي يكون به
العقر، فيقول: ( اْلقَتْلُ بِجُرْحٍ فِيْ غَيْرِ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ)، فأصلُ
التَّذكية أنها تكون في الحلق واللُّبَّة، ولكن في بعضِ الأحوال يجوز أن تكون
التَّذكية في غير الحلق واللُّبَّة، وهو في الصَّيد الذي لا يُتمكَّنُ من قطع رقبته
أو حلقومه ومرِّيئه، فإذا صيد بسهمٍ ونحوه فأنهرَ الدَّمَ -على ما ذكرنا من
المعتبرات- فيتأتَّى بذلك المقصود، وهذا في الصيد مثل ما يكون من الغزلانأو المهى
أو تيس الجبل أو الجواميس البريَّة أو حُمُر الوحش، أو الضبع -باعتبار أنه صيد يحل
أكله- إلى غيرِ ذلك من الأشياء، وكذلك الطيور والحمام والبطِّ والأوز، إلى غير ذلك،
وأظن أنَّ هذا واضحٌ بالمرَّة، وكلُّ هذا في حال عدم القدرةِ عليه.
والعكسُ بالعكسِ؛ فمتى قُدرَ عليه لم يُجزئ فيه إلَّا النَّحر، فلو افترضنا مثلًا
أنَّ شخصًا أدركَ غزالًا قد أصابها سهمه فإذا هي حيَّةٌ فحملها ووضعها في السَّيارة
ثم ذهبَ، حتى إذا وصلَ إلى محلِّه الذي يمكثُ فيه وجدها ميِّتة، نقول إنَّ هذا ليس
بصيدٍ، لأنَّه صاده حيًّا وأمكنه تذكيته ولم يُذكِّيه، فإذن لا ينفع العقر إلا في
المعجوز عنه، أمَّا ما تُمكِّنَ منه فأمكن ذبحه فلم يُذبَح فلا، ومثل ذلك إذا صادَ
طيرًا ثم أمسكه وهو حيٌّ وجلس يتحدَّث ثم مات هذا الطير فلا يأكله، لأنَّه كان
حلالًا لو نحرته أو مات قبل أن تمسكه، أمَّا وقد أمسكته وهو فيه حياةٌ مستقرَّة فلا
يجوزُ لكَ أن تتعاطاه وتنتفعَ به إلَّا أن تذبحه وتذكيه.
وهذه مسألة مهمَّةٌ للغاية، وكثيرٌ ما يحصل عند أهل الصَّيد التَّغاضي عن هذا
الأمر، يصيدون بآلاتهم من بنادق أو سهام أو بالكلاب والفهود ونحوها، فيُمسكوه حيًّا
ثم بعد ذلك لا يذكُّوه فيموت بينَ أيديهم فيأكلوه، فهذا من الميتة التي حرمها الله
-جَلَّ وَعَلَا.
إذن؛ العقرُ والصَّيدُ إنَّما يحلُّ إذا ماتَ بالعقرِ، أمَّا إذا حييَ وحصلَ بيدك
فإنَّه لا يحل إلَّا بالتَّذكية، وهذا في الصُّيود، فإنَّها تحلُّ بالعقرِ إلَّا أن
تُمسَكَ ويُقدَر عليها.
والعكسُ بالعكس؛ فبهيمةُ الأنعام وما ماثلها مما هو بيد الآدمي مما لا يحل إلا بذبح
كالحمام؛ فلو أنَّه ذهبَ وندَّ وهربَ ولم يُستطَع إمساكه فإنَّه ينتقل من الحكم
الأصلي -أنَّه لا يحل إلَّا بالتَّذكية في الحلقِ أو اللُّبَّة- إلى أن يكون
معجوزًا عنه، فتحصل تذكيته بالعقر -وهو الصَّيدِ بمحدَّدٍ في أي جزءٍ من أجزاء
بدنه- ما دام قد أنهرَ الدَّم وتمَّت الشُّروط التي سيأتي ذكرها وتمامها.
