الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1866 24
الدرس التاسع

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، فرصةٌ طيِّبةٌ ولقاءٌ مباركٌ، عسَى الله أن ينفعنا وأن ينفعَ بنا، وأن يرزقَنا وإيَّاكم الإخلاصَ في القولِ والعملِ.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من "باب المضطر" من قول ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ شُرْبُ اْلخَمْرِ مِنْ عَطَشٍ، وَيُبَاحُ دَفْعُ اْلغُصَّةِ بِهَا،إِذاَ لَمْ يَجِدْ مَائِعًا غَيْرَهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا من عبادِه المتَّقينَ، وأوليائه الصَّالحينَ الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكَّروا، وأن يشمَلنا بعفوهِ، وأن يعفو عنَّا في التَّقصيرِ، وألَّا يؤاخذنا بسفهائنا، وأن يُصلِحَ أحوالنا، وأن يُصلِحَ أحوال المسلمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
كنَّا في دروسٍ ماضيةٍ أخذنا جملةً من المسائل المتعلِّقة بالأطعمة، والذَّبح، والصَّيد؛ إلى أن انتهَى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى مسألةٍ مكمِّلةٍ لهذه المسائل وهي مسائل الاضطرار، والمقصود في ذلك ما فاتَ ذبحه وما فات من الأطعمةِ حلُّه أنَّه يجوز للمضطرِ بشرطهِ، وذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلَّق بهذه الشُّروط، وبيَّنَ متى يكون ذلك حلًّا ومتى لا يكون، وأصلُ ذلك في كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقواعد الشَّريعة تدلُّ على ذلك، وفعل صحابة رسول الله والسَّلفِ بعدهم على ما ذكرنا من إشارات لطيفة على جملةٍ من هذه المسائل، إلى أن انتهينا في الدرس الماضي إلى أنَّه لا يُباح التَّداوي بمحرَّمٍ، وذكرنا أصلَ ذلك في كتاب الله ومن سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» ، وذكرنا أنَّ أصل التَّدواي يبحثه الفقهاء في كتاب الجنائز من جهة الإباحة والمشروعيَّة والسُّنيَّة وعدمها، وعند قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ» ، هل هو نهيٌ عن الكيِّ بخاصَّتِهِ؟ أو هو توكُّلٌ بتركِ التَّداوي مطلقًا؟
الأشهر عند الفقهاء أنَّ هذا خاصٌّ بالكيِّ لميل القلوب إليه عند العرب بخصوصه، ولِمَا يتعلَّق به أيضًا من إيلامِ الجسدِ أكثر من غيره.
ذكرنا أنَّ التَّداوي بالمحرم في هذه الأزمنة المتأخرَّة يدخل في أبوابٍ كثيرة، ولذلك بدٌّ من التَّنبُّه لمثلِ هذه الأمورِ، وعدمِ الاسترسال فيها، سواء كان ذلك في بعض العقاقير وما يُداخلها من أخلاطٍ ونحوها، أو كانَ ذلك فيما يتعلَّق ببعضِ أبواب التَّداوي، وهي تنزعُ الآن منزعَ التَّجمُّل وغيرها، وهذا باب واسع في التَّجاوز لِمَا أمر الله -رَحِمَهُ اللهُ- به.
وكما قلنا: إنَّ هذه ليست مجالس للتَّفصيل والوصول إلى المستجدَّات بقدرِ ما هذا البناء هو تأصيل للطَّالب، وذكر أصل المسائل التي تُبنَى عليها المسائل القديمة والمسائل الحديثة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ شُرْبُ اْلخَمْرِ مِنْ عَطَشٍ)، الأصل في العطشان أنَّه كالمضطر يُباح له المحرَّم، فلِمَ قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ شُرْبُ اْلخَمْرِ)؟
لأنَّ الخمر لا يتأتَّى به الرِّيُّ، لا يتأتَّى به ما يتأتَّى بالماء وإن كان سائلًا، وذلك لِمَا فيه من المرارة والشِّدَّة التي تزيدُ الإنسان عطشًا؛ فلأجلِ ذلك لَمَّا كان محرَّمًا وهو غيرُ مُفيدٍ لهذا المضطر فكأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أراد أن ينفيَ تصوُّرًا -أو توقُّعًا- حصل في ذهنِ الطَّالب، أنَّه لَمَّا جازَ للمضطر أن يأكلَ الميتة جازَ له أن يشربَ الخمرَ في العطشِ، فيقول: إنَّ هناك فرقٌ بينهما، ووجه الفرقِ لا كونه مُضطرًّا ولا كون المضطرِ لا يجوز له تعاطي المحرَّم؛ لكن لأنَّ هذا المحرَّم لا يُفيد العطشان، ولذلك لو أنَّ هذا العطشان اضطر إلى شربِ ماء غيره وهو لم يستأذن في ذلك، أو امتنع صاحب الماء من إعطائه؛ فإنَّ له أن يأخذه ليُنقِذ نفسَه من الهلكة وذلك جائز، مع أنَّ هذا الماء محرَّم لكنَّه مُضطر، والاضطرار يُبيح له المحرَّم، وهو التَّسلُّط على ماء الغير إذا منعه منه، وهذا أيضًا مشروطٌ بشرطه المتقدِّم، وهو ألَّا يكون بصاحب الماء اضطرارًا، لِمَا ذكرنا من أنَّه لو كان به اضطرار فإنَّه أولَى بملكِهِ ومائه.
ثم قال المؤلف: (وَيُبَاحُ دَفْعُ اْلغُصَّةِ بِهَ)، وهذا أيضًا فيه إشارةٌ للمعنَى الذي ذكرناه، حيث نفع الخمرُ للمضطر استعمله؛ فيُباح في مثل هذه الحال.
قد يقول قائل: هل في هذا إشارةٌ من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى أن للإنسان يجوز له أن يبقى على مائدةٍ فيها خمر؟
الفقهاء يذكرون المسائل في محلِّها من حيثُ الأصل، ويذكرون ما يعرض للإنسان باعتبار الواقعة المنفصلة عن ذلك الأصل، فهنا لم يتعرض المؤلف إلى أنه يجوز للإنسان أن يجلس على مائدةٍ فيها خمر؛ بل قد جاء النَّهيُ عن ذلك الوعيد فيه أشد الوعيد كما هو معروف من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَنْ كان يُؤْمِنُ باللهِ و اليومِ الآخِرِ فلا يَجْلِسَ على مائِدَةٍ يُدَارُ عليْها الخمرُ» ، لكن في بعض الأحوال إمَّا أن يكون لا يعلم به، أو أن يكونَ ذلك عصيرًا مشتدًّا لم يظنَّ أنَّه بلغَ حدَّ الإسكار، أو كان ذلك أيضًا على سبيل الاضطرار، كأن يكون مارًّا بمكانٍ فوجدَ ذلك ونحوه.
ولو أنَّه كان قد جَلسَ فالحُرمَة بحالها من حيثُ جلوسِهِ في مكان يُدارُ فيه الخمرُ وجواز دفع الغصَّة في جهته من جهة أنَّه فيه إنقاذٌ لنفسه من الهلكة؛ فيكون آثمًا بجلوسه ومباحًا له استعماله باضطراره.
{قد يحصل إشكال عند بعض الناس؛ هل يجوز للمضطر تعاطي المحرَّم كشرب الخمر لدفع الغصَّة، أو أكل الميتة؛ فهل التَّداوي بالمحرَّم يدخل فيه الاضطرار؟}.
أولًا: جاء النَّص في التَّداوي، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَ».
ثانيًا: جاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» .
وبناءً على ذلك؛ فهذه الأدوية قد جعل الله فيها مباحًا، ودعوى الاضطرار فيه غير متأتِّيَة، والمقصود من الاضطرار ليس هو بقاء الوجع، فما منَّا إلَّا وفيه وجعٌ وألمٌ، ويستمر معه عمره، لكن الاضطرار في مثل هذه المسائل هو ما أفضى به إلى الموت.
فنقول: لو أنَّ شخصًا الآن تحقق فيه الموت إلَّا أن يأخذ هذا المحرَّم فيأخذه، ولكن ليس من باب التَّداوي، وإنَّما من باب إنقاذ المعصوم من الهَلَكةِ، ولكن من جهةِ التَّداوي فتوجد الأدوية المباحة، ثم لا تصل إلى حدِّ الاضطرار الذي هو افتلاتُ النَّفس وموت الإنسان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ النَّذر.
مَنْ نَذَرَ طَاعَةً، لَزِمَ فِعْلُهَ)
}.
الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- في أكثر ذكرهم يذكرون النَّذر بعدَ الأيمان، والحال التي درَجَ عليها المؤلف هنا أنَّه ذكرَ النَّذر قبل الأيمان، وذلك أنَّ بعض مسائل النَّذر تأخذُ حكمَ اليمين، وذلك لو أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قدَّمَ الأيمان لربَّما كان ذلك أتمَّ في التَّرتيب وأسهل في الفهم، لأنَّ بعض المسائل مرتَّبةٌ على بابِ الأيمان، وبينهما شيءٌ من التَّداخل، لكن الأمر يسير، وربَّما نجد بعض المسائل أو مسألة واحدة -على وجه الخصوص- أحالَ عليها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى ما يتعلَّق بباب الأيمان.
والنَّذر عبادةٌ من العبادات، فبناءً على ذلك لا يجوز صرفُها إلَّا لله -جَلَّ وَعَلَا- فمَن نذَر لله فقد تعبَّد لله، ومنن نذرَ لغير الله فقد تعبَّدَ لغيرِ الله، ومَن تعبَّدَ لغير الله فقد حصلَ منه الكفر إجماعًا، فلذلك كان النَّذرُ للقبورِ والأولياءِ الصَّالحين أو الموتى، وكل نذرٍ توجَّهَ إلى غير الله -جَلَّ وَعَلَا- فهو من العبادات التي قُصِدَ بها غيرُ وجه الله، وذلك مخالفٌ لأصلِ الإيمان والاعتقاد، فكان كفرًا بالله -سبحانه وتعالى.
ولمَّا كانَ هذا الأمر منتشرًا وظاهرًا كان التَّنبيه عليه ظاهرًا، مثل المسألة السَّابقة، أنَّه لما آل أمر كثير من النَّاس إلى شيءٍ من التَّساهل في العبادات والأعمال والطَّاعات وحدود الله -جَلَّ وَعَلَا- وما كانَ من الانتهاك للمحرَّمات والوقوع في الكبائر كشرب الخمور ونحوها؛ كان التَّنبيه على عدم التَّساهل في هذه الأمور، والبقاء مع من يتعاطَى هذه المحرَّمات أو يتسَاهل غيها، فهي أم الخبائث وأعظم الشُّرور؛ ولابدَّ أن نتنادى إلى ذلك ونتداعى إليه التزامًا بأمرِ الله، واستقامةً على سنَّةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن؛ النَّذر عبادة لله -جَلَّ وَعَلَا- ولا يجوز صرفها لغير الله -سبحانه وتعالى.
والدَّليل على أنَّ النَّذر عبادة: قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7]، فامتدحهم الله -جَلَّ وَعَلَا- والامتداح دالٌّ على أنَّه أمر مرقوبٌ فيه ومأمورٌ به شرعًا.
وقال الله -سبحانه وتعالى- في آية ثانية: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، فأمرهم بالوفاء بالنُّذور؛ فدلَّ على أنَّها طاعةٌ وعبادة، ودلَّت على ذلك دلائل السنَّة، من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ» . والإجماع مُنعقدٌ على ذلك.
ويُشكل على هذا أنَّ الفقهاء يقولون: إنَّ النَّذر مكروهٌ، فيكف تكون عبادة وتكون مكروهةً؟
لأهل العلم في هذا تفصيل:
- يقولون: من جهة فعل النَّذر؛ لا يُنذَرُ إلَّا لتعظيم المنذور به كاليمين، وبناء على ذلك كانت عبادة؛ لأنَّ التَّعظيم حقٌّ لله، والتَّذلُّل حقٌّ لله -جَلَّ وَعَلَا- والاستسلام والانقياد؛ فالمنذور له معظَّمٌ عندَه، والتَّعظيمُ حقٌّ لله -جَلَّ وَعَلَا- فلم يكن للإنسان إلَّا أن يُعظِّمَ الله، ولا يجوز له أن يُقرَّ في قلبه شيءٌ من التَّوجُّه والقصد إلَّا لله -سبحانه وتعالى.
إذن؛ من أي جهة يكون النذر مكروهًا؟
هو مكروه من جهة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنَّه لا يَأْتي بخَيْرٍ» ، أي: أنَّه يحمل الإنسان على ما لم يجب عليه، فهذا لم يجب عليك أصلًا، فأنت حملتَ نفسكَ على شيءٍ ليسَ بواجبٍ؛ فيُمكنُ أن لا تؤدِّيَه -وهذا هو الأكثر- ويُمكن أن تفعله ويكون ذلك مع نوع من التَّكرُّهِ وعدم الرَّغبة فيه، وهذا ليس شأن المسلم في أداء عبادته والاستلام فيها والانقياد لله -جَلَّ وَعَلَا- فيها.
فلمَّا كان الأمر يؤول إلى أنَّ الإنسان يُكلِفُ نفسَه ويُعنِّتُها ويُلحق بها المشقَّة؛ فإنَّ الشَّرعَ جاء بتفادي ذلك والرَّغبةِ عنه، ولذلك ما خُيِّر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أمرين إلَّا اختيار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ يَدْعُو بها، وأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي في الآخِرَةِ» ، شفقةً بها ورحمة، فلمَّا رحمكَ الله -جَلَّ وَعَلَا- ورحمك رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن لا يُحتِّم عليك هذا؛ فلِمَ تُحتِّمه أنت على نفسك بالنَّذر؟ ولِمَ توجبه على نفسك وقد عفا الله عنك ولم يُوجبه عليك؟
فمن هذه النَّاحية كان النَّذر مَكروهًا.
إذن؛ النَّذر ليس مَكروهًا لِمَا اشتمل عليه من تعظيمِ الله والتَّذلُّلِ لله وعبادة الله -جَلَّ وَعَلَا؛ بل إنَّ التَّعبُّد لله هو أصل التّوحيد والإيمان، ولكن النَّذر مكروه من جهة أن الله -جَلَّ وَعَلَا- جعل الشَّرائع الواجبة والمفروضة محدَّدة، وقيَّدها بقيودها، واعتبر لها اعتباراتها وشروطها التي لا تُكلِّف العبد، ثم قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فإذا جاء هذا المكلَّف الذي لا يعرف حدود قدرته، ولا يدري ما يعرِضُ له، والله أعلم بحاله؛ ثم يفرض على نفسه شيئًا لم يفرضه الله -جَلَّ وَعَلَا- فيكون قد كلَّفَ نفسه ما فيه كُلفَةٌ ومشقَّةٌ وعنتٌ وبلاءٌ، وقد يحمله ذلك على عدمِ الامتثال؛ فيُعرِّضُ نفسه للآثام، فكان من هذه النَّاحية مكروهًا، ولا ينبغي للإنسان أن ينذُر.
من خلال هذا الكلام تبيَّنَّا حقيقة النَّذر، فالنَّذر في اصطلاح الفقهاء: هو إلزام المكلف نفسه شيءٌ لم يجب عليه بأصل الشرع، وهذا راجعٌ إلى كلام الحنابلة باعتبار أنَّهم يُدخلون النَّذر المباح في النَّذر، أمَّا لو قلنا إنَّ الشَّيء المباح الذي ليس أصله طاعة لا يدخل في باب النَّذر؛ فأن يُقال إلزام المكلف نفسه ما لم يجب عليه بأصل الشرع ممَّا هو مشروع -حتى يكون داخل فيه المستحب والمأمور به- إلزامه نفسه، ولم يُلزمه الله -جَلَّ وَعَلَا- به، أو لم يُلزمه به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومثل ما قلنا الأدلة التي دلَّت عليه من الكتاب والسنة، وهو قول عامَّة أهل العلم وأكثر السلف -رضي الله تعالى عنهم ورحمهم.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (مَنْ نَذَرَ طَاعَةً، لَزِمَ فِعْلُهَ).
هذا هو أوَّل نوعٍ من أنواعِ النَّذرِ، وهو نذرُ الطَّاعة، ويُسمَّى عند الفقهاء "نذر التبرُّر" كأن يقول الإنسان: إن شَفَى الله مريضي فلله عليَّ أن أصوم شهرًا"، أو يكون ذلك على سبيل الإطلاق كأن يقول "لله عليَّ أن أتصدَّقَ بعشرةِ آلافٍ"؛ فهذا نذر طاعة، وهو داخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيْعَ اللهِ، فَلْيُطِعْهُ»، وهو أيضًا داخل فيما جاء في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿يوفون بالنَّذر﴾ [الإنسان: 7]، وفيما جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه نَذَرَ في الجَاهِلِيَّةِ أنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ. فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوْفِ بنَذْرِكَ» ، وهذا الحديث هو الذي استدلَّ به الفقهاء أنَّ نذر الإنسان في حال الكفر صحيحٌ، كما أنَّ يمينه صحيحةٌ، ولذلك جاء في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ﴾ [المائدة: 107]، وهذا إقسامٌ كافرٍ -على ما سياتينا بإذن الله.
إذن؛ هذا يدل على أن ذنر الطاعة صحيحٌ ومأمورٌ بالوفاء به، كما سيأتي تفاصيل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مَنْ نَذَرَ طَاعَةً، لَزِمَ فِعْلُهَا؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيْعَ اللهِ، فَلْيُطِعْهُ».
فَإِنْ كَانَ لاَ يُطِيْقُ مَا نَذَرَ، كَشَيْخٍ نَذَرَ صِيَامًا لاَ يُطِيْقُهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيْقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ»)
}.
إذن القسم الأوَّل: نذر الطَّاعة، ويلزمه فعلها متى ما كان قادرًا عليها، أمَّا إذا لم يكن قادرًا عليها ولا يطيقها فلا يلزمه، لقوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعه﴾ [البقرة: 286]، ولأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيْقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ»، وجاء نحوًا من ذلك عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- موقوفًا عليه، وعلى ذلك عمل الفقهاء، وهو أنَّ النَّذر مجراه مجرى اليمين، فإذا تعذَّر على الإنسان القيام بها فإنَّه ينتقل إلى ما يُكفِّرُها ويقوم مقامها، وهي اليمين، وهذا من حيث الكفارة، أمَّا من حيث أن الإنسان ابتلى نفسه بفعل ما لا يطيق وإيجاب ما ليس بواجبٍ عليه؛ فهذا -كما قلنا- أنَّه عرَّضَ نفسَه إلى التَّبعَة، وهذه الكفَّارة مكفِّرةٌ له في قول الحنابلة، لكن قد لا ترفع كامل التَّبعة عنه إذا كان معتديًا ويعلم من نفسه أنَّه لا يقوم به ويتقصَّد في ذلك الإخلال بهذه العبادة وعدم فعلها، أو يتساهل في إنشائها وعقدها، ثم بعدَ ذلك لا يلوي هل يقوم بها أو لا يقوم بها او ينتقل إلى الكفارة وكأن الأمر يسير! فهذا بابه باب الاستهتار، وعدم تعظيم شعائر الله، فيلحقه بذلك تبعةٌ عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
ما حدُّ الإطاقة؟}.
ما من عملٍ إلَّا ويلحق الإنسان فيه مشقَّة، فالمشقَّة المألوفة -أو المقدور عليها- لا تدخل في أنَّه لا يُطيق، لكن الذي لا يُطيق إمَّا لا يستطيعه بالمرَّةِ، وإمَّا أنَّه لو فعله للحقه بذلك إمَّا مرض أو خشيَ على نفسه الهلاك ونحو ذلك، يعني أن يعجز عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، لَمْ يَجْزِهِ إِلاَّ الْمَشْيُ فِيْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، رَكِبَ وَكَفَّرَ)}.
من نذرَ المشي إلى بيت الله الحرام فالأصل أنه يمشي في حجٍّ وعمرةٍ؛ لأنَّ قصدَ البيت الحرام في الأصل إنما هو للحجِّ والعمرة، ولذلك كان هذا هو قول عامَّة أهل العلم، وهو المشهور في المذهب عند الحنابلة وقول جماهير أهل العلم، ما يذهب بمشي في مكَّة بدونِ قصدِ حجٍّ أو عمرة، فكأن هذا ليس بعبادة أو فعل ما أمره الله -جَلَّ وَعَلَا- به.
فأصل المسألة: أنَّ المشي إلى بيت الله الحرام إنَّما يكون عبادة في الحج والعمرة، وهذا هو الذي يتعلق به المشي المأمور به شرعًا؛ فانصرفَ الحكمُ إليه.
لو قال قائل: نذرتُ أن أمشي إلى بيت الله الحرام؛ ثم مشَى ولم يُنشِئ لا حجًّا ولا عمرة، فنقول: لم توفِّ بنذرك، وعليك أن تفعله مرَّةً أخرى إن قدرتَ.
ولو نذر واحدٌ أن يمشي إلى بيت الله الحرام لحج أو عمره لكنه لم يستطع -وهذا غالب الناس اليوم- فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمرأة التي سألت عن أختها: «لِتَمْشِ وَلِتَرْكَبْ» ، وتؤدي ما أمرها الله -جَلَّ وَعَلَا- به، ولَمَّا نذر ذلك الرجل أن يقوم في الشَّمس وأن يصوم ولا يتكلم، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ولْيَسْتَظِلَّ ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ» ، فأمره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأمر المشروع ونهاه عن المنهي عنه.
فحديث «لِتَمْشِ وَلِتَرْكَبْ» دليل على أنَّ مَن عجز عن شيءٍ فإنَّه لا يلزمه، وما دام أنه لا يُطيق فليس عليه شيء، لكن عليه كفارة يمين، لأن هذا الحديث في الصحيحين وجاء في رواية أبي داود «وعليه كفارة يمين» ، فدلَّ على أنَّ كفارة اليمين تكون في ذلك. وجاء أيضًا عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" .
ولأنَّ الأصلَ العام في النَّذر أنَّه في حكم اليَمين، فكما أنَّ اليمين يُنتقل فيها إلى الكفَّارة إذا حنث الإنسان فيها أو لم يقم بما حلفَ عليه، فكذلك النَّذر مثل اليمين، فكان كفارته كفارة يمينٍ.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، رَكِبَ وَكَفَّرَ)، وهذا فيما هو عبادة، أمَّا ما كان من نذرٍ مباحٍ فسنشير إلى الكلام عليه بعدَ ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَذَرَ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، فَعَجَزَ عَنِ التَّتَابُعِ، صَامَ مُتَفَرِّقًا، وَكَفَّرِ)}.
انتقل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى صورةٍ ثانية من صور العبادات التي يعجز عنها الإنسان، قال: (وَإِنْ نَذَرَ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، فَعَجَزَ عَنِ التَّتَابُعِ، صَامَ مُتَفَرِّقًا، وَكَفَّرِ).
نقول: عَجِزَ يَعجَزُ، أو عَجَزَ يَعجِزُ؛ كلاهما صحيح، ولكن يقولون الماضي بالفتح "عَجَزَ" من باب "فَعَلَ" أتم؛ فتكون في المضارع "عَجَزَ يَعجِزُ"، وإن كانت الثَّانية فهي جائزة وهي خلاف الأتم في اللغة.
والصَّوم المتتابع فيه كُلفَةٌ ومشقَّةٌ كثيرةٌ، خاصَّة إذا كانَ ذلك الصَّوم طويلًا، فلو أنَّه مثلًا نذر أن يصومَ سنةً مُتتابعة فقد يلحق الإنسان مرض أو يلحقه من العوارض؛ فالمنذور الآن هو:
 صيام سنة.
 وحصول التتابع في الصيام.
فإذا عجز عن أحد الأمرين بقيَ الآخر، فلو عجز عن التتابع فلا يعني عجزه عن التتابع عجزه عن الصيام؛ فيلزمه الصوم.
ثم بعد ذلك تجب عليه الكفَّارة لفوات أحد خصال المنذور به، وهو التتابع.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَذَرَ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، فَعَجَزَ عَنِ التَّتَابُعِ، صَامَ مُتَفَرِّقًا، وَكَفَّرِ)، إذن متى ما عجز عن التَّتابع تعلقت به الكفارة في ترك التَّتابع مع بقاء وجوب الصِّيام عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَرَكَ التَّتَابُعَ لِعُذْرٍ فِيْ أَثْنَائِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ اسْتِئْنَافِهِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ وَالتَّكْفِيْرِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ)}.
ذكرنا حالة ترك التَّتابع للعجز، أما غير حالة العجز إمَّا لعذرٍ، وإمَّا لغير عذر:
- فإن كان ذلك لغير عذر كأن ينذر أن يصوم عشرين يومًا مُتتابعًا، ثم ترك التَّتابع لغير عذر، فصام خمسة أيَّام، ثم ثلاثة أيَّام، ثم يومين، ثم عشرة أيام؛ فنقول: هذا صام غير ما نذر؛ لأنَّ الذي نذره هو صيام عشرين يومًا، ولا يُحال بينه وبين فعل المنذور عليه، فيجب عليه الاستئناف؛ لأنَّ هذا الصوم لا تُبرأ به الذِّمَّة بالوفاء بالنَّذر، فيلزم إعادته مُتتابعًا.
- أمَّا لو تركه لعذر مثل أن يبدأ التَّتابع في صيام عشرين يوم أو شهر -حسب المنذور عليه- ثم بعد ثلاثة أيام أصابَ المرأة الحيض، أو مرض الرَّجل، أو نحو ذلك من الأعذار، فظاهر كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في قوله (وَإِنْ تَرَكَ التَّتَابُعَ لِعُذْرٍ فِيْ أَثْنَائِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ اسْتِئْنَافِهِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ وَالتَّكْفِيْرِ)؛ فله حالان:
الحال الأوَّل: أن يعود ويبدأ حتى يُتمِّه مُتتابعًا حين لا يعرض له مرض، ولا يعرض للمرأة عادة، فإذا فعل ذلك فلا إشكال.
الحال الثَّاني: أن يبني على ما كان من صيام، لكن هل يكفي البناء وينتهي الحكم عند هذا؟ هل يُمكن أن نقول إنَّ هذا العارض الذي عرَضَ له لا يقطع التَّتابع بدليل ما ذكر في الظِّهار؟ فإنَّ الفقهاء يذكرون ما يتعلَّق بأحكام التتابع والذي يقطعه ولا يقطعه، وذلك باعتبار ما قاله الله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [المجادلة: 4]، فيذكرون ما يتعلَّق بالتَّتابع هنا وكل ما حكم الشَّارع فيه بالتتابع.
فالظَّاهر من جهة الشَّرعِ أنَّ هذا بدأ التَّتابع وأدَّى الذي عليه، ولمَّا حِيلَ بينه وبينَ التَّتابع كان ذلك بعذرٍ، فيكون الأصل هو البناء، ولا يحتاج إلى التَّكفير، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أن هذه المسألة مبناها إلى الإمكان، وإمكان أداء النَّذر بالتتابع ممكن، فيلزمه ذلك.
ونقول: لو لم يفعل فهو معذور فيما فاته من التتابع فنصير إلى الكفارة.
وكأنَّ الحنابلة يقولون بالوسَطِ، فهو ليس عليه شيء لأنَّ تركَ التَّتابعِ لم يكن من جهته، وإنَّما من جهة أمرٍ خارجٍ عن إرادته، والله -جَلَّ وَعَلَا- لا يكلِّف نفسًا إلَّا وسعها، فالأصل أن لا يلزمه الاستئناف، ولزوم الاستئناف من جهة أنَّه أوجبه على نفسه متتابعًا، وحيث أنَّ هذه الصورة هو معذور فيها فيُمكن أن نقول إنَّها تُكمَّل بالكفَّارة، فعلى كل حالٍ هو منزِعٌ من منازع النَّظرِ بينَ الفقهاء، ومحتمل لِمَا ذكروا، وكما أن قول من قال بكونه معذورًا فلا يقطع التتابع كما لا يُقطَع التتابع في مثل هذه المسائل في باب الظِّهار؛ فيكون ذلك محققًا للمطلوب وموفِّيًا للنذر، فيكون صحيحًا في أحد القولين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَذَرَ مُعَيَّنًا، فَأَفْطَرَ فِيْ بَعْضِهِ، أَتَمَّهُ وَقَضَى، وَكَفَّرَ بِكُلِّ حَالٍ)}.
قوله (وَإِنْ نَذَرَ مُعَيَّنً)، كأن يقول: سأصوم غدًا؛ ثم أفطرَ.
فنقول: صيامُ الغدِ مُتعيِّنٌ، وبناء على ذلك لو أفطر فيُمسك بقيَّة اليوم، وذلك لقول المؤلف: (أَتَمَّهُ)؛ لأنَّه تعلق به حكمه، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
قال: (وَقَضَى)؛ لأنَّ المنذور حقيقة هو صيام يومٍ، وهذا الذي جرى منه هو إمساك بعض يوم، وإمساك بعض اليوم لا يكون صيامًا؛ لأنَّ حقيقة الصيام الشرعية هو إمساكٌ من طُلوع الفجر إلى غروب الشَّمس.
وألزمناه بالكفَّارةِ لأنَّ المعيَّن الذي نذرَ صيامه قد فاتَ، فلزمه جزاء ما فاته من اليوم المعيَّن، فهو الآن نذر أن يصوم يوم الأربعاء -مثلًا- وهو لم يَصم هذا اليوم، أو أصبح مُفطرًا ثم أمسكَ بقية اليوم؛ فيلزمه القضاء، أي: أنه حصل منه قضاء صيام يومٍ، لكن لم يحصل منه صوم يوم الأربعاء؛ فلزمته الكفارة مُقابل ما فاته منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ نَذَرَ رَقَبَةً، فَهِيَ الَّتِيْ تُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَ)}.
الرَّقبَة التي تُجزئ في الإعتاق الواجب أن تكون مؤمنة سالمة من العيوب والضَّرَرِ المانع من العمل، لأنَّ الشَّرع يتشوَّف إلى العتقِ، لكن ما دام العبد في مِلك سيِّده فتجب له النَّفقة، فإذا عَتَق ذهبت عليه النَّفقة، فإذا كان لا يستطيع العمل فما الفائدة من عتقه؟! فوَّتنا عليها النفقة التي كان يُحصِّلها وهو لا يستطيع أن يكتسبها لنفسه، فلا هو انتفع بالعتق ولا بقيت له نفقته!
فلذلك كان الواجب في الإعتاق أن تكون الرَّقبة سالمة من العيوب، ولابدَّ أن تكون مؤمنة لآية سورة النساء في كفارة القتل، فألحق الفقهاء سائر الكفارات بها، وأنَّه يُعتَبَرُ فيها الإسلام والإيمان، ولقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ، فدلَّ على أنَّ مَدارَ الإعتاقِ والحكم في الشَّرعِ هو بالإيمان.
إذن؛ إذا نذرَ عِتقَ رقبة؛ فإنها تتوجَّه إلى الرَّقبَة التي يتطلَّع الشَّارعُ إلى إعتاقها، وهي المؤمنة السَّالمة من العيوب القادرة على العمل.
ولأجل ذلك قال المؤلف (فَهِيَ الَّتِيْ تُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ)، نصَّ عليه المؤلف لأن هناك من يقول بأي رقبةٍ، لكن هذا هو المشهور من المذهب وهو قول جمع من الفقهاء.
قال: (إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَ)، فلو تعلَّق النَّذر بعتق رقبة بعينها كأن يقول "عبدي فلان"، أو لمَّا قال "لله علي أن أعتق رقبة" وقصد العبد الذي عنده؛ فهــو على ما قصد وما نوى، وهذا كاليمين، فكما أنَّ اليمين تُحمَل على نيَّته فكذلك باب النُّذور يُحمَل على قصده ونيَّته، فيكون متعلِّقُه ما نوى وأرادَ. وسيأتي تفصيل ذلك فيما يتعلق بالأيمان على وجه الخصوص في النيَّة وما يتعلق بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ نَذْرَ فِيْ مَعْصِيَةٍ، وَلاَ مُبَاحٍ، وَلاَ فِيْمَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِيْنَ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لاَ نَذْرَ فِيْ مَعْصِيَةٍ وَلاَ فِيْ مَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ». وَقَالَ:«لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيْ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى»)}.
نذرُ المعصيةِ نوعٌ من أنواعِ النُّذور، وهو ليس بصحيحٍ ولا يكونُ عبادة، لأنَّ النَّذر عبادة، ولا يُتصوَّر أن تكون العبادة في معصية الله، فحصول المعصية وحصول الطَّاعة في حالٍ واحدة لا يُتصوَّر، لأنَّهما متضادان ومتناقضان، فحيثما وردت المعصية انتفت الطَّاعة، وإذا انتفت الطَّاعة -التي هي النَّذر- فلا توفية في ذلك، ولا يُعَان الإنسان على فعل المعصية، ولا يُسهَّلُ له ذلك، ولا يُخلَّى بينه وبينها، بل يُحال بينه وبين فعل المعصية ويُنهَى ن ذلك ويُعزَّر عليها.
وبناء على ذلك؛ لو نذر فعل المعصية فلا نذر له، فلو قال: "لله عليَّ أَلَّا أَصِلَ عمِّي، وأَلَّا آتيه في بيته وأَلَّا أُسلم عليه"؛ فنقول: هذا نذر معصية؛ لأنَّه قطيعة للرَّحم، والله أمر بصلةِ الرَّحم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]، يعني: أن تقطعوها، كما جاء ذلك في تفسير السلف.
وعند ذلك نقول: هذا نذر معصية، ونذر المعصية لا يُوفَّى به، والدليل على ذلك من جهة المعنى ظاهر مثلما قلنا، وأيضًا من جهة النقل؛ نَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ».
قول المؤلف: (وَلاَ مُبَاحٍ).
النَّذر المباح من المسائل التي فيها خلاف بينَ أهل العلم، هل يدخلها النَّذر أو لا يدخلها، والمؤلِّف هنا ذهبَ مذهبَ جماهير أهل العلم، وهو أنَّ المباح لا يدخله النَّذر، وهذا ظاهر في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما نذرَ الرَّجل أن يصمت ولا يتكلَّم وأن يقف في الشَّمس، فقال: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ولْيَسْتَظِلَّ ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ»، فأمرَه بإتمام النَّذر الذي أصله عباده، ومنعه من النَّذر الذي ليس أصله بطاعة، مع أن الوقوف أو عدم الكلام ليس بمحرَّمٍ بل هو مباح، ولكن دلَّ هذا الحديث على أن نذر المباح لا يُوفَّى، وهذا هو رأيُ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وهو قول الجماهير خلافًا للمشهور من المذهب عند الحنابلة، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أن النَّذر المباح لازم، ففهموا من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» أنَّ كلَّ ما سِوَى ذلك مما ليس بمعصيةٍ أنَّه يفي به، فلو نذر أن يمشي مائة كيلو على رجليه فيلزمه الوفاء بذلك، لأنَّ مشي مائة كيلو مباح، لكن عند الجمهور وهو رأي المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ هذا لا فائدة فيه، وأنَّ النَّذر إنَّما يكون في العبادات، فلو نذر أن يقتحم حظيرة الأسدِ؛ فهذا عند الحنابلة وعند غيرهم أنَّه لا يجوز أن يفيَ به، لأنَّ اقتحام حظيرة الأسد فيه تعريضٌ لنفسه للهلَكَة، وتعريض نفسه للهلكة محرَّمٌ إجماعًا؛ وهذا لا إشكال فيه، لكن لو نذر أن يلبس عشرة أثوبة؛ فلُبسُ عشرة أثوبة مباح، لكن لا فائدة فيه، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» .
وعلى كل حال؛ فقد مَشى ودَرجَ المؤلف على الرِّواية الثَّانية عند الحنابلة والذي هو قول أكثر أهل العلم أن نذرَ المباح ممَّا لا يجب، ولكن الحنابلة يقولون إنَّ النَّذر المباح مثل الحلف المباح، فكما لو حلفَ الإنسان ألا يأكل طعامًا فإنَّه إمَّا أن يُوفِّي فلا يأكل وإمَّا أن يُكفِّر، فيقولون مثل ذلك في النَّذر المباح، إمَّا ان يوفِّي وإمَّا أن يُكفِّر، لأنَّهم حملوا النَّذر على اليمين، فجعلوا مسكلها مسلكًا واحدًا، والقول فيها قولًا واحدًا، ولكن قول الجماهير له قوَّةٌ ظاهرةٌ من النَّظر، لكن الحنابلة على إلحاق النَّذر باليمين. وعلى سبيل الاحتياط يقولون: ما يضرنا شيء، إذا وفَّى وإذا كفَّر زاد خيرًا.
قال: «وَلاَ فِيْ مَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ»، فإذا نذر ما لا يملك فلا فائدة فيه، كأن يقول "نذرتُ أن يطلق فلان زوجته"، فهو لا يملك ذلك، أو قال "نذرتُ أن يصوم صاحبي عشرة أيام" أيضًا لا يملك ذلك، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، وليس له حقٌّ أن يُلزِمَ غيرَه، فلأجل ذلك قال «وَلاَ فِيْ مَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ».
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ فِيْمَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِيْنَ)؛ كما قلنا إنَّ النَّذر منه نذرُ طاعةٍ -وهو التَّبرُّر- سواء كان مقيَّدًا كأن يقول "لله عليَّ أن أصوم شهر، أو يقول: لله عليَّ أن أصوم شهرًا إن شفى الله مريضي"، فهذا نذر تبرُّر، سواء كان مشروطًا أو غير مشروط، ولأهل العلم كلام في النَّذر المشروط، يقولون كأنَّه ظنٌّ بالله ظنًّا سيِّئًا، يعني لن أصوم إلا أن يشفي مريضي! ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ» ، وأيًّا كان فهو داخل في نذر الطَّاعة، فيكون داخلًا فيما يُوفَّى به.
أمَّا ما قُصِدَ به اليمينُ هو النَّذر الذي يكون القصد منه الحثُّ والزَّجرُ، أو التَّصديق أو التَّكذيب؛ وليس قصده التَّعبُّد والتَّبرُّر، ولذلك يسميه الفقهاء "نذر اللجاج والغضب" كأن تقول لي: هذه السَّيارة التي مرت سوداء. وأقول لك: بيضاء. فأقول: لو كانت سوداء فلله عليَّ أن أصوم خمسة أيَّاك؛ فهذا النَّذر بقصد التَّصديق أن هذه السَّيارة التي مرَّت سوداء وليست بيضاء؛ فهذا يُسمَّى نذر اللجاج والغضب.
هل يدخل نذر اللجاج والغضب الوفاء أو عدمه؟
قول الحنابلة فيه مثل قولهم في النَّذر المباح ومثل اليمين، فيجعلون بابها واحدًا، فإمَّا أن يوفِّي أو يُكفِّر كفَّارة يمينٍ، وظاهر كلام المؤلف وكما هو قول جمهور الفقهاء أنَّه لا يدخله النَّذر، لأنَّ النَّذر لا يكون إلَّا فيما كان طاعةً أصالةً، وبناءً عليه لا يدخله حكم وليس عليه كفارة.
ولعلنا نكمل -بإذن الله جل وعلا- ما يتعلَّق بهذا في الدَّرس القادم، ونرجئه إلى مستهلِّ الحلقة القادمة، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :(لاَ نَذْرَ فِيْ مَعْصِيَةٍ وَلاَ فِيْ مَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ). وَقَالَ:(لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيْ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك