{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة.
{قال الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه عمدة الفقه: (كِتاَبُ
اْلأَطْعِمَةِ.
وَهِيَ نَوْعَانِ: حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ).
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله
وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا غلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فبعد أن أنهينا مسائل كثيرة مُتعلقة بأحكام الأسرة كان تمامها وكمالها
بالحديث عن أحكام الوليمة، وقبلها ما يتعلق بالنَّفقات والحضانات، وفيها مسائل كما
عُرض على مسامعكم من الأهميَّة بمكان؛ استهلَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وجهًا آخر
ومسائلَ مُهمَّة ولكنَّ منبتَّةً -أو منفصلة- عمَّا سبقها.
عادة الفقهاء في كتاب الأطعمة وما يتعلق بها أن يذكروها بعدَ الحدود والجنايات في
الجملة عند الحنابلة، وبعضهم يذكرها في كتاب جامعٍ في نهاية كتاب الفقه، ولعلَّ
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- سبكها من جهةِ أنَّ الوليمة فيها طعام، وذكر الشيء عند
مناسبته، فكان ذلك كالتوطئة والتَّهيئة للحديث عن الأطعمة والكلام فيها.
الأطعمة: هي كلُّ ما يُطعَم، ولا يختص بشيءٍ بعينه من نباتٍ أو مصنوعٍ منه، أو كان
ذلك من حيوانٍ، وكل ما يطعمه الإنسان، ولا يختصُّ بطعامٍ دونَ طعامٍ، بمعنى أنَّ
الطعام يغلب على البُرِّ عند بعض أهل العلم وفي بعض الأحاديث، لكنَّه من جهةِ أنَّه
من أطيب الطَّعام أو من أهمِّه، فأُطلق على البعض لغلبته وأهميَّته، ولكن محل كلام
الفقهاء هنا الأطعمة على سبيل العموم والإطلاق، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ:
(وَهِيَ نَوْعَانِ:حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ).
والحيوان: هو الذي تدبُّ فيه الحياة، أو ما فيه روح.
وقولنا: "ما فيه روح" أتم؛ لأنَّ النبات فيه حياة من جهة أنَّه ينبت وينمو، لكن جرت
العادة على أنَّهم يجعلون الحيوان هو كل ما فيه روح.
فهذا هو كلام المؤلف سواء فيما يتعلق بهذه الحيوانات والنباتات في طُعمٍ وأكلٍ
ونحوه، وأيضًا ما يتعلَّق بالمشروبات، وإن كان المؤلف لم يتحدَّث عن المشروبات
إلَّا إشارة عابرة ستأتي في ثنايا كلامه بعدَ مسألةٍ أو مسألتين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا غَيْرُ اْلحَيَوَانِ، فَكُلُّهُ مُبَاحٌ، إِلاَّ
مَا كَانَ نَجِسًا أَوْ مُضِرًا، كَالسُّمُوْمِ).
بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بما سوى الحيوانات؛ لأنَّ تفاصيل الكلام فيها أقل،
ولأنَّ الحكم فيها يكاد يكون مجملًا، فالأصل إباحة ذلك وحلُّه، لأنَّ الله -جَلَّ
وَعَلَا- خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فكان على أصل الحلِّ والجواز والإباحة.
وبناء على ذلك؛ كلُّ طعامٍ مأخوذٍ من نباتٍ فهو حلال، سواء كان ذلك من التَّمر أو
الفواكه، أو كان مما عرفناه وعهدناه عندنا، أو كان مما لا نعرفه مما عهده أهل
الهند، أو أهل أفريقيا، أو غابات الأمازون؛ بمعنى أنَّ النباتات لا حدَّ لها ولا
لأطعمتها ولا لطريقة تعاطي الناس لها، فكيفما تعاطاها الناس وكيفما أكلوا وكيفما
انتفعوا أو صنعوا لهم شرابًا وطعامًا؛ فهو جائزٌ ومباح.
قال المؤلف: ( إِلاَّ مَا كَانَ نَجِسً)، فما كان نجسًا فإنَّه ممنوع ومحرَّمٌ؛
لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- نهى عن النَّجَسِ، وأمرَ بالتَّنزُّه منه، فإذا كان لا
يجوز للإنسانِ أن يتركَ النَّجاسةَ على بدنه؛ فكيف به أن يأكلها أو أن يطعهما! وهذا
محلُّ إجماعٍ بين أهل العلم؛ ولأنَّ النجاسة مُحرَّمةٌ، والنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا
حَرَّمَ عَلَيْهَ» ؛ ولأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، والنَّجاسات
هي أوَّلُ ما يدخل في الخبائث، فليس للإنسان أن يأكل فضلةَ حيوانٍ نجس، وليس
للإنسان أن يتعاطى شيئًا من هذه النَّجاسات لأنها مستقذرةٌ خبيثةٌ، والله -جَلَّ
وَعَلَا- حرَّم ذلك علينا.