وهذا يحصل كثيرًا للنَّاس خاصَّةً في أثناء الذَّبح، فبعضُ البهائمِ إذا رأت
السِّكين أو ذُبِحَ أمامها أختها ندَّت واستعصَى على صاحبها إمساكها؛ ففي هذه الحال
نقول: لا عليك لو أطلقت عليها سهمًا، أو أصبتها ببندق أو نحوه.
لو أنَّهم كانوا في بريَّة وكان معهم ذبيحة -شاة أو نحوها- فأرادوا أن يذبحوها
فهربت، فلحقوها بالسيارة فأصابوها فماتت، هل تكون حلالًا أو لا؟
الغالبُ أنَّ السَّيَّارة تصيد بثقلها، فتكون كالصَّيد بالمعراض فلا تحل، فإذا
ضربها بالسَّيَّارة فسقطت فماتت فلا تحل، لكن لو أنَّه ضربه بالسَّيَّارة فقعدَ فلم
يستطع المشي فأمسكه فذبحه فلا بأس، أو لو كان في مقدِّمَة السَّيَّارة شيءٌ محدَّد
فضربه حتى دخل في بطنه فأنهرَ الدَّم فمات، فهذا عقرٌ صحيح، ولكن الغالب أنَّ الصيد
بالسَّيَّارة يكون مثل الصيد بالمعراض الذي هو يصيد بالثِّقَل، وبناء على ذلك لا
يحل.
ومثل هذه المسائل تحتاج إلى تأمُّلٍ ودُربة، وهذا الذي يفوت عليك يفوت عليَّ ويفوت
عل كثيرٍ، ولكن إذا استجمَع الإنسان الباب وراجع تبيَّن له المراد في هذا.
إذن؛ كونه معجوزًا عنه فتحصل تذكيته بما تحصل به تذكية الصَّيد وهو العقر، والعقر:
هو القتل بما يُنهر الدَّم، سواء كان ذلك في رقبته ورأسه، أو كان في بطنه وأحشائه،
أو كان في فخذيه ومؤخرته، فكيفما حصل إنهار الدَّم وعقره جازَ لِمَا جاء في الحديث
لمَّا ندَّ بعير، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِهَذِهِ
اْلبَهَائِمِ أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ اْلوَحْشِ»، يعني: كاصُّيود المتوحِّشَة ولا
تُصادُ إلَّا بالعقر. قال: «فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوْا بِهِ هَكَذَ»،
يعني ينتقل حكمه إلى حكم الصَّيد، فتحصل التَّذكية بقتله بالعقر على ما ذكر المؤلف
وجاء في هذا الحديث وتقرر معنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيْرٌ فِيْ بِئْرٍ فَتَعَذَّرَ
نَحْرُهُ، فَجُرِحَ فِيْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ، فَمَاتَ بِهِ، حَلَّ
أَكْلُهُ)}.
القيد الأول: التَّردِّي، قال (وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيْرٌ فِيْ بِئْرٍ).
القيد الثاني: تعذُّر النَّحر، قال: ( فَتَعَذَّرَ نَحْرُهُ).
فلو كان من السهولة أن يُنزلَ له في البئرِ فيُذبَح أو يُنحَر، فلا يجوز إلا ذلك،
ولكنَّ لو تردَّى في البئر ولم يُستَطع نحره، ويُخشى إن جلسنا حتى يُنزَل له أن
يموت؛ فهنا نعتبرها في حكم الوحش الذي ندَّإذا أطلق عليه سهم أو رُميَ ببندقٍ فنهر
دمه، فإنَّها تكون حلالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب الصيد.
كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يُبَح إلا بذبحه)}.
كتاب الصَّيد من الكتب المهمَّة.
الصيد في أصله حلالٌ، قال تعالى:﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾[المائدة: 96]، وأذن الله -جَلَّ وَعَلَا- بتعليم
الكلاب وأكل ما صادت كما جاء ذلك في سورة المائدة، ودلَّت عليه السُّنن.
