{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ:
(أَوْ سَقْيِهِ سُمًّا، أَوِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ زُوْرًا بِمَا يُوْجِبُ
قَتْلَهُ، أَوِ اْلحُكْمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَنَحْوِ هَذَا قَاصِدًا، عَالِمًا
بِكَوْنِ الْمَقْتُوْلِ آدَمِيًّا مَعْصُوْمً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأنا ما يتعلَّق بالكلام على كتاب الجنايات، وذكرنا
توطئةً ومُقدِّمةً لبعضِ المسائل المهمَّة في هذا، إلى أن شرعنا في أنواع القتل،
وابتدأنا بالقتل العمد، ثم ذكرنا بعض الصُّور التي ذكرها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ-
تتعلق بذلك، وانتهينا إلى قوله: (أَوْ سَقْيِهِ سُمًّ)، فإذا سقى إنسانٌ إنسانًا
آخرَ سُمًّا فمات بذلك فإنَّه قتلَ عمدٍ؛ لأنَّ السُّم في الغالب قاتلًا، والمقصود
بذلك السُّم المعهود الذي يموت به الآدمي، لكن لو كان هذا من السُّموم التي كثُرَت
في هذه الأوقات ونحوها، ومثل ذلك عادةً لا يَكونُ قاتلًا وإنَّما يُضرُّ بالبدنِ أو
يُنزِلُ ما في الأمعاء أو غيرها فلا يُعتبر.
إذن قوله (أَوْ سَقْيِهِ سُمًّ)، يعني ممَّا تُعهِدَ على أنَّه يحصل به الموت
والقتل، وبناء على ذلك نقول: أو سَقِيَه سُمًّا ممَّا جرَت العادةُ في ذلك، أمَّا
لوكانت بعض السُّموم العادية مثل بعض العقاقير الطِّبيَّة هي سمومٌ تناسبُ شخصًا
ولا تُناسبُ آخر، فلو أعطاه جُرعةً يسيرةً، وهذه الجُرعة اليسيرة العادة الغالبة
فيها أنَّ الإنسان لو تعاطها يُمكن أن تُلحقُ به ضرر لكنها لا تقتله، فلما أعطاها
ذلك الشَّخص فكأنَّه أرادَ أن يُقعده عن الذَّهاب إلى عملٍ، أو أن يؤخِّره في
الإتييان بمهمَّةٍ أرادها، أو نوعُ اعتداءٍ وأذيَّةٍ، أو لو غير ذلك من الأسباب؛
فماتَ بمثل هذه العقاقير، فلا نقول إنَّه متعمِّدٌ للقتل، لأنَّ العادة غالبة أنَّ
مَن تعاطَى ذلك لا يموتُ به.
وكما قلنا: إنَّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فيُمكن أن يكون عقارٌ آخرٌ شديدَ
الأثر، ولا يُتعاطَى إلَّا بطريقةٍ مُعيَّنةٍ يَعرفُ الأطباء أنَّه يُحفَظُ من أن
يصلَ إلى حدِّ الهَلَكةِ ويستجمعون لأجل ذلك أسبابًا وأمورًا تحفظ الإنسان سواء من
المتابعة أو من مقوِّيات أو إلى غير ذلك؛ المهم أنَّه لو أُعطيَ هذا العقار الشديد
فمات فيُحكم به بالموت، والآخر لا يُحكَم فيه بالموت.
وكذلك إذا كان المردُّ إلى الشَّخص، فمثل هذا الشَّخص جسمه نحيل أو ضعيف الخلقة أو
مريضٌ به علل كثيرة؛ فمثله لو مات فيكون هذا كالقتل العمد.
إذن؛ السُّمُّ الذي يموت به الإنسان غالبًا يُعتبرُ من آلات القتل العمد، ويُحكَم
في ذلك في كل شيءٍ بحسبه على نحو ما ذكرنا.
قال: (أَوِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ زُوْرًا بِمَا يُوْجِبُ قَتْلَهُ).
على سبيل المثال:
جاء اثنان وقالا: نشهدُ أنَّ فلانًا هذا هو القاتل لذلك الرَّجل، وأُدِّيَت
الشَّهادة عند القاضي، وقُتِلَ هذا، وكان الشَّاهدان قد شهدا بذلك زورًا وبهتانًا.
فنقول: إنَّهما كما لو قتلاه، وكما لو تعمَّدا إزهاق روحه، فهما وإن لم يكونا
مباشرين للقتل لكنَّهما متسببانِ فيه، والمتسبب كالمباشر، وبناء على ذلك يُقتلانِ
به.
وهذا جاء في قصَّةٍ؛ أنَّ رجلين جاءا إلى عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فشهدا أنَّ
فلانًا قد سرقَ فقطع عليٌّ يده، ثم جاءا بعدَ مدَّةٍ فشهدا أنَّ فلانًا هو
السَّارق، وقالا أخطأنا وظننَّا أنَّ هذا هو ذاك، فقال عليٌّ: لو أعلمُ أنَّكما
تعمَّدتما لقطعتُ أيدكما به، فأمر بالدِّيةِ عليها.
فدلَّ ذلك على أنَّ الشَّهادة ممَّا تُفضي إلى القتل غالبًا، كأن تكون شهادة بالقتل
فيقول: إن فلانًا قتل فلان، أو يشهد أربعة أنَّ فلانًا قد زنا وهو ثيِّب فيُقتَل
بذلك.
فالشَّهادةُ إذن سببٌ من أسباب القتل الذي يحصل به القتل غالبًا إذا استُجمِعت
الأسباب والأمور، وبناء على ذلك يُحكم من كونها من آلات القتل العمد العدوان، على
ما جاء في أثر عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه.
أمَّا إذا شهدا عليه بما يُوجبُ جلدَه فلا يكون ذلك من القتل العمدِ العُدوان،
وإنَّما يكون عليهما الجلد إن تعمَّدا، وإلَّا يكون عليهما الضَّمانُ بحسبِ الحالِ
في الخطأ وما يليق بحالهما.
قوله: (أَوِ اْلحُكْمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَنَحْوِ هَذَ).
مثل ذلك لو حكمَ القاضي وهو يعلم أنَّ هذا ليس بقاتلٍ، ولكن ظُلمًا وعُدوانًا، ثمَّ
بعدَ ذلك تبيَّنَّا أنَّ القاضي قد حكَمَ ظُلمًا، أو اعترف أنَّه تعمَّدَ قتله،
فيُقتل هذا القاضي، نسأل الله السَّلامة والعافية، ونعوذ بالله من قاضي الظُّلم
والعدوان والزُّورِ والبهتانِ.
وليس أحدٌ مهما علَت مكانته بخالٍ من أن يستزلَّه الشَّيطانُ، ولذلك ينبغي للإنسان
أن يطلب من ربِّه السَّلامة في كلِّ حانٍ وآنٍ، سواءٌ كانَ في ذلك ممَّن عُرف
بالخير والهُدى أو كان ذلك ممَّا هو في خاصَّة نفسه، فإنَّه لا يؤمَنُ الشَّرُّ على
أحدٍ، فينبغي للإنسان أن يتقي الله في كلِّ أحواله، وأن يسأل الله -جلَّ وَعَلَا-
السَّلامة في أقواله وأعماله ونيَّاته، ونسألُ الله أن يعصمنا من الزَّلل ما بقينا،
وأن يحفظَ منَّا الغَفَلات، وما يكون من غضبِ النفسِ، أو تغيُّرِ مزاجها، أو
تسلُّطِ الأهواء، أو تجاري الوساوس والخطرات بالإنسان التي تحملها على الشَّرِّ
والخطأ والعُدوان.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (قَاصِدًا، عَالِمً)، كما ابتدأنا الكلام على هذه
الجملة؛ أنَّه لابدَّ حتَّى يُحكمَ بكونه قتل عمدٍ أن يكونَ فيه قصد، فإذا انتفى
القصد انتفى العمد، وستأتينا هذه الأمثلة بعينها في القتل الخطأ إذا فاتَ فيه
القصد.
يقول المؤلف: (عَالِمًا بِكَوْنِ الْمَقْتُوْلِ آدَمِيًّ)، أمَّا لو اشتبه عليه
شخص بكونه صيدًا أو آدميًّا؛ فظنَّه صيدًا لكونه في إقبال ظُلمة الليل أو في أول
لصباح نحوه، فصوَّبَ إليه سهمًا فقتله ظانًّا أنَّه غزال أو نحو ذلك فبانَ آدميٌّ،
ففي مثل هذه الحال لا يكون عمدًا، وليس بقاصدٍ الإتلاف، وإن كانت الآلة قاتلة لكن
انتفى الشَّرط الثَّاني من الشُّروط وهو التَّعمُّد والقصد، فبناء على ذلك يكون من
النوع الثالث الذي سيأتينا وهو الخطأ.
قال: (آدَمِيًّا مَعْصُوْمً)؛ لأنَّ الآدميَّ قد يكون معصومَ الدَّمِ وقد يكون
مُباح الدَّمِ، فإذا كان حربيًّا فهو مُباح الدَّمِ، وإن كان مُرتَّدًا فهو مُباح
الدَّم، ففي مثل هذه الأحوال لابدَّ أن يكون الآدمي مَعصومًا، فإذا توجَّه القتل
إلى غير معصوم فلا يكون ذلك عمدًا، بل إمَّا أن يكون مباح القتل أو واجبَ القتل؛
بحسبِ الحال.
لو أنَّ شخصًا قُتِلَ والده -نسأل الله العافية والسلامة- فاستحقَّ دم القاتل، فقبل
أن يترافعوا إلى الحاكم وقبل أن تأخذ القضيَّة مسارها قام وصوَّب إليه سهمًا أو
مسدسًا فقتل القاتل.
فنقول: هذا آدميٌّ غيرَ مَعصوم الدَّم؛ لأنَّه قاتلٌ والقاتلُ يستحق القتل، ولا
يُجيزُ الفقهاء هذا التَّعامُل، ويعتبرونه اعتداءً وتعدِّيًا؛ لأنَّه يُمكنُ أن
يعفو بعض الأولياء فيُعصَم دمه، وبناء على ذلك نقول: يُعزَّر ويُتَّخذُ فيه إجراءٌ
سيأتينا.
وهذا إنَّما يكون لمَن له الدَّم، أمَّا لو جاء واحد ثالثٌ لا علاقة له فقتل هذا
القاتل فهذا غير مُستحقٍّ للدَّم، فيتوجَّه إلى أن يكونَ قتل مَعصومًا بالنِّسَبةِ
إليه، فيكون قتل عمد عدوان، لكن لو أنَّ الذي قتله هو مَن يرث الدَّم -أو وليُّ
الدم- فهذا له حق قتله؛ لأنَّه لو طلب القتل لقُتل، فبناء على ذلك لا يكون قد قتل
معصومًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذَا يُخَيَّرُ اْلوَلِيُّ فِيْهِ بَيْنَ اْلقَوَدِ
وَالدِّيَّةِ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
قُتِلَ لَهُ قَتِيْلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ،
وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى»)}.
ما الذي يجب القتل العمد العدوان؟
بعض الفقهاء يقول: يجب بذلك القتل، والدِّيَةُ بدلٌ عن القتل.
وبعضهم يقول: الواجب أحد أمرين: القتل أو الدية.
ما الذي يترتب عليه؟
يترتَّب عليه أثرٌ وهو أنَّه إذا عفا عنه؛ فإذا قلنا: إنَّ الواجب هو القتل
والدِّيَة بدلٌ عن القتل فمقتضَى عفوه بدون أن يذكر الدِّية أنَّها عن القتل وما
يتفرَّع عنه من الدِّيَة، لأنَّ الدية فرعٌ عن القتل وهو قد عفا، فتكون الدِّية غير
واجبةٍ في مثل هذه الحال.
أمَّا لو قلنا: إنَّ الواجب أحد أمرين؛ فبناءً على ذلك لو عفا عن القتل استحق الأمر
الآخر، فإذا عفا عنهما جميعًا أسقطَ حقَّه، لكن لا يكونُ عفوه عن القتلِ عفوًا عن
الدِّية، كما هو ظاهر كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.
فهذه من المسائل الدَّقيقة؛ فإذا قالوا: ما الواجب بالقتل العمدِ العدوان، هل هو
القتل أو هو أحد الأمرين؛ فتفهم المراد من ذلك:
فمَن قال إنَّ الواجب بذلك القتل والدِّية بدلٌ عنه أنَّه إذا عفا فلا تجب له
الدِّية. أما إذا قال: عفوتُ إلى الدِّية فيستحقُّها.
أمَّا على القول الثَّاني، فإذا قال: عفوتُ وسكتَ بدون أن يذكر الدِّية؛ فيفوتُ
حقَّه من الدِّيَة حتى يقول: عفوتُ عنهما جميعًا.
إذن؛ إذا قالَ: عفوتُ عنهما جميعًا، فهذا لا إشكال في كونه لا يجب له شيء.
وإذا قالَ: عفوتُ عن القتلِ؛ فعلى القولِ الأوَّلِ أنَّ الواجب هو القتل والدِّية
بدلٌ عنه لم يستحق شيئًا.
وإذا قالَ: عفوتُ إلى الدِّية، فهو يستحق -على القولين- الدِّية.
وإذا قال: عفوتُ -فعلى أنَّ الواجب أحد الأمرين- فإنَّما يتبادر أنَّه عفا عن
القصاص، فيستحق الأمر الثاني وهو الدِّيَة.
فهذه من المسائل التي ينبغي التَّنبُّه لها.
وهنا فيه مسألة مهمَّة أظن أنَّنا نبَّهنا عليها في المعاملات، ولكن نُعيدها
لأهمِّيتها، وهي أنَّ العفوَ والتَّسامح سواءٌ كانَ في المالِ أو الدَّمِ أو في
غيره لا يحتاج إلى قبول، فبمجرَّد أن يلفظ الإنسان به يذهب حقُّه، بخلاف إقامة
العقود وإتمامها.
فعلى سبيل المثال: إذا قلتَ: "بعتُكَ هذا الكأس"؛ فلا يستقر البيع حتى تقول: "قبلت"
لأنَّه إنشاء عقد، لكن لو كانَ لي عليكَ خمسةَ آلافٍ فقلتُ: "عفوتُ عنكَ" فقلتَ:
"والله لأعطينَّكَ إيَّاها"؛ فبمجرَّدِ أن أقول "عفوتُ عنكَ" ولو حلفتَ مائة مرَّة
أنَّك ستردَّها فقد سقطَ حقِّي.
ولذلك بعضُ النَّاس تجد إذا كانَ له مالٌ على قريبٍ له أو على من له منزلة من صداقة
أو غيرها، فيقول: ما نسيتُ الدَّيْن وإن شاء الله أعطيكه الشَّهر القادم.
فيقول له: لا أريد منك شيء؛ وهو يقولها على سبيل المجاملة أو المصانعة، أو
الاستحياء.
فنقول: هذه الكلمة تُذهب حقَّكَ، ولو ترافعتما إلى القاضي بعدَ هذا، فسيكون الحق
له.
طيب إذا قيل: هو حلف ليردَّها عليه!
نقول له: حلفه ويمينه لا أثر لها؛ لأنَّ العفو إسقاط، والإسقاط لا يحتاج إلى قبولٍ،
فهي قاعدة مُهمَّة، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتحفَّظَ.
بعض الناس يقول: خذ هذا المبلغ. فيسأله: هذا قرض؟ فيقول: لا أبغي منكَ شيء. ثم بعدَ
شهر يقول: فلان ما يَستحي، ما أعطاني حقِّي!
نقول: أنتَ أسقطتَّ حقَّكَ، ولا يجب عليه ردُّ الدَّيْن، وإذا ردَّه عليك فإنَّما
هو تجمُّلٌ منه وتبرُّعٌ بالأداء، وأنت إنَّما أسقطتَّ حقكَ بالإسقاطِ والعفو.
فينبغي للإنسان أن يعرف أن الإسقاط لا يحتاج إلى قبول.
ومثل ذلك العفو عن الدِّية، بعض النَّاس يقول: لا أريد إلَّا القتل، ولا أريدُ
الدِّية؛ ثم بعد ذلك يُمكن أن يرجع إلى الدِّيَة!
فنقول: الأصل أنَّه أسقطَ حقَّه من الدِّيَة.
فينبغي الانتباه لمثل هذا الأمر، فإنَّه من الأمور التي تفوتُ على كثيرٍ من
النَّاس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ صَالَحَ اْلقَاتِلُ بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّيَّةِ
جَازَ)}.
لو قال القاتل: أنا أعطيكم بدل الدية عشر ديات؛ فإنَّ هذا يُقبَل ويجوز لقوله تعالى
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة/178]، وجاء عن بعض الصَّحابة أنَّ بعضهم بذَلَ عشر
ديَّات فلم يُقبل منه؛ فاقتُصَّ، فدلَّ هذا على أنَّه لو قُبِل لصَحَّ ذلك، وهذا
يدل على أنَّ المصالحة على الدِّيَة بأكثر منها جائزٌ.
وهنا ينبغي أن نُنبِّه على مسألة، وهي أنَّه ينبغي أن يُفرَح بمثل هذا، لكن لا
يتداعى النَّاس إلى الدِّيات الكثيرة والمصالحة عليها بأكثرِ من ذلك؛ لأنَّ هذا وإن
كان خيرًا بعصمَة دم هذا القاتل، لكنه شرٌّ بالنسبة إلى التَّسهيل على ضعاف النفوس
وقليلي العقل والنَّظرِ أن يتسلَّطوا على الناس، ويكون منهم ظلمٌ وعدوانٌ، فلمَّا
كان الأمر بهذه المثابة وجبَ على الإنسان أن يتنبَّه لذلك وأن يحذَرَ منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: شِبْهُ اْلعَمْدِ، وَهُوَ: أَنْ يَتَعَمَّدَ
اْلجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِمَا لاَ يَقْتُلُهُ غَالِبًا فَلاَ قَوَدَ فِيْهِ،
وَالدِّيَّةُ عَلى اْلعَاقِلَةِ)}.
هذا قسمٌ بينَ قتل الخطأ وقتل العمد، وهو الذي يُسمُّونَه: شبه العمد، ففيه شَبَهٌ
من القتل العمد من جهةٍ، وفيه شَبَهٌ مِن قَتْل الخطأ من جهةٍ أُخرَى.
ويسمُّونه: شبه العمد، وخطأ العمد، وعمد الخطأ؛ وكلُّها تسميات متقابة.
وهذا القسم هو مذهب الحنابلة وهو قول الجمهور، خلافًا للمالكيَّة، فالمالكية يقولون
ما فيه شيء اسمه شبه العمد، فعندهم إما عمدٌ أو خطأ، ولكن يقولون إنَّ النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر «أَلاَ وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَأ الْعَمْدِ
قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِئَةٌ مِنَ الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي
بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَ» ، فدلَّ ذلك على أنَّه يُوجَد قسمٌ بينَ هذين القسمين وهو
شبه العمد -أو خطأ العمد، أو عمد الخطأ- وكلها أسماء متقاربة لهذا.
فلمَّا كان المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- على طريقة الحنابلة -وهو مذهب الجمهور-
فإنَّه حكى هذا القسم خلافًا للمالكيَّة، وإن كان عند المالكيَّة قولٌ آخرَ بالقول
بشبه العمد موافقةً للجمهور على ذلك -رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
متى يكونُ شبه عمدٍ؟
يقول -رَحِمَهُ اللهُ: (أَنْ يَتَعَمَّدَ اْلجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِمَا لاَ
يَقْتُلُهُ غَالِبً).
إذن منه قصدُ الجناية، لكن لم يقصد القتل، كأن يكون أراد لكزَه أو ضربَه أو قصدَ
أذيَّته، أو طَرَحَه، ولم يُرِد بذلك إزهاقًا لدمه وإذهابًا لروحه، وهذا إنَّما
يكون إذا كانت الجناية بما لا يقتُل غالبًا.
لو افترضنا أنَّ شخصًا جاء إلى آخرَ وأمسكهُ، ثم لكمَه أو لكَزَه برجله فمات، فليست
العادة أنَّ اللَّكزَ يقتل، فنقول: هذا ليس بعمدٍ لأنَّ اللَّكزَ بالقدمِ أو
الضَّربَ باليدِ لا يقتل إلَّا أن تكونَ في مقتلٍ فننتقل إلى القسم الأوَّل، كأن
يكون لكَزَه برجله في خصيته فهو في مقتل، لكن لو ضربه في رجله أو في يده فسقطَ
فمات، فهذا ليس بعمدٍ لأنَّ الآلة ليست قاتلة، وليس بخطأ لأنَّه تعمَّدَ، فلأجل ذلك
قالوا إنَّه شبه عمدٍ.
وهذا القتل لا يُوجب القصاص، ولكن فيه الدية المغلَّظة، وسيأتي بيانها -بإذن الله
جل وعلا.
وأصل قتل شبه العمد من السنَّة: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَلاَ وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَأ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِئَةٌ مِنَ
الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَ».
فهذا من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إيضاحٌ للقتل شبه العمد، وهو أن يتعمَّدَ الجنايةَ
عليه بما لا يقتل غالبًا.
وكما أشرنا: أنَّ هذا ظاهر في الآلات التي لا تقتل غالبًا، لكن قلنا في بعض الأحوال
قد تكون الآلة التي لا تقتل غالبًا قاتلةٌ حقِّ هذا.
على سبيل المثال: لو أنَّ شخصًا لكَزَ أو لَكمَ شخصًا برجله وهو قويٌّ صحيحٌ بدين؛
قلنا قطعًا إنَّ هذه ليست بآلة قتل غالبًا، فلا تكونُ عمدًا.
لكن لو جاء إلى وليدٍ لتوِّهِ خرجَ من بطنِ أمِّه، فيُمكن أن يموتَ بذلك، فستكون
آلة تقتل غالبًا.
إذن بيَّنَّا من جهةِ الأصل في الجملة ما يقتل غالبًا، لكن في بعض الأحوال بما
يحتفُّ بالأمر قد تنتقل الآلةُ التي تقتل غالبًا إلى كونها لا تقتل، أو العكسُ،
فإذا كان السُّمُّ ليس بقاتلٍ انتقلَ من كونه عمدًا إلى شبهِ عمدٍ، والعكسُ بالعكس،
اللَّكم واللَّكز ونحو ليس بقاتلٍ، لكن قد ينتقل إلى أن يكونَ قاتلًا في بعض
الأحوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: اْلخَطَأُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهَمَا: أَنْ يَفْعَلَ فِعْلاً لاَ يُرِيْدُ بِهِ الْمَقْتُوْلَ، فَيُفْضِيْ
إِلى قَتْلِهِ، أَوْ يَتَسَبَّبُ إِلى قَتْلِهِ بِحَفْرِ بِئْرٍ وَنَحْوِهِ،
وَقَتْلُ النَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُوْنِ؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ شِبْهِ
اْلعَمْدِ)}.
النوع الثالث: القتل الخطأ.
وهذا لا إشكال فيه، وهو محل إجماعٍ، وهو أن يحصلَ بغيرِ قصدٍ، والنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، والعفو هنا عفوٌ عن الإثم، أمَّا
حقوق الآدميين فهي محفوظةٌ مَصونةٌ باعتبارِ أنَّها اعتداءٌ وجناية.
فالقتل الخطأ معلوم، وهو مُستقرٌّ ولا إشكال فيه، وعُرِفَ في عمومات النُّصوص،
وأراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- إلى ما هو أخص هنا، وهو صور القتل الخطأ،
ففي بعض الأحوال يكون مردُّ الخطأ إلى الفعل، وفي بعضها إلى القصدِ، فبدأ بالفعل
فقال: (أَنْ يَفْعَلَ فِعْلاً لاَ يُرِيْدُ بِهِ الْمَقْتُوْلَ، فَيُفْضِيْ إِلى
قَتْلِهِ).
النَّوع الأول على سبيل المثال: أرادَ أن يُصيبَ غزالًا، فانزاحت الغزالُ عن مكانها
وإذا خلفها شخصٌ فأصابته الرَّمية -أو الرَّصاصة أو السَّهم أو الرُّمح- فقتلته،
فهذا خطأ في الفعل، فهو قاصدٌ الغزال ولكنه أصابَ شخصًا آخرَ لم يقصده.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ يَتَسَبَّبُ إِلى قَتْلِهِ بِحَفْرِ بِئْرٍ
وَنَحْوِهِ)، واحدٌ حفر بئرًا، وجاء شخصٌ أعمى وسقطَ فيها، فهو لم يقصد أن يُسقط
الأعمى فيها، لو كان حفرها للأعمى ليسقط فيها لكانَ كالقاصد أن يُلقيه من شاهقٍ، أو
أن يُرديَه في حفرة ونحوها فيكون عمدًا؛ لكن هذا حفَرَ حفرةً وجاء آخر فسقطَ فيها،
فيكون قتلَ خطأ.
ومثل ذلك قتل النَّائم، فلو أنَّ النَّائم انقلبَ كما يحصل كثيرًا أن تنقلب الأم
على ولدها وهي نائمة، خاصَّة إذا كان رضيعًا وهي جسيمة ونحو ذلك، فكثيرًا ما ينخنق
الصَّغير فيموت، فلا نقول إنَّ هذا قتل عمدٍ، بل هو قتل خطأ.
ومثل ذلك مَن لا عمدَ له، كأن يأخذ صبيٌّ مسدسًا وصوَّبه إلى شخصٍ فقتله، فالصَّبي
لا عمدَ له، لأنَّه لا يعي الأمور، وليسَ بمكلَّفٍ، فعمده خطأ، فنحكمُ من أنَّ هذا
الصَّبيَّ قتل قتلًا خطأً.
ومثل ذلك المجنون، حتى ولو توجَّه إليه بشيءٍ وهو لا يدري أنَّ هذا يُفضي إلى
القتل، فلأجل ذلك كان قتله في حكم الخطأ.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَتْلُ النَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُوْنِ؛
فَحُكْمُهُ حُكْمُ شِبْهِ اْلعَمْدِ)، يعني: من جهة أنَّه لا قصد فيه، وليس من شأن
الإنسان أن يفعل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (النَّوْعُ الثَّانِيْ: أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا فِيْ دَارِ
اْلحَرْبِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، أَوْ يَقْصِدَ رَمْيَ صَفِّ اْلكُفَّارِ،
فَيُصِيْبُ سَهْمُهُ مُسْلِمًا، فَفِيْهِ كَفَّارَةٌ بِلاَ دِيَةٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ
تَعَالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ})}.
النَّوع الثَّاني: أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا فِيْ دَارِ اْلحَرْبِ يَظُنُّهُ
حَرْبِيًّا.
لو أنَّ شخصًا يُحارب الكفَّار فقاتَلَهم، وما علمَ أنَّهم تترَّسوا بمسلمٍ، فنَظرَ
فإذا الذي أُصيبَ هو أحد المسلمين، فهذا قتل خطأ؛ لأنَّه ليس بمتعمِّدٍ لذلك.
وفي الخطأ هنا تجب عليه الدِّيَة ولا يجب عليه القصاص، ولكن بشرط أن لا يكون المسلم
معتديًا بالبقاء معهم، أمَّا لو كان هو الذين جاء معهم فكأنَّه قصدَ إباحةَ دم
نفسه، لكن لو أنَّهم هم الذين أحضروهم وجعلوهم تُرسًا لهم يستترون به عن رميِ
المسلمين؛ فمَن قتلهم من المسلمين يكون قتْلَ خطأ، لأنَّه أراد الكفار ولم يُردهم،
سواء كان ظانًّا أنَّهم مسلمين، أو صوَّبَ إلى الكفَّارِ فأصابهم؛ فكلاهما مسألتان
متوافقتان في أنَّه لم يقصد المسلمين، ولكن يختلف في كونه قصدَ الفعل وأصابَ غيرَه،
أو أنَّه فاتَه القصدُ ووقع في شيءٍ آخر، وبناء عليه فلا يكون في مثل هذه الأحوال
قتل عمدٍ، وإذا كان القتل قتل خطأ فإنَّه يندفع عنه حكمُ العمد الذي يُوجبُ القصاص،
وتجب عليه الدِّيَة، وعليه الكفارة، وسيأتي تفاصيل ذلك -بإذن الله جلَّ وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ شُرُوْطِ وُجُوْبِ اْلقِصَاصِ وَاسْتِيْفَائِهِ)}.
لَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنواع القتل، وكان النوع الأوَّل مُوجبٌ
للقصاص، والقصاص من قصَّ الأثر، وذلك أنَّ القصاص يُقتصُّ فيه من القاتل بمثل ما
قتلَ، سواءٌ أُريدَ بذلك الغاية -وهو القتل- فيُقتَل كما قَتَلَ، أو كان ذلك مما هو
أخص من هذا وهو أن يُقتَل القاتل بما قَتَلَبه.
إذن؛ القصاص هو: أن يُفَعل بالقاتل ما فعلَه بالمقتولِ.
واختلفوا هل المقصود من القصاص هو حصول القتل عليه؛ أو حصول القتل عليه بالآلة التي
قتل بها إن كان ذلك ممكنًا أو مباحًا؛ وسيأتي تفصيله -بإذن الله جل وعلا.
متى يجب القصاص ومتى لا يجب؟
في بعض الأحوال قد يكونُ القتلُ عمدًا وعُدوانًا، لكنَّه لا يُوجبُ القصاص؛ وذلك
لكون القاتل صغيرًا -مثلما قلنا قبل قليل- أو لكون أولياء الدَّم عفوا، أو لكونِ
بعض أولياء الدَّم صغارًا؛ فلا يكون لهم قولٌ، فلا يجب القصاص في الآنِ.
المهم؛ أنَّ هذا البحث فيمَن حُكِمَ عليه القصاص متى يجب ومتى لا يجب، فذكر الفقهاء
-رَحِمَهُم اللهُ تعالى- الشُّروط التي تُستجمَع لذلك حتى يتحقَّقَ وجوب القصاص،
ويتعلَّق بالقاتل التَّوفية والاقتصاص منه، كما قال -جلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة/179].
كيف يكون في الموت حياة؟
لأنَّه إذا قُتِلَ القاتل، فهو وإن كان قتلًا وإماتةً لكن حقيقته يؤول إلى الإحياء؛
لأنَّ الناس إذا عرفوا أنَّهم يُقتَلونَ كما قَتَلوا أمسكوا عن القَتلِ، وحفظوا
أنفسهم عنه، ولذلك كانت هذه من الآيات المعجزات الرَّبانيَّة، والعربُ كانت تقول
نحوًا من ذلك، فكانت تقول: "القتلُ أنفَى للقتل"، يعني: إذا قتلنا القاتل فنحنُ
ننفي أن يحصل القتل في الناس.
أظن أنَّ الوقت انتهى، لعلنا نجعل مستهلَّ اللقاء القادم هو الولوج في هذه الشروط
وذكر التفاصيل فيها.
أسأل الله لي ولكَ التَّوفيقَ والسَّدادَ، وجزى الله الإخوة المستمعين والمستمعات
حيثما كانوا حريصين على هذه المجالس خير الجزاء، وأن يزيدَهم من العلم، وأن يزيدهم
من الهُدَى، وأن يزيدَهم من التَّوفيق، وأن يزيدَهم من المتابعة، وأن يُيسِّرَ لهم
الأمور، وأن يُعقبَهم صلاحَ النِّيَّة والقصدِ، وأن يجعلهم من أهلِ العلم
الرَّبَّانيين، وأن يُعقبهم بذلك الرِّفعةَ في الدُّنيا والدِّين، وأن يجزيهم خير
الجزاء، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلمَ وبارك على نبيِّنا محمدٍ.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.