{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة شيخنا الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{تحدثنا يا فضيلة الشيخ في الحلقة الماضية عن غزوة حنين، ثم بدأنا في قصة وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهل تكملون يا فضيلة الشيخ ما وصلنا إليه}.
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
مر معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ به المرض والوجع، ثم كان بداية وجعه -صلى الله عليه وسلم- حينما حضر جنازة في بقيع الغرقد، رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت عائشة: "ورأساه"، فقال: «بل أنا وارَأْسَاه»، ثم لم يزل المرض بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتنقل بين نسائه، ثم رأى نساؤه -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك يشق عليه، فأذنَّ له أن يُمرض في بيت عائشة، ثم مُرِّضَ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك البيت، ثم أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجمعوا ماء في سبعة قرب من آبار شتى وأريقت عليه، ثم أحسَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بخفة، ثم خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الخطبة العظيمة وكان من ضمنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من مشابهة اليهود والنصارى في البناء على القبور «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ».
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: «إِنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ»، فبكى أبو بكر، فعجِب الصحابة لبكائه، كيف يبكي لأن الله خَيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فكان أبو بكر يعلم أن المُخيَّرَ، هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان أبو بكر أعلمَنا، ثم قال لما رأى بكاء أبا بكر -رضي الله عنه-، قال: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ»، وقد صدق رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم.
يعني: بذل أبو بكر لا يمكن أن ينسى، يكفي في فضله أن الله -عز وجل- نوه به في القرآن: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ﴾[التوبة: 40]، ولهذا بيَّن مكانة أبا بكر في تلك الخطبة الأخيرة، «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ باب إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ باب أَبِي بَكْرٍ».
وكانت تسمى الباب والخوخة وهي المنافذ على المسجد اختصارًا في الطريق، كانت الدور تحيط بهذا المسجد، فكان في سبيل الاختصار تفتح أبواب على هذا المسجد، على المسجد النبوي -مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لاَ يَبْقَيَنَّ إِلاَّ باب أَبِي بَكْرٍ»، لا شك أن ذلك إشارة إلى أنه هو الخليفة بعده، وقبل ذلك فيه أحاديث كثيرة جدًّا.
ويوم الخميس قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بأربعة أيام، اشتد به الوجع، فكان حوله جملة من أصحابه -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: «هلم أكتب لكم كتابًا لن تَضِلوا بعده»، قال عمر، وهو ممن كان حاضراً: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجَع"، أي: اشتد به الوجع "وعندكم كتاب الله، وقال بعضهم: قرِّبوا له كتابًا"، فحصل لغط واختلاف، النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحب الاختلاف لا في حضرته ولا في غيبته، فلمَّا أكثروا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا عني»، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يريدهم أن يختلفوا وهو حاضر ولا يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلافهم، بل بيَّن أن كثيرًا من الأمور منعت بسبب اختلافهم، وهذا مما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل أنهم اختلفوا.
ثم ثَقُل المرض، قالت عائشة: "ثَقُل النبي -صلى الله عليه وسلم- به المرض، فقال: «أصلَّى الناس؟»، قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: «ضعوا لي ماء في المخضَب»، قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب ليقوم فأُغمي عليه، ثم أفاق، ثم أُغمي عليه مرة أخرى، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس"، هذا يدل على حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة.
وكانت من آخر كلماته -صلى الله عليه وسلم- في وصيته بالصلاة، وقد طبق ذلك تطبيقًا عمليًّا «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، هذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الأمة، وهي معلم عظيم جدًّا.
قال: "فلما رأى أنه لا يطيق أرسل إلى أبي بكر أن يُصلي بالناس، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يصلي بهم، ووجد النبي -صلى الله عليه وسلم- خِفَّة، يعني: أحسَّ بالخفة وخف عليه الوجع، فخرج بين رجلين؛ لأنَّ المرض كان قد أقعده، وأمرهم أن يُجلسوه إلى جنب أبي بكر وهو يأتمُّ بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس يأتمُّون بصلاة أبي بكر، فصلى أبو بكر مؤتمًا بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك، قبل يوم وفاته -صلى الله عليه وسلم- أعتَقَ غلمانه وتصدَّق بسبعة دنانير كانت عنده، وفي الليل استعارتْ عائشة الزيت للمصباح من جارتها، لم يبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، توفِّي - صلى الله عليه وسلم - ودِرْعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير، وهذا يدلك على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترك من الدنيا شيئًا -صلوات ربي وسلامه عليه.
آخر يوم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يوماً مشهودًا، كان أثره على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أثراً عظيماً، يروي أنس فيقول: بينما أصحابه يصلون صلاة الفجر يوم الاثنين، وهو يوم وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر يُصلِّي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف سِترَ حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم يصلون، يعني: قام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم رآهم وهم يصلون، ثم تبسَّم ففرحوا بذلك، فالتفتوا بأبصارهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني: رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- خف وبرأ ولا شك أنها بشارة عظيمة، حتى كادوا أن يفتنون في بعض الروايات، فأشار إليهم: «أن أتمُّوا صلاتَكم»، كانت هي النظرة الأخيرة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ثم دخل الحجرة، وأرخى السِّتر، فكانت هذه آخر رؤية من النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة.
فدعا فاطمة -رضي الله عنها- وأرسل إليها، ثم جاءت وسارَّها بشيء فبكت، ثم سُئلت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرت أنه أخبرها أنه يُقبَض في ذلك الوجع، ولما ثَقُل النبي -صلى الله عليه وسلم- به المرض، وكانت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجواره، قالت فاطمة: "واكرب أبتاه"، فقال: «ليس على أبيك كرْبٌ بعد اليوم»، وكانت لحظات وداع، ودعا الحسن والحسين فقبَّلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه، فحضرن أزواجه وهو -صلى الله عليه وسلم- يعاني من المرض، فوعظَهن وذكَّرهن.
ثم بدأ الاحتضار برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزل به الموت، فأسندتْه عائشة إليها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنه- وبيده السواك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتضر فنظر إليه، فلما نظر إلى السواك قالت عائشة: "كأنك يا رسول الله تريده"، فأخذت ذلك السواك وليَّنتُه وأعطته النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يستاك به -صلى الله عليه وسلم.
لاحظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحافظته على سنته -صلى الله عليه وسلم- وتقريره للسنة، وهو في اللحظات الأخيرة كان يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- السواك وكان يستاك وكان يرغب هذه الأمة في هذه السنة العظيمة وهي سنة السواك.
وكان بين يديه -صلى الله عليه وسلم- رِكوة فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بها وجه، يقول: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ»، ثم في آخر لحظات حياته نَصَب يده، فجعل يقول: «في الرّفيقُ الأعْلَى، في الرّفيقُ الأعْلَى»، وجاء في الحديث أنه ما من نبي يموت إلا ويخيره الله -عز وجل- بين الموت وبين أن يبقيه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- اختار الرفيق الأعلى وهو الملائكة والنبيين.
تقول عائشة: "عند ذلك خرجت روح النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمات رسول بين سَحْري ونَحْري"، يعني: بين رقبتها وصدرها، السحر هي الصدر، والنحر معلوم، ثم كانت هذه الوفاة العظيمة وتلك المصيبة العظيمة، ذُهل الناس وأصابهم ما أصابهم لما علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
أقبَل أبو بكر وكان في السُّنح، وبلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فدخل على عائشة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد سُجّيَ، صاحبه في الغار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المكان من المحبة، فكشَف أبو بكر عن وجهه -صلى الله عليه وسلم-، ثم أكبَّ عليه، فقبَّله، ثم بكى، فقال: "طبت يا رسول الله حيًّا وميتاً"، ثم خرج على الناس وعمر يكلِّم الناس ويقول: "إن محمدًا لم يمت"، مصيبة نزلت على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، "وإنما سيعود ليقتل رجالاً"، هذا ذهول، مصيبة عظيمة وقعت حتى أنه لم يصدق الخبر، صار عمر يقول: "من قال إن محمدًا مات لأضربن عنقه بذلك السيف"، فقال له أبو بكر: "اجلس"، فأبى، وعند ذلك لما رأى أبو بكر عمر على هذه الحالة اعتلى المنبر، وهذا فيه دلالة عظيمة أن أبا بكر هو الخليفة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة والنص.
فتشهَّد أبو بكر وأثنى على الله، فمال الناس إليه، اجتمع الناس عليه، ثم قال: "أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت؛ ثم تلا قول الله -عز وجل- : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]، قال عمر -رضي الله عنه-: فكأنني لم أسمع الآية إلا يومئذ.
فلما بلغ الأنصار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، لا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمثل الخليفة، والأمة دون قائد تعتبر على خطر عظيم، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فخرجا وقصد تلك السقيفة، وحصل حوار ومناقشة، خطب الأنصار وتكلموا وقالوا: إما أن يكون منا أمير ومنكم أمير أو يكون منا نشترك في هذا الأمر، لما حصل هذا الخلاف والكلام، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: إنه قد سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعه أصحابه أنه يقول: الأئمة لقريش، ولا يرث هذه الإمامة إلا في قريش، وهذه وصية من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعند ذلك أذعن الأنصار -رضي الله عنهم - وبايع عمر أبا بكر وبايعه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل من كان في السقفية بايعوا أبا بكر -رضي الله عنه-.
ثم تولى غسله -صلى الله عليه وسلم- العباس والفضل بن العباس وقُثَم بن العباس وعلي بن أبي طالب، كل هؤلاء من أقاربه -صلى الله عليه وسلم-، أسامة بن زيد حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حِبه، ثم جعل الناس يصلون عليه أوزاعاً وأفرادًا وهو قد وضع على سريره -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك اختلفوا أين يدفن، فقال بعضهم: ندفنه في البقيع، فجاء أبو بكر وقال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ إِلَّا فِي مَكَانِهِ الَّذِي قَبْضِ فِيهِ»"، وهو -صلى الله عليه وسلم- قبض في حجرة عائشة -رضي الله عنها-.
عند ذلك أذعن الصحابة -رضوان الله عليهم- وحفروا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة أو في حجرة عائشة، ودفنوه -صلى الله عليه وسلم- وكان يوماً مشهوداً، يوماً حزيناً على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُرى مثله ولم يُرى مصيبة أصابتهم كما أصابهم ذلك المصاب بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف أن الوحي انقطع، كيف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان بين أظهرهم لم يروه، مصيبة عظيمة جدًّا، فقالت فاطمة: "كيف طابتْ أنفسُكم أن تَحْثوا التراب على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، لكنها هي سنة الله -عز وجل- في هذه الحياة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كغيره من الأنبياء وغيره من البشر في أنهم يدفنون وتكون هذه كرامة للإنسان أن يدفن ويكرم بهذا الدفن.
قال أنس وهو يروي الحالة والمصيبة التي أصابت أهل المدينة والأنصار والمهاجرين، قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا، فما هي بالقلوب التي كنا نعرف، يعني: بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- استنكروا قلوبهم، فما هي بالقلوب التي كانوا يعرفونها، ولهذا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- حزن أصحابه حزناً عظيماً وشقت