ويُكرَه الصيدُ إذا كان فيه إلهاءٌ للإنسانِ وتضييع لوقته، وجاء في بعض الأحاديث
«وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ» ، والله المستعان! فالناس الآن في غفلةٍ قبل أن
يصيدوا، فهم في غفلاتٍ يتقلَّبونَ، عسى الله أن يوقظنا من الغفلات، وأن يُعيننا
لِمَا يكون فيه الصَّلاحُ والخيرات.
وقد يحرُم الصَّيد، كأن يصيد الإنسان وهو مُحرمٌ، أو في حرمٍ، أو يصيد ما لا يحل له
صيده، كأن يُمنَع الصَّيد لمصلحةٍ تتعلَّق بعموم النَّاس، أو في محلٍّ يُحمَى من
الصَّيد حتى تكثر هذه البهائم وينتفع النَّاس منها بعدَ ذلك وحتى لا تنقطع؛
فيتعذَّر على النَّاس ما يصيدونه وينتفعون به، ففي هذه الحالة نقول: إذا كان فيه
نحو من ذلك فإنه لا يجوز الصيد، ولكن من حيث الأصل فالصَّيدُ جائزٌ، وجاء الشرعُ
بحلِّه والإذنِ فيهِ، وهو من الأكل الحلال والطَّيب الزُّلال الذي لا غضاضةَ على
الإنسانِ فيه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يُبَح إلا بذبحه)، هذه
المسألة أشرنا إليها قبلُ حتَّى يكتمل المعنى فيما مضَى، فأيُّ صيدٍ صِيدَ وبقيت
فيه حياةٌ مستقرَّة فإنَّه ينتقل من كونه صيدًا يحلُّ بالعقرِ إلى كونه لا يحل
إلَّا بالتَّذكية -التي هي الذَّبح في الحلقوم والمريء والودجين- على ما ذكرنا من
تفصيل ذلك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لم يُبَح إلا بذبحه)، فلو مات بعد ذلك دون أن يُذبَح فلم
يحل، ويخرج من هذا أنَّه لو لم يكن فيه حياةٌ مستقرَّة، فبمجرَّد أن صِيدَ وأمسكناه
بدأت تذهب روحه شيئًا فشيئًا ثم مات؛ فهنا لم يكن منهم تقصير ولم يكن منها حياةٌ
مستقرَّةٌ يُوجب تذكيتها؛ فتحل بذلك الذَّبح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ فَمَاتَ بِعَقْرِهِ،حَلَّ
بِشُرُوْطٍ سِتَّةٍ)}.
قوله: (وَمَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ)، يعني لو أنَّه ضرب بسهمه غزالًا فتدهدهت في
جبلٍ، فوقعت بينَ جبلين في مكانٍ وعرٍ، ويرونها حيَّة تتحرَّك، حتى إذا وصلوا إليها
وجدوها قد ماتت، فهذا صيدٌ تعذَّرَ ذبحه فمات يعقره فكان حلالًا. ومثله في الطُّيور
ونحوها، ويدخل فيه ما ذكرنا من بهيمة الأنعام التي ندَّت فعُقِرَت فماتت فتحلُّ
بذلك العقر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (حَلَّ بِشُرُوْطٍ سِتَّةٍ، ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلاَثَةٌ
فِيْ الذَّكَاةِ)}.
الشُّروط الثلاثة التي ذُكرت قبل قليل هي:
- أهليَّة المذكِّي.
- أن يكونَ بمحدَّدٍ.
- أن يذكرَ اسمَ الله-جَلَّ وَعَلَا.
وهنا ذكر المؤلِّف تتمَّة الشُّروط التي تعتبر للصَّيدِ، فهي مكمِّلةٌ لِمَا مضى،
فثمَّ شروطٌ ثلاثةٌ معتبرةٌ في كل شيء -فيما يُذكَّى وفيما يصادُ- وثمَّ شروطٌ
ثلاثةٌ زائدةٌ خاصَّة بالصَّيدِ، فتُضمُّ إلى الأولى فتكون ستةٌ.