قال: (أَوْ مُضِرًا، كَالسُّمُوْمِ)، ما فيه مضرَّةٌ كالسُّموم؛ لأنَّها تقتل
الإنسان وتفتك به، أو تضعفه وتُمرضه وتُلحق به السَّقم.
وهذا مأخوذ من عمومات النُّصوص في حفظ الإنسان لنفسه، والنَّهي عن إلقائها
للتَّهلكة، أو فعل ما يضر بها ويتلفها، ويُمكن أن يؤخذ ذلك من الآية ﴿وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، فإنَّ المضرَّ خبيثٌ ومفسدٌ للبدن.
ما حدُّ ذلك؟
حدُّ ذلك: ما تُيُقِّنَ فيه الضَّرر أو غلبَ ذلك عليه، ولأجل هذا تجدون حتى الأطعمة
الطِّيبة لو أنَّ الإنسان أكثرَ منها لأضرَّت به، ومع ذلك لا نقول من أنَّها ممنوعة
أو محرمة، لكن لو غلب فيها الضَّرر فإنَّنا نجعل هذا الطَّعام كلَّه محرَّم.
أمَّا ما يكون ضرره ليس من أصله وإنَّما من طريقةِ تعاطيه، كأكله على حالٍ مختصَّة
كحال خواء البدن فيضر؛ فإنه قد يُمنَع إذا تُيُقِّنَ ضرره في تلك الحال، لكن لا
يُنسَب المنع إلى الطعام نفسه، وإنَّما إلى أمرٍ خارجٍ عنه، وهو ما احتفَّ به من
زيادةٍ في الأكل، أو حالٍ لا يحسن بالإنسان أن يأكل عليها.
على سبيل المثال: لو أُعطيَ الصَّغيرُ الذي دونَ السَّنتين سمنًا، فالسَّمن فيه من
الثِّقل والضَّرر البالغ عليه، فهنا نقول: لا يجوز لأنَّه يُضَرُّ به، ولكن لا يعني
ذلك أنَّ السَّمن ممنوع أو أنَّه ليس بطعام حلال؛ لأنَّ الضرر ليس في السَّمن من
حيث هو، وإنَّما في تعاطي مَن في مثل هذه الحال.
ومثل ذلك المريض الذي يُمنَع من بعض الأطعمة ونحوها، وقد تكون هذه الأطعمة طيِّبَة،
فلا يُمكن أن نقول أنَّها تضر بالمريض فهي ممنوعة، ولكن هي ممنوعة عليه في حال
مختصَّةٍ لأمرٍ خارجٍ عن حقيقتها، فكان الحكم متعلق بتلك الحال لا بذلك الطعام.
وإذا غلب الضَّر فإنه يُحكم به، وهذا بابٌ لا حدَّ للكلام عليه، ولو جئنا إلى كثيرٍ
من مصنوعات الأطعمةِ والأشربة لرأينا أنَّه يكثر فيها الكلام من كونهها فيها ضرر،
ويتداعى الناس إلى الحديث عن هذه الأشياء.
على سبيل المثال: المشروبات الغازيَّة، التي فيها لون أسود أو ألوان أخرى؛ أو
الأطعمة المصبَّرة التي فيها مواد حافظة، فالأطباء يقولون إنَّ فيها مضرَّة، ومع
ذلك لم يقل أحدٌ من أهل العلم بحرمتها على سبيل العموم والإطلاق؛ لأنَّها من حيث
الأصل هذه مواد ضارَّة، ولكن هذا الضرر ليس غالبًا، ولذلك نرى أنَّ مَن يتعاطى مثل
هذه المشروبات الغازيَّة سنوات كثيرة قد تؤثِّر عليه، وما من شيءٍ إلا وله أثر
إيجابي، ولكنَّ الأثر السيء ليس غالبًا.
وبناء على ذلك لم يُقل في مثل هذه الحال بحرمة هذه المشروبات أو المطعومات، ولكن
إذا تُيُقِّنَ الضَّررُ فإنَّه يُحكَم بحرمتها، أو كان ذلك غالبًا راجعًا إلى
الطَّعام نفسه لا إلى حالةٍ مختصَّةٍ بشاربٍ أو خلافها.
إذن؛ السُّموم إذا أضرَّت بالبدن فإنَّ الإنسان يُمنَع من تعاطيها، ولكن بعض
السُّموم قد تكون مُضادة لبعض الأمراض، ويعلم الأطباء أنَّ لا ضرر على الإنسان فيها
ظاهر، وبناء على ذلك إذا تعاطاها وهي مضادَّةٌ لهذا المرض ومواجهة له ومقلِّصة
لآثاره لم يُمنَع الإنسان من تعاطيها.
وهذا إذا كانت السُّموم من السُّموم النباتية لأنَّها لا تكون نجسة، أمَّا سموم مثل
الثُّعبان والعقرب ونحوها فهذه نجسة، والنَّجسة محرَّمةٌ بكلِّ، فلا يُمكن تعاطيها
بوجهٍ من الوجوه حتى في العلاج، فبعض الناس يتعاطون بعض هذه السُّموم مثل سمَّ
الثعبان والعقرب وبعض هذه الحشرات، ويقولون إن ترياقه نافعٌ؛ فنقول: إنَّ هذه
نجاسة، والنَّجاسة محرَّمة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَ»، فلا يجوز تعاطي
ذلك طعامًا أو شرابًا، لكن إذا جُعِلَ على الجلد فلا بأس؛ لأنَّ هذا ليس تعاطٍ له،
وهذا متأرجح عند بعض أهل العلم في أنَّ الأصل فيه الإباحة، لأنَّه ليس أكلًا ولا
شُربَا، ولا يتعلق به حرمة، وبعضهم يقول إنَّ تركه أولى وأسلم.
إذن؛ لا يجوز أن يُتعاطى أكلًا أو شُربًا، أمَّا ما سواها فالأمر فيه محتملٌ، وهكذا
فيما كان من النَّجاسات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلأَشْرِبَةُ كُلُّهَا مُبَاحٌ،إِلاَّ مَا أَسْكَرَ،
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيْرُهُ وَقَلِيْلُهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، لِقَوْلِ
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ
خَمْرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ اْلفَرَقُ مِنْهُ، فَمِلْءُ اْلكَفِّ مِنْهُ
حَرَامٌ» )}.
اْلفَرَقُ: نوع من المكاييل، يُوضَع فيه الشَّراب ونحوه.
قول المؤلف: (وَاْلأَشْرِبَةُ كُلُّهَا مُبَاحٌ)، سواء كانت عصيرًا أو مرقًا أو
لبنًا؛ فكلها مباحة إلَّا أن تكون نجسة، فلا يجوز حليب السِّباع أو الحمير لكونها
نجسة.
وسيأتي المؤلف على بيان كونها محرَّمة ونجسة، وبناءً على ذلك لم يُحتَج التَّنبيه
عليها، ولكن من حيث الأشربة التي تُصنَع من الفواكه ونحوها فالأصل حلُّها وإباحتها،
ومثل ذلك ما جدَّ من المصنوعات الآن مثل المشروبات الغازيَّة ونحوها تُباح حتى تصل
إلى درجةٍ يغلب فيها الضَّر، فعند ذلك يُمكن القول بحرمتها.
على سبيل المثال: الأشربة التي يسميها الناس "شراب الطاقة" فهذه لمَّا كان الضَّررُ
فيها غالبًا ربَّما تأكَّدَ عندَ بعض أهل العلم القول بالمنع منها، أو أنَّ في
تعاطيها شبهة تعاطي المحرَّم لظهور الضَّرر فيها.
والحقيقة لا يُمكن القول بالمنع منها مُطلقًا أو الحل؛ لأنَّها تتفاوت في درجاتها
وتركيزها وآثارها على الأشخاص، ولكن في الجملة هي انتقال ممَّا يظهر فيه الإباحة
إلى محلٍّ يتأرجح فيه الأمر ولا يبعُدُ القول بحرمتها أو حُرمة بعضها لظهور
الضَّررِ فيها.
والأشربة كلها مباحة حتى ما يُصنَع من الشَّعير أو غيره، ما يُسمَّى عند الناس بــ
"الفُقَّاع" إلَّا أن يصل إلى حدِّ الإسكار، وذلك بأن يُترَك ويُنبَذ حتى يقذف
بالزَّبد ويكون فيه أثر على الدِّماغ، فيذهب عنه تمام نظره وعقله، وقد يكون ذلك
قليلًا وقد يكون كثيرًا، وهذا يتفاوات بتفاوت الناس وبتفاوت شدَّةِ هذا الشَّراب من
عدمه، وبإلفة الإنسان له من سواه، ولكنَّه ما دام يحصل به إسكار ولو في بعض الناس
أو في بعض الأحوال؛ فإنَّه محرَّمٌ، لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وقال: «ما أَسكرَ الفرقُ منه
فملْءُ الكفّ منهُ حرامٌ» ، وقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ، والله
-جَلَّ وَعَلَا- حرَّم ذلك في كتابه فقال: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90].
قول المؤلف: (إِلاَّ مَا أَسْكَرَ) ضابط مُهم ينبغي التَّنبُّه له، وهو مناط الحكم
هنا، يعني ما دام أنَّ هذا الشَّراب يحصل به إسكار فهو حرام، ويستوي الحكم في حرمته
سواء كان قليلًا أو كثيرًا، بمعنى أنه لو شرب الإنسان من هذا الشراب لترًا سَكِرَ
وإذا شرب منه نصف لتر -أو ربع لتر أو شربة واحدة- لا يؤثر؛ فنقول: ما دام أن كثيره
يُسكِر فقليله يُسكر. وهذا هو الضَّابط الشَّرعي.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يُشير هنا إلى أنَّ ما أسكَرَ فإنَّه يحرم قليله وكثيره
من أي شيء كان، سواء كان من العنب أو من الشَّعير، أو من أي شيء من الفواكه
والثِّمار، وهذا يُشير إلى مخالفة بعض الفقهاء الذين يقولون إنَّما يحرُم شراب
العنب إذا كان مُسكرًا، وما سواه فلا يحرم منه إلَّا الشُّرب بقدر الإسكار، فجماهير
أهل العلم على مُنافاة ذلك القول وعدم اعتباره، وأنَّ الأدلَّة دالَّةٌ على إطلاق
القول في ذلك، وكما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره من الصَّحابة: نزلت آية
تحريم الخمر، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا أَسْكَرَ
كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وكان شراب الناس يومئذٍ -يعني من الخمر- من العنب
ومن الشعير ومن التَّمر، وغيره؛ فدل ذلك على أنَّ هذا الحكم عامٌّ وشاملٌ لجميعِ
أنواع المشروبات إذا كان كثيرها مسكرًا.
هنا مسألة مهمَّة!
في العصر الحديث يوجد على الأشربة بطاقات فيها نسب ما يحتويه هذا الشراب من أملاح
وما سواها، ومن ذلك أنَّه يُكتب نسبة الكحول -مادة الإسكار- فكيف نتعامل مع ذلك؟
يجب أن نعرف أنَّ الحكم ليس في وجود هذه المادة من عدمها، وإنَّما الحكم فيما قاله
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما دام أنَّ كثيره يُسكر لو شرب منه،
فمعنى ذلك أنَّه محرَّمٌ حتى لو كانت هذه النسبة 1 % أو 0.5% أو حتى لو لم يذكروا
فيها شيئًا من هذه المادة التي تذهب العقل أو تضعفه، والعكس بالعكس، فلو كان فيه
نسبة ولكن شُرب كثيره لا يُسكر، فنقول: إنَّه ليس بمؤثر.
مثلًا: مادة الكافيين من المواد المسكرة، وهي موجودة في بعض المشروبات الغازيَّة،
ومع ذلك لم يقل العُلماء بحرمة هذه المشروبات؛ لأنَّ الإنسان لو شرب منها كوبًا أو
كوبين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين لم يسكر، فدلَّ ذلك على أنَّ هذه المادة ليست
مُؤثرة، وليس في هذا الشَّراب محل للإسكار.
فيُتنبَّه لذلك؛ لأنَّ هذا فيه طريقٌ لبعض الناس ممَّن يأتون إلى بعض المشروبات
التي لا يوجد فيها علامة أن ليس فيها نسبة كحول أو النسبة فيها قليلة ويتساهل في
شرب هذه المشروبات، مما يُسمَّى شراب الشعير -البيرة- وغيرها، ويقول: إنَّها نسبٌ
قليلة لا تصل إلى الإسكار!
نقول: ليس هذا هو المناط؛ إنَّما لو ضممت إلى هذا الكوب كوبًا آخر وثالث ورابع
وخامس؛ هل يُسكر أو لا؟
فلو كان يُسكر ولو بالكثير فمعنى هذا أنَّ ما يدخل إلى جوفك من نقطة منه فهو حرام
لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليس بمعتبرٍ ما يُذكر من تفاصيل
بيانات مركَّب هذا الشَّراب، والعكس بالعكس، فلو عُلم يقينًا أنَّ هذا لا يُفضي إلى
إسكارٍ فلا يعتبر ذلك مُسكرًا.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ما الحكم لو استُخدمت الخمر في الطبخ؟}.
استخدام الخمر في الطَّبخ محرَّم.
{هل يُعدُّ مسكرًا بحيث إنَّه لا يجوز الأكل منه؟}.
والله هذه المسألة مُشكِلَة! فهو من حيث الوضع لا يجوز؛ لأنَّ الخمر نجس، ولكن إذا
جُعل على الشِّواء مثلًا كما يفعلونه في الغرب، فيستخدمونه لتليين اللحم ونحوه
ويكون أكثرُ طراوةً وحلاوةً في الطعم، فنقول: إنه من صبِّ النَّجاسة.
وهل يُمكن أن نقول إن النَّجاسة تطايرت ولم يبقَ منها شيء ونحو ذلك؟
بعيدٌ هذا! لأنَّ القاعدة عند الحنابلة وجمع من الفقهاء أنَّ ما يتنجَّسُ من سوى
الماء لا ترتفع نجاسته لا بتطهيرٍ ولا بغيره حتى ولو صُبَّ عليه ماءٌ بعدَ ذلك، فمن
باب أولى أن يُقال: "إلَّا أن تزول عينُ النَّجاسة"، وهنا لا يظهر زوالها، فلو لم
يُقَل من ظهور الحُرمَة فلا أقل من أنَّها محل شبهة، والقطع بالحُرمَةِ أو بقاء
الأمرِ على المنع هو الظَّاهر -والله أعلم- وهذا الكلام منِّي إنَّما هو على سبيل
التَّفقُّه لا على سبيل التَّقرير، فلا يؤخَذ منِّي فتوى في ذلك؛ لأنَّ المسألة
تحتاج إلى مزيد بحث، ولعلَّنا -بإذن الله جل وعلا- في لقاء قادمٍ أن نعرض لها، وأن
نأتي بأقوال أهل العلم فيما يتعلق بهذه المسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَخَلَّلَتِ اْلخَمْرُ، طَهُرَتْ وَحَلَّتْ، وَإِنْ
خُلِّلَتْ، لَمْ تَطْهُرْ)}.
طريقة اتِّخاذِ الخمرِ والخلِّ متقاربةٌ جدًّا، ولا يفصل بينها إلَّا أشياء يسيرة
يعرفها مَن يتعاطون هذه الصَّنعَة؛ لأنَّ الخلَّ إنَّما يتخلَّل بالتَّربُّص
والانتظار على هذه الثِّمار، والخمر أيضًا نحوًا من ذلك، لكن لهم طريقة في صنعها،
فإذا كادت أن تقذف بالزَّبدِ فتتخمَّر فيُعالجونها ببعض المعالجات فيمنعها من
التَّخمُّر وينقلها إلى التَّخليل، وفي بعض الأحوال قد يفوت على الخلَّال -الذي
يتَّخذ الخلَّ- هذا الأمر، أو ينسى أو يسبق هذه الثمار؛ فتقذف بالزَّبد فتتخمَّر،
فإذا تخمَّرَت في مثل هذه الحال قد يُفضي ذلك إلى فوات ماله أو الإضرار به وإلحاق
الضَّرر به؛ فنقول: يقول الفقهاء (وَإِنْ تَخَلَّلَتِ اْلخَمْرُ، طَهُرَتْ
وَحَلَّتْ)، وإلَّا فلا.
والمعنى: أنَّ الأصل أنَّه لا يجوز للإنسان أن يُخلِّلَ الخمر، لأنَّ الخمر إذا
تخلَّلت وقذفت بالزَّبد كانت نجسة، ووجب إراقتها وإتلافها، ولم يجُز إمساكها
وإبقاؤها، وهذا الذي يُخلِّلُها كأنَّه تعاطى النَّجس وأبقى ما أمر الله -جَلَّ
وَعَلَا- بإراقته.
وأصل ذلك: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئُل على الخمر تُتَّخذُ
خلًّا؟ فقال: «ل»، وهذا قطعًا لدابر إبقاء الخمور بدعوى التَّخليل والإفادة منها،
ولكن لو حصل ذلك بدون قصد وبغير إرادة فتخلَّلَت الخمر فتحل؛ لأنَّه لم يكن له منه
فعل، ولم يكن منه تهوينٌ أو تساهل فيما أمر الله، لأنَّه لم يأتِ إلى الخمر
فيُخلِّلها ولم يُرقها.
ولذلك قال أهل العلم: لمَّا سئُل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخمر
تُتَّخَذ، و"تُتَّخَذ" فعلٌ للاتِّخاذ، وهو فعلٌ للمكلَّفِ؛ فنهى النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر إذا كان من الخمر نفسها أو
من الثمار التي جُعلت لتخليل فتخمَّرت ثم تخلَّلَت؛ فإذا هذا ليس اتِّخاذًا وليس
فعل مكلَّفٍ فلم يكن فيه محرَّم، وهذا الشَّراب آلَ إلى شرابٍ مُباحٍ وهو خل، وبناء
على ذلك لا حُرمَة فيه ولا منعَ منه، والله تعالى أعلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْمَا يُبَاحُ أَكْلُهُ وَمَا لاَ يُبَاحُ.
وَاْلحَيَوَانِ قِسْمَانِ: بَحْرِيٌّ وَبَرِّيٌّ، فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ
حَلاَلٌ إِلاَّ اْلحَيَّةَ وَالضِّفْدَعَ وَالتِّمْسَاحَ)}.
ذكر المؤلف ما يحل أكله في الحيوان وغير الحيوان، فأمَّا غير الحيوان فقد أشارَ
إليه في جملةٍ واحدة، وذكرنا سبب ذلك أنَّ قاعدتها مطَّردة، وأنَّ الأصل إباحتها
إلَّا ما اشتمل على أحد القيدين: أن يكونَ نجسًا أو أن يكون مضرًّا، لِمَا تقدَّم
من النَّظرِ والدليل.
ثم ذكر الأشربة على سبيل التَّكملة، والأشربة يذكرونها هنا، ويذكرونها في كتاب
الخمر، لأنَّها كثيرًا ما تتعلَّق بأحكامه، وبعضهم يجعل لها كتاب الأشربة ويعرض
لأحكام الخمر وما يتعلَّق بها.
ولما انتهى المؤلف من غير الحيوان انتقل إلى الحيوان، فقال: (بَحْرِيٌّ
وَبَرِّيٌّ).
البحري: هو ما يعيش في الماء، وليس المقصود أن يعيش في خصوص البحر، فيدخل في ذلك ما
يعيش في البحر، ما يعيش في الأنهار، ما يعيش في مستنقعات الماء كالبحيرات الكبيرة
والصغير على حدٍّ سواء، فما دام أنَّه يعيش في الماء فهو حلال.
قال المؤلف: ( فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ)، الأصل هو حلُّ البحري
كلِّه، ولا يحرُم إلَّا في حالٍ واحدة، وهو أن يوجد في الحرم.
كيف يوجد في الحرم؟
نقول: لو وُجدت بحيرات أو مستنقعات كبيرة، أو مياه راكدة؛ فعاشت فيها بعض الأسماك
أو غيرها؛ فالأصل أنَّ طعام البحر حلال، ولكنَّه حرُمَ هنا لوجوده في الحرم.
قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمً﴾
[المائدة: 96]، فيحرم على المحرم طعام البر، وأحل له صيد البحر في غير الحرم، أما
إذا كان في غير الحرم فهو حلالٌ له وليس بمحرَّم.
إذن؛ الأصل أن طعام البحر كله حلال ومباح.
والحيوان البحري: هو ما يعيش في الماء، فلو كان لا يعيش إلَّا في الماء وإذا خرج
منه يموت فهذا محل اتِّفاق بين أهل العلم في جواز أكله، سوى ما سيأتي الكلام عليه
مما يُستثنى.
يأتي الكلام على ما ينتقل بينَ البرِّ والبحر، وهي ما تسمى بالبرمائيَّة، فتُنسب
إلى الماء والبر على حدٍّ سواء، وهذه من المسائل التي يتجاذبها أصلان:
- أصل الكلام على طعام البر.
- أصل الكلام على طعام البحر.
فطعام البحر حلٌّ لقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أبي
هريرة لما سئل عن ماء البحر فقال: «هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ، اَلْحِلُّ
مَيْتَتُهُ» ، فكل ما في البحر حلال، وهذا محل اتِّفاق عندَ أهل العلم سوى ما
استثني مما جرى فيه الخلاف.
بعضهم يقول: العبرة بأكثر وقته، فإذا كان يعيش في البر فهو بريٌّ ويأخذ حكمه، وإذا
كان يعيش في البحر فهو بحري.
وبعضهم يقول: العبرة بأي شيءٍ يأويه، فإذا كان مأواه إلى البحر فحكمه حكم حيوان
البحر، وإذا كان مأواه إلى البر فحكمه حكم حيوان البر.
والمأوى: أي المكان الذي يسكن إليه، ويتوالد فيه ويتكاثر فيه.
والحقيقة أنَّ القول بالمناط محتمل للقولين جميعًا، بأن يكون مكان توالده وإيوائه،
أو كثرة وجوده في البر أو البحر.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ إِلاَّ
اْلحَيَّةَ وَالضِّفْدَعَ وَالتِّمْسَاحَ).
يعني ما سوى الحيَّة والضفدع والتِّمساح حلال، سواء كان من الأسماك -وهذا لا إشكال
فيه- أو الحوت لأنَّه داخل في اسم الأسماك، والصَّحابة -رضي الله عنهم- لمَّا وجدوا
ذلك السَّمك الكبير الذي هو العنبر أكلوا منه وحملوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكل منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما يكون من الطُّيور التي في البحر التي لها جناحان، أو كلب البحر، أو خنزير
البحر، أو الأخطبوط، والسُّلحفاة، سرطان البحر؛ إلى غير ذلك، ما دام أنَّها تعيش في
البحر فالأصل هو حلُّها.
بعض أهل العلم جعل كل ما في البحر حلال باعتبار إطلاق الكلام في الأحاديث والآثار.
وبعضهم استثنى، ومنهم مَن ضيَّق هذا الاستثناء، ومنهم مَن وسَّعَ فيه، والمؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ- كما هو مشهور مذهب الحنابلة استثنى ثلاثة أشياء "الحيَّة والضفدع
والتِّمساح".
أمَّا الحيَّة لأنَّها مستقذرةٌ، والحقيقة أنَّ هذا فيه شيءٌ من الإشكال، فعموم
حلِّ حيوان البحر قد يُعكِّرُ هذا الكلام ويُمنَع منه، والاستقذار قد يكون في حيَّة
البر ولا يكون في حيَّة البحر، وبينهما فرق.
فربما قالوا إنَّ حيَّة البحر لا تختلف عن حيَّة البر، بخلاف الأشياء الأخرى،
كخنزير البحر فإنه يختلف عن خنير البر خِلقَةً وحقيقةً؛ فهذا سبب الاستثناء.
ومع ذلك نقول: حتى وإن اشتبهت في الأسماء، ولكن هذا صنفٌ له حالٌ وحكمٌ وحياة، وهذا
مختلفٌ تمامًا، فلو قيل بعدم الاستثناء لم يكن ذلك بعيدًا.
أمَّا الضُّفدع، فأصل في كلام الفقهاء عليه أنَّه نُهيَ عن قتله؛ لأنَّه يُسبِّح
الله، فلما سأل الطيبُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهم يتداوون به،
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ل»، ونهى عن قتله.
وعند الفقهاء قاعدتان:
الأولى: أنَّ ما نُهيَ عن قتله لا يُباح، مثل الهدهد، الضفدع، الصُّرَد، فما دام
منهي عنه فلا يحل.
الثانية: أنَّ ما أُمرَ بقتله لا يحل، مثل العقرب والفواسق كالفأرة وغيرها.
أمَّا التِّمساح ففيه تجاذب بين أهل العلم، فمن حيث الأصل فهو من حيوان البحر، وهو
داخل في حديث «الحل ميتته»، وحلُّه على سبيل الإطلاق.
لِمَ قال الحنابلة بالمنع من أكل التِّمساح؟
قالوا: لأنَّه ذا نابٍ، ويأكل بنابه، فهو كالسِّباع تأكل بنابها.
فإذا قلنا: إنَّه ذا نابٍ فهذا ظاهرٌ لا إشكال فيه، ولكن هل هو من سباع البرِّ التي
جاءت في الحديث؟ أم أنَّه داخل في أحكام البحر فيشملها الأمر بالحل؟
هذا محلُّ كلام؛ والحنابلة على الإبقاء عليها، خلافًا للشافعية وبعض الفقهاء، وإن
كان كثير من علمائنا ومشايخنا يُفتون بأنَّ التِّمساح داخل في حيوان البحر، وبناء
على ذلك يحل أكله، ويقولون إنَّ النَّاب لا حكم له بدليل أنَّه يوجد من الأسماك ما
له ناب، مثل سمك القرش وكلب البحر، فيُمكن أن يُقال إنَّ هذا ليس بمؤثِّرٍ باعتبار
أنَّه ليس في صنفها ولا هو منها، وبناء على ذلك يحل أكله، وهذا عند فقهاء
الشافعيَّة وجمع من أهل العلم.
وإذا قلنا بإباحته فيُحتاج التَّنبيه هنا إلى أنَّه من أكثر ما يستعمل، ويعتبر جلد
التِّمساح من الأشياء الفارهة الغاليَّة، فلو قلنا إنَّ جلد التِّمساح من حيوانٍ
غير مأكول -لا يجوز أكله- فمعنى ذلك أنَّه نجس، وبناء عليه لا يجوز استعماله عند من
يقول إنَّ جلد الميتة أو جلد غير مأكول اللحم لا يطهر بالدِّباغ، كما هو عند
الحنابلة.
وبناء على ذلك، فلا يصح تعاطي الجلد، كما في بعض المحافظ أو أسورة السَّاعات
-لأنَّه يكون مضادًّا للماء ولا يتأثَّرُ به-، ولا يجوز الصَّلاة فيه، ولا يجوز
شراءه.
وأما على القول بإباحته فلا يأتي عليه شيءٌ من هذه الإشكالات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اْلبَرِّيُّ فَيَحْرُمُ مِنْهُ كُلُّ ذِيْ نَابٍ
مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَاْلحُمُرُ
اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ)}.
الأصل هو حل الحيوان البري، والمحرَّم مُستثنى وهو ما تَّصف بأحد صفتين:
- إن كانَ من السِّباع.
- أو كانَ ذا مخلبٍ من الطَّيرِ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كُلُّ ذِيْ نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)، مثل: الذِّئب،
الأسد، النَّمر، الفهد، الكلب، إلى أشياء كثيرة تدخل في ذلك؛ فهذه محرَّمة؛ لأن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن كل ذي نابٍ من السِّباع.
يُستثنى من ذلك الضَّبع، فالضَّبع له ناب وهو من السِّباع التي تفترس، ولكن جاء
الدَّليل بحلِّه، وسيأتي في نهاية هذا الفصل.
أمَّا الثَّعلب فقد جرى فيه شيء من الاختلاف، فبعضهم يجعله ممَّا له نابٌ فيفترسُ،
فيمنع منه، وبعضهم يُجيزه، والأحوط تركه والبُعد عنه.
إذن؛ هذا ما يتعلَّق بما كان ذا نابٍ من السِّباع.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ).
المخلب: هو الظُّفر.
يقول الفقهاء: المقصود بـ "ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" هو الذي يأكل بمخلبه، أو
يرتزق بمخلبه، أو يعلف نفسه بمخلبه، فبعض الحيوانات لها مخلب ولكنَّها تأكل
بمنقارها، مثل الحمام ونحوه؛ فهذه ليست محل الكلام.
إذن؛ المحرَّم هو ما كان ذي مخلبٍ يأكل بمخلبه، ويرتزق بمخلبه ويعلف نفسه بمخلبه،
كالنُّسور والصُّقور ونحو ذلك؛ فهي محرَّمة.
ومثل ذلك الرَّخَم: وهي نوع من الطُّيور تتغذَّى على الحيف، ومع كونها من ذوات
المخالب فهي مما يتغذَّى على المستقذرات والمحرَّمات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَاْلحُمُرُ
اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ، وَمَا يَأْكُلُ اْلجِيَفَ مِنَ الطَّيْرِ،
كَالنُّسُوْرِ وَالرَّخَمِ، وَغُرَابِ اْلبَيْنِ وَاْلأَبْقَعِ)}.
إذن؛ الرَّخم وغراب البَينِ والأبقع؛ جعلها المؤلف من ذوات المخالب، وقد جاء النهي
عنها، ولكن هل هي ذوات مخالب -تفرس ونحوه- أو الغالب عليها أكل الجيف والمحرَّمات؟
الظَّاهر أنَّ الأصل في النهي عنها هو استقذارها وأكلها للجيف؛ ولأنَّ النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ
فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ الأبقع، وَالْحِدَأَةُ،
وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» .
الغربان كثيرة وذوات أنواع، فهل المستثنى منها الأبقع فقط وما سواه حلال؟ أو العكس؟
الذي لا يُختَلفُ فيه أنَّ غراب الزَّرع يؤكل في أكثر أهل العلم، وهو غراب صغير
أسود، ومنقاره أسود كالحمامة وفيه لمعان، فهذا لا إشكال في أنَّه يؤكل ولا يدخل في
النهي.
هل لما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المستثنيات: «وغراب البين
الأبقع» وفي بعضها «الغراب»؛ هل يُحمَل المُطلَق على المقيَّد؟ أو أنَّ كلها داخلة
في الممنوع؟
نقول: الأبقع وما ماثله من الغربان تتغذَّى على المستقذرات ونحوها، فيُمنَع منها،
إلَّا غراب الزَّرع، فهذا ينبغي أن يُتنبَّه له، وهو محل للبحث والنَّظر.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلحُمُرُ اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ).
الحُمُر الأهليَّة جاء النَّصُّ بها، فلما كان الصَّحابة في إحدى الغزوات ولحق بهم
شيء من الجوع ونحوه أوقدوا القدور على الحُمر؛ أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالقدور أن تُكفأ، فهي محرَّمةٌ، وهذا محلُّ اتِّفاق بين أهل العلم.
وأمَّا البغال فحقيقتها أنَّها متولِّدة بين ما يحل وما لا يحل، فهي متولِّدة من
نزوِّ الفحلِ من الخيل على الأتان، أو نزوِّ الحُمُر على أنثَى الفرس؛ فما يتولَّد
منهما يُسمَّى بغلًا، وهذا البغل محرَّم، لأنَّه لمَّا تولَّدَ من حلالٍ وحرامٍ
فإنَّه يُغلَّبُ فيه جانب الحرام، وبناء على ذلك يكون محرمًا ولا يجوز أكله.
يقول المؤلف: ( وَمَا يَأْكُلُ اْلجِيَفَ مِنَ الطَّيْرِ)، مثل: الحدأة والرَّخم
وما ماثلها، فهي -كما قلنا- مستقذرة، وتتعاطى الخبائث، فيتورَّع منها الإنسان.
يقول بعض الفقهاء أنَّ ما يترفَّع عنه ذوو اليسار من العرب وغيرهم، لأنَّهم
يستنكفون ويترفَّعونَ عن الأشياء القذرة، بخلاف ذوي الفاقة.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فما دام أنَّه يأكل الجيَف ويتعاطاها فيُنهى عنه، ويدخل في قوله:
﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا يَسْتَخْبِثُ مِنَ اْلحَشَرَاتِ كَاْلفَأْرِ
وَنَحْوِهَ)}.
ما يُستخبَث من الحشرات، كالفأة والصراصير وما ماثل ذلك فكلها محرَّمةٌ، لأنَّ
النُّفوس تعافها وتأنَف عنها، وهي مما تُستقذر، فداخلة في الخبائث ﴿وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾.
فتبيَّنَ معنا ما يتعلَّق بالأطعمة مِن الحيوان وغير الحيوان، من النَّبات ونحوه،
وما يتعلَّق بالأشربة وما فيها من محلَّل ومحرَّم، تخليل الخمر أو تخلُّلها، والحكم
في كل واحدٍ منها، والكلام على الحيوان البحري سواء كان حيوانًا بحريًا لا يعيش
إلَّا في الماء، أو يعيش في الماء وفي غيره، ومتى يُحكَم بهذا وبذاك، ومتى يحرُم
الحيوان البحري، وأنَّه إذا كان في الحرم، وحقيقة البحري، وما استثني من الحيوانات
البحرية وهو الضفدع والحية والتمساح على الخلاف المشتهر فيها من اقوال أهل العلم.
ثم انتقلنا إلى الحيوات البريَّة، وأصلها الحل إلَّا كل ذي ناب من السباع، وكل ذي
مخلبٍ من الطير، وما يُستخبَث من الطيور والحشرات على ما تقدَّم بيانه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، ولعلنا نلتقيَ في الدرس القادم، وأسأل الله
أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولأزواجنا
وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}