{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، ومسرورون بلقائكم وبتجدد العهد بكم وبالإخوة الطلاب
والطالبات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ:
(باَبُ شُرُوْطِ وُجُوْبِ اْلقِصَاصِ وَاسْتِيْفَائِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا من العلم والهُدى، والبر والتقوى،
وأن يحفظ علينا أنفسنا وأهلينا وأولادنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لم يزل الحديث موصلًا في كتاب الجنايات، ولولا أنَّه لابدَّ من الحديث عن مثل ذلك
ودراسة هذه المسائل لوجدَ الإنسان غُنيةً أن يبحث مثل تلك المباحث وفيها قتلٌ وضربٌ
وقصاصٌ واقتصاصٌ من طرفٍ أو غير ذلك من مسائل كثيرة، لكن حسبنا أنَّ بابها بابَ
العلمِ بالكتاب والسُّنَّة، وبما يحصل به فروض الكفايات من حاجة الناس إلى ذلك،
والاقتصاص للمظلوم، والقيام على الظَّالم وأداء الحقوق الشَّرعيَّة، وما يترتب على
ذلك من مصالح كثيرة للعباد، وما ينتج من ذلك من خيرٍ في البلاد.
ابتدأنا في الدرس الماضي ما يتعلَّق بالقتل العمد العدوان، وبعض الصور التي ذكرها
الفقهاء، ثم ذكرنا شبه العمد والخلاف، وهل هو قسيمٌ للعمد، أو قسيمٌ بينَ العمد
والخطأ، أم أنَّه لا يوجد إلا قسمان -خطأ أو عمد- والخلاف بين الجمهور والمالكيَّة،
إلى أن ذكرنا قتل الخطأ، وأنَّ الخطأ يكون في القصدِ، ويكون في الفعل، وقلنا: إنَّ
الخطأ في القصد كأن يرميَ صيدًا فيُصيبُ آدميًّا، وهذا من صور الخطأ في القصدِ، ومن
صور الخطأ في الفعل، وذكرنا الصور المشهورة التي ذكرها الفقهاء، إذا أصابَ مسلمًا
وكان بينَ يدي المشركين، أو جعله المشركون درعًا يتقون بهم، وهذه من المسائل التي
يكثر ذكرها هنا، وإن كان التقييد عند الفقهاء أنَّه يُشترط حتَّى يكون نوعًا من قتل
الخطأ ألَّا يكون هو الذي أراد البقاء بينهم والاصطفاف إليهم، وإلَّا لكان
متعمِّدًا لإهلاك نفسه، وربَّما كان في ذلك ما هو أعظم من هذا فيما يتعلق بالقيام
مع المشركين على المسلمين.
انتهينا من الإشارة إلى هذا وإن كان فيه شيءٌ من الاقتضابِ والاقتصارِ، لكن على هذا
بدأنا وقصدنا وكان بحثُ على الكتاب.
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بابُ شروطِ وجوب القصاص، فلمَّا أنهى المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلق بأنواع الجنايات، ما كان منها خطأ وما كان منها عمدًا
وما بين ذلك -وهو خطأ العمد أو شبه العمد- أراد أن ينتقل إلى ما يترتب على القتل
العمد العدوان، ثم بعدَ ذلك سيذكر ما يترتب على قتل الخطأ وشبه العمدِ، فالعمد
العدوان يترتَّب عليه إمَّا القصاص أو وجوب الدية، أو العفو إلى غير شيءٍ، وسيأتي
بيان ذلك.
بدأ المؤلف بأهمِّها وأعظمها وهو القصاص، ولَمَّا كان القصاص تنبني عليه مسائل
كثيرة وتتفرع عليه فروعٌ مُتعدِّدَة وهو أعظم ما يتعلق به هذا الباب؛ شرع المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ- فيه.
وبين يدي الكلام على شروط وجوب القصاص فلابدَّ من الكلام عن مشروعيَّة القصاص، فإن
الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي
الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، وأظنُّ أنَّنا ذكرنا شيئًا من الإشارةِ إلى ذلك،
وقلنا إنَّ هذا من عجيب إعجاز كتاب الله -جلَّ وَعَلَا.
كيف يكون القصاص -الذي هو قتلٌ وإبادةٌ وإهلاكٌ وإتلافٌ- حياة؟
قلنا: لَمَّا كان الناس يخافون من الموتِ والقتل، وإذا تُوُعِّدوا به إذا تجرَّؤوا
على الناس وجنوا على العبادِ بأنَّهم يُقتَلونَ ويُقتصُّ منهم ولا يُترَكون ولا
يُهمَلونَ؛ فإنَّ ذلك يمنع ضعاف النفوس وقليلي الإيمان ومَن فيهم طيشٌ ورعونةٌ أو
ظلمٌ واعتداءٌ وعدوانٌ أن يعتدوا على العباد ما دام أنَّهم يعلمونَ أنَّ مصيرهم إلى
القِصاص والقتل، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ﴾، وذكرنا أنَّ في ذلك مثلٌ للعرب: "القتل أنفى للقتل".
وإذا قلنا بالقصاص وصدقَ على القتل أنَّه قتل عمدٍ عدوانٍ، ومثل ذلك إذا كان قصاصًا
فيما دون النفس بأن استوفى اعتبار القصاص فيه؛ فليس معنى ذلك أنَّه في كل الأحوال
يُصارُ إلى القصاص مباشرةً؛ بل لابدَّ من استجماع شروطٍ إذا اجتمعت فإنَّه يُقامُ
القصاص، وإلَّا فلا.
والشروط: جمعُ شرطٍ، وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ
لذاته.
وأظنُّ أنَّنا أكثرنا توضيحَ ذلك، فقلنا: إنَّ قولنا: "ما يلزم من عدمه العدم"،
بمعنى: أنَّه إذا عُدِمَ الشَّرط عُدِمَ المشروط، فإذا عُدِمَ البلوغ لا يُمكن أن
يوجد قصاصٌ، فيلزم من عدمه العدم.
وقولنا: "لا يلزم من وجوده وجود"، فقد يكون الأولياء بالغون، أو القتيل بالغًا،
ولكن يوجد مانع من قتله، كأن يكون أبًا للمقتول، أو وارثًا لدمه، أو أن يكون به
مانع من موانع القتل، كأن تكون المرأة حاملًا فيُنتَظرُ حتَّى تضع حملها، إلى غير
ذلك، إذن الشرط لا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته، لكن قد ينضمُّ إلى ذلك شيءٌ
آخر يكون حائلًا بينَ إقامة القصاص ووجود ذلك الشرط.
وإذا اجتمعت شروط القصاص وجب القصاص، وكذلك الاستيفاء، فلا يُستوفَى القصاص إلَّا
بشروطٍ معلومةٍ سيذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-، فابتدأ بشروط وجوب القصاص.
والقصاص: من اقتصاص الأثر؛ لأنَّه يُفعَلُ بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوْبِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوْطٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُ اْلقَاتِلِ مُكَلَّفًا، فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُوْنُ
فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَ)}.
ذكرنا أنَّ هذه الشروط الأربعة وإن لم يُوجَد في نصوص الشَّرعِ من دلائل الكتاب
والسُّنَّة النَّصُّ على أنَّ شروط القصاص أربعة، أو أنَّ فروض الوضوء كذا، أو أنَّ
شروط الصلاة كذا؛ لكن الفقهاء والعلماء -رَحِمَهُم اللهُ- يجمعون ما جاء من
الأدلَّةِ في البابِ، ثم بعدَ ذلك يستخلصون منها الأحكام، فما كان شرطًا جعلوه في
زاويةٍ، وما كان واجبًا جعلوه في جهةٍ، وما كان مُستحبًّا اعتبروه في موطنِ
الاستحباب، إذن هو نظرٌ وسبرٌ وتقسيمٌ.
ومن ذلك ما هو محلُّ اتِّفاقٍ وإجماعٍ، فلا غضاضةَ في ذلك ولا إشكال، ومنه ما يكون
فيه نوعُ إشكالٍ، فتتجاذب فيه الأقاويل، ومنها يأتي الخلاف بين العلماء، فيقوَى
الخلاف ويضعُف بحسب ظهور الدلالة على الاعتبار من عدمه، أو وجود معارضٍ من دليلٍ
آخر أعم أو أخص أو ناسخ أو منسوخ، أو غير ذلك ممَّا يعتري الاستدلال، ويحصل بسببه
الخلاف والنِّزاع بينَ الفقهاء.
فقال المؤلف: (كَوْنُ اْلقَاتِلِ مُكَلَّفً)، هذا القاتل الذي قتلَ لابدَّ أن
يكونَ مُكلَّفًا.
والتَّكليف يشملُ أمرينِ:
- العقل.
- البلوغ.
فلابدَّ أن يكون القاتل عاقلًا، فلو كان غير عاقلٍ كأن يكون مجنونًا أو معتوهًا أو
نحو ذلك فلا قصاص؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ»، ومنهم: «وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» .
ولأن الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- يقولون: عمدُ المجنونِ خطأ؛ لأنَّه لا قصدَ له، ولا
تتمحَّض له قصودٌ، فربَّما يأتي ويقتل شخصًا، وربما كانت أمه أو أبوه، فهو يحب
أباه، فتجده لأول وهلةٍ يسأل عن أبيه ويشتاق إليه ونحو ذلك.
إذن المجنون لا يتمحَّض منه قصدٌ يكونُ معه حصول العمدِ، فوجود القتل من المجنون
منافٍ لحقيقة العمديَّة، فلابدَّ أن يكون القاتل مُكلَّفًا حين فعل هذه الجناية
وجرَت منه هذه الواقعة.
إذن المجنون عمده خطأ؛ لأنَّه ارتفع منه العقل.
أمَّا البلوغ: فضده الصِّغَر، فالصَّغير لا عمدَ له، وهذا جاء في حديث عائشة وحديث
علي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ
عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ
الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».
فبناء على ذلك لا يكون عليه قصاصٌ في مثل هذه الحال؛ لأنَّ عمده خطأ من جهة المعنى،
حتَّى ولو أخذَ السِّلاح وتقصَّدَ هذا فإنَّ استيعابه واستشعاره لِمَا يترتَّب على
هذا الذنب وهذه الجناية ما ينتج عنها ليس بتمام الاعتبارِ، لكن لا يعني ذلك أنَّ
هذا الصغير يُفلتُ من العقاب بكلِّ حالٍ؛ بل لا يمنع من تعزيره، وكلما كان أكبرَ
كان أشدَّ في العقابِ وأغلَظَ في التعزير، فمثلًا ابن ثلاثة عشر الذي لم يبلغ بعد
فلا يكون عقابه كمثل مَن فعل هذه الجناية وهو ابن تسع سنين، وابن تسع ليس كمن
يفعلها وهو ابن سبع سنين.
إذن؛ نحن نتكلَّم عن القتل نفسه، ولم نتكلَّم هل يلحق به عقابٌ آخر أو لا؛ وإلَّا
فبلا شك أنَّ مثل ذلك ممَّا يُعتبر فيه منع الناس وزجرهم، وهؤلاء الصِّغار خاصَّةً
الذينَ قاربوا البلوغ يكون منهم إدراكٌ ونظر، وربَّما كان بعضهم أحذق من الرجال
الكبار، وما دام أنَّ بعضهم أحذق من الرجال الكبار فلماذا لم يحكم الشرع بقتلهم؟
نقول: الشرع لا يحكم على الآحاد، وإنما الشرع يعتبر مجموع هذه الأوصاف، فالغالب
والأصل والظاهر أنَّ الصبي الذي هو متَّصفٌ بصفات الصِّبى والغِلْمَةِ ولم يبلغ؛
فالأغلب أنَّه لا يعي تمام الوعي، فيُلحق الشَّارع الحكيم بمثل هذه الأوصاف حتَّى
تكون منضبطة ومتَّسقة، أمَّا لو اعتبرنا الأفراد والآحاد لَمَا انتظمَ حُكمٌ، وما
من حُكمٍ إلَّا ويأتي فيه ما يُعارضه ويُوجَد فيه ما يُشكل عليه، لكن لَمَّا اعتبر
الشَّارع هذه الأوصاف في جملتها ربَّما جاء في آحاد الأحوال ما يقتضي رفع الحكم
عنه، لا من جهة عدم انطباق الشرط، لكن من جهة وجود مانع يمنع.
ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُوْنُ فَلاَ
قِصَاصَ عَلَيْهِمَ)، كما قلنا: إنَّ عمد الصبي والمجنون خطأ، وللحاكم أن يُلحق به
العقوبة بحسبِ ما يراه، وله أن يُنزل به شيءٌ من التَّعزير، لكن الكلام أنَّه ليس
أهلًا لأن يكون محلًّا للقصاص ويُعتبر فيه انطباق شروط القتل العمد العدوان.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
لَمَّا ذكرتم أن بعض الأطفال يكون فيه حذق الكبار، وقد يفعل أفعالًا يعجز عنها
الكبار؛ فهل لولي الأمر أن يقتله تعزيرًا إذا رأى منه المفسدة الظَّاهرة، كأن يكون
ابن ثلاث عشر ولم يبلغ؟}.
التَّعزير بالقتل من المسائل التي جاء فيها خلاف كبير بين أهل العلم:
- فمن أهل العلم مَن يقول: إنَّ التَّعازير لا يُبلَغ بها الحدود، وبناء على ذلك لا
هو ولا غيره يُقتَل.
- ومنهم من قال: إنَّ التَّعازير يبلغ بها القتل، ومنهم المالكية، وسيأتينا الكلام
على ذلك.
فقد يُقال بذلك في بعض الأحوال، وعلى كل حالٍ يوجَد الآن من استغلال مثل ذلك عن
هؤلاء الصغار، بأن يستخدموا لصنع هذه الجرائم لعلمهم أنَّهم يُفلتون من القتل، أو
عقوبة القطع في السرقة ونحوها.
ومن المعلوم أنَّه لو استقرَّ لدى القاضي ومَن له الولاية أنَّ هذا هو آمرُ
الصَّغير أو هذا هو الدَّافع لهذا المجنون؛ فإنَّه يتعلَّق به الحكم، فالمباشر هو
الذي يتعلق به الحكم مباشرةً والمتسبِّبُ تبعٌ لذلك، لكن لو انتفى حكم المباشرة كأن
يكون صغيرًا أو مجنونًا أو نحوه؛ فإنَّ المتسبب يأخذ حكم المباشر، فقد يلحق به ذلك
الحكم، فيُمكن أن يُلقَى أو يُحكَم عليه بالقتل، أو يُحكم عليه بالقطع، أو يُحكَم
عليه بأنواع القصاص والجنايات، وربما جاءت الإشارة إلى هذا، ونصَّ عليها الفقهاء في
غير ما موضع من كتبهم التي هي أطول من هذا الكتاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مَعْصُوْمًا. فَإِنْ
كَانَ حَرْبِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، أَوْ قَاتِلاً فِيْ الُمَحَارَبَةِ، أَوْ
زَانِيًا مُحْصَنًا، أَوْ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ،أَوْ مَالِهِ،أَوْ
حُرْمَتِهِ، فَلاَ ضَمَانَ فِيْهِ)}.
قوله: (كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مَعْصُوْمً)، فإذا كان المقتول غير معصوم الدَّم فلا
يكون على القاتل قتلٌ؛ لأنَّه قتلَ مَن يستحق القتل، وقتل مَن يجب قتله، وبناء على
ذلك حتَّى نقولَ أنَّ هذا قاتلٌ عمدًا عدوانًا فلابدَّ أن يكونَ هذا المقتول ممَّن
وجب حفظ دمه وعصمته ومنع التَّطاول عليه.
لقائل أن يقول: حتى ولو كانَ غيرَ معصومٍ، فهذا القاتل هو مُعتدٍ وليس له أن يُنَفذ
مثل هذه الحدود أو الأحكام، وليست منوطة به؟
نقول: هذا قدرٌ صحيح، وأنَّ هذا القاتل معتدٍ، وأنَّ هذا القاتل فاعلٌ ما ليس له
فعله، وأنَّ هذا القاتل فوَّتَ على السُّلطان ما هو من ولاياته وواجباته، لكن هذا
الذي جرى عليه القتل هو مستحق للقتل وإن لم يكن هذا هو الذي يجب أن قتله، فالقتل
هنا صادف محلًّا يستحقُّ القتلَ، فلا يكون هذا قاتل عمدًا عدوانًا؛ بل أكثر ما في
هذا أن يكون معتدٍ ومتجاوزٍ، فبناء على ذلك فلا عقوبة للقتل لأنَّ المقتول مستحقٌّ
للقتل بوجهٍ من الوجوه، لكن يجب تعزير القاتل، لئلا يُفتات على السلطان، ولئلا
يُتجرأ على الناس؛ ولأنَّه قد يُمكن أن يكون للحاكم نظرٌ في إمكان استتابته إذا كان
مرتدًّا حتَّى يتوب إلى الله -جلَّ وَعَلَا- أو استكمال بعض الأمور التي تتعلَّقُ
بالتَّأكُّد من تحقُّقِ الشُّروطِ لاستحقاقه لمثل ذلك القتل أو لا، ويكون قد استعجل
ذلك، فيُعاقب بحسب ما اجتمع من هذه الأمور، فإذا كانت الشروط مجتمعة كان الأمر أخف،
إذا كانت غير مجتمعة فلا، إذا كان هذا له شبهةٌ فهو أخف من غيره، أمَّا إذا لم يكن
له شبهةٌ فيكون عقابه أشد، بمعنى أن يكون هو الذي يُنفِّذُ الحدود من جهوِ
السُّلطان، فكأنَّه فهم أنَّ الحاكم أو القاضي أمرَ بقتله، فذهب وقتله، مع أنَّه
ليس هذا هو الذي أُمرَ بالقتل، وإنَّما جاره الذي في الحبس الذي يُقاربه، فالشبهة
هنا في القتل قويَّة فلا يكون عليه عقاب الافتيات مثل ما لو جاء شخص ليس له ناقةٌ
ولا جمل، وبمجرد أن علم أن هذا مرتدٌ أو أنَّ هذا فيه كذا وكذا فقتله، فبناء على
ذلك قد يكتفي السلطان للأول بعتابٍ، أو عقوبةٍ يسيرة جدًّا لمحلِّ الشُّبة
القويَّة، وقد يكون للثاني من العقاب ما هو أشد، فربما كان حبسًا طويلًا، وربما كان
جلدًا كثيرًا، وربَّما صارَ ما هو أشدُّ من ذلك إذا عُلِمَ أنَّ الناس يفتاتون على
السلطان، ويحصل بسبب ذلك فوضَى وتستباح الدماء، ويترتب على ذلك أحوال.
وهنا محل البحث ليس هو الافتيات على السلطان، فإن الافتيات على السلطان سيكون له
عقابه والكلام عليه في موضعه، وهذا يُلحَظ كثيرًا في مسائل الفقه، والإخوة
المشاهدين والمشاهدات يلحظون هذا، فعلى سبيل المثال:
إن جامع امرأة في قبل أو دبر وهو صائم فقد أفطرَ، فالجماع في القبل واضح، ولكن كيف
يكون الجماع في الدبر! فالجماع في الدبر محرَّم وكبيرة من كبائر الذنوب، واستنكرها
أهل العلم، وجاءت بذلك النُّصوص، لكن هنا في هذا الموضع يذكرون متعلق الفطر للصائم،
بغض النظر عن كون هذا الفعل محرَّمًا من وجهٍ آخر أو ليس بمحرَّمٍ، وبناء على ذلك
هم يُرجئون الوطء في الدبر إلى ما يتعلق بموضعه من كتاب الحدود وأحكام الزنا واللوط
وغيره، أو يذكرون ذلك في عشرة النساء وما يتعلق بها.
إذن؛ عدم ذكرهم لحكم الوطء في الدبر في ذلك الموضع لا يعني أنه جائز، وكذلك هنا
كونهم يقولون: إن قتلَ غير معصومٍ بأن يكون حربيًّا أو مرتدًّا ليس فيه القتل، ولكن
لم يتكلموا عن الوجه الآخر من جهةِ أنَّه مفتاتٌ وأنَّ عليه عقوبةُ تعزيرٍ ونحوه،
فهذه تُذكر في موضعها في كتب الفقه.,
وهذا يتكرر كثيرًا في كتب الفقه، فعلى الطالب أن تنبَّه لذلك، كيف ما يُنبِّهون على
هذا؟
لأن الفقهاء يعتبرون أنَّك أيُّها الطالب لا تأخذ مسألة فقط وتذهب إلى بيتك؛ بل
إنَّهم يفترضونَ أنَّكَ أخذت هذا الكتاب فقرأتَ أوَّلَه وآخره، فالذي لم يُذكر في
هذا الموطن ستدرسه في موطنه من بابٍ آخر.
ويتعلق بذلك تبيه آخر وهو كالمكمِّل لهذا التنبيه! فيجب أن نعرف أن الفقه كلٌّ
كالمٌ متكاملٌ لا ينفكُّ أوله عن آخره، وىخره مرتبطٌ بأوَّلهِ، فلا يأخذ الإنسان
المسألة منفكَّة، ولذلك لا تجد عند الفقهاء اضطرابًا، فما يأتي عندهم في أصلٍ في
هذا الباب لا تجدهم ينقضونه في بابٍ آخر، فالأصل عندهم مطَّردٌ في أبواب الفقه
كلِّها، ولذلك من أكثر ما يكون فيه الاعتراض على مَن خالف أو استشكل؛ يقولون "خالفَ
أصله"، أو "لم يطرد قاعدته"؛ فيجدون هذا مأخذًا عليه أو مدخلًا على ذلك القول.
إذن؛ قول الفقهاء: (كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مَعْصُوْمً)، هذ من جهة أن هذا القاتل لا
يستحق القتل، لا من جهة أنَّ هذا القاتل فعل شيئًا لا يؤاخذ به، بل سيؤاخذ وتلحقه
تبعة، وسيترب عليه الفقهاء حكمًا، ولكن ليس هذا موضع ذكره هنا.
فنقول إذن، قوله: (كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مَعْصُوْمً)، بأن يكون ممَّن لا يجوز
الاعتداء على دمه ولا التَّسلُّط عليه.
قال: (فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّ)؛ فالحربي: هو الكافر الذي ليس بينه وبين المسلمين
عهدٌ ولا أمانٌ، فليس كل كافر يجوز قتله، لابدَّ أن يكون موصوفًا بالحربي، يعني ما
بيننا وبينهم عهد ولا دخل علينا بأمانٍ.
والآن أكثر الكافرين بيننا وبينهم عهد، وهذا ظاهر وواضح ومعلوم، أما لو كان حربيًّا
مثل ما بينَ اليهود والفلسطينيين، فربما لا يوجَد بينهم عهد -وهذا محل للبحث-
فمتعلَّق ذلك أنَّ ما دامت الحرب قائمةٌ بين المسلمين والكفار فهي متعلقةٌ بمن قامت
بينهم الحرب، فيكون هذا حربيًّا بالنسبة إلى هذا، وبناء على ذلك يجوز قتله إن كان
ممَّن يُقتَلُ في الحرب، فهذا لو قُتِلَ فإنَّه مطلوبٌ قتله؛ لأنَّ الحرب قائمة،
وليس بيننا وبينهم عهدٌ ولا أمان.
قال: (أَوْ مُرْتَدًّ)، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن بَدَّلَ
دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وجاء في حديث ابن مسعود «التَّاركُ لِدينِه المُفارِقُ
للجماعةِ» .
قال: (أَوْ زَانِيًا مُحْصَنً)، الذي يجب رجمه، وهذا قد دلَّت عليه النصوص، فإذا
قُتِلَ فإنَّه ممن يستحق القتل، ولكن تلحق القاتل عقوبة الافتيات على وليِّ الأمرِ،
ويُمكن أن يُعزَّرَ على ذلك.
قال: (أَوْ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ،أَوْ مَالِهِ،أَوْ حُرْمَتِهِ، فَلاَ
ضَمَانَ فِيْهِ)؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قُتِلَ
دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ
دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ» .
عندنا مسألتان:
المسألة الأولى: كونه قُتِلَ دون نفسه أو دونَ عرضه أو دون ماله؛ فهذا يبرأ به عند
الله -جلَّ وَعَلَا- لكن لو رؤُيَ أنَّ هذا مقتولٌ وأنَّ هذا قاتل، ولم يثبت أنَّ
هذا قَتَل المقتول دفاعًا عن نفسه فإنه تُجرَى عليه أحكام الدُّنيا من القتل، لكن
الله -جلَّ وَعَلَا- أعلم بحاله، ويُجازَى على حقيقة فعله، وما يكون من القتل الذي
ناله فهو من المكفرات ومن الابتلاءات، لأنَّه ليس في كل الأحوال يثبت أنَّه قتل دون
نفسه، ولأنَّنا لو فتحنا هذا الباب لكان كل قاتل يقتل شخصًا يقول إنَّما قتلته
دفاعًا عن نفسه، فلابدَّ أن يثبت ذلك ببيِّنةٍ، وإلا لم يكن ذلك.
المسألة الثانية: أنَّ الفقهاء يقولون: وإن كان قد جازَ له الدفع عن نفسه أو عرضه،
فهل الأولى له أن يدفع عن ماله أو أن يُخلِّي بينه وبين ماله ولا يتجرَّأ على
القتل؟
هذا هو الأولى وهذا هو المستحب، ولكن لو فعل ذلك لكان أولى، فلا ينبغي له أن يقتل
شخصًا دفاعًا عن ماله، بل يُخلِّي بينه وبين ماله ويحفظ الدم، ويسلم في ذلك حتى لا
يدخل في تبعةٍ ومساءلة.
ومَن قُتل دون نفسه وماله وعرضه فهذا عند الفقهاء باب دفع الصَّائل، ودفع الصَّائل
ينبغي أن يكون بالأسهل فالأسهل، فإن كان يندفع بالأسهل فلا يجوز فعل الأشد والأصعب،
فإذا كان يندفع بالطردِ فلا يجوز القتل، وإن كان يندفع بالضرب فلا يجوز القتل،
وسيأتي تفاصيل ذلك في باب الحدود في دفع الصائل، والمسائل المتعلقة بذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مُكَافِئًا لِلْقَاتِل،
فَيُقْتَلُ اْلحُرُّ اْلمُسْلِمُ بِاْلحُرِّ اْلمُسْلِمِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثى، وَلاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلاَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ
بِكَافِرٍ»)}.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كَوْنُ الْمَقْتُوْلِ مُكَافِئًا لِلْقَاتِل)، لابدَّ
أن يكون المقتول مُكافئًا للقاتل، بأن يكونا في درجةٍ واحدةٍ، أو أن يكون المقتول
أرفعُ درجةً من القاتل، أمَّا لو كان المقتول أدنى درجةً من القاتل فلا يكون فيه
قصاصٌ، لكن ليس هذا كلامٌ على إطلاقه؛ بل ذكر الفقهاء لذلك تفصيلًا جليًّا.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيُقْتَلُ اْلحُرُّ اْلمُسْلِمُ بِاْلحُرِّ
اْلمُسْلِمِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثى)، فإذا قتل مسلمٌ مسلمةً قُتِلَ بها، وإذا
قتلت امرأةٌ رجلًا قُتِلَت بذلك، وهذا محل إجماع واتِّفاق بينَ أهل العلم، وقول
الله -جلَّ وَعَلَا: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى
بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: 178]، لا يُفهم منه أنَّه لا يُقتل الرجل بالأنثى، بل يقول
أهل التفسير: إن هذا ذكر لهذه الأنواع، وأما ما سواها فإنَّه مبيَّنٌ بدلائل وآيات
أخرى، ومنها قول الله -رَحِمَهُ اللهُ: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45].
إذن؛ الرجل يُقتَلُ بالمرأةِ والمرأةُ تُقتَلُ بالرجلِ، وهما على حدٍّ سواءٍ.
ما دام أنَّ القتل يكون النفس فيه بالنفس؛ فلماذا قال المؤلف: (وَلاَ يُقْتَلُ
حُرٌّ بِعَبْدٍ)؟
هذه من المسائل التي جرى فيها الإشكال، قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقوله -جلَّ وَعَلَا: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾، ولهذا اختلف أهل العلم، فقالوا: هل يُقتَل الحر بالعبد
أو لا؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة كما هو قول الجمهور: أنَّ العبد لا يُقاد به الحر،
فلو أنَّ حرًّا قتل عبدًا فلا يُقتل بذلك، وهذا قد جاء عن الصَّحابة، فقد جاء عن
أبي بكر وغيره، وهم أكثر الناس فهمًا للآية، ورُويَ في ذلك ألفاظٌ مرفوعة إلى النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلمَّا كان الخلاف في ذلك قويًّا تنازع أهل العلم، فمنهم من ذهب إلى ما ذهب إليه
الصحابة، واعتبروا ما جاء من بعض الألفاظ التي فيها تقويةٌ أنَّ الحرَّ لا يَقتَل
بالعبد، وأيضًا ما جاء من الأصل في الفرق بينهما وعدم المساواة بينهما، فأحوال
العبيد وأحكامهم تختلف عن أحكام الأحرار وما يتعلق بهم.
وذهب الحنفية واختار هذا القول ابن تيمية، وبعض أهل العلم المعاصرين؛ أنَّ الحر
يُقتل بالعبد، فإذا قتل حرٌّ عبدًا قُتِلَ به، لعموم النصوص، واعتبارًا بجملة
الأدلة، وأنَّه لا تفريق في ذلك، وذكرنا لكم وجه مَن فرقَ بين المسألتين، وجعل أن
الحرَّ لا يُقتَل بالعبدِ بناء على ما جاء عن الصحابة وبعض ما استدل في ذلك من
ألفاظٍ مرفوعة إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (وَلاَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ)، المسلم لا يُقتل بالكافر، فلو قَتَلَ
مسلمٌ كافرًا فجاء أولياء الكافر يطلبون دم المسلم فلا يُقتَل به؛ لأنَّ النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» كما روى
ذلك البخاري في صحيحه. وهذا هو مشهور المذهب وهو قول عامَّة أهل العلم.
وهنا ينبغي أن نعلم مسألة: أنَّ كون المسلم لا يُقتل بالكافر لا يعني أنَّ ذلك
يُجيز للمسلم الاعتداء على الكافر، ولا يعني أن القاضي يُمكن أن يُعزِّرَ بالقتل
-على القول به- في مثل هذه الأحوال؛ لأنَّنا في هذا الزَّمان تكاثرَت الدَّعوات
لاستخفاف بدماء غير المسلمين والتسلُّط عليها، مع كونها معصومة ومؤمَّنة ومُعاهَدة،
أو أنَّ المسلم يدخل بلادهم بعهدٍ وأمانٍ كدخوله بالفيز والتأشيرات ونحوها؛ فلا
يجوز للمسلم بحالٍ من الأحوال أن يتطاول على دمٍ أو أن يستبيح شيئًا من ذلك؛ لأنَّ
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ
رائِحَةَ الجَنَّةِ» ، ويقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ
المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامً» ، ما قال
"دمًا مسلمًا"، ولكن قال «دَمًا حَرَامً»، وبناء على ذلك فلا يجوز ولا يحل ولا
يُتساهل في أن يتطاول مسلم على كافر.
ولكن ما يترتَّب على ذلك فهذه مسألةٌ أخرى جاءت بها النُّصوص، فنحن مُقتدون بما جاء
عن الله وجاء عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متَّبعين لِمَا
قرَّره العلماء والفقهاء، لا نزيدُ في ذلك ولا ننقص.
ما أسهل الدماء على الناس اليوم! وما أسهل الذين يلغون فيها ويستسهلونها! وما أعظم
جرمَ مَن يشبِّهونَ على الناس ويجعلون ذلك نوعًا من المباح! وأشد من ذلك أن يجعلوه
بابًا للجهاد وبابًا للانتصار للدين! فكلُّ ذلك إنَّما هو تسويلُ الشيطان، وكلُّ
ذلك إنَّما هو خطوات سبيل إبليس ومَن ذهبوا مذهب الفسوق والعصاين، فلا يحل للإنسان
أن يفتح على نفسه شيئًا من هذه الأبواب.
والمسألة التي معنا مسألةٌ أخرى، فلو أنَّ مُسلمًا قتل كافرًا فلا يُقتلُ به، لكن
للقاضي أن يُعزِّرَه بحسبِ ما يراه، وقد يبلغ به حدَّ القتل، بحسبِ ما استجمع في
ذلك من الأسباب التي تدلُّ على تهاونه بذلك الدَّم أو تسلُّطه عليه، أو وُجودِ بعض
الاستسهال بدمائهم ونقضِ عهودهم.
والذي يُفهَمُ من قول المؤلف: (وَلاَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) أنَّه لو قتل الكافرُ
مسلمًا فإنَّه يُقتَل به لأنَّ دم المسلم أعلى من دم الكافر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بالذِّمِّيِّ وَاْلمُسْلِمِ،
وَيُقْتَلُ اْلعَبْدُ بِاْلعَبْدِ، وَاْلحُرِّ بِاْلحُرِّ)}.
قوله (وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بالذِّمِّيِّ وَاْلمُسْلِمِ).
الذمي: هو من له ذمَّةٌ في بلاد الإسلام بأن يعيش بين المسلمين ملتزمًا لأحكامهم لا
يُخالفهم ولا يُظهر ما ينقض عهد وميثاقه، وهذا قد مرَّ بنا في أحكام أهل الذمة فيما
مضى، فلو أنَّ ذمِّيًا قتل ذمِّيًا مثله فإنَّه يُقتل به لتساوي دمائهما، ويُتقل
الذمي بالمسلم لأنَّ المسلم أرفع منه، فكما أنَّ العبدَ يُقتَل بالحرِّ لو قتلَ
حُرًّا.
ثم يقول المؤلف: (وَيُقْتَلُ اْلعَبْدُ بِاْلعَبْدِ)، لأنَّ العبييد متساوون، فإذا
قتلَ عبدٌ عبدًا فإنَّه يُؤخَذ بذلك ويُقتَل به.
قال: (وَاْلحُرِّ بِاْلحُرِّ) مطلقًا، سواء كان ذكرًا أو أُنى، فكلُّ مَن تسلَّطَ
على الآخر فإنَّه يُقتَل به.
وبعض الفقهاء يقول: لو أنَّ ذكرًا قتلَ أُنثَى فإنَّه يُقتل بها، ويدفع أهل المرأة
لأهل الرجل نصف ديةٍ، لأنَّ المرأة على النصف من الرجل!
وهذا ليس بصحيح؛ بل عمومات الأدلَّة دالَّةٌ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُقابل
الآخر، فكما أنَّ الشَّاب يُقتل بالشَّيخ الكبير، والقويُّ الفتي المتعلم يُقتَل
بمَن هو دونه، ولا يكون بينهما تفوتٌ ولا مقابلةٌ بديةٍ ولا بغيرها، فكذلك المرأة
بالرجل، لا يزيد هذا ولا يُنقصُ من هذا، بل هما متكافئان، وجاء في الحديث عن النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُسلِمون تَتكافَأُ دِماؤُهم، يسعى
بذِمَّتِهم أدناهم» .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُوْنَ أَباًّ لِلْمَقْتُوْلِ،
فَلاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَاْلأَبَوَانِ فِيْ هَذَا
سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَلَدًا، أَوْ لَهُ فِيْهِ حَقٌّ وَإِنْ
قَلَّ، لَمْ يَجِبِ اْلقَوَدُ)}.
قوله: (الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُوْنَ أَباًّ لِلْمَقْتُوْلِ)، أي: لا يكون القاتل
أبًا للمقتول، فإذا كان أبًا فإنَّه لا يُقتَل به، لِمَا جاء في الحديث أنَّ النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَد» ،
وهذا الحديث وإن كانت في أسانيده مقال إلَّا أنَّه كما قال ابن عبد البرِّ وغيره من
أهل العلم أنَّ هذا ممَّا استفاضَ ذكره والنَّقلُ فيه، حتَّى أغنَت شهرته عن البحث
في أسانيده، فلا يُؤخَذ الوالد بولده، ولأنَّهم يقولون إنَّ هذا الوالد هو سبب
ووجود ولده، فلا يكونُ الولد سببًا لذهاب أبيه وعدمه.
إذن؛ لا يُقتل الوالد بولده، سواء كان أبوه أو جده، أو جد جده؛ فليس المقصود
بالأبوة هو محض الأبوَّة، بل هي الأبوَّة أو الأمومة، فأمُّمه لا تُقتل به، وجدَّته
سواء كانت جدة لأب أو جدة لأم، جدَّة صالحة أو جدة فاسدة، والحجدَّة الفاسدة هي
الجدَّة غير الوارثة، ومثل ذلك الجد غير الوارث؛ فكل هؤلاء ما دام بينهم وبين
المقتول أبوَّةٌ أو أمومةٌ فلا يُؤخَذ الأب بقتله لابنه، ولا الجد بقتله ابنه، ولا
الأمُّ بقتلها ابنها، ولا الجدة بقتلها ابنها.
لقائلٍ أن يقول: لماذا لا يُقاد الوالد بولده مع أنَّ القصاص عام؟
نقول:
أولًا: المقصود من القصاص هو دفع النفوس من أن تتسلَّطَ على الناس باستباحة دمائها،
والعادةُ والنفوس الصالحة تمنع الأب والأم يتسلَّطان على ولدهما، فلم يُحتَج إلى
زاجرٍ يزجرُ من ذلك، ولا يُتصوَّر إلَّا في الأمر القليل جدًّا أن الأبَ يقتل ابنه
تسلُّطًا وعُدوانًا؛ فلما كان الأمر كذلك فلا يُحتاج إلى القصاص، وكيف وقد جاءت
بذلك النصوص.
ولا يعني أنَّه لا يُقتل الوالد بولده أنَّه لا يُعاقَب على مثل ذلك الاعتداء، ومثل
ذلك الهتك للدَّمِ واستباحته أنَّ يكون هدرًا، ولكنَّه يُحمل على التَّعزير،
ويُطالب بالدِّيَةِ وما يترتَّبُ على ذلك.
قال: (وَاْلأَبَوَانِ فِيْ هَذَا سَوَاءٌ)، مثلما قلنا أنَّ الأب والأم في ذلك
سواء.
قال: (وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَلَدًا، أَوْ لَهُ فِيْهِ حَقٌّ وَإِنْ قَلَّ،
لَمْ يَجِبِ اْلقَوَدُ)، لو افترضنا أنَّ رجلًا قتل أخا زوجته، فالزوجة هي التي
ستطالب بالدم لأنها أخت القتيل، فلو ماتت الأم سينتقل حق المطالبة إلى ولدها،
والولد هذا ابنٌ للقاتل، فكأنَّه سيكون سببًا لقتل أبيه، فبناء على ذلك يُنتَقلُ في
مثل هذه الحال من القتل إلى الدِّيَة.
قال: (لَمْ يَجِبِ اْلقَوَدُ)، القَوَد: من الاقتياد، يعني أن يُقاد للقتل، فلم يجب
القصاص في هذه الحال حتَّى ولو كان الذي له جزءٌ يسيرٌ من حق المطالبة، لأنَّه إذا
امتنع القليل امتنع الكثير، ومثل هذه الأمور لا تتجزَّأ، ولما كان الدَّمُ لا
يتجزَّأ فإذا كان بينه وبين واحد منهم بنوَّة وأبوَّة فإنه لا يجوز له أن يطلب
القتل ولا أن يقتص، ويُنتقل في ذلك إلى الدية، والله تعالى أعلم.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.