إذن لدينا حالين:
الأوَّل: ما يُكتفَى فيه بشروطٍ ثلاثةٍ، وهو في المُذكَّى.
الثَّاني: ما يحتاج إلى شروطٍ ستَّةٍ، هي شروط الذَّكاة ويُضاف إليها ثلاثة شروط
أخرى سيذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا تباعًا.
{قال -جَلَّ وَعَلَا: (وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُوْنَ اْلجَارِحُ الصَّائِدُ
مُعَلَّمًا، وَهُوَ: مَا يَسْتَرْسِلُ إِذَا أُرْسِلَ، وَيُجِيْبُ إِذَا دُعِيَ،
وَيُعْتَبَرُ فِيْ اْلكَلْبِ وَاْلفَهْدِ خَاصَّةً، أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ
يَأْكُلْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذٰلِكَ فِيْ الطَّائِرِ)}.
يذكر المؤلف الشَّرط الرَّابع بعد الثَّلاثة الأولى التي هي: أهلية المذكي،
والتسمية، وأن يكون بمحدَّدٍ؛ فيقول: (أَنْ يَكُوْنَ اْلجَارِحُ الصَّائِدُ
مُعَلَّمً)، التَّعليم شرطٌ في إباحةِ الأكلِ، وذلك لقول النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلَابِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ
فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ»؛ لأنك لا
تدري أصاد كلبك أم الكلب الآخر، وإذا كان كلبًا غيرَ مُعلَّمٍ فلا تدري أصادَ لنفسه
أو صادَ لك، بخلاف المعلَّم فإنَّه إذا أُسِلَ فإنَّما يصيد لصاحبه، فتكون
التَّسمية لها أثر، والقصد له أثر؛ فيكون هذا المعلَّم قد صادَ لصاحبه، فيُعتَبرُ
كالآلة التي يُذبَح بها، وكالسِّكين التي يُقتَلُ بها؛ فلأجل ذلك لابدَّ أن يكون
الجارح الصائد معلمًا.
ولو أنَّ شخصًا -مثلًا- كان بين يديه كلبٌ، ثم رأى صيدًا فأراه للكلب فذهب فصاده،
فأدركَ هذا الكلبَ وأبعدَه وأخذَ الصَّيدَ؛ فلا يحل، لأنَّه وإن ذكرَ اسم الله، وإن
أرسلَ الكلب، إلَّا أنَّ الكلبَ ليس بمعلَّمٍ، فلا يدري هل صادَ الكلبُ له أو صادَ
لنفسِه، فلأجلِ ذلك افترقَ ما يتعلَّق بالمعلَّمِ من غيرِ المعلَّمِ.
كيفَ نقول هذا كلبٌ معلَّم أو هذا كلبٌ غير معلَّم؟
لعلَّ هذا أن يكون -بإذن الله جلَّ وعلا- في ابتداء الدَّرس القادمِ؛ لأنَّ الوقت
انتهى، ولو ذكرناه يُمكن أن لا نستيطع إكماله، فيكون مُستهلُّ الدرس القادم -بإذن
الله- وما يحصل به تعليم الصَّائدُ الجارحُ من الكلابِ والطُّيورِ والفرق بينهما.
أسألُ الله لي ولكم التَّوفيقَ والسَّدادَ، وشكرَ الله للجميع، وتقبَّل الله منَّا
ومنكم صالحَ الأعمال، وأجرى الخيرَ على أيدينا، والصَّواب في علومنا وفهومنا،
ونسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- ألَّا يجعلنا ممَّن يفوِّتونَ الحقَّ، ولا يضيِّعوه،
ولايتقوَّلون على الله، ولا يُخلُّون بسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إنَّه جوادٌ كريمٌ، وبالإجابةِ جديرٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على
نبيِّنا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعلَ ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختامِ هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}