الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1888 24
الدرس العشرون

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الجميع.
{نشرع من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "عمدة الفقه: (وَدِيَةُ اْلجَنِيْنِ اْلحُرِّ إِذَا سَقَطَ مَيْتًا غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، قِيْمَتُهَا خَمْسٌ مِنَ اْلإِبِلِ مَوْرُوْثَةٌ عَنْهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ أسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نعمه، وأن يُفيض علينا من هدايته، وأن يجعلنا وإيَّاكم من أهل توحيده، وأن يُكمِّل لنا الإيمان، ويُسلِّمنا من البلاء في الدنيا والآخرة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في كتاب الدِّيات، ورؤي أنَّ كثيرًا من الإخوة والأخوات لا يجدون في أنفسهم نهمةً في البحث والمواصلة كما يجدون النِّهمة في تطلُّع دراسة هذه المسائل كما لو كانوا في البيوع أو في العبادات ونحوها، لأنَّ هذا يرجع إلى أمرين:
أولًا: حاجة المكلَّف إلى مثل تلك الأحكام، ومعالجته لها، أو حتَّى رؤيته لمسألة تعرض له، فيجد أنَّ الحاجة إليها ماسَّة ومتكرِّرَة، فتنهض همَّته لدراستها.
ثانيًا: كلَّما قطع الإنسان في العلم ضعُفَت الهمَّة، وقصُرَ بالإنسان الوصول إلى النهاية، فيحتاج إلى المجاهدة.
ثم إنَّه توجد في بعض هذه المسائل بعض المصطلحات والألفاظ التي لم تكن مألوفةً فيما مضى، فتحتاج أيضًا إلى إعادة توضيحٍ وتبيين، فتكون أشكل على الطَّالب في ذلك، لكن حسبك أن تعلم أنَّ العلم بابه باب المجاهدة، وأنَّه كلما كان أبعد عن واقعك وجاهدتَّ نفسكَ في تعلُّمه فهو أعظم لأجرك عند ربِّك -سبحانه وتعالى- وكلما كان الناس أكثر تفصيرًا في هذه الأبواب، أو عدم علم بها، ولا دراية لمسائلها وتفاصيلها؛ فإنَّ ذلك ممَّا يزيدُ في أجركَ، لأنَّ العلم كلَّما مسَّت الحاجة إليه، وكثُرَ الذين يتعاطونه؛ زادَ فضله وأجره لئلَّا يصل الناس إلى رؤوس الجُهَّال الذين يُسألون فيُفتونَ بغير علم، فيَضلِّون ويُضلُّون.
هنا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدِيَةُ اْلجَنِيْنِ اْلحُرِّ إِذَا سَقَطَ مَيْتًا غُرَّةٌ).
الجنين: هو الحمل، سُمِّيَ جنينًا لأنَّه مستجنٌّ، فـحرفي "الجيم والنون" يطلقان على كل شيء دلَّ على مستورٍ، ولذلك المجنون مجنونًا باعتبار أنَّ عقله مستورٌ، وسُمِّيَت الجنَّة جنةً لأنَّها مستورة، حتَّى الغابة والحديقة تُسمَّة جنَّة لاشتباك أشجارها حتَّى تكون مستورة، وسُمِّيَ الدِّرع جُنَّة لأنَّه يقي صاحبه، ومن ذلك أيضًا حديث «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، لأنه يحفظ صاحبه من المعاصي ومن النار.
يقول المؤلف ( إِذَا سَقَطَ مَيْتً)؛ يعني الكلام في هذه المسألة إذا سقطَ ميتًا، أمَّا إذا سقطَ حيًّا ثمَّ مات فهذا له حكمٌ سيُذكرُ بعدَ ذلك.
يقول المؤلف: (غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ)، فهذا هو الواجب فيه، وذلك أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى في المرأتين اللتين اقتتلتا، فلمَّا أهوت إحدهما بحجرٍ فقتلت الأخرى وما في بطنها؛ أنَّ ديتها على عاقلتها، وأنَّ في جنينها غرة عبدٍ أو أمةٍ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا هو الواجب في الجنين إذا سقطَ ميتًا بنصِّ حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكاد يوجد فيه اختلاف لصريح السُّنة بذلك، وتتابع أهل العلم على اختلاف مذاهبهم فيها.
قال: (قِيْمَتُهَا خَمْسٌ مِنَ اْلإِبِلِ مَوْرُوْثَةٌ عَنْهُ)، تكون الدية خمس من الإبل؛ لأنَّها عُشرُ دية أمِّه كما جاء في بعض الآثار، فلمَّا كانت ديةُ أمِّه خمسون من الإبل لأنَّها على النصف من الرجل؛ فبناء على ذلك يكون العُشْرُ خمس من الإبل.
قوله: (مَوْرُوْثَةٌ عَنْهُ)، يعني: يرثها مَن تصلُ إليه من كلِّ مَن يرث ذلك الصَّبيِّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ شَرِبَتِ اْلحَامِلُ دَوَاءً فَأَسْقَطَتْ بِهِ جَنِيْنَهَا فَعَلَيْهَا غُرَّةٌ، لاَ تَرِثُ مِنْهَا شَيْئً)}.
لو شربت الحامل دواء فإنَّ هذا اعتداء إذا علمت أنَّ هذا الدَّواء يُسقط الحملَ، أو أنَّه يُؤثِّرُ عليه، أو أنَّه يُميته ويُنزله؛ فعند ذلك يكون اعتداءً، لكن كل هذا يكون مُقيدًا بما بعدَ المنع، فأمَّا لو كان قبل ذلك فليس فيه شيء، وهذا تقدَّم بنا، أنَّ المشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّه يجوز إسقاط الحمل بثلاثة شروطٍ:
أولًا: أن يكون بدواءٍ مباحٍ.
الثاني: أن يكون قبل الأربعين.
الثالث: أن يكون بإذن الزَّوج، يعني: أن يكون منهما جميعًا؛ لأنَّ حقَّ الولد لهما على حدٍّ سواء.
إذن؛ إذا كان قبل الأربعين فيجوز إسقاطه، وبعض أهل العلم ربما زاد أكثر من ذلك، لكن هذا هو المشهور من المذهب عندَ الحنابلة؛ لأنَّهم يقولون: إنَّه ليس بشيءٍ قبل الأربعين، فكما أنَّ الرجل يُمكنُ أن يعزل عن امرأته فيُنزل خارج رحمها، فكذلك لو أُخرِجَ هذا الذي دخل قبل الأربعين كأنَّه أُلقيَ حال الجماع والمعاشرة خارج رحمها.
فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ شَرِبَتِ اْلحَامِلُ دَوَاءً فَأَسْقَطَتْ بِهِ جَنِيْنَهَ).
الجنين الذي يتعلق به هذا الحكم: هو الذي تكوَّنَ فيه ما يدلُّ على أنَّه ولد، بأنَّ تكون قد تخلَّقَت رجلاه، أو رأسه أو نحو ذلك؛ وبناء على ذلك تجب فيه الدِّيَة، أما لو كان دون ذلك فلا.
قال: (فَعَلَيْهَا غُرَّةٌ، لاَ تَرِثُ مِنْهَا شَيْئً)، لو قلنا: إنَّها هي التي وجبت عليها الغُرَّة فهي وارثةٌ للولد لأنَّها أمه، والأم تأخذ الثلث في بعض الأحوال أو السُّدس في أحوال أخرى، فمع ذلك هي ترثُ من ماله الآخر، فلو كان له مال من أبيه ورثه، وفي مثل هذه المسائل لو مات قبل أن تستقر به الحياة فلا يكون له إرث، والوصية للجنين ونحوه على خلاف عند الحنابلة.
على كل حال؛ هي لا ترث من هذا شيئًا؛ لأنَّها سبب سقوطه وإتلافه، فلا يعود عليها منه شيء، وإنَّما يكون لسائر الورثة سواها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ اْلجَنِيْنُ كِتَابِيًّا، فَفِيْهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ)}.
لَمَّا قلنا: إنَّ دية الكتابي على النصف من دية المسلم، ودية الكتابيَّة على النصف من دية الكتابي -يعني ربع دية المسلم- فبناء على ذلك تكون دية الجنين الكتابي عشر دية أمِّه، فتكون اثنان ونصف من الإبل، وتُزاد إلى ثلاثة، أو يُخرَج بقدر النصف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ سَقَطَ اْلجَنِيْنُ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الضَّرْبَةِ، فَفِيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، إِذَا كَانَ سُقُوْطُهُ لِوَقْتٍ يَعِيْشُ فِيْ مِثْلِه)}.
إن سقط الجنين حيًّا أي: وُلد بحياة مُستقرَّة، واستهلَّ صارخًا، ثمَّ مات من الضَّربةِ ففيه دية كاملة؛ لأنَّ حياته استقرَّت، فكان كما لو قُتل حيٌّ من الأحياء، وهذه الضَّربة التي ضُربَت في بطنها حتَّى نزل الجنين ثم كانت مؤثِّرة فيه، كأن يُرى فيه أثرُ حديدةٍ ضُربَت بها أمه، فلو مات بعد ذلك ففيه دية كاملة، لأنَّه يعتبر ممَّن استقرَّت حياته ثم مات، فيكون كما لو اعتدى شخصٌ على حي.
وقوله: (فَفِيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ)، بحسب حاله، إن كان ذكرًا أو أنثَى، إن كان مسلمًا أو كتابيًّا، أو غير ذلك على ما تقدَّم بيانه فيما مضى.
{ماذا لو كانت الأم هي التي تسببت في إسقاطه بشرب دواءٍ، وبيَّن الأطباء أن سبب سقوط الجنين هو الدَّواء الذي تعاطته الأم، فلما سقط كان حيًّا واستقرَّت حياته ثم مات. فما الحكم؟}.
هي معتدية، وتُحرم ممَّا يرثه، وعليها الدية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلعَاقِلَةِ وَماَ تَحْمِلُهُ)}.
كما قلنا في درسٍ ماضٍ؛ إنَّ هذا بابٌ قد خصَّصه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- للعاقلة وما تحمل عنه، وجرى الشرع في مسائل كثيرة على تقوية أواصر الرَّحم وكل ما يمتُّ للإنسان، فجعل للجوارِ حقًّا، وجعل للرَّحمِ حقًّا، حتَّى للحاضر في القسمة حقًّا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفً﴾ [النساء: 8]، فالشَّرعُ يسعى إلى تقريب النُّفوس، وتأليف القلوب، وكل مَن له حق أن يُبقَى حقُّى وأن يُعظَّم أمرُه، وأن يُدفَع ما يُنفِّر القلوب أو يصرفها، ولذلك لَمَّا كانت العاقلة والقرابات ونحوها ترث عن الإنسان إذا مات؛ فكذلك تُعطيه إذا احتاجَ، وتقوم عليه إذا ألمَّت به مُلمَّة، فتقدَّم بنا ما يتعلق بالولاية في النكاح وأنَّها للعصبات، فيقومون على المرأة في تزويجها، وفي اختيار الكفء لها، الأوَّل فالأوَّل، والأقرب فالأقرب، بحسب ما تقدَّم بيانه فيما مضى، وكذلك في النَّفقات، فلو احتاج الإنسان فإنَّ نفقته تجب على قريبه كما هو مشهور المذهب عند الحنابلة بالشروط الثلاثة المتقدِّمة، وهذا قد مضى علينا بيانه.
وكذلك إذا لزم الجاني بجنايته الخطأ ديةٌ فإنَّها تكون على عاقلته بشروطها، وبناء على ذلك فيكون هذا من باب التَّآزُر والتَّناصُر، ولأجل ذلك أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يُبيِّن هذه العاقلة التي تتعلق بها هذه الأحكام، وما يلزم كل واحدٍ منهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ عَصَبَةُ اْلقَاتِلِ كُلُّهُمْ، قَرِيْبُهُمْ وَبَعِيْدُهُمْ، مِنَ النَّسَبِ وَالْمَوَالِيْ، إِلاَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُوْنَ وَاْلفَقِيْرَ، وَمَنْ يُخَالِفُ دِيْنُهُ دِيْنَ اْلقَاتِلِ)}.
قوله: (وَهِيَ عَصَبَةُ اْلقَاتِلِ).
العصبة من حيث الأصل: هي ما يدور على الشَّيء، منه سُمِّيَت العَصبة عصبة لأنَّها تُعصَب على الرأس فتدور عليها، فكذلك القاتل تكون عصبته هم الذين حوله، إخوته، أعمامه، أبناء عمِّه، أبناؤه، آباؤه؛ كلهم عصبة له، يعصبونه ويَقوَى بهم، ويدَّخرهم لأفراحه ولأتراحه وما يتعلق بذلك.
إذن؛ العاقلة هنا هم عصبة القاتل كلهم، قريبهم وبعيدهم من النَّسب، متى ما يُحفَظ للإنسان نسبٌ حتَّى ولو التقوا في الجد الخامس أو السادس أو السابع أو الثامن أو أكثر من ذلك، وهذا موجودٌ إلى الآن، وإن كان في جملةٍ من بلاد المسلمين قد غابت مثل هذه الانتسابات وتفكَّكت الأُسَر، وهذا نوع من الغزو الذي كان من آثار الاستيلاء على البلاد الإسلاميَّة، فإنَّهم لَمَّا كانوا من أعظم ما يكونون في بقائهم وثباتهم وقوَّتهم واجتماع أُسَرِهم وتآزرهم وما جاء به الشرع من قرابة بعضهم لبعضٍ ونُصرةِ بعضهم لبعضٍ؛ أرادوا أن يقطع ذلك، فأُلغيَت كثير من هذه الأشياء، حتَّى وصل الحال في بعض الدول الإسلاميَّة إلى أنَّه لا يُكتب اسم الشخص إلَّا مفردًا، فلا يُكتب اسم أبيه! فلا يعرف الناس أنَّ هذا أخٌ لهذا إلَّا بما أَلِفوه وببعض الأشياء الأخرى.
ولا شكَّ أن حفظ الأنساب ومعرفتها، ومعرفة القرابات؛ أعون على الصِّلةِ، وأقومُ للحقوق، وآنسُ للنفوس، ويحصل به مقاصد الشَّارع من العقل ومن الإرث، فلو مات شخصٌ لا يُعرَف له قريبٌ يستحق ذلك فإنَّه يُنتقَل إلى مَن هو أبعدُ منه، ولا يتأتَّى مثل هذا إلَّا بأن تُحفَظ مثل هذه الأنساب، وحفظ الأنساب ليس مأخذه التَّفاخر بها ولا استنقاص مَن دونه أو غيره بذلك، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ، وَلَا تَكْنُو» ، يعني: لَمَّا كان قد انتصر بأمرٍ مشينٍ فبيَن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يُمكن أن تُقال له كلمة تُزري به، فكأنه قال: أنت تفتخر بآبائك وأجدادك، اُمصص ذكر أبيك! يعني ذكرُ أبيك هذا هو الذي قذف بك وأنت نطفة حتَّى وقعتَ في رحم أمِّك فتكوَّنتَ منه وكنت كذلك؛ فإن كان ثَمَّ فخرٌ فهذا هو فخرك! ولَمَّا كان هذا لا يُذكر ويستحي الإنسان من إعادته فكذلك التَّفاخر بالأنساب، حتَّى ولو كان لبعض الأنساب منزلةٌ على بعض، كنسبِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآله ونحو ذلك؛ لكن لا يتفاخر أحدٌ على أحدٍ، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ علَى أَحَدٍ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ» ، وجاء في ذم مَن يفعل ذلك «الجُعْلانِ التي تَدْفَعُ بأنفِها النَتْنَ» ، يعني مَن يتفاخر بهذه الأمور، فينبغي البعد عن ذلك.
وحفظ الأنساب له مأخذ في الشرع آخر، وله معانٍ صحيحة، وله ترتُّبات معتبرَة، فلا غروَ على الإنسان أن يكون لذلك حافظًا، لا أن يكون على غيره مفتخرًا، ولا لمن سواه منتقصًا.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (قَرِيْبُهُمْ وَبَعِيْدُهُمْ، مِنَ النَّسَبِ وَالْمَوَالِيْ).
الموالي: أي المولَى المعتِق والمنعِم، فإنَّه من العصبة، فقد مرَّ بنا في أنواع العصبة: البنوَّة والأبوَّة والأخوَّة والعمومات، ثم الموالي؛ فلو كان له مولًى معتِق فهذا عصبة من عصبته يرثه لو لم يُوجَد أحدٌ من أقاربه، فكذلك لو جنى الجاني وله مولًى معتقٌ فإنه يُمكن أن يشترك في دية، وأن يبذل ما يبذل غيره من أقارب هذا الجاني.
قال: (إِلاَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُوْنَ).
أمَّا الصَّبي والمجنون فلا تكليف عليهم، فلمَّا كان لا تكليف عليهم فإنَّهم لا يُعدُّون في العاقلة والعصبة.
قال: (وَاْلفَقِيْرَ)، لأنَّ هذه الأمور إنَّما تجب باعتبار القدرة، وباعتبار ما زاد عن الحاجة، فإذا لم يكن قادرًا على التَّوفي بحقوق نفسه فلا يجب عليه حق غيره، لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ» ، فإنَّما يجب عليه بما كان زائدًا عن حاجته لو زاد.
وبناء على ذلك؛ فإنَّ الفقير ومَن في حكمه من المساكين وغيرهم الذين لا يجدون حاجياتهم لا يجب عليهم بذلٌ في العاقلة، وهذا من عظيم الشَّرع، فإنَّ الشَّارع قد خفَّفَ عن القاتل قتلًا خطأً أو شبه عمدٍ بأن أوجبه على عاقلته، ثم نظر في العاقلة، فمن كان منهم قادر تعلق به الحكم، ومن كان دون ذلك فإنَّ الشَّرع لا يؤاخذه ولا يُطالبه بما لا يطيق.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ يُخَالِفُ دِيْنُهُ دِيْنَ اْلقَاتِلِ)، لَمَّا كان الكافر لا يرث المؤمن والمؤمن لا يرث الكافر لقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، فانقطعت الولاية بينَ أهل الكفر وأهل الإيمان حتَّى ولو كانوا إخوة، حتَّى ولو كان أبًا لابنه أو نحو ذلك؛ فقد انقطعت بينهم المودَّة والنُّصرَة، أمَّا المحبَّة العاطفيَّة ومحبَّة القرابة والأبوَّة والبنوَّة فإنَّ هذا شيء جبلي لا يُؤاخذ عليه الإنسان، ولذلك لو تزوَّجَ الشَّخصُ امرأة كتابيَّةً فأحبَّها حبَّ الرجل لزوجته فليس عليه شيء، ولا نقول له: إنَّ هذه يهوديَّة فلا تحبَّها أو هذه نصرانيَّة لا تحبها! فإنَّ الإنسان لا ينفك من أن يُحب زوجه، ولا تقوم الحياة إلَّا بشيءٍ من المودَّة والحب وميلِ كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، لكن لا يُحبُّ ما هي عليه من الدين، وما هي عليه من الطُّقوس والعبادات، ولا ما هي عليه من الإشراك بالله -جلَّ وَعَلَا- ولا نحو ذلك من الأمور.
وأمَّا المناصرة والمؤازرة فإنَّها قد انقطعت بين أهل الإيمان ومن سواهم، فلأجل ذلك لا عقلَ بينَ مسلمٍ وكافرٍ كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- ولكن لو تبرَّع وأنفق من نفسه فلا بأس بذلك، ولكن لا يُلزَم بالعقلِ لأنَّه ليس بمسلم، والمسلم أولى به لأنَّه لو مات لورثه، فكذلك إذا احتاج فالمسلم هو مَن يبذل عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُرْجَعُ فِيْ تَقْدِيْرِ مَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلى اجْتِهَادِ اْلإِمَامِ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ قَدْرًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَلاَ يَشُقُّ)}.
العاقلة كثير، أبناء عمه، وأبناء أخيه، وأعمام أبيه، ونحو ذلك؛ فكل هؤلاء عصبته، فلا يشق عليهم، فإذا وجب على هذا قليل وهذا قليل، أو بعضهم يُخرج هذه السنة والبعض يُخرج في السنة التي تليها.
لو افترضنا مثلًا أنَّ أقاربه وعصبته ثلاثين -وهذا بالنسبة لمجتمعاتنا ليس بكثير- فإنه سيجب على كلِّ واحدٍ واحدة من الإبل في كل سنة، فهي ليست بالكثير، وتدفع عن الجاني مائة من الإبل التي قد تهلكه، حتى لو جمع واحدة أو اثنتين أو عشرًا فلا يُمكن أن يجمع مائة، فخفَّفَ عنه الشَّارع.
يقول المؤلف: إنَّ القاضي ينظر في ذلك بحسب اجتهاده، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وباختلاف الأماكن، وباختلاف الناس، فمن الأُسَر ما هي في حالِ سَعةٍ وثراءٍ، وقد يرى القاضي أن الدية تُطلَب من أقاربه القريبين فقط كإخوانه، فيُوجب على هذا خمسة عشر وهذا خشرة عشر وهذا...، وهكذا..
وقد يرى القاضي أنَّ هؤلاء قرابةٌ فقراء، فيُجب على كل واحد شيئًا يسيرًا، واحدة من الإبل، أو يوجب على كل واحد خمس من الغنم -إذا كانوا يتعاقلون بالغنم- وهكذا..، المهم أنَّ القاضي ينظر في ذلك بحسب ما يراه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ قَدْرًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَلاَ يَشُقُّ)، فلابدَّ أن يكون سهلًا عليهم، ولا يشق عليهم، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة:286]؛ ولأنَّ الشَّارع خفَّفَ عن الجاني بإيجابها على العاقلة، فلا يعني وجوبها على العاقلة على وجهٍ يشق عليهم، فلا نخفِّفُ على الجاني بالمشقَّةِ على أولئك، أو نحملهم على ما لا يستطيعونه؛ بل نكلفهم شيئًا يستطيعونه ويقدرونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا فَضَلَ فَعَلى اْلقَاتِلِ)}.
لو أنه جمع من قرابته ما جمع، ثم لم يستطيعوا، ولم يوجَد مَن هو أبعد منهم حتَّى يوجب عليهم شيء، فجمعوا له سبعة وثمانية وبقي ثلاثة عشر، فتكون على القاتل، لئلا يذهب حق المقتول والمجني عليه، وإنَّما أوجبناها عليهم تخفيفًا، فإذا لم يتأتَّى ذلك منهم فلا يُضاع حق المجني عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذلِكَ الدِّيَةُ فِيْ حَقِّ مَنْ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ)}.
الدية في حق مَن لا عاقلة له تكون على الجاني؛ لأنَّ الأمر دائر بين أمرين:
- بينَ أن نوجبها على الجاني.
- وبين أن يضيع حق المجني عليه.
وإيجابها على الجاني أخف من أن يضيع حق المجني عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ تَحْمِلُ اْلعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ صُلْحًا، وَلاَ اعْتِرَافًا، وَلاَ مَا دُوْنَ الثُّلُثِ)}.
العمد لا تحمله العاقلة مثلما قلنا فيما مضى، فالقاتل الجاني المتعمِّد تكون الدِّية عليه في ماله حالَّة، لأنَّ حاله لا يليق به التخفيف والتيسير.
قوله (وَلاَ عَبْدً)، يعني: مَن قتل عبدًا فكأنَّه أتلف مالًا من الأموال، فكما أنَّ شخصًا اصطدم بسيَّارته فأتلف سيارةً أخرى أو أتلف بيتًا فيجب عليه ضمانه، فكذلك لو قتل عبدًا فإنه أتلفَ مالًا فتجب الدية عليه في ماله ولا تكون في عاقلته.
قال: (وَلاَ صُلْحً)، المقصود بالصُّلح هنا: الصُّلح عن القتل العمد العدوان، فلو كان قد قتل عمدًا عدوانًا ثم طلبَ أهل المقتول أن يُقتل هذا القاتل، فاصطلحوا معهم على ألفين من الإبل، فلا نقول بوجوب الألفين على العاقلة؛ بل الصُّلحُ يتحمَّله الجاني ويجب عليه، فلا تُلزَم العاقلة به، ولا يعني ذلك أنَّهم لا يتبرَّعون، فلو تبرَّعوا وأجابوا لو طلب منهم فهذا لهم، ولو أنهم امتنعوا ثم جاء الجاني إلى القاضي وقال: أنا قتلت، واصطلحت مع أهل القتيل أن أعطيهم ألفين؛ فمن أين لي ذلك؟ ولي قرابة وعاقلة يعقلون ويقدرون!
فلا يُلزمهم القاضي بشيء من ذلك البتَّة.
إذن؛ إذا كانت دية في خطأ أو شبه عمدٍ أوجب على العاقلة الدية، وإن كانت دية عمدٍ أو صُلحًا فلا نُوجب عليهم شيئًا البتَّة، إن تبرَّعوا فحسن وخير ويُكتب في ميزان حسناتهم، وإن لم يتبرَّعوا فليس لك إلَّا أن تبذلها من عندك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ اعْتِرَافًا، وَلاَ مَا دُوْنَ الثُّلُثِ)}.
معنى قوله: (وَلاَ اعْتِرَافً)، يعني: لو اعترف الجاني على نفسه أنه قاتل فلانٍ؛ ففي هذه الحالة لا تجب الدية على العاقلة، لأنَّه قد يكون متواطئًا مع أهل القتيل حتَّى تجب لهم الدِّية فيتقاسَم معهم، أو يُيريد البرَّ لهم، يعرف مثلًا أنَّ عاقلته أقوياء ومقتدرون، أو بينه وبين عاقلته ضغينة فأراد الإضرار بهم، فقال: قتلتُ فلانًا! فذهبوا ودفعوا عنه الدية، ثم يقول: قتلت فلانًا! فيذهبوا ويدفعوا عنه الدية؛ فهذا يُضر بهم، فلأجل ذلك لا يُقبل اعترافه، لأنَّ الإقرار حجَّةٌ قاصرة، ولا يلزم بإقراره شيءٌ يجب على غيره، وإنما يُوجِبُ عليه هو.
فلو قلتُ: أنا وأنتَ علينا عشرة آلاف لفلانٍ؛ فإنَّه يُقبل إقرار على نفسي، ولكن لا يُقبل إقرار عليك.
فكذلك لو اعترف على نفسه فاعترافه يُقبَل على نفسه، وما يترتب على هذا الاعتراف يجب عليه هو ولا يجب لى غيره.
قوله (وَلاَ مَا دُوْنَ الثُّلُثِ)، كعشرين من الإبل أو خمس وعشرين من الإبل ونحوها تجب على الإنسان في نفسه؛ لأنَّه لا كُلفَةَ فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَتَعَاقَلُ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَلاَ عَاقِلَةَ لِمُرْتَدٍّ، وَلاَ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ، أَوِ انْجَرَّ وَلاَؤُهُ بَعْدَهَ)}.
لو أنَّ أحدًا من أهل الذِّمَّة قتلَ فهم أولياء بعض لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال:73]، فلو ارتفعوا إلى القاضي فيُلزم القاضي عاقلته بأن يدفعوا عنه، وهذا إذا اتَّفقَ دينهم، أما إذا لم يتَّفق دينهم كأن يكون بعضهم يهود وبعضهم نصارى فهذا على خلاف، هل الكفر ملَّة واحدة فيترتب على ذلك أنَّ بعضهم يعقل عن بعض، أو نقول إنَّ الكفر مِلَلٌ شتَّى كما هو مشهور المذهب عندَ الحنابلة، وبناء على ذلك لا يكون فيه عقلٌ لاختلاف الدين فيما بينهم، وبعضهم لا ينصر بعضًا.
قال: (وَلاَ عَاقِلَةَ لِمُرْتَدٍّ)، المرتد لا يُوافَق على دينه، وبناء على ذلك لا هو من أهل الإسلام فنوجبُ على أقاربه المسلمين أن يعقلوه، ولا هو مقبول منه ما انتقل إليه من اليهود والنصارى فنوجب عليهم أن يعقلوه، فبناء على ذلك فلا تجب الدِّية إلى على المرتد نفسه.
قال: (وَلاَ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ)، لو أنَّ شخصًا ضربَ شخصًا بسهمٍ، ثم لمَّا أطلق السَّهمَ قال "أشهدُ أن لا إله إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسول الله"؛ فأصابَه، فأسلمَ بعدَ جنايته، فالجناية هنا كانت في حال الكفر، ثم هو أسلم بعد ذلك؛ فلا يمكن للمسلمين أن يعقلوه، ولا هو الآن كافر فيعقله أقاربه الكفَّار.
قال: (أَوِ انْجَرَّ وَلاَؤُهُ بَعْدَهَ)، تقدَّم معنا مسائل انجرار الولاء، وفيها شيء من الصُّعوبة والوعورة، وأذكر أنَّ الإخوة استثقلوا الشرح فيها كثيرًا، فنتركها الآن، لأنَّنا لو جلسنا نذكرها لانتهى الدرس وما وضحت لكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ: وَجِنَايَةُ اْلعَبْدِ فِيْ رَقَبَتِهِ إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ بِأَقَلِّ اْلأَمْرَيْنِ، مِنْ أَرْشِهَا أَوْ قِيْمَتِهِ)}.
هذا الفصل في جنايات العبيد، وقول المؤلف قبل: (وَدِيَةُ اْلعَبْدِ وَاْلأَمَةِ قِيْمَتُهُمَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ)، هذا في الجناية عليهم، أمَّا هذا الفصل مَعقودٌ فيما لو جنَى العبد.
فلو كان عندي ثلاثة من العبيد، هذا يقتل وهذا يضرب وهذا يجني؛ فهل تجب الدية على السيد أو لا؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِنَايَةُ اْلعَبْدِ فِيْ رَقَبَتِهِ)، يعني: الدية عليه، ويترتب على هذا أنَّ السيد ليس له علاقة بجنايته، لم تجنِ أنتَ ولم تأمره بهذه الجناية، ولم تُخلِّ بينه وبينها فتكون سببًا فيها، وهو عاقل يعرف، فليس لك متعلَّقٌ فيها، والجناية تكون متعلِّقةٌ برقبة العبد.
ولا يخلو إمَّا أن تكون الجناية أكبر من قيمة العبد أو لا:
- فإذا كانت الجناية أكبر من قيمة العبد: فليس لهم إلَّا قيمة العبد؛ لأنَّ الجناية في رقبته، وهذه رقبته لا تساوي إلا مائة وعشرين ألفًا، ولو كانت الجناية ثلاثمائة ألف.
- أن تكون الجناية أقل من قيمته: يقول المؤلف: (يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ بِأَقَلِّ اْلأَمْرَيْنِ، مِنْ أَرْشِهَا أَوْ قِيْمَتِهِ)، فإذا كانت قيمته مائة وعشرين ألفًا، والجناية ثلاثين ألفًا؛ فإمَّا أن نبيعه ونعطيهم ثلاثين ألفًا ويرجع الباقي للسَّيد، وإمَّا أن يفديه السيد بثلاثين ألفًا ويبقى العبد عنده.
أمَّا لو كانت الجناية أكثر من قيمته؛ فليس لهم إلَّا القيمة، فلو أنَّ هذا العبد الجاني جنى على عبدٍ آخر قيمته مليوني ريال، والجاني لا يساوي إلَّا مائة وعشرين ألف ريال؛ فليس لهم إلَّا مائة وعشرين ألفًا، ويُخيَّر السَّيد بينَ أن يدفعها ويبقى العبد عنده، أو يُباع العبد ويأخذون قيمته، أو يأخذوا العبد ويكونون كأنَّهم اشتروه بما وجب في رقبته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدِيَةُ اْلجِنَايَةِ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيْمَتِهِ فِيْ مَالِ اْلجَانِيْ)}.
يعني: لو أنَّ شخصًا جنى عليه فننظر ما نقص من قيمته، فلو ضربه في يده، فبدلَ أن كان يساوي مائة وعشرين ألفًا صار ما يساوي إلَّا مائة وستة آلاف، فمعنى ذلك أنَّه نقص أربعة عشر ألفًا، فتجب ما نقصَ من قيمته في مال الجاني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِنَايَةُ اْلبَهَائِمِ هَدَرٌ إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِ إِنْسَانٍ، كَالرَّاكِبِ وَاْلقَائِدِ وَالسَّائِقِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَنَتْ بِيَدِهَا أَوْ فَمِهَا، دُوْنَ مَا جَنَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَ)}.
سُمِّيت البهيمة بهيمة لأنَّها لا تُبهِمُ عمَّا في نفسها، فهي لا تعقل، وقد تعضُّ وقد ترفس، وقد تفعل شيئًا من الإيذاء، فهذا ممَّا يُعرَف عن البهيمة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ، يعني: مجبورة ليس فيها فداءٌ ولا عوض.
وهنا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِنَايَةُ اْلبَهَائِمِ هَدَرٌ)، فهذا هو الأصل الذي تُبنَى عليه أصل الأحكام.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِ إِنْسَانٍ)، لأنَّها إذا كانت في يد إنسان فإنَّه يستطيع التَّحكُّم فيها، فما دام أنَّه يستطيع التَّحكُّم فيها فكأنَّه سببٌ من أسباب الجناية، فيُمكنُ أن يلجمها، ويُمكن أن يكفَّها ويُمكن أن يمنعها أو يُبعدها.
قال: ( كَالرَّاكِبِ وَاْلقَائِدِ)، القائد الذي يمشي أمامها، لأنَّه ما دام أنَّه يمشي أمامها وبيده زمامها فإنَّه يستطيع أن يضبطها.
قال: (وَالسَّائِقِ)، فلو كان سائقًا لها فعليه ضمانُ ما جنَت يدها أو فمها؛ لأنَّه يستطيع التَّحكم في يدها وفمها، أمَّا ما جنَت برجلها فلا يُمكن التَّحكُّم فيه حتَّى ولو كان سائقًا لها، فلو كان يسوقها ثم رفسَت شخصًا بجانبه برجلها فإنه لا يستطيع أن يمنعها، لكن لو كانت بفمها فإنَّه ممسك بزمامها يستطيع أن يصرفها وأن يقبضها، وإذا أرادت أن تجني بيدها فكذلك، فما دام غير متصرِّفٍ فيها فإنَّه لا يكون في ذلك قيمة ولا يلزمه ما أتلفت، وأمَّا ما هو قادرٌ على أن يمنعها في أن يتصرَّف فيه فإنَّه يُلزَم بذلك.
هل يُقاسُ على هذا ما يتعلق بالسَّيارات الآن فنقول ما جنَت السَّيارةُ بمقدَّمها يلزم القائد، وما كان بمؤخَّرها فلا؟
نقول بالفرق بينَ السَّيَّارةِ وبينَ البهيمة، فالبهيمة متصرِّفةٌ بنفسها، أمَّا السيَّارة فغالب ما يتعلق بها هو متصرَّقٌ بالسَّائق، فهي أخص.
ونقول: لو تُصوُّر أن يكونَ شيءٌ دون علم قائد السَّيارة وقدرته على التَّصرُّف فيها؛ فيُمكن أن يكون حكمه حكم ذلك.
وبالمناسبة؛ فإنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ذكروا أحكام المرور وأحكام السَّيارات وتصادمهما كثيرًا، وذكروا ذلك في السُّفن، فقالوا: لو كانت إحداهما مصعدةٌ والأخرى نازلةٌ فاصطدمتا، على مَن يكون الإتلاف، وإذا صدم أحدهما بمقدمه مؤخرة الأخرى فعلى مَن يكون؛ ولهم في ذلك تفاصيل دقيقة، وقد لا تكون مكمِّلة لجميع وقائع الناس في السيارات، لكنَّها أصلٌ لِمَا يُمكنُ أن تُبنَى عليه هذه الإتلافات التي جرت عادة الناس أن تحصل في السَّيَّارت، وأظنُّ أنَّ كثيرًا من مسائل المرور قريبة ممَّا ذكره الفقهاء، فتكون مأخوذة من ذلك، لكن لا يمنع من الزيادة في هذا.
وأذكر أنَّ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- ذكروا ذلك في نهاية باب الغصب في الإتلاف، فذكروا في ذلك جملةً من المسائلِ، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكرها هنا، فيُجمَع ما في هذه المعاني، ويُمكن أن يستفاد منه فائدة كثيرة جدًّا فيما يحتاج الناس إليه من جنايات تنوَّعَت وُجدت ولا سبيلَ إلَّا على قياسها على ما ذكره الفقهاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَعَدَّى بِرَبْطِهَا فِيْ مِلْكِ غَيْرِهِ،أَوْ طَرِيْقٍ،ضَمِنَ جِنَايَتَهَا كُلَّهَ)}.
إذا ربطها في مِلك غيره فيكون هو المتسبب، مثل ما قلنا قبل ذلك ما لو حفر بئرًا وهو معتدٍ في ذلك، كأن يكون في فناءٍ أو في مكانٍ عام؛ فسقطَ فيه شخص، فديته عليه، فكذلك مثل هذه البهائم لو ربطها في ملك غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا أَتْلَفَتْ مِنَ الزَّرْعِ نَهَارًا، لَمْ يَضْمَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِهِ، وَمَا أَتْلَفَتْ لَيْلاً، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ)}.
هذه قاعدة عند الفقهاء، أنَّ أهل الزُّروع يحفظونَ زرعهم في النَّهار، وأنَّ أهل المواشي يحفظون مواشيهم في الليل.
وبناء على ذلك؛ لو أتلفت هذه البهائم شيئًا في النَّهار فلا ضمان عليهم لأنَّ أهل الزُّروع هم الذين فرَّطوا في حفظ زروعهم، والأصل أنَّ أهل المواشي يُطلقون مواشيهم ترعى وتأكل من خشاش الأرض وغير ذلك، فليس على الإنسان غضاضة أن يُطلق بهائمه في ذلك، بشرط أن لا يُطلقها في مِلك أحد، أمَّا لو كان مُطلقًا لها في ملكِ أحدٍ فعليه الضَّمان.
أمَّا إذا جاء الليل، فأهل المواشي عادة يحفظون مواشيهم ويمسكونها ويحبسونها، فلو أطلقها فيكون معتديًا؛ فلو اعتدت في الليل على أهل أحد، وأهل الزروع يستريحون وينامون؛ فكأنَّه قد تسبَّبَ عليهم، فيلحقه بذلك الضَّمان.
قال: (إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِهِ)، فلو كانت في ديه وأمرَّها هو على زرع فلانٍ فيكون هو الذي تسبَّبَ وتقصَّدَ أن يلحق بهم إتلافٌ، فيكون عليه الضَّمان.
أسألُ الله أن يجزيكم خير، وأن يُتمَّ علينا النِّعمة، وأسأل الله لنا ولكم المغفرة والإعانة والتوفيق والسَّداد، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك