{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وجعلنا الله
وإياكم في حالٍ طيبةٍ.
{اللهم آمين.
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ
اْلاِشْتِرَاكِ فِي اْلقَتْلِ.
وَتُقْتَلُ اْلجَمَاعَةُ بِاْلوَاحِدِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ قَتْلُ أَحَدِهِمْ؛
لِأُبُوَّتِهِ، أَوْ عَدَمِ مُكَافَأَةِ اْلقَتِيْلِ لَهُ، أَوِ اْلعَفْوِ عَنْهُ،
قُتِلَ شُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ خَاطِئًا،
لَمْ يَجِبِ اْلقَوَدُ عَلى وَاحِدٍ مِنْهُمْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد؛ فلعلكم تتذكرون أننا في المجلس الماضي أخذنا جملةً من المسائل المتعلقة
بكتاب الجنايات، سواءٌ كان ذلك فيما يتعلق بشروط وجوب القصاص، أو كان ذلك بشروط
الاستيفاء فيه، وانتقلنا بعد ذلك إلى مسائل متعلقة بالعفو ومتى يكون ويتحقق، ومتى
لا يكون، ومتى لا يُمكن إلَّا أن يُصارَ إلى الدِّيَة، وكيفية الاستيفاء في القصاص،
هل هو بالآلة أو بالسيف وما ماثلة، وذكرنا اختيار ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ.
انتهينا في آخر المجلس الماضي إلى أوَّلِ هذا الباب، وهو: "باَبُ اْلاِشْتِرَاكِ
فِي اْلقَتْلِ".
وقلنا: إنَّ الاشتراك في القتل يُوجب القتل، فإنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال:
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]،
فالنفس بالنفس سواء كانت واحدة أو أكثر من ذلك، فإن كلمة "نفس" جنس يدخل فيها
مجملها أو عمومها، ولَمَّا ذكرنا فيما مضى أننا لو قلنا إن الجماعة لا تُقتَلُ
بالواحدِ لأفضى ذلك إلى أن يجتمع الناس لقتل شخصٍ حتَّى يخرج من تبعة القصاص، ولا
يلحق بهم شيءٌ من هذا الحكم؛ فتذهب الحكمة التي لأجلها أوجبَ الشَّارعُ القصاص.
وذكرنا قول عمر وعلي -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- والمقولة المشهورة "لو تمالأ
أهل صنعاء على قتل رجل لقتلتهم به".
ثم ذكرنا أنَّه يُمكن أن تتبعَّضَ بعضُ الأحكام، بمعنى أنَّه لو وُجِدَ في هؤلاء
القَتَلةِ مَن لا يستحق القتل بوجهٍ فلا يعني ذلك أن يسقط القتل عن الباقين، فمن
امتنع في حقه القتل لوجود مانع يرتفع عنه القتل لا لكون القتل غير واجب، ولكن لكونِ
القاتل فيه مانع من إقامة القصاص، ولذلك مثَّل له المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بمثل
الأبوَّة، وهو أن يكون أحد المجتمعين لقتله أبًا له، فإن الأب لا يُقادُ بولده،
فبناء على ذلك نقول: يُقتَل المتبقين، والأبُ يرتفع عنه القصاص.
ومثل ذلك: لو كان القَتَلةُ ثلاثة عبيدٍ قتلوا عبدًا مماثلًا لهم، ومعهم رابعٌ حرٌّ
شاركهم في القتل، فالحُرُّ لا يُقتَل بالعبدِ في مشهور المذهب وهو قول جمهور أهل
العلم، فبناء على ذلك لا يُقتل الحر لكون مانع اتَّصف به يمنع من القتل، لا لكونه
لا يَستوجب القتل.
وأشار المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى مسألةٍ قد يظهر منها أنَّها تُماثل المسألة التي
قبلها، فقال: (وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ خَاطِئًا، لَمْ
يَجِبِ اْلقَوَدُ عَلى وَاحِدٍ مِنْهُمْ).
إذا كان واحدٌ منهم غير مكلف، كأن يكون مجنونًا أو مخطئًا، فهنا اجتمع في القتل
أمران:
أمر موجب للقتل والقصاص.
وأمر موجبٌ للدية، وهو قتل الخطأ.
فلمَّا كان الأمر كذلك فإنَّ الحدود والعقوبات تُدرأ بالشُّبهات، وهذه شُبهة في
كونه لم يتمحَّض وجوب القتل العمد العدوان لأنه يوجَد فيهم من لا يُقتل بهم، أو
لوجود غير مكلف، أو مَن كان مخطئًا، فالمخطئ لو قتل شخصًا فإنه لا يُقتل به، وإنما
فيه الدية كما قلنا.
فهنا اجتمع مخطئ وغير مخطئ؛ فاجتمع في هذه الحال أمران:
- القتل العمد العدوان.
- القتل الخطأ.
فكان اجتماع القتل الخطأ مُؤثِّرٌ على القتل العمد العدوان، فيجرُّه إلى عدم وجوب
القتل، ويكون ذلك شبهة لمنع القصاص، ويكون المصير إلى الدية
فكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: الصورة الأولى صورةٌ استُحِقَّ فيها القتل بكل
وجهٍ، وإنما المانع لشيءٍ يتعلق بالشَّخصِ نفسه، أما وجود قاتل غير مكلف فصورة
القتل فيها صورة العمد وصورة الخطأ، لكون أحدهم غير مكلف، حتَّى لو تعمَّد المجنون،
فإن عمد المجنون والصبي خطأ.
فبناء على ذلك تكون الصورة هنا مشتركة بين عمدٍ وغيره، فالصورة الأولى عمدٌ، ولكن
امتنع القصاص من أحدهم لشيءٍ يخصه، لا لأجل أن الصورة كانت متجاذبة أو فيها جهتان
منفكتان.
وأما الصورة الثانية، ففيها الجهتان مشتركتان، فيحصل الإشكال في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلى اْلقَتْلِ، فَقَتَلَ،
أَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا جُرْحًا وَالآخَرُ مِئَةً، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ
اْلكُوْعِ وَالآخَرُ مِنَ الْمِرْفَقِ، فَهُمَا قَاتِلاَنِ، وَعَلَيْهِمَا
اْلقِصَاصُ، وَإِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ، اسْتَوَيَا فِيْهَ)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- جملةً من الصور التي قد يظهر منها نوعُ تباينٍ وأن
أحدهما يستحق القتل دون الآخر، أو هما يستحقانه على حدٍّ سواء، فبدأ بصور مختلفة كل
منها يستحق القاتلان -أو أكثر- القتل على حدٍّ سواء، ولو اختلف حالهما في هذه
الجريمة أو هذه الجناية.
قال المؤلف: (وَإِنْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلى اْلقَتْلِ، فَقَتَلَ).
عندنا مُكرِه ومُكرَهٌ.
الْمُكرَه: هو الذي قتل هذا الشخص وباشر القتل.
الْمُكرِه: هو المتسبب في القتل.
فيُقال: يُقتلان جميعًا.
أمَّا الْمُكرِه فلأنَّ الفعل يُنسَبُ إليه حقيقة؛ لأنَّ المُكرَه لا فعلَ له، كأنه
بمثابة الآلة، ومع ذلك المشهور من المذهب عند الحنابلة أن المباشر يُقتل.
لماذا يُقتل مع أنَّه كالآلة؟
يقولون: لأنَّه لم يكن له لأن يستبقي نفسه بقتل غيره، فكان له نوعُ اختيارٍ في أن
يمتنع حتَّى ولو قُتِل، لكن لا يُمكن أن يقتل غيره ليستبقي نفسه، فبناء على ذلك
كانت له صورة اختيارٍ ولو من وجه ضعيفٍ.
وبناء على ذلك قالوا بقتل الْمُكرِه لكون حقيقة الفعل كأنها صادرة منه، وبقتل
الْمُكرَه لكونه قد آثرَ نفسه بالبقاء والحياة على ذلك الرجل بالموت والإهلاك، مع
أنَّه كان بإمكانه أن يمتنع فيسلم ذاك، وقد يلحقه الموت وقد لا يلحقه، فلما كان قد
استبقى نفسَه بإهلاكِ غيره تعلَّق به حكم الإهلاك والقصاص، ولأجل ذلك قال: (وَإِنْ
أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلى اْلقَتْلِ، فَقَتَلَ)، فعليهما القصاص كما ذكر المؤلف
بعدَ ذلك.
وهذه الصورة فيها شيءٌ من الاختلاف بين الفقهاء، ولذلك ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ- هنا.
ثم قال: (أَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا جُرْحًا وَالآخَرُ مِئَةً).
يعني واحد منهم ضربَ ضربةً، والآخر ضرب مائة ضربة، فكلاهما قاتل، لِمَا ذكرناه في
الدرس الماضي أنه ليس من لازم الاشتراك في القتل أن يستويا في العمل؛ لأنَّنا لو
قلنا باستوائهما في العمل لَمَا تُصوِّرَ ذلك، فما من قاتلان -أو أكثر- يشتركان في
القتل إلَّا كان أحدهما أشدُّ في القتل من الآخر.
وبناء على ذلك؛ ما دام أنهما اشتركا في القدر المميت وهو أن تكون من هذا ضربةٌ
مميتةٌ ومن هذا ضربةٌ مميتةٌ، زادت هذه أو نقصت لكنها لا تخرج عن ضابط القتل الذي
يكون به العمد العدوان؛ فيكون مستحقًا للقصاص كما لو استويا في فعلهما.
ولو أننا اشترطنا الاستواء في الفعل لَمَا أمكنَ ذلكَ، ولا ما قُتِلَ أحدٌ
بالاشتراك؛ لأنَّه لابدَّ من التَّبايُن بينهما.
قال: (أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ اْلكُوْعِ وَالآخَرُ مِنَ الْمِرْفَقِ، فَهُمَا
قَاتِلاَنِ).
واحدٌ قطعه من الكوع، والآخر قطعه من المرفق؛ فهل الجرح الثاني أنهى حكم الجرح
الأول أو لا؟
بعض الفقهاء كالحنفية يقولون: نعم، صحيح أنه لما ضربه من الكوع ربما ينزف دمًا
حتَّى يموت، ولكن لما قطع هذا من المرفق فكأنه أنهى الجناية الأولى، وأنهى سراياتها
وزيادتها، فكأنه هو الذي جعل تبعة هذا الجرح تزيد حتَّى مات، فيُنسَبُ إلى الثاني
لا إلى الأول.
والحنابلة يقولون: كلاهما جرحٌ مميتٌ، وبناء عليه يكونان جميعًا قاتلان، ويكونان
مشتركان في القصاص سواء بسواء.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ، اسْتَوَيَا فِيْهَ).
إن وجبت الدية في مثل هذه المسائل كأن يكون أولياء الدم قد عفوا، أو تكون من
المسائل التي لم يُحكَم فيها بالقتل، كما لو كان أحدهما صغيرًا والآخر كبيرًا، أو
أحدهما مجنونًا والآخر عاقلًا؛ فإنَّه لا قصاص هنا ويكون فيها الدية، وتكون الدية
في مثل هذه الحال عليهما على حدٍّ سواءٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ ذَبَحَهُ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ قَطَعَ اْلآخَرُ
يَدَهُ، أَوْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ، فَاْلقَاتِلُ اْلأَوَّلُ)}.
الذبح يُميت، فإذا قطعه من رقبته وقطع حلقومه -وهو مجرى طعامه وشرابه- والودجان
-وهما مجمع العروق- فينتهي الإنسان، فإذا حصل القتل بهذا، فما تبعه من قطعٍ أو غيره
ليس موجبًا للقتل، وبناء عليه فلا قصاص عليه في مثل تلك الحال.
هل يُقتص منه أو لا؟
هذه مسألة ثانية، فإذا كان قد قصَّه في حال حياته واستقرارها فيُحكَم بأن عليه قصاص
في الجراح، أما إذا كان ذلك بعدَ موته فلا يكون فيها قصاص، وإنما يكون فيها تعزيرٌ
وعقوبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ قَطَعَهُ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ ذَبَحَهُ الثَّانِيْ،
قُطِعَ اْلقَاطِعُ، وَذُبِحَ الذَّابِحُ)}.
إذا كان الأول قطع والثاني ذبح؛ فنقول: القاطع يستحق القصاص فيما دون النفس،
فاستحقَّ عقوبة هذا الجُرح، وساء كانت هذه تنتهي إلى ما يُوجب القصاص، أو كانت مما
يُوجب الحكومة والدية، وتسمى حكومة لأنها يُحكم فيها بقدر ذلك الجرح. يقول المؤلف
(قُطِعَ اْلقَاطِعُ، وَذُبِحَ الذَّابِحُ)، لأنَّ الذي ذبح هو الذي أودى بحياته
وأنهى أنفاسه، فتعلق به حكم القصاص دون مَن قبله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ أَمَرَ مَنْ يَعْلَمُ تَحْرِيْمَ اْلقَتْلِ بِهِ،
فَقَتَلَ، فَاْلقِصَاصُ عَلى الْمُبَاشِرِ،وَيُؤَدَّبُ اْلآمِرُ)}.
هذه المسألة قريبة من مسألة الْمُكرِه والْمُكرَه، ولكن هنا ليس فيه إكراهٌ، وإنما
أمرَه فقال اذهب واقتل فلانًا، فذهب وقتل فلانًا، فالقاتل هو هذا المأمور وهو
المعتدي والجاني، فبناء على ذلك تكون الجناية منسوبةٌ إلى المأمور الذي فعلَ
الجناية، وهو الذي تعلق به حكمها.
وأمَّا الآمر فقد أمرَ بسوءٍ ومعصيةٍ وبظلمٍ فيُعزَّرُ لأجل ذلك الأمر.
وهنا قيَّد الفقهاء ذلك بقيدٍ مهمٍّ، وهو أن يعلم تحريم القتل به، فلو كان حديث
عهدٍ بإسلام أو ممَّن نشأ في أدغال الغبات ونحوها، وعلى عوائد أمراء القبائل
ونحوهم، ويظن أنهم لا يعصون وأنه لابد من طاعتهم فكانت لديه شبهةٌ؛ فهذا شيءٌ آخر.
إذن لابدَّ أن يكونَ عالمًا بتحريم القتل، أما إذا ظنَّ أنَّه لا حُرمَة للقتل لكون
هذا الآمر ممن له الحق في قتل فلان وإزهاق روحه، فهذه مسألة أخرى.
إذن؛ المنطوق في الأمر المتعلق بمن يعلم تحريم القتل، فإذا قتل فإنه يكون القتل
عليه.
ويُفهَم منها مسألة أخرى، وهي أنه لو كان ممن يعلم تحريمَ القتل فإنه لا قتل عليه،
ولكن هل يُقتل الآمر أو لا يُقتَل؛ فهذه محلُّ بحثٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَمَرَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ تَحْرِيْمَهُ بِهِ، أَوْ
لاَ يُمَيِّزُ، فَاْلقِصَاصُ عَلى اْلآمِرِ)}.
القصاص هنا على الآمر، فكأنه هو الذي باشرَ القتل أو هو الذي يُنسَب إليه الأمر
فكان القتل عليه، وهذا على ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- والمسألة فيها شيءٌ من
النَّظرِ والبحث على ما ذكرناه قبل قليل.
أيًّا كان؛ فهذه مسائل قد لا تكون كثيرة الوقوع، فيكفي أن يتصورها الطالب ويعلم ما
قصدَه الفقهاء، ومناط هذه المسائل ومآخذها اتلمغيِّرَة في الحكم، المقوِّيَة للملكة
الفقهيَّة، والتي تُبينُ عن مآخذ الفقهاء في الحكم بالقتل والقصاص من عدمه، ويبقى
ذكر الخلاف لمن احتاج إلى ذلك ممن ولوا هذه الأمور وعُرضَت عليهم هذه المسائل من
القضاة ومَن في حكمهم، نسأل الله أن يُعينهم وأن يسلمنا من البلايا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَمْسَكَ إِنْسَاناً لِلْقَتْلِ، فَقُتِلَ، قُتِلَ
اْلقَاتِلُ، وَحُبِسَ الْمُمْسِكُ حَتَّى يَمُوْتَ)}.
إذا أمسكَ إنسانٌ إنسانًا، جاء صالح وأمسكَ عبد الله، وجاء عبد العزيز وقتل عبد
الله.
فالقاتل: عبد العزيز.
والمُمسك: صالح.
أما عبد العزيز فهو قاتل، وهو ظاهرٌ في أن يلحق به حكم القتل، فيجب عليه القصاص.
وأما الممسك فهو محل النظر والبحث، فظاهر كلام المؤلف وهو مشهور المذهب عند
الحنابلة أنه يُحبَس ويُعمل به نظير ما عمل بهذا الرجل حتَّى يموت، سواء بسواء.
ومنهم من يقول: هو شريكٌ في القتل، فالقتل لم يتأتَّى إلَّا بالأمرين جميعًا،
إمساكهما وجرحُ الآخر، فإنَّ الآخر لم يكن له أن يجرح لولا إمساكُ هذا، فالقتل
تحصَّل بالأمرين جميعًا -بالإمساك والجرح- وبناء عليه فيُقتل الممسك.
والخلاف في هذا قوي جدًّا، فمن قال بكونه يُقتل فهذا ظاهر وواضح، وحقيقته أنه فيه
نوعُ مباشرةٍ لأنه ممسك.
وقول المؤلف هنا مروي عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- أنه يُفعل به مثلما فعل بهذا
الميت، وهو أن يُمسَك حتَّى يموت.
ومنهم من يقول: هو شريكٌ في القتل، وله فيه مدخل، فإن القتل لم يتأتَّى إلا
بالأمرين جميعًا -إمساك هذا وجرح هذا- وبناء عليه يلحقهما القتل سواء بسواء.
وكل الكلام هنا إذا أمسكه وهو يعلم أنه يقتله، أما إذا أمسكه لكونهم يمزحونَ أو
ظَنَّ أنَّه سيؤدِّبه تأديبًا إمَّا بضربٍ يسير ونحوه فقتله، فهنا لا يلحق القتل
بالممسك على كلا القولين.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
هذا يدعوني إلى سؤال، يذكر البعض اعتراضًا على مسألة السجن مدى الحياة، وهناك نص من
ابن قدامة على هذه المسألة. فما تقولون في هذا؟}.
أهل القوانين يقولون: إن حقيقة القتل وحشية ودمويَّة، ويستعيضون عنه بالسجن مدى
الحياة، فكأنهم يقولون: إن ذلك إنسانيَّة!
فلأجل ذلك نقول: إن هذا الحكم في مقابل منع ما أمر به الشرع من القتل في محله؛ فلا
شكَّ أنَّه معارض للنصوص، ممانع للأدلَّة، فيه نوع اعتراض على ما جاء في الشرع.
أمَّا إذا حُبِسَ لأمرٍ يستدعي ذلك، لا لكوننا ندفع القتلَ بالحبس، أو نقول بعدم
جواز القتل فنصير إلأى الحبس مدى الحياة؛ فما دام أنه ليس في معارضة الشرع فقد
يُقال به فيما يليق به.
فعلى سبيل المثال: إذا كان شخص لا يندفع شره إلَّا بحبسه، كما ذكروا في العائن،
فإما أن يذهب بلاؤه، وإما أن يبقى في سجنه، فلا مانع ذلك.
كذلك مَن يتأذَّى المسلمون من إخراجه، فإنَّهم إذا أبقوه مدَّةً طويلة حتَّى ولو
كانت تلك المدَّة تؤول به إلى الموت فيُمكن أن يُقال بهذا، ولهذا أمثلةٌ كثيرة.
هذا ما يحضرني فيما أستذكره في هذه المسألة، وتحتاج المسألة أيضًا إلى مزيد بحث
ونظر في مآخذ أخرى، قد نحتاج إلى تكميل لها في لقاء قادم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلقَوَدِ فِي اْلجُرُوْحِ)}.
يُمكن أن يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (باب القصاص)، ويُمكن أن يقول: (باب
القَوَد)؛ باعتبار أنَّ الشخص الذي يُقتص منه يُقاد ويُقتاد ويُجر حتَّى يؤخَذ منه
القصاص كما تُجرُّ البهائم لذبحها ونحو ذلك، فإنَّه عادةً أن يمتنع الإنسان ويأبى،
ولا يحصل منه إقبالٌ على هذا الأمر ولا رضًا به، فالقَوَد والقصاص بمعنى متقارب.
والمقصود بالجروح هنا: سواء كانت الجروح في سائر البدن، أو في الرَّأس، وللفقهاء
نوع تفريق بين هذه وهذه، أو تصنيف الجروح التي في الرأس والجروح التي في سائر
البدن، وسواء كان ذلك فيما يدخل إلى البدن ويغيص في اللحم، أو كان ذلك مما يتعلق
بالعظام وكسرها وما يتعلق بها، وفي كل واحدٍ من هذه تفاصيل ومسائل تخصُّها، ويُحكَم
فيها بالقصاص والاقتصاص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يَجِبُ اْلقَــوَدُ فِيْ كُلِّ عُضْـوٍ بِمِثْـلِهِ،
فَتُؤْخَذُ اْلعَيْـنُ بِاْلعَيْـنِ، وَاْلأَنْــفُ بِاْلأَنْفِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنَ اْلجَفْنِ وَالشَّفَةِ، وَالِّلسَانِ وَالسِّنِّ، وَاْليَدِ وَالرِّجْلِ،
وَالذَّكَرِ، وَاْلأُنْثَيَيْنِ بِمِثْلِهِ)}.
يجب القَوَد في كل عضو بمثله، وهذا في الأطراف، فإذا فقأ شخصٌ عينَ آخر فتُفقَأُ
عينه إذا تعلَّق به حُكم القصاص بأن استجمعَ الشُّروط، أما لو كان على سبيل الخطأ
-مثلًا- فلا قصاص، أو إذا كان لا يُؤمَن التَّعدِّي لعلَّةٍ فيه، كأن يكون في دمه
جريانٌ وسيلانٌ؛ فإذا فُقِئَت عينه فلا يرقأ دمه حتى يموت، فلابدَّ من الأمن من
التَّعدِّي في الاستيفاء.
كذلك لابدَّ من المماثلة، فلا يكون هناك فرقٌ، ولأجل ذلك قال المؤلف (اْلعَيْـنُ
بِاْلعَيْـنِ)، فاليُمنَى باليُمنَى، واليُسرَى باليُسرَى.
والأصبع اسم لكل الأصابع، وبعضها يختلف عن بعض في موضعه وفي نفعه، فلا يُمكن لمن
قطع أصبع شخصٍ أن يُقطع إبهامه، فنفع الإبهام أكثر بكثير من نفع سائر الأصابع،
وهكذا..
وهذا شروعٌ من المؤلف فيما يتعلق بالجراح في الأطراف، فقال: (اْلعَيْـنُ
بِاْلعَيْـنِ، وَاْلأَنْــفُ بِاْلأَنْفِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اْلجَفْنِ
وَالشَّفَةِ).
الجفن: هو ما يُحيطُ بالعين.
الشَّفة: معلومَة وهي في مقدِّمَة فم الإنسان.
واللسان معلومٌ.
قال: (وَاْليَدِ وَالرِّجْلِ، وَالذَّكَرِ، وَاْلأُنْثَيَيْنِ بِمِثْلِهِ)، فمَن
فقأ أنثيي شخص فتُفقأ أنثييه، ما دامَ أنَّ ذلك ممكنٌ ولا يكون بذلك تعدٍّ، ولا
يكون فيه نوعُ ظلمٍ وعدوان.
ومن الشروط كذلك: أن يكون مُكافئًا له، بمعنى أنه لو لم يكن مُكافأً فكما أنَّه لا
يُقتصُّ منه النفس، فكذلك لا يُقتصُّ منه فيما دونها، فلو أنَّ حُرًّا فقأ عينَ
عينٍ؛ فالحرُّ لا يُتَلُ بالعبدِ، فكذلك لا يُقتصُّ من الحرِّ في الجروح بالعبدِ.
ومثل ذلك المسلم بالكافر، وهكذا على ما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذلِكَ كُلُّ مَا أَمْكَنَ اْلقِصَاصُ فِيْهِ)}.
ما الذي يُمكن القصاص فيه؟
يقول الفقهاء: أمَّا في الرأس فأن تنتهي إلى عظمٍ؛ لأنه إذا كان قطع اللحم الذي في
رأسه أو في طرفه ونحوه، فالوصول إلى العظم سهل، فيُقاس هذا الجُرح في سَعَته ومحيطه
ووصوله إلى العظم.
ولكن إذا هشَمَ العظم فإنَّنا لا نأمن إذا هشمنا العظم أن نصل إلى ما هو أشد، إذن
لا يكون فيه أمنٌ في التَّعدِّي.
وإذا كان في الجراح التي في الرأس هشمٌ للعظمِ فلا يُمكن فيها القصاص، ويُصار إلى
الدِّية، ويُحكَم فيها على ما ذكروه من تفاصيل.
واستثنوا حالة واحدة، وهي أن يرضى بأقل من ذلك، كأن يرضى بأن يجرحه إلى العظم، بحيث
يُوثق أنه لم يحصل منه استيفاء لأكثر من ذلك.
وإذا كانت في الأطراف فظاهر، وهو أن يكون له حدٌّ ينتهي إليه، مثل مارن الأنف، وهو
ما لانَ منه، فيُمكن أن يُقطع إلى نهايته، لكن لو كان قد كسر جزءًا من قصبةِ الأنف
فلا يُمكن أن يُؤمن، فإذا أراد أن يكسر فقد ينكسر العظم مما هو أكثر من ذلك، وبناء
عليه فلا يقولون فيها بالقصاص.
يقول العلماء: إلى حدٍّ ينتهي إليه أو مفصل.
فإذا كان في العظام فإنه ينتهي إلى مفصل، فإذا كان أصبعه يُمكن أن تُقطَع من
نهايتها، أو تقطَع من بعض أناملها، بحسب ما كان منه من الجناية.
إذا كسرَ شخصٌ فخذ فلان، فلو جئنا لنكسرَ فخذه انكسر كسرتين أو تفتَّتَ عظمه!
فهنا لا يُؤمَن من الزيادة في الاستيفاء، وبناء عليه فلا يكون فيه القصاص.
ومثله الساق، فلو كسر ساقه، فلا يُمكن الاستيفاء في مثل هذه الحال.
إذن؛ إما أن يكون له حدٌّ ينتهي إليه، أو إلى مفصل، أو ينتهي إلى عظمٍ إذا كان ذلك
من جروح الرأس، فهذا هو ما أمكنَ فيه القصاص.
تأتي مسألة في هذه الأوقات، وهي أنَّ إمكان الاستيفاء أدق منه فيما مضى، فيُمكن عن
طريق الأطباء وأدواتهم وآلاتهم أن يُفعل بالجاني مثلما فعل!
والحقيقة أن المعاصرين مختلفون في هذا، فبعضهم يقول: ما ذكره أهل العلم هو الشيء
المنضبط والمتَّسق، والذي يقوله الأطباء يُمكن أن يتأتَّى على الحال التي ذكروها
ويُمكن أن لا يتأتَّى.
فعلى كل حال؛ فيه مسلك لشيخ الإسلام وبعض الفقهاء كالحنفية، فبابهم أوسع في
الاستيفاء في القصاص، فمثلًا يقولون في اللطمة: إنها لا تستوي، فقد تكون هذه لطمة
قويَّة وهذه ضعيفة، أو هذه مؤثرة وهذه غير مؤثرة؛ فلا يكون فيها القصاص.
فقد يكون في بعض معنى كلام ابن تيمية ما يُمكن أن يُدخِل بعضَ المسائل المعاصرة
التي يُقطَع فيها بالضبطِ وعدمِ التَّعدي، أو تحصيل ما حصلَ من الجاني في المجني
عليه ويُؤمن فيه من التعدي، ويُمكن فيها الاستيفاء.
وما ذكره الفقهاء منضبطٌ، ولم يزل الناس يعملون به ويعتادونه، ولم يحصل فيه اعتداء،
فلا شكَّ أنَّ ما ذكره الفقهاء هو الطريق الأمثل، والسبيل الأتم في مثل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا
لِلْجَانِيْ، وَكَوْنُ اْلجِنَايَةِ عَمْدًا، وَاْلأَمْنُ مِنَ التَّعَدِّيْ بِأَنْ
يُقْطَعَ مِنْ مِفْصَلٍ، أَوْ حَدٍّ يَنْتَهِيْ إِلَيْهِ، كَالْمُوْضِحَةِ الَّتِيْ
تَنْتَهِيْ إِلَيْهِ اْلعِظَامُ)}.
هذا تفصيلٌ لِمَا ذكرناه قبل قليل.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
مُكَافِئًا لِلْجَانِيْ)، المكافأة على النحو الذي ذكرناه في باب القتل العمد
العدوان، فما يتأتَّى به القتل العمد العدوان هو الذي يتأتَّى به القصاص في الجراح
والأطراف، وما لا يتأتَّى فيه القتل العمد العدوان لا يتأتَّى فيه القصاص في الجروح
والأطراف، وهذه قاعدةٌ متَّسقةٌ عندَ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- ونبه عليها
المؤلف هنا.
ثم قال: (وَكَوْنُ اْلجِنَايَةِ عَمْدً)؛ لأنَّ القصاص لا يحصل إلا فيما هو عمدٌ
عدوانٌ، أمَّا الخطأ فإنه لا قصاص فيه، وإنَّما فيه الدِّية، فحق المجني عليه لا
يذهب ولا يفوت، ولا يُترَك الجاني، ولكن تكون بحسبها، فلمَّا لم يكن عمدًا ولمَّا
لم يكن عدوانًا، ولمَّا لم يكن ظلمًا ولا بغيًا ولا قصدًا للشَّرِّ والوقيعة؛
فإنَّه في مثل هذه الحال لا يكون فيه قصاصٌ، وإنَّما يُصار إلى الدية، ولأجل هذا
قال المؤلف (وَكَوْنُ اْلجِنَايَةِ عَمْدً).
قال: (وَاْلأَمْنُ مِنَ التَّعَدِّيْ)، فإذا لم يُؤمن من التعدي فلا يُمكن
الاستيفاء.
ومثل ما قلنا في شخصٍ عنده سيلانٌ في دمه، أو بعضُ مَن بهم مرض السكري، فلو جُرح
فإنه يُعلم أنه في الغالب أن يحصل لهذا الجرح استزادةٌ حتَّى يقضي على الشخص، أو
يقضي على بعض أعضائه، فلو أنَّ شخصًا قطعَ أصبع قدم آخر، وهذا القاطع فيه داء
السكري، فلو قطعنا أصبعه فإن دمه لا يرقى وجرحه سيزيد، ولايزال يحصل في جسده تآكل
حتَّى تذهب قدمه أو رجله، وقد يموت من ذلك، فإذا ذكر أهل النَّظر والاعتبار أنَّ
هذا ممكنٌ فلا.
وفي بعض الأحوال يكون الأمن من جهة أن هذا الجرح مما لا يُمكن اليقين بالقدر التي
يُؤدَّى فيه الاستيفاء، ولأجل ذلك قال المؤلف: (وَاْلأَمْنُ مِنَ التَّعَدِّيْ
بِأَنْ يُقْطَعَ مِنْ مِفْصَلٍ، أَوْ حَدٍّ يَنْتَهِيْ إِلَيْهِ).
فلو أنَّ شخصًا -نسأل الله السلامة والعافية- قطعَ آخر من مرفقه؛ فهذا يُمكن
الاستيفاء منه، أو قطع آخر من كوعه؛ فهذا ممكن، أو قطعَ شخصًا من أصبعه؛ فهذا ممكن،
أو قطع ذكر شخصٍ؛ فهذا ممكن لأنه ينتهي إلى طرفٍ من الأطراف، وكذلك في العين، فهذا
مما ينتهي إلى ما يُمكن أن يحصل به الثقة بعدم التَّعدي.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.