الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1890 24
الدرس السادس

عمدة الفقه (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وأنا أرحبُ بك، وأرحب بالإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله أن يزيدنا وإياكم من الخير والهُدى.
{قال الموفق ابن قدامة-رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه عمدة الفقه: (وَمَا يَسْتَخْبِثُ مِنَ اْلحَشَرَاتِ كَاْلفَأْرِ وَنَحْوِهَا، إِلاَّ اْليَرْبُوْعَ وَالضَّبَّ وَمَا عَدَا هَذَا مُبَاح، وَيُبَاحُ أَكْلُ اْلخَيْلِ وَالضَبُعِ؛ لِأَنَّه أُكِلَ على مائدة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ينظر، فقيل: يا رسول الله أحرام هو؟! قال:«ل»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا غلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والهُدى والبرِّ والتُّقى، وأن يجعلنا في خيرٍ وصلاحٍ وسلامةٍ وعافيةٍ، وأن يجنِّبنا الفتن ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يحفظ الله العباد وبلاد المسلمين، وألَّا يُحدث علينا سواء، وألَّا يُدخل علينا شر، وألَّا تعظم فينا الفُرقة، وألَّا يحدثَ في أهل الإسلام بليَّة، وألَّا تشتدَّ عليهم رزيَّة، وألَّا يتوالى عليهم سوء، أو تعظُمَ فيهم نكبةٌ ومصيبة، وأن يدفعَ البلايا والرزايا، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
أتينا في الدرس الماضي على الأطعمة وما يتعلق بما يحل منها وما يحرُم، وانتهينا في الكلام عن الحيونات البريَّة، وذكرنا ما يدخل في كل ذي النَّاب من السِّباع وذي المخلب من الطير، وما يُستقبَح ويُستقذَر، وكل ذلك قد مرَّ على شيءٍ من التَّوضيح والإسراع، وإن لم يكن بشيءٍ من التَّفصيل والتَّوقُّف.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ اْليَرْبُوْعَ وَالضَّبَّ).
اليربوع: دويبةٌ صغيرةٌ، يُمكن أن تُشمَل بالكلام على ما ذُكِر من الفأرة وما شابهها، لتساويهما في الخلقة وتقاربهما في بعض الصفات، إلى غير ذلك من الأحوال، لكن مع ذلك استثنيَت من المحرَّم وجُعلَت حلالًا، وذلك لأنَّها من الصيد عند أهل العلم، والدليل على ذلك أنَّ الصحابة قد حكموا فيمن قتل يربوعًا من المُحرمين أنَّ عليه جفرة، فدلَّ ذلك على أنَّها من الصيد المباح، وإلَّا فإنَّه لا يكون في غير الصيد المباح فديةٌ، فلا يُطلب لها فداء ومقابل إلَّا ما كان من الصيد، فدلَّ على أنَّه حلال، وهذا قول أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الضَّب، وإن كان في شكلها دويبةٌ فيها شيءٌ مما تنفر منه الطِّباع ولا تستلطفه عادات النَّاس، لكنَّه مألوفٌ عندَ أهله، فدلَّ الدليل على إباحته، ولذلك جيء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بضبٍّ فلم يأكل منه، فقال له الصحابة: أحرامٌ هو؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» .
إذن؛ دلَّ هذا الحديث على أنَّ الضبَّ حلال وليس بحرام، ولكن قد تعافه بعض النفوس، وقد تترفع منه نفوس من لم يألفه، فلا غضاضة عليه في ذلك، لكن ليس في هذا دليلًا على أنَّه ممنوع أو محرَّم، وأنَّه مما لا يجوز تعاطيه؛، لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرَّ أصحابه على ذلك، ونفى أن يكون محرَّمًا كما في الحديث الذي في الصَّحيحين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا عَدَا هَذَا مُبَاح)}.
الأصل هو إباحة الطيور كالحمام بأنواعه، والعصافير ما كبر منها وما صغر، والببغاء، كل هذا الأصل فيه أنه مُباح، ومثل هذا الحيونات من الغزلان وحُمُر الوحش؛لأنَّها ليست حُمر أهليَّة، فهناك قيَّدها بالحُمُر الأهليَّة، فيبقى أنَّ الحُمُر الوحشي حلال، وهي تشابهها في الجُرم، لكنها تختلف عنها في التَّخطيط وغيره، فليست بحرام، وجاء الدَّليل في حديث الصعب ابن جثَّامة وغيره الأكل منها وتعاطيها.
كذلك ما يكون من الوعل والمها والجواميس البريَّة وغيرها؛ فكل ذلك حلال.
وثَمَّ بعض ما يكون فيه محلًّا للكلام، مثلما قلنا في الثَّعلب، أو النيص، فبعضها جرى فيه شيءٌ من الخلاف، لكن ما دام أن الكلام يصعب أن يؤتى فيه بالتفاصيل في كل المسائل، لكن حسبُ طالب العلم أن يعرف أمهات المسائل في هذا الباب وما يحتاج الناس إلى تعاطيه كثيرًا، فيكون الحكم فيه واضح والتَّأصيل فيه بيِّن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُبَاحُ أَكْلُ اْلخَيْلِ وَالضَبُعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَذِنَ فِيْ لُحُوْمِ اْلخَيْلِ، وَسَمَّى الضَّبُعَ صَيْدً)}.
إباحة أكل الخيل جاءت في حديث أسماء لمَّا قالت: "نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ" ، فهذا دالٌّ على أنَّ الخيل ممَّا يجوز أكل لحمها وشربُ لبنها، وكل شيءٍ من أجزائها.
وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أذن في أكل الضَّبع، كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ:إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمَّاه صيدًا، وأهل العلم يجعلون فيمَن صادَ ضبعًا جزاءً، فدلَّ على أنَّه صيدٌ حلال، وكما قلنا: إنَّه من حيث الواقع فيه مُشابهة لذي النَّابِ من السِّباع لكونه ذا نابٍ ويفرِس الحيونات ونحوها، لكنَّه ممَّا استُثني بنصِّ حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن أمَّة الاتِّباع والاهتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ الذَّكاَةِ.
يُبَاحُ كَلُّ مَا فِيْ اْلبَحْرِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيْ اْلبَحْرِ:«اْلحِلُّ مَيْتَتُهُ»)
}.
الذَّكاة والتَّذكيَّة: هو ما يكون من ذبح الحيوان وإراقة دمه وإزهاق روحه.
فهذا الباب في الذَّكاة التي يحصل بها حلُّ الحيوانِ وجوازه، وكون الحيوان حلال لا يعني أنه كيفما مات فإنه يجوز تعاطيه، ولكن ذلك مقيَّدٌ بقيود أن يُذكَّى.
بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بما لا تشترط فيه الذَّكاة، بمعنى أنَّه يُباح كيفما مات، فهذا مخصوص بالحيوان البحري، فإنَّه يُباح بغير ذكاة؛لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فحكم بأنها ميتة، والميِّت ما مات حتف أنفه بأي وجهٍ كان، سواء قذفه البحر أو طفى عليه أو غير ذلك، فكله داخلٌ في ميتة البحر فيكون جائزًا، ويدلُّ لذلك قصَّة الصحابة في حوت العنبر الذي أكلوا منه وأطعموا منه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما كان من حيوانات البحر التي تسكن في البر، أو تنتقل بين البحر والبر وهي مما يحل، مثل: السلحفاة؛ فهل تشترط فيها الذَّكاة أو لا؟
هذا راجع إلى مسألة تنازعهما على أصلين، فلا إشكال في كونه حلالًا، لكن هل تشترط فيه الذَّكاة؟
ما دام أنَّه يُنسب إلى البر كما يُنسَب إلى البحر، وحيوان البر يُشترط فيه الذكاة، والمخصوص مُقدَّمٌ على غير، وهذا من باب الاحتياط، فنقول: تشترط فيه الذكاة، فلابدَّ من تذكية السلحفاة كلب البحر ونحو ذلك، لإمكان هذا، ولأنه يعيش في البر والبحر.
أمَّا سرطان البحر يجوز بغير تذكية؛لأنه من حيوان البحر، ولأنه لا يُمكن تذكيته، لأن حقيقة التذكية إخراج الدم، وهذا الدم المسفوح يكون فيه إزهاق للروج وخروج فساده الذي قد يضر بالبدن، لكن سرطان البحر لا دم فيه سائل، فلأجل ذلك لما سُئل أحمد عن ذلك وسُئل غيره من أهل العلم؛ قالوا: إنَّه من حيوان البحر، ولا يُحتاج فيه إلى تذكية.
فهذا ما يتعلق بحيوان البحر، وأنَّه لا تذكية فيه سوى ما يكون من حيوان البحر الذي يأوي إلى البرِّ فيبعض أحواله فيكون فيه التذكية مثلما قلنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ مَا يَعِيْشُ فِيْ اْلبَرِّ، فَلاَ يُبَاحُ حَتَّى يُذَكَّى، إِلاَّ السَّرَطَانَ وَنَحْوَهُ)}.
تشترط التذكية في حيوان البحر الذي يعيش في البر مثلما قلنا، اعتبارًا بأنها ممكنة وعلى سبيل الاحتياط.
عرفنا السَّرطان وحكمه، ما معنى قول المؤلف (وَنَحْوَهُ)؟
يعني ما شابهه في الخلقة مما لا نفس له سائلة، فيكون حكمه حكم سرطان البحر في أنه لا يلزم فيه تذكية، وإن كان مما يعيش في البر والبحر على حالٍ سواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ اْلبَرِّيِّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، إِلاَّ اْلجَرَادَ وَشِبْهَهُ)}.
الحيوان البرِّي كلُّه لا يُباح إلَّا بالتَّذكيَّة، وستأتي كيفية التذكية وما يشترط فيها وتفاصيل الكلام عليها، فلابدَّ من ذبحه وتذكيته، وإلَّا لا يجوز ولا يحل أكله، فلو مات حيوانٌ برِّي، كأن وجدنا خيلًا ميتًا أو غزالًا قد ذهبت روحها أو شاة افتُللت نفسها؛ فلا تحل، لأنَّه وإن كان من حيوان البر، وإن كان في أصله حلال؛ إلَّا أنَّه لمَّا مات بدون ما تذكية فإنَّه لا يحل ولا يجوز، وهذا محل اتفاق وإجماع بينَ أهل العلم.
قال: (إِلاَّ اْلجَرَادَ وَشِبْهَهُ).
جاء في الحديث: «أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ، فأمَّا الميتَتانِ، فالحوتُ والجرادُ، وأمَّا الدَّمانِ، فالكبِدُ والطِّحالُ» ، فدلَّ ذلك على أنَّ الجراد لا تلزم فيه التذكية، سواء مات بسببٍ أو بغير سبب، فإذا مات بسببٍ كأن يدركه الإنسان فيجمعه، فهنا قصد موته فيكونكالذَّكاة له، أمَّا لو وجدنا جرادًا ميتًا، فبعضهم يقول بحرمته.
وإطلاق المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- كما هو قول جمهور أهل العلم أنه يجوز أكل الجراد سواء كان موته بسبب أو بغير سبب، ما دام أنَّه جرادٌ وقد مات، فميتته حلال بأي وجهٍ كان.
ومثل الجراد: الطوائر الصَّغيرة التي تشابهه وتدخل في حكمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالذَّكَاةُ تَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:نَحْرٍ، وَذَبْحٍ، وَعَقْرٍ)}.
حقيقة الذَّكاة: إراقةُ الدَّم، ويكون ذلك بثلاثة طرق:
• إما نحرٌ.
• وإما ذبحٌ.
• وإمَّا عقرٌ.
الذبح: هو أن تُمرَّ السِّكين على رقبةِ الذبيحة حتى تقطع الحلقوم والمريء والدجين، وستأتي تفاصيل ما يحصل به الذبح الشرعي.
النَّحر: هو أن تُغرِس السِّكين وما شابهها ثم تُحرَّك حتى يُنهَر الدم وتُقطَع الأوداج والحلقوم والمريء، فتحصل الذَّكاة.
والعقر: يكون فيما تعذَّر ذبحه ونحره من الصيد، أو ما شابه الصيد بما ندَّ من بهيمة الأنعام ونحوه، فإنَّه إذا عُقر كيفما أُنهِرَ الدَّم فيه بسهمٍ في بطنه أو في صدره أو في رأسه أو في رقبته فخرج دمٌ منه؛ فإنَّه يكون حلالًا. وسيأتي الكلام على ذلك.

والنحر في الغالب يكون للإبل، والذبح يكون للبقر والدجاج والأرانب وأكثر الحيونات، ويُمكن نحرُ ما يُذبَح وذبحُ ما يُنحر، فلو أنَّه ذبح الإبل، فمرَّ السِّكين على رقبتها بدون أن يغرسها فيه لكان ذلك جائزًا، ولا شكَّ أنَّ النَّحر للإبل أسهل بكثير، وللنَّاحر إذا كان مُجيدًا ومُعتادًا أن ينحر ثلاثسن وعشرين في عشر دقائق، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه لمَّا أهدى مائة من الإبل نحر ثلاثًا وستين بيده، فبعض الناس يتعجب كيف ينحر ثلاثًا وستين!
نقول: المتمرِّس يسهل عليه ذلك، ويُمكن ألَّا تأخذ خمسة عشر دقيقة، فبمجرد أن يغرس السكين في أصل عنقها فوق الوهدة وتحت العُنُق يتحقق النحر.
الوهدة: شحمةٌ متدليةٌ في أسفل رقبة البعير.
إذن؛ هذا هو النَّحر، وهذا هو الذبح، وهذا هو العقر، وسيأتي الكلام على تفاصيل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسْتَحَبُّ نَحْرُ اْلإِبِلِ، وَذَبْحُ مَا سِوَاهَ)}.
هذا فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذبح كبشين أقرنين، ونحر الإبل، فدلَّ على أنَّ النحر في الإبلِ مُستحبٌّ، وأنَّ الذبح فيما سواه مُستحب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ نَحَرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ، فَجَائِزٌ)}.
يعني: إن نحرَ شاةً أو بقرةً، أو ذبح بعيرًا ونحو ذلك؛ فكلُّه جائزٌ؛لأنَّه يحصل به الذَّكاة التي هي قطع المريء والحلقوم والأوداج على ما سيأتي تفاصيله في اعتبار الأربعة أو دونها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ كُلِّهَا ثَلاَثَةُ شُرُوْطٍ)}.
الزَّكاة لها شروط، فليست الذَكاة كيفما حصلت أجزأت؛ بل لابدَّ أن تكون هذه الشروط متوافرة، سواء كان في الآلة أو كان ذلك في الذَّابح والمذكي، أو من ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- وسيأتي تفاصيل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهَا: أَهْلِيَّةُ الْمُذَكِّيْ، وَهُوَ أَنْ يَكُوْنَ عَاقِلًا، قَادِرًا عَلى الذَّبْحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّ)}.
يعني: أن يكون المذكي أهلًا للتذكية، بأن يكون عاقلًا مُسلمًا أو كتابيًّا، فلو كان غير عاقل بأن يكون مجنونًا أو دون التَّمييز فلا تصح ذبيحته؛لأنَّه لابدَّ في الذبح والتذكية من قصدٍ، وغير الأهلٍ لا قصدَ له، ولا تصح منهم القصود، كالمجانين ومَن في حكمهم، ومَن دون سنِّ التَّمييز، أمَّا لو كان غيرَ بالغٍ لكنَّه مميز يعقل معنى الذَّبح ويقصده ويتوجَّه إليه ويُسمِّي فتصح.
ومثل ذلك: لو كانت امرأة فيصح منها التذكية؛لأنها أهل للتذكية، أمَّا الصغير غير العاقل أو المجنون ونحوه فإنه لا يكون منهم قصدٌ، فلذلك لو أنَّ مجنونًاأتى على شاة من الشياه في حظيرة أهلها فقطعَ رأسها فلا يحل أكلها؛لأنَّ التذكية هذه ليست من أهلٍ لها، وبناء على ذلك تعتبر كأنَّها ميتة، كما لو ذكر غير الكتابي كالوثني والمجوسي، فتذكيتهم ليست معتبرة.
قال: (قَادِرًا عَلى الذَّبْحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّ).
تصح تذكية الكتابي وذبيحته، كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه:﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾[المائدة: 5]، فهذا محل إجماع واتِّفاقٍ بينَ أهل العلم، وسواء علمنا أنَّه ذكر اسم الله أو لم نعلم شيئًا، فلمَّا سألت عائشة وقالت للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا" فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ» ، فما دام أنَّه كتابي فتحل ذبيحته.
ولا إشكال في ذبيحة الكتابي من حيث الأصل، ولكن فيها إشكال كبيرٌ من حيثُ الواقع، والإشكال فيها من حيث الواقع له جهتان، إحداهما أخفُّ من الأخرى، وهما:
أولًا: أن يُقال إنَّ أكثر أهل الكتاب الآن ليسوا بكتابيين ولا مُتمسكين بكتابهم.
فنقول: إنَّ الله لم يأمرنا بهذا، ولمَّا نزل حلُّ ذبائح أهل الكتاب كان أهل الكتاب قد بدَّلوا فجعلوا الله ثالث ثلاثة، وحكاها الله عنهم في كتابه، ومع ذلك أجاز ذبيحتهم، فلا نحكم بأنَّهم لم يتمسَّكوا أو لم يؤدُّوا حقائق دينهم، أو تديَّنوا أو لم يتديَّنوا أو زادوا أو نقصوا.
لكن إذا قيل إنَّهم إذا انتقلوا من الكتابيَّة إلى ملَّةٍ أخرى.
نقول: الأصل أنهم كتابيون، وإذا كانوا يقولون إنهم نصارى أو أهل كتاب؛ فلا نبحث عن اعتقاداتهم، إلَّا أن يأتينا شخصٌ فيقول: إنَّه لا يؤمن لا بإلهٍ ولا برسالة، فهذا لا تجوز ذبيحته، وأمَّا ما دام أن هذه بلدهم، وأنهم أهل كتاب، وكلهم ينتسبون إلى ذلك، ويعظمون الصليب ونحوه؛ فهم أهل كتاب. فهذا الأمر أخف.
ثانيًا: ما يتعلق بحصول التذكية منهم، يعني تجدَّدت عندهم طرائق سواء كان مبدؤها بعض النَّظريات أو كان التساهل والصنعة في كونهم لا يذبحون، وإنَّما يتَّخذون الطَّرائق الحديثة بالصعق الكهربائي، أو الضَّرب على الرأس ونحوه؛ فهذا في الحقيقة مُشكل، خاصَّة أنه شائع عندهم كثير.
الصعق الكهربائي أيسر من الضَّرب على الرأس؛لأن الغالب أنَّ الصعق الكهربائي لا يقتل، وإنَّما حقيقته أنَّه يُخدِّر ويُذهب حركتها فيكون أسهل في قطع رأسها، قد يموت بعضها لكن نسبتها قليلة لا تتجاوز (4 % أو 5 %) في بعض الأحوال، ولا نستطيع أن نقطع بذلك؛لأنها مصانع كثيرة، فحتى لو وقفنا على مصنع تكون هذه حاله، فلا نستطيع أن نحكم على المصنع الثاني، لأن درجة الصعق وطريقته لا تُعرَف.
فيعود الأمر أنَّه مترددٌ بينَ الأصل في كونهم أهل كتاب وحل ذبائحهم، وبين الغالب أنَّهم يصنعون بها غير الذبح أو التذكية؛ فيتعارض هذا الأصلانِ.
وهذه مسألة يُصبح عليها ويُمسي كثيرٌ من الناس، خاصَّة من الذين تعرَّضوا للإقامة في بلدانهم، أو الذهاب إليهم ولو في بعض الأوقات، فمن أهل العلم مَن شدَّدَ في ذلك، ومن أهل تلك البلاد مَن تتبَّع مثل هذه الأحوال فقطعَ بأنَّهم لا يذبحون وأنَّ ذبائحهم لا تحل، وأنَّ عندهم قوانين في الرفق بالحيوان تحملهم على شيءٍ من التأكيد على الصَّعق وما يتعلَّق به.
ومنهم مَن يقول: إنَّ الأمر باقٍ على ما كان، وإنَّ الأصل هو حلُّ ذبائحهم، وبناء على ذلك لا يسعنا أن نُضيِّق في هذا الأمر، وهذا محتمل، فمن كان له تورُّعٌ وتحفُّظٌ ؟أو توقِّي لِمَا قد يحصل به شُبهة أو نحوه، أو ظهر عنه بخصوصه أمرٍ معيَّنٍ أنَّه لا يحصل تذكية؛ فعند ذلك نقطع، ولكن ما سوى ذلك فقول مَن قال بالمنع له وجاهة، وقول مَن قال باعتبار الأصلِ ظاهرٌ وسابقٌ ومستصحب للأصل القوي المتين.
والحقيقة لو طُلبَ ممَّن يعيش هناك أن يتوقُّون فهو جيد، وهذا موجود، ولكن المشكلة أنَّ مثل هذه المسائل آلت إلى كونها صارت تجارة، وليست توسعةً على أهل الإسلام، فصار هؤلاء يقولون: إنَّ هؤلاء يذبحون وهؤلاء لا يذبحون؛ وكلُّ هذا مقصده أن يُشتَرَى من هذا ولا يُشتَرى من هذا، وأن يُنفَع هذا ولا يُنفع هذا، وقد يتبع ذلك من التَّربُّص بأشخاص، أو إرادة نفع أشخاص، إلى أشياء كثيرة ينبغي لأهل الإسلام أن يتوقوا ذلك، وأن يرجعوا إلى ما يكون فيه سَعةٌ لهم ولإخوانهم، وألَّا يتربَّصوا بهم.
ونسأل الله أن لا يُدخل علينا حرامًا، وألَّا يؤكلنا شيئًا مشبوهًا.
وهذا ما يتعلق بالذبائح، والكلام فيه كما قلتُ.
ولو رجعنا قليلًا إلى ما ذكرنا في الأطعمة؛ أيضًا وُجدَ الآن كثير من الأطعمة التي يُداخلها شيءٌ من الممنوع أو الحرام، فثَمَّ جهود مشكورة من بعض الجهات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة من الجهات الدَّاعمة ونحوها في تتبُّع مثل هذه الأشياء وتبينها للناس، فعلى كل حال ينبغي للإنسان أن يتوقى لنفسه، وأن يتتبع مَا يكون به سلامة دينه، وألَّا يواقع أمرًا محرَّمًا، وألَّا يتعاطى شيئًا ممنوع منه شرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُوْنُ وَالسَّكْرَانُ وَاْلكَافِرُ الَّذِيْ لَيْسَ بِكِتَابِيٍّ فَلاَ تَحِلُّ ذَبِيْحَتُهُ)}.
الطفل مَن دون سن التمييز، وعبر المؤلف بـ "الطفل" لإرادة الإشارة إلى ذلك، ومثل هذا المجنون، والسَّكران لو ذبح حال سُكرِه قبل إفاقته فلا قصد له، ومَن لا قصدَ له فلا تصح تذكيته.
والكافر الذي ليس بكتابي سواء كان وثنيًّا أو مجوسيًّا أو غيره.
مَن كان من أمٍّ كتابيَّة أو أبٍ وثني أو العكس:
- منهم من يقول: إنه يُغلَّبُ فيه، فلا تحلُّ ذبيحته.
- ومنهم من يُفصِّلُ في ذلك، فيقول: إذا كان أبوه كتابه فيختلفون فيه، دون مَن كانت أمه كتابيَّة.
وفي هذا تفصيل، وينبغي أن يُتوقَّى مَن لا يكن كتابيَّ الأبوين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: أَنْ يَذْكُرَ اللهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ، إِنْ كَانَ نَاطِقًا أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ، إِنْ كَانَ نَاطِقًا، وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، أَشَارَ إِلى السَّمَاءِ)}.
الشرط الثاني: أن يذكر اسم الله عليه، قال تعالى:﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَ﴾[الحج: 36].
وهذا شرطٌ معتبرٌ، فلا يجوز أن يؤكَل شيءٌ لم يُذكر اسم الله-جَلَّ وَعَلَا- عليه، لما جاء في الدَّلائل، ودلَّت عليه النُّصوص من الكتاب ومن السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ» ، فأُمر بذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- على الذبائح؛لأنها محالٌّ للتَّعبُّد والتَّعظيم لله -جَلَّ وَعَلَا- وكان أهل الكفر والإشراكِ يريقون الدَّم تقرُّبًا إلى معبوداتهم من الأصنام وغيرها، فلما كان أهل الإسلام يتديَّنونَ لله ويعبدون الله ويستعينون بالله ويتقرَّبون إلى الله، فإنَّهم لا يذبحون ولا ينحرون إلَّا مظهرين العبادة لله، والتَّوجُّه له -سبحانه وتعالى- ولذلك قالوا: إنَّ ذكر اسم الله على الذبح واجب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وقول جمع من الفقهاء، وهو أنَّ قصد الله -جَلَّ وَعَلَا- ومنع التَّعبُّدات الشِّركيَّة من أصل أهل الإسلام، وأنَّ ذكر اسم الله مقصودٌ وواجبٌ، فبعض فقهاء الشَّافيَّة يقولون إنَّ التسمية مستحبَّة، لأنَّ الممنوع فقط هو أن يُقصَد غير وجه الله -جَلَّ وَعَلَا- ويحملون الآية على ذلك.
ونقول: إنَّ الأولى والأحوط أن يُعتَبر الأمران جميعًا، أنَّ التَّقرُّبَ إلى الله، وأنَّ التَّوجُّه إلى الله-جَلَّ وَعَلَا-، وأنَّه لا تكون ذبيحة إلا بذكر اسم الله -سبحانه وتعالى.
وسيكون الكلام في ترك التسمية سهوًا ونسيانًا في المسألة التي بعدها.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (عِنْدَ الذَّبْحِ)، يعني: إرادة الذَّبح، فإذا قال: "بسم الله" فكأنَّه يستعينُ باسم الله أو يستصحب ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- على هذه الذَّبيحة التي ذبحها وأراق دمها لله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ إِنْ كَانَ نَاطِقً).
متى يكون وقت التَّسمية؟
في الذبح ظاهر باعتبار أنَّ الذبح يكاد أن يُقارن التَّسمية ويتَّفقان، ولكن بالنِّسبةِ للصَّيد ثَمَّ وقتٌ طويلٌ بينَ الإرسال وبينَ الإصابة، فإذا أرسل سهمًا، وأصعب منه إذا أرسل كلبًا؛ فقد يرسله ويبقى ساعة أو ساعتين يطارده ويُلاحقه حتى يُرديه، فمحل التَّسمية هنا عندَ الإرسال، فلو أرسلَه ثمَّ سمَّى لم يُجدِ ذلك عليه؛لأنَّ فعل الإنسان هو الإرسال، والإرسال هنا كالذَّبح، فلابدَّ عند إمرار السِّكين أن يكون الإنسان قد سمَّى، فكذلك عند إرسال الكلب لابدَّ من الذِّكر، ولذلك جاء في الحديث: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» ، فجعل إناطة التَّسمية عند الإرسال لا عند الإصابة.
ومن دقَّة الفقهاء -وهذا ليس تكلُّفًا، فهم يريدون أن يُبينوا ويُحقِّقوا أن تفهم حقيقة هذه المسألة وأن تُحسن التَّصرُّف فيها- يقولون: لو أنَّه سمَّى حين إرسال الكلب ثم ارتدَّ فأصاب الكلبُ الصيدَ فالصيد صيدُ مسلمٍ، وبناء عليه يكون حلالًا؛لأنَّه سمَّى عند الإرسال وهو أهلٌ للتسمية، وردَّته بعدَ ذلك ردَّة بعد أن صيدَ الصَّيد.
قال: (وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، أَشَارَ إِلى السَّمَاءِ)، يعني: أنَّ إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فإشارة إلى السَّماء إشارة إلى ذكر اسم الله-جَلَّ وَعَلَا.
لماذا يقولون بالإشارة إلى السَّماء؟
هذا بالنِّسبة للحكم لنا؛لأننا لا نُمايزُ بينَ إشاراته إلَّا إشارة ظاهرة التي نعرف بها أنَّه قصدَ وجه الله، وقصده لوجه الله بأن يقصد السَّماء، فدلَّ هذا على أنَّ تسمية الأخرس تكون بالإشارة إلى السّماء، لأنَّه هي الإشارة المتمحِّضة بالنسبة لذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَّةَ عَلى الذَّبِيْحَةِ عَامِدًا لَمْ تَحِلَّ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا حَلَّتْ)}.
هذا إشارة إلى حكم التَّسمية، وكما قلنا: إنَّ المشهور من المذهب عندَ الحنابلة وهو قول جمهور العلماء على أنَّ التَّسمية واجبة، وهذا لدلائل الآيات -كما قلنا قبل قليل- ونصَّ على ذلك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلَّ على اعتبار التسمية وأنها واجبة.
ولو أنَّه تركها عامدًا لم تحل ذبيحته؛لأنَّ مَن تعمَّدَ ترك الواجب فكأنَّما قصدَ المحرَّمَ فلم تحل الذَّبيحة في مثل هذه الحال.
قال: (وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا حَلَّتْ)، لعموم رفع الحرج عن الناسي والساهي، قال تعالى:﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأن﴾[البقرة: 286]، فهذا من رفع المؤاخذة.
وكما قال النَّاظم -رَحِمَهُ اللهُ:
والخطأ والإكراه والنسيان ** أسقطه معبونا الرحمن
وهذا القول وسطٌ بينَ قولين، فمن أهل العلم مَن يعتبر التَّسمية مستحبة على الإطلاق، فلو تعمَّد التَّركَ حلَّت، ومنهم مَن يجعلها معتبرة وشرط، فلا تحلُّ مع السَّهوِ، فمَن سها لم تحل ذبيحته، والحنابلة وسطٌ بين هذين القولين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَرَكَهَا عَلى الصَّيْدِ، لَمْ يَحِلَّ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوً)}.
إذا كان قد تركها عمدًا فلا تحل، وهذا لا إشكال فيه؛لأنَّ تارك التَّسمية عمدًا تقصَّدَ ترك الواجب، فيكون قد فعل ما لا يحل له.
لِمَ فَرَق ابن قدامة وغيره من فقهاء الحنابلة بين الصيد وبين غيره؟
قالوا: إنَّ الصيد على خلاف الأصل، فالأصل أنَّ الذبيحة تحل بالذبح والتذكية، وهذا لم يُذبَح، فجاز بقيدٍ وهو الإرسال بالآلة ونحوها -على ما سيأتي من الشُّروط الستَّة- وكذلك التسمية، والقاعدة عند الفقهاء: ما جاء مُستثنًى فإنَّه يُعتبَر بقيوده، ولا يُتساهل فيها، وبناء عليه قالوا: لو سها في الصيد فلا يحل صيده. وهذا هو مشهور المذهب، وإن كان بعضهم يقول: إنَّ الحكم في الصيد كالحكم في الذبيحة، أنَّه إذا سها في التَّسمية حلَّت، وهذا محتملٌ وفيه رفعٌ للحرج، خاصَّة أنَّ كثيرًا ممَّن يتتبَّعون الصيد ينشغلون إبَّانَ الصَّيدِ بتتبُّعه، ويغفلون في غالب الأحوال عن التسمية عند إرسال الكلب أو غيره مما يصيدون به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: أَنْ يَذَكِّيَ بِمُحَدَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيْدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِلاَّ السِّنَّ وَالظُفْرَ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ»)}.
الشرط الثالث من شروط التذكية: أن يذكي بمحدَّدٍ.
وضدُّ المُحدَّد: المثقَّل، وهو الذي يضربُ الشيءَ بثقله، مثل الحجر.
أمَّا المُحدَّدُ: فهو الذي ينفُذُ فيقطع الجلد ويخرق اللحم ويُخرج الدم.
ولابدَّ أن تكون التذكية بمحدَّدٍ، وقول المؤلف (بِمُحَدَّدٍ)، يعني لا حدَّ لذلك من جهةِ ما يحصل به، سواء سكِّين أو سيف، أو خنجر، أو حديدة، أو حجرًا فيه حافَّة محدَّدة تشقُّ الجلد وتُخرج الدَّم، أو قَصَب؛ فما دام أنها لم تضرب الشَّيءَ بالثِّقَل فيحل استخدامها، فلو أنَّ شخصًا أتى بحديدةٍ فضرب الشَّاةَ في رقبتها فلم يخرج من ذلك دمٌ، وإن كان المذكي أهلًا وذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- فلا تحل، لأنَّه ضربها بالثِّقَل ولم يُنهر الدم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»، ولا يحصل إنهارُ الدَّمِ إلَّا بالمحدَّدِ الذي له نفاذ ومورٌ في البدنِ، ولذلك قال المؤلف (أَنْ يَذَكِّيَ بِمُحَدَّدٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيْدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِهِ).
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ السِّنَّ وَالظُفْرَ).
السِّنُّ جاء استثناؤه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي بعض الروايات «لَيْسَ العَظم وَالظُّفْرَ»، هل العظم هو من العام الذي قُصد به الخصوص؟ أو ذكر "السن" ذكر الشيء وإرادةُ بعض أجزاء ألفاظه؟
الظاهر عند افلقهاء أنَّ المقصود هو السِّن، وبناء على ذلك فما سوى هذا من العظام ونحوها لو كان محدَّدًا فقطع به فانهر الدَّم فإنَّه يكون جائزًا.
أمَّا الظُّفر فإنَّه منهيٌّ عنه لِمَا جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا تكون به تذكيةٌ لو ذكَّى به شخصٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْتَبَرُ فِيْ الصَّيْدِ أَنْ يَصِيْدَ بِمُحَدَّدٍ أَوْ يُرْسِلَ جَارِحًا يَجْرَحُ الصَّيْدَ)}.
انتقل المؤلف الآن إلى النوع الثالث وهو العقر، فقد ذكر الذبح والنحر وذكر شروطهما، ثم انتقل إلى بعد ذلك إلى الصيد الذي يُصادُ بالعقر.
العقر: هو الشيء الذي ذهب فيُعقَر فيُمسَك.
يقول المؤلف: (وَيُعْتَبَرُ فِيْ الصَّيْدِ أَنْ يَصِيْدَ بِمُحَدَّدٍ)، فلو أنَّه صاده بشيءٍ سوى المحدَّدِ كمثقَّلٍ وغيره فلا، ومثل ذلك لو أنه جعل له مصيدة كحفرةٍ ونحوها، فسقط الصيد ومات، فليس بصيدٍ جائز، لأنَّ التذكية ليست بمتحققةٍ في هذا، ولابدَّ في الصيدِ أن يكون معقورًا بأن يُضرَب في جزءٍ من أجزاء بدنه حتى يُنهر الدم، وسيأتي في الفصل الآخر الفرق بين العقر والذبح، وفي شروط الذبح والنحر.
إذن نقول: لو أنَّه صادَه بوقوعه في حفرةٍ أو نجوها فمات فلا، ومثل ذلك لو أنَّه صاده في حفرةٍ ثم بقي مدَّةً طويلة حتى مات عطشًا أو جوعًا فليس بمصيدٍ مأكول، ولا يجوز تعاطيه، ويُعتبر مما مات حتف أنفه، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾[المائدة: 3]، فهو داخلٌ فيها فيكون من المحرم.
قال: (أَوْ يُرْسِلَ جَارِحًا يَجْرَحُ الصَّيْدَ)، سواء كان كلبًا أو نمرًا أو فهدًا أو صقرًا، أو ممَّا يُصادُ به، وهذا لا إشكال في حلِّ الصيد به.
إذن؛ الشروط:
الأول: أن يكون بمحدَّدٍ، مثل أن يُرسلَ سهمًا، أو يخطف بينَ يديه فيضربه بسيفٍ، فإذا ضربه بهذا السيف أو طعنه فأنهر الدم فإذنه يحصل به المقصود.
الثاني: أو يُرسل جارحًا.
ما حكم الصيد بالرَّصاص أو البنادق؟
لمَّا وُجدت هذه الآلات اختلف الفقهاء فيها:
• فبعضهم يقول: إنه يأخذ حكم المحدد باعتبار أنه ينفذ في البدن.
• وبعضهم يقول: يختلف، فإن كان ممَّا له حد في رأسه ونحوه؛ فيكون من المحدد الذي يجوز الصيد به، وإلَّا فلا.
فينبغي توقيًا وتكميلًا لمن يصيد بمثل هذه البنادق أن يتَّخذ ما يكون فيه رأسٌ محدَّدٌ يُنهر الدم ويُسيله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِحَجَرٍ، أَوْ بُنْدُقٍ أَوْ شَبَكَة، أَوْ قَتَلَ اْلجَارِحُ الصَّيْدَ بِصَدْمَتِهِ أَوْ خَنْقِهِ أَوْ رَوْعَتِهِ، لَمْ يَحِلَّ)}.
قوله (فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِحَجَرٍ)، كأن يرمي عليه حجر فتدهد فمات، فإذا لم يخرج منه نقطة دمٍ، أو بزغ جلده لكن لم يكن نفاذ في بدنه؛ فلا تحل في مثل هذه الحال.
قال: (أَوْ بُنْدُقٍ)، مثلما قلنا، إن كانت تنفذ في البدن فلا إشكال إذا أراقت الدم، وتكون مما يحل، ولكن لو أنَّ هذه البندق تصيب الشيءَ بقوَّتها مثل بعض المدافع أو نحوها، أو مثل ما يصيد به الناس أحيانًا من الآلات التي يصنعونها من المطَّاط ويجعلون فيها حجرًا فتضرب العصفور فتسقطه دون أن يجرحه أو يخرج منه دم؛ فلا تحل.
قال: (أَوْ شَبَكَة)، فلو جعلوا شباكًا ثم اصطادت ومات الصيدُ كما يحصل كثيرًا؛ فهذه لا تحل، لكن لو أنَّهم أدركوها حيَّةً ثم ذبحوها فلا إشكال.
كما أنَّه يجبُ أن يُتنبَّه إلى أنَّ الصيدَ إذا صيد وفيه حياةٌ فلابدَّ أن يُذبَح ويُذكَّى، فإذا لم يُذكَّى فإنَّه يكون ميتة.
إذن الصيد إنَّما هو تذكيةٌ على سبيل البدل إذا تعذَّر الأصل، فالأصل هو النَّحر والذَّبح، فإذ تعذَّر جاز العقرُ، فلو أنَّه عقره فبقيت فيه حياة فلابدَّ من التذكية في مثل تلك الحال.
قال: (أَوْ قَتَلَ اْلجَارِحُ الصَّيْدَ بِصَدْمَتِهِ أَوْ خَنْقِهِ أَوْ رَوْعَتِهِ، لَمْ يَحِلَّ)، يعني لو أنَّ هذا الجارح الذي أرسله -كالصَّقر ونحو- وصل إلى الحمامة -مثلًا- فضربها بقوَّة حتى اصطدمت بجبل أو بحجر فماتت؛ فإنَّ هذا لم يُصَد صيدًا يُحلُّ أكله، ولم تتأتَّى فيه التَّذكية التي هي العقرُ عند الفقهاء.
إمَّا إذا غرس مخلبه فيها فإنَّها صيد صحيح جائزٌ مشروعٌ.
وقوله:(أَوْ رَوْعَتِهِ)، بعض الجوارح تُريعُ الفريسة فتموت جزعًا، فلو حصل على هذا النَّحو فإنَّ ذلك ليس بحلال، لأنَّه لم يكن منه عقرٌ، والعقر هو ما ينفذُ في البدن فيكون منه إزهاقٌ لرُّوح وخروجٍ للدَّم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ، أَكَلَ مَا قُتِلَ بِحَدِّهِ دُوْنَ مَا قُتِلَ بِعَرْضِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ)، كأن يُضرَب بعرضها، فإذا ضُرب بعرضها فحينئذٍ لم ينفذ في البدن، ولم يكن إزهاقٌ للروح وإخراجٌ للدم، فبناء على ذلك لا تحل.
أمَّا لو أنَّ هذا المعراض أصابَ برأسه فرأسه محدَّدٌ، فبناء على ذلك ما دام أنَّه أزهق الدَّم وخرج، فيحل، فكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أرادَ أن يحرر هذه المسألة، فيبين أنَّ المقصود ليس حقيقة هذه الآلة، ولكن كيفية الإصابة، ولذلك فإنَّ المعراض الذي من عادته أن يُصيب بالثِّقل لو أنَّه أصاب بالحدِّ فجرحَ فإنَّه يحل، بخلاف ما إذا كان قد أصابه بعرضه -الذي هو بثقله- فلم يخرج منه دم، وبناءً على ذلك فإنَّه لا يحل.
نقف عند هذا ونجعل بقية المسألة في مستهل اللقاء القادم، ويكون هذا كالتَّكير بما مرَّ بيانه.
أسأل الله لي ولكم التَّوفيق، وأسأل الله أن يجزي الإخوة القائمين على هذا البناء خيرًا، ومَن أسَّسوه ورعوه وعهدوه وعملوا فيه حتى أظهروره، وقرَّبوا العلم ونفعوا الخلق وزادوا في الخير؛ فأسأل الله أن يزيدهم من الخير والهُدَى، وأن يجزيكم العلم والعمل، وأن يزيدنا وإيَّاكم البرَّ والتُّقى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك