{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وجعلنا وإيَّاكم من
الموفَّقين.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ:
(كِتاَبُ الْجِنَاياَتِ.
اْلقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- لي ولكم دوام التَّوفيق والإعانة والتَّسديد
والوصول إلى المقصودِ والغاية، وأن يجعلنا وإيَّاكم هداةً مُهتدينَ، اللهم ارفع
منارنا بالعلمِ، وأبقنا فيه، وارفعنا بالعلم، ووفِّقنا لتحصيله، واجعله أجرًا لنا
وذُخرًا يوم لقاكَ.
بما أنَّنا في بداية كتاب الجنايات؛ فالفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- رتَّبوا
هذه الكُتب ترتيبًا يُقصَد منه التَّسهيل والتَّيسير، وربَّما جعل بعضهم لذلك
مُناسبات، يقولون: لَمَّا كان المُكلَّفُ قد باعَ واشتَرَى وقد نكحَ وتمتَّع، فلا
تنفكُّ النَّفس من أن يكون لها طُغيان وشيءٌ من الظُّلم والعُدوان، فإنَّ النَّفس
إذا شبعَت وباعت واشترت واغتنَت وتشاحَّت؛ فيكون لها شيء من الميلِ؛ فاحتيج بعدَ
ذكرِ ما يتعلَّقُ بحاجات الإنسان ورغباته إلى ما يمنعه من الجناية والظُّلمِ،
وبيانِ أثرِ ذلك، ومَن حصلَ منه شيءٌ من التَّجاوُزِ، أو جرَى منه شيءٌ من الظُّلم
وَتَعَدِّي أمرَ الله -جلَّ وَعَلَا- فاحتيج إلى ذكر الجنايات.
والمقصود من كتاب الجنايات: بيانُ عُقوبة فاعلها، وتحديدُ متى تكون جناية يتعلَّقُ
بها ضمانٌ متَى لا تكون، إلى غيرِ ذلك من المسائل المتعدِّدَة.
وتجدون أنَّ أوَّلَ شيءٍ ابتدأ به الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- هو القتل، فقالوا:
(اْلقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ)، لكنَّ الجنايات لا
تختصُّ بالقتل، ولذلك قالوا: التَّعدِّي على بدنٍ أو مالٍ أو عرضٍ؛ فأيُّ تعدٍّ من
هذه التَّعدِّيات يدخلُ في بابِ الجنايات.
على سبيلِ المثال: إذا ضربَ شخصٌ آخرَ؛ فهذه جنايةٌ إذا كانَ الضَّربُ غيرَ مشروعٍ،
بأن لا يكونَ على سبيلِ التَّأديبِ، أو مَن له حقُّ الضَّربِ، كالقاضِي في مَن
حُكِمَ أن يُجلَدَ ويُضرَب، أو في غيرِ حدٍّ من حدودِ الله -سبحانه وتَعالى.
إذن التَّعدي على البدن، سواء كان التَّعدِّي بالضَّربِ، أو بالجُرحِ، أو كان ذلك
بما هو أعظم من ذلك وهو القتل.
والتَّعدِّي على المالِ بأنواع الاعتداءات، سواءٌ كانَ على سبيلِ السَّرقَةِ، أو
على سبيلِ الإهدارِ والإتلافِ، أو على سبيلِ أن يغرَّه أو يغصِبَه، أو غيرِ ذلك من
الأمور؛ فكلُّ ذلك داخلٌ في الجنايات، ويتعلَّق به أحكام يذكرها الفقهاء -رَحِمَهُ
اللهُ.
وكذلك الجناية على العِرضِ، سواء كان ذلك بالقذفِ الذي سيأتي في الحدود، أو كان ذلك
بما دون القذفِ الذي هو مُوجبٌ للتَّعزيرِ، فالمهم أنَّها لا تنفكُّ من أن تكون
نوعًا من التَّعدِّي والجناية.
إذن هذا ما يتعلَّق بأصلِ معنَى الجنايات، وتعريفها في اللغة ظاهر وهو: جَنَى إذا
تعدَّى، أي: فعلَ ما ليسَ له فعله شرعًا.
قال المؤلف: (اْلقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ)، فيه إشارةٌ إلى أنَّ القتلَ إنَّما يكونُ
جنايةً في حال أن يكونَ بغيرِ حقٍّ.
هل يُمكن أن يكونَ القتلُ بحقِّ؟
نعم، ولذلك قال الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ: القتل ثلاثة أنواع:
النَّوع الأوَّلُ: إمَّا قتلٌ واجبٌ: وذلك كقتلِ الثَّيبِ الزَّاني، أو قتل المرتد
-نسأل الله السلامة والعافية- لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي
رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّب الزَّانِي، والنَّفْس
بِالنَّفْسِ، والتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ» .
النَّوع الثَّاني: القتل المباح، مثل حالِ القصاص، فمَن اعتدَى على شخصٍ فإنَّه
يُمكن أن يُقتَل، ومَن طلبَ القصاص والقتل لذلك الجاني؛ فإنَّه طالبَ بما يجوزُ
ويُباحُ له شرعًا.
النَّوع الثَّالثُ: هو محل البحث والنَّظر، وهو القتل بغيرِ حقٍّ.
والمؤلف سيذكر متى يكون قتلًا بغيرِ حقٍّ، ثم ما الذي يترتَّبُ عليه، وذكر الذي
يترتَّبُ عليه من جهةِ العقوبَة الدُّنيويَّة، أمَّا من جهة العقوبة الأخرويَّة
فذاك شأنٌ آخر، ولذلك يبحث الفقهاء مسألة القاتل الذي قَتَلَ بغيرِ حقٍّ هل له
توبةٌ أو لا؛ ذلك لأنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَ﴾ [النساء:93]، فهل هذا الخلود
هو خلودٌ أبديٌّ سرمديٌّ فيكون كالكافر وكمن لا توبة له فبناء على ذلك يُخلَّدٌ في
النَّار؟ أم أنَّه خلودٌ أمديٌّ ويُمكن أن يخرج من النَّار ويدخل الجنَّة؟
المشهور من المذهب عندَ الحنابلة وهو قول عامَّة أهل العلم -سوَى ما نُقِلَ عن ابن
عباس في هذا- أنَّهم يقولون: إنَّه تخليدٌ أمديٌّ، وأنَّه ينتقل إلى الجنَّة؛ لأنَّ
الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء/116]، فبالجمع بينَ الآيتين
يكون هذا الخلود خلودٌ أمديٌّ؛ لأنَّ اللفظ في اللغة يحتمله، وبناء على ذلك لا يكون
فيه شيءٌ من الاعتراض، خلافًا لقولِ ابن عباس الذي يقول: إنَّ القاتلَ لا توبةَ له،
وهو آخرُ ما نزلَ من القرآن، وجاءت على لفظِ الإخبارِ، فتكونُ دالَّةً على القطعِ
بعدمِ التَّوبةِ، ويكادُ يكون قول ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَهجورًا.
ولا يعني كون للقاتل توبة أنَّ القتل أمرٌ يسيرٌ أو صغير؛ بل هو من أعظَم العظائم،
ومن أشدِّ الأمور، ولذلك يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ
يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامً» ،
وَلَمَّا ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكعبة وما لها من الحُرمةِ
قال: «وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ عندَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكَ» ، إشارةً إلى عِظَمِ هذا
الأمر، ولذلك فهو كبيرةٌ من الكبيرة، ومن أعظمها وأشدِّها، ولذلك كان الخلاف هل له
توبة أو لا توبة له؛ أمَّا سائر الكبائر فعلماء أهل السنَّة والجماعة لا يختلفون في
أنَّ فاعلها له توبة، وأنَّه يدخل الجنةَ -بإذن الله جلَّ وعلا.
إذا قُتل القاتل أو عُفيَ عنه، فهل تنتهي مطالبته يوم القيامة؟
بعضُ أهل العلم لهم في هذا كلام، ومِن أحسنِ ما نُقلَ في هذا هو كلامٌ لابن القيم
-رَحِمَهُ اللهُ- يقول: "والتحقيق في المسألة أنَّ القتلَ يتعلَّق به ثلاثة حقوق:
حقٌّ لله، وحقٌّ للمظلوم المقتول، وحقٌّ للولي، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعًا
واختيارًا إلى الولي، ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا: يسقط حق
الله بالتوبة، وحقٌّ الولي بالاستيفاء أو الصُّلح، أو العفو، وبقى حق المقتول يعوضه
الله عنه يوم القيامة عن عبده التَّائب المحسن ويُصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا،
ولا تبطل توبة هذا" ، لكن لا يعني ذلك أنَّه يفوت حق المقتول، فللمقتول حقٌّ عند
الله -جلَّ وَعَلَا- يستوفيه في الآخرة إن طلبه، على ما يأتي في القصاص بين الخلق
يوم القيامة كما في قصَّة المفلس والأخذ من سيئات المظلوم وإلقائها على الظَّالم،
إلى غير ذلك من المشهور والمعروف عند أهل العلم فيما يكون من القصاص بين الآدميين
يوم القيامة.
فكل ذلك يدلُّنا على عِظَم هذه الجريمة، وشاعة هذا العمل، وعِظَم ما يترتَّب عليه،
وذلك أنَّ كثيرًا من النَّاس في هذه الأزمنة تتجارى بهم النُّفوس الغاضبة والمنحرفة
إلى الاستطالة على النَّاس والتَّسلُّط على دمائهم، وبمجرَّد أن يُوجَد من الإنسان
خطأٌ أو حللٌ أو بعض التَّطاول فيستبيح بذلك دمه!
فينبغي أن يُعلَمَ أنَّه لا يجوز للإنسانِ أن يستطيلَ على النَّاس، ولا أن يتسلَّط
عليهم، وأنَّ مَن جرَت منه مَظلمةٌ أو جاء منه شيءٌ شنيعٌ فينبغي للإنسان أن يعرف
أنَّ حقَّه محفوظٌ في الشَّرع، وأنَّه ليس له أن يتسلَّط ليأخذ حقَّه؛ لأنَّ ذلك لا
يُؤمَن معه أن تدور الأمور، وهذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من هذا؛ حتى يصير الناس
فوضى لا سَراةَ لهم، وإنَّما ثَمَّ حاكمٌ وقاضٍ يقصي بينَ النَّاس، وينتزعُ للمظلوم
حقَّه من ظالمه، ويردُّ على الظَّالم ظُلمَه، إلى غير ذلك ممَّا جعل الله -جلَّ
وَعَلَا- في هذه الشَّريعة من العدل، وإقامة الحقِّ، ودرءِ الظَّلمِ، ومنعِ
الظَّالمِ من الظَّلمِ والعُدوانِ.
ومن جهةٍ أخرى؛ بعض النَّاس يظنُّ أنَّ التَّاقصُرَ عن أخذِ حقِّه هو نوعُ ضعفٍ،
وتُلحقه الملامة عندَ النَّاس، وقد يُوجِّهونَ إليه اللوم، وقد يلحقه أكثرُ من ذلك
من الذِّلَةِ والهوانِ في قومِهِ، وخاصَّةً في بعضِ المجتمعات، كالمجتمعات
القَبَليَّة والبدويَّة، أو ما شابه ذلك؛ فهذا لا شكَّ أنَّ الشَّيطان يستغلُّه
لينفخ في الإنسان حتَّى يستطيل على النَّاس ظُلمًا وعُدوانًا، فينبغي للإنسان أن
يتقيَ الله، وأن يجعلَ الله نصبَ عينيهِ، وأن لا يُقدِّمَ ما يكون من حظوظ
النُّفوس، ومن استطالةِ الشَّيطانِ فيها من عوائدَ قَبَليَّة أو غيرها، على ما أمرَ
الله -جلَّ وَعَلَا-، فإنَّ شرعَ الله حاكمٌ، وإنَّ أمرَ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماضٍ، وإنَّا مستسلمونَ منقادونَ مسلِّمونَ أمرنا لأمرِ الله
وأمرِ رسوله، فما حكم به الله ورسوله آتٍ علينا وعلى الخلق أجمع، فلا يَعتدي مسلمٌ
على مسلمٍ، ولا ينجرَّ أحدٌ إلى ظلمٍ وعُدوانٍ، وإنَّا في وقتٍ قد تماهى النَّاس في
الاستطالة على الأعراضِ والاستطالةِ على الدِّماء والتسلُّطِ على الناس لأدنى سبب،
فيُلقي شخصٌ كلمة فلا تجد إلَّا الخصومَة التي تنتهي بالموت، ويختصمُ اثنانِ في
عملٍ أو في مدرسةٍ أو في شارعٍ، أو على حقٍّ في طريقٍ أو بضع ريالات؛ فتنتهي بهم
إلى الجنايةِ العُظمَى والقتل، أو الجريمة الكُبرَى، فهذا من الأمور التي ستهوي
الشيطان بها الناس.
نعود ونقول: إنَّ القتلَ من أشنعِ الشَّنائع، وأكبرِ الكبائر، ولذلك لَمَّا عدَّ
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّبعَ الموبقات بدأ بالشرك بالله -جلَّ
وَعَلَا- ثم قال: «وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ» ، إلى
غير ذلك ممَّا جاءت به دلائل النُّصوص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (اْلقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: اْلعَمْدُ الْمَحْضُ، وَهُوَ: أَنْ يَقْتُلَهُ بِجُرْحٍ، أَوْ فِعْلٍ
يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، كَضَرْبِهِ بِمُثَقَّلٍ كَبِيْرٍ، أَوْ
يُكَرِّرُهُ بِصَغِيْرٍ، أَوْ إِلْقَائِهِ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ خَنْقِهِ أَوْ
تَحْرِيْقِهِ، أَوْ تَغْرِيْقِهِ، أَوْ سَقْيِهِ سُمًّا، أَوِ الشَّهَادَةِ
عَلَيْهِ زُوْرًا بِمَا يُوْجِبُ قَتْلَهُ، أَوِ اْلحُكْمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَنَحْوِ
هَذَا، قَاصِدًا عَالِمًا بِكَوْنِ الْمَقْتُوْلِ آدَمِيًّا مَعْصُوْمًا، فَهَذَا
يُخَيَّرُ اْلوَلِيُّ فِيْهِ بَيْنَ اْلقَوَدِ وَالدِّيَّةِ لِقَوْلِ رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيْلٌ، فَهُوَ
بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى»)}.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهَا: اْلعَمْدُ الْمَحْضُ).
القتل العمد هو أوَّلُ أقسام القتل.
متى يكون القتل عمدًا؟
يقول أهل العلم: إذا اجتمع فيه أمران:
- أن يقتله بما يقتل غالبًا.
- أن يكون قاصدًا للقتل.
فإذا انتفى القصدُ انتفى العمد؛ لأنَّ تعمُّد القتل هو إرادة الجناية وقصدُ إماتته
وإزهاق روحه وإذهاب حياته، ولذلك قال المؤلف: (قَاصِدًا عَالِمًا بِكَوْنِ
الْمَقْتُوْلِ آدَمِيًّا مَعْصُوْمً)، وسيأتي ما يُقابل ذلك.
إذن هذا هو الأمر الأوَّل، وهو قصدُ القتلِ والجنايَة، ولذلك سُمِّيَ عمدًا لأنَّ
فيه تعمُّدٌ وقصدٌ، وضدُّه الخطأ أو النِّسيان، فهذا ليس بمُخطئ ولا بناسٍ، وإنَّما
هو قاصدٌ متوجِّهٌ إليه بإرادة القتلِ وإزهاق الرُّوح.
أمَّا الثَّاني فهو: أن يكون بما يقتُلُ غالبًا، وذكر الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ-
ضوابطَ لهذه التي يحصلُ بها القتل، وهو نظرٌ في النُّصوص، ونظرٌ فيما جرت العادة
أنَّ الآدميَّ يموت بمثل ذلك، وذكروا في هذا شيئًا من الضَّوابط والقيودِ بحسبِ ما
جاءت به الأدلَّة وجمعها والنَّظرِ فيها، وبحسبِ ما يكون سائدًا أنَّ الإنسان تلحقه
بذلك الوفاة، وتذهب به الرُّوح، يحصل به إزهاق النَّفس؛ فلأجل ذلك قال: (أَنْ
يَقْتُلَهُ بِجُرْحٍ)، فإذا جرحَهُ بما له مورٌ في البدنِ ونفوذٌ فيه فإنَّ هذا
قتلٌ بإجماعِ أهلِ العلم لا يختلفون في ذلك، لأنَّ النُّفوس إنَّما تُزهَق بنفاذ
المُحدَّدِ من سكِّينٍ أو خنجرٍ أو سيفٍ إلى جوفِ الإنسان، سواءٌ كان ذلك في رقبته
أو كان ذلك في بطنه، أو كان ذلك في صدره، أو كان ذلك في ظهره، أو كان ذلك في
وَركِهِ، إلى غير ذلك ممَّا هو معلومٌ أنَّه في الغالب أنَّه يؤولُ به إلى الموتِ
والقتل، فلا يختلف أهلُ العلم أنَّ هذا قتلَ عمدٍ، ما دامَ اجتمع فيه القصدُ
والآلةُ التي يُقتلُ بها غالبًا.
ولأهلِ العلمِ في تحديدِ الآلاتِ شيءٌ من التَّبايُنِ والاختلافِ، منها ما يختلفونَ
فيه، ومنها ما تتباين فيه وجهات النَّظر.
وكما قلتُ لكم: إنَّ مثلَ هذه المسائل ليست مِن المسائل التي تكثُرُ حاجةُ الطَّالب
إليها، فلأجل ذلك كان من المهمِّ أن يعرف الإنسان أصلَ هذه المسائل ومأخذها من
الأدلَّة، وأمَّا تفاصيل الكلام على دقائق هذه المسائل فإنَّه يُعنَى به مَن يلي
هذه الأمور من القُضاة والمحقِّقين والمستشارين لولاة الأمور الذي تُحالُ إليهم مثل
هذه الأمور، ويكون لهم شيءٌ من النَّظرِ فيها واعتبار أقوالهم، وتترتَّبُ عليها
إجراء تلك الأحكام وإمضائها.
ما هذه الآلات التي يُقتل بها غالبًا؟
الفقهاء على اختلاف مذاهبهم يُعدِّدونها، فمنها ما يتَّفقون، ومنها ما يكاد يحصل
فيها الاتِّفاق، ومنها ما يكون فيه الخلاف أكثر إمَّا في النَّوعِ بجملَتهِ، وإمَّا
في بعض قيودِهِ وتفاصيله.
فالقتل بآلة تجرح لها مورٌ في البدن لا يكادون يختلفون فيها، بل نُقلَ في ذلك
الإجماع، كما نقلَه ابن المنذر وغيره، كأن يكون سكِّينًا ونحوه.
أمَّا لو كانت إبرةً صغيرة فإنَّه إذا كرَّرها؛ فإنَّ تَكرارَ الصَّغيرِ يجعله
كبيرًا؛ فينتقلُ إلى كونه آلة كبيرة.
ومثل هذا لو كانَ التَّكرار بآلةٍ صغيرةٍ وقتل في مقتلٍ، كأن يضربه في عينه، أو في
خصيته، أو ما شابه ذلك، أو الودج، وهو العرق الذي في الرَّقبةِ ويسيل معه دم
الإنسان، فذكروا في هذا تفاصيل تُدخله في هذا النَّوع ويُلحقه بهذا القسم.
ثم قال: (أَوْ فِعْلٍ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ)، هنا لم يُرد
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يستقصيَ الأقسام التي استقصوها في الكتب الأخرى،
فالحنابلة مثلًا ذكروا تسعةَ أحوالٍ كلها يُحكَم فيها بأنَّها عمدٌ، ومن الفقهاء
مَن ذكر أقل من ذلك، ومنهم مَن زاد عليه.
وقوله: (أَوْ فِعْلٍ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ)، فيه إشارة إلى
ضابط هذا الأمر، وهو أنَّ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- نظروا فيما يقتُلُ غالبًا.
قال: (كَضَرْبِهِ بِمُثَقَّلٍ كَبِيْرٍ)، مثلَ قطعةِ حديدٍ، أو حجرٍ كبيرٍ، قطعةٍ
من البابِ، أو مجموعة من خشب، أو قطعة من السنديان؛ فهذه المثقَّلات الكبيرة يحصلُ
بها القتل، خلافًا لبعض الفقهاء كالحنفية، فقالوا: جاء في بعض الأحاديث «أَلَا
إِنَّ قَتيلَ خَطَأِ العَمْدِ بِالْسَّوطِ وَالْعَصَا وَالحَجَرِ» .
فنقول: صحيح أنَّ الحجر ذُكر في هذا الحديث أنَّ القتل به لا يُعدُّ قتل عمدٍ؛ ولكن
إذا نظرنا إلى حديث الجارية التي قتلها اليهوديُّ بحجرٍ فإنَّ ذلك يُحوجنا إلى
الجمع بينَ الحديثين، ولأجل ذلك قال الحنابلة والجمهور: يُحمَلُ حديث الجارية على
الحجرِ الكبير، ويُحمَل حديث «أَلَا إِنَّ قَتيلَ خَطَأِ العَمْدِ بِالْسَّوطِ
وَالْعَصَا وَالحَجَرِ» على الحَجرِ الصَّغير، ولهذا قالوا: (بِمُثَقَّلٍ
كَبِيْرٍ)، على سبيل التَّفصيل والتَّوضيح، وحتى لا يكون في ذلك شيءٌ من الإبهامِ
والإشكالِ مع هذا الحديث.
ومثلما قلنا: إنَّ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- دقيقونَ في ذكرِ حدود المسألة وما
يدخلُ فيها وما لا يدخل، ولذلك فَرَقوا -رَحِمَهُم اللهُ- في القتل بالمثقَّل
الكبير بين مَن كانت صحَّته صحيحة وبين مَن صحَّته عليلةٌ، ولذلك قالوا: إذا كانت
صحَّتُه عليلةً وضُرِبَ بحجرٍ أصغرٍ أو بشيءٍ أقل؛ فإنَّ مثل ذلك عندَ النَّاس
يُعرَف أنَّه يُرديه ويقتله، فما يحتمله الإنسان القويُّ النَّشيط الذي في كامل
قوَّته وصحَّته لا يحتمله الذي قد وهَنَ عظمه وضعُفَ جسمه، ولذلك يُفصِّلون في هذا
وهذا بحسبه، ولأجل ذلك يذكرونَه حتى يُبيَّن انطباق الضَّابط وهو "ما يقتل غالبًا"،
ونحن نعرفُ أنَّ مثلَ هذا يقتلُ غالبًا للكبير، وأنَّ مثلَ هذا الحجر الكبير يقتُلُ
غالبًا للصَّحيحِ القويِّ الشَّديد.
قوله (أَوْ يُكَرِّرُهُ بِصَغِيْرٍ)، لو معه حجرٌ صغيرٌ ويُلقيه عليه مرَّةً بعدَ
مرَّةٍ بعدَ أُخرَى، بعدَ ثالثةٍ بعدَ عاشرةٍ؛ فالغالب أنَّه يقتله، وأنَّه يصل به
إلى إزهاقٍ نفسه وخروجِ دمه حتى يهلك.
قال: (أَوْ إِلْقَائِهِ مِنْ شَاهِقٍ)، يتدهده معه، فإنَّ هذا عند عموم النَّاس
أنَّه يقتلُ غالبًا، فإذا ألقيَ شخصٌ من رأسٍ عمارة، فهل يُتصوَّر أنَّه يحيى! حتى
لو حييَ بأيِّ سببٍ من الأسباب كأن سقطَ على شيءٍ فيه ليونةٍ أو لَطُفَ الله -جلَّ
وَعَلَا- به فنزل على قدميه فعصمه الله وحفظَهُ من الموتِ والهلَكةِ وقال النَّاس:
"نجا بأعجوبة"، وهذا يعني أنَّ العادةَ المستقرَّة المستديمة أنَّ مَن سقطَ مثلَ
هذه السَّقطة أو أُلقيَ مثل هذا الإلقاء أنَّه يهلك ويموت ولا يحيى، فدلَّ على
أنَّه إذا أُلقيَ من شاهقٍ فمعنى ذلك كأنَّك تعلمُ أنَّه يموتُ بذلك، فهو متعمِّدٌ
لهذا، فيُحكَم بأنَّه متعمِّدٌ لقتله وإزهاق روحه.
قال: (أَوْ خَنْقِهِ)؛ لأنَّ الإنسان إذا بقيَ مدَّةً قصيرة لا يتراجعُ إلى نَفَسُه
يُوشكُ أن يهلكَ ويقف قلبه، فسواءٌ كان ذلك بالخنقِ أو بالتَّغريق في الماء، أو
بإحراقِ غرفة حتى تمتلئ بالدُّخان فيَشَرقَ بذلك فيهلك، أو تلتهمه ألسنةُ النار
ولهبها حتى يموت؛ فمن المعلوم أنَّ ذلك كله ممَّا يُميتُ ويهلك.
فنقول: جنس هذه الأشياء تقتل وتُميت، وهذا فيما هو عادة، لكن لو أنَّ شخصًا أمسكَ
آخرَ فخنقه لمدَّة عشرِ ثوانٍ؛ فالعادة أنَّ مثل هذا يُميت، فلو قال: أنا لم أقصد
وإنَّما قصدتُّ ممازحته أو تخويفه ونحو ذلك؛ فيُمكنُ أن يُقبَل؛ لأنَّ العادة
الغالبة أن مثل هذا الوقت لا يموت به الإنسان، فينتقلُ من العمدِ إلى القسم
الثَّاني.
وعلى سبيل المثال: لو كانَ شخصٌ عندَه ضعفٌ في تنفُّسه أو بلاءٌ في صدرهِ معلومٌ
عندَ الجميع، فمسكه عشرُ ثوانٍ فمات فيختلف الحكم، فإنَّ دعوى الغلط لا تُقبَل في
مثل هذا.
والفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- يذكرون في هذا أصلًا، ثمَّ يُفرِّعونَ عليه بعض الفروع
التي قد تخرج من الخطأ العمد إلى العمد، أو التي تخرج من العمدِ إلى شبههِ بحسبِ ما
احتفَّ بها من الحال، ولكن في الجملة أنَّ خنقَ الإنسان يُفضي إلى قتله، فكان من
الآلة التي يقتل بها غالبًا، فإذا احتفَّ بذلك قصدٌ فإنَّه يموت.
ما معنى "يحتف به القصد"؟
لو أنَّ شخصًا في ظُلمةٍ شديدةٍ أمسكَ كساءً وهو لا يدري أنَّه ملتفٌّ على رقبة
شخصٍ أو على وجهه، فذهب نَفَسُه فمات ولم يستطع الحراك، لكونه في الأصل نائمًا أو
نحو ذلك، فنقول: منع النَّفس يقتل غالبًا، لكن لم يكن قاصدًا.
إذن لابدَّ من وجود الأمرين جميعًا:
- أن يكون قاصدًا.
- وأن تكون الآلة ممَّا يقتل غالبًا، وقد ذكروا الآلات التي تقتل غالبًا على سبيل
الحدِّ والتَّوضيح، وذكروا فيها تفصيلاتٍ بحسبِ الحالِ التي تليقُ بكلِّ أحدٍ
بحسبهِ، فينبغي أن يُلحظَ ذلك على هذا النَّحوِ، وكلامُ الفقهاء يُنزَّلُ على مثلِ
هذه الصُّور.
قوله (أَوْ تَحْرِيْقِهِ، أَوْ تَغْرِيْقِهِ)، فلو أغرقه في ماء فمات، فهذا مما
يقتل الإنسان غالبًا.
فلو كان مثلًا في طَشتٍ -أو طَستٍ- يسيرٍ، فغرَّق فيه شخصًا؛ فالعادة أنَّه لا
يقتل، لكن لو كان صغيرًا رضيعًا فإنَّه يموت.
هنا مسألة لم يذكرها المؤلِّف، ولكن من المناسب جدًّا أن نذكرها، وهي أنَّهم ذكروا
من الصُّورِ أن يُنهشه أسد، أو أن يُلقيَ عليه حيَّةً في مكانٍ محجورٍ، فهذا أمرٌ
واضح، لأنَّ مثل هذه الحيَّات والعقارب تُميتُ عادةً بسُمِّها،
وكون الإنسان ألِفَها ولكنَّها لا تُؤمَنُ بكلِّ حالٍ، فمعنى ذلك أنَّ إلقاءك على
شخصٍ شيئًا من ذلك ظانًّا منكَ أنَّها لا تُؤذيه بحسبِ ما اعتدت أو ألفت وتعوَّدت؛
فلا يعني ذلك أنَّها في كل الأحوال ستكون كذلك، فلو مات قلنا: إنَّك قاصدٌ لأنَّ
هذه تقتُل غالبًا، وأنتَ ألقيتها بقصدٍ، ولم تكن مخطئًا ولا ناسيًا، فتكون كالقصدِ
العمد.
ولو أنَّ شخصًا أخذها فجعلها على رقبته كما يفعل بعض الناس فنهشته فماتَ فهو
كالقاتل لنفسه، وتعرفون أنَّ كثيرًا من الناس يتفاخرون بإمساك الحيَّات والأسودِ
ونحوها، فمَن فعل ذلك على مثل ذلك الوجه فيُوشك أن يكون قاتلًا لنفسه على ما ذكره
الفقهاء، إلَّا ما كان يتعلَّمُ بالتَّعليم وينقادُ بالاقتياد؛ فإنَّه إذا عُلِمَ
يكونُ مأمونًا، لكن ما جرَت العادة على أنَّه ليس بمستقيمٍ تعليمه فلا ينبغي ولا
يجوز للإنسان أن يتعاطاه، ونقول: هو حرامٌ، ولو أنَّه فعلَ شيئًا من ذلك فمات لكان
قاتلًا لنفسه متحمِّلًا التَّبعة عندَ ربِّه -جلَّ وَعَلَا.
وتعرفون أنَّ قاتل نفسه في النَّار كما جاءت بذلك الأحاديث، والذي يقتل نفسه بحديدة
ونحوها فهو يُعذَّبُ بها يوم القيامَة كما جاءت بذلك الأحاديث، فكذلك الذي يفعل هذا
بمثل حيَّةٍ ونحوها، فيوشكُ أن يدخل في قاتل نفسه، فيُعذَّب بذلك على ما جاء عن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه أمورٌ مُهمَّةٌ وعظيمةٌ ينبغي التَّنبُّه لها.
تذكَّرتُ الآن مسألة قديمة في الذَّبحِ، في بعضِ مَن يصيدون العصافير ونحوها، فيقطع
الرَّقبة بيده، فيفصل الرقبة بدونِ سكِّينٍ؛ فالذي يظهرُ أنَّ الفقهاء ينصُّونَ على
الآلةِ المُحدَّدة، وهذا لا يكون بآلةٍ، وبناء على ذلك يخرجُ عن كونه ذبحًا، فتدخل
في كونها ميتة ولا يجوز أكلها ولا يحل للإنسان تعاطي لحمها، وهو محرَّمٌ وليس
بجائزٍ.
أسألُ الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وأشكرُكَ وأشكرُ الإخوة القائمين على
هذا البناء، وأشكرُ الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسألُ الله أن يرزقنا الإخلاصَ
في القولِ والعملِ، والصَّوابَ والهُدَى، والخيرَ والرَّشاد، وأن يجعلنا وإيَّاكم
من الموفَّقينَ، وأن يُباركَ لنا في الأعمالِ والأقوالِ والأوقاتِ، إنَّ ربَّنا
جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسألُ الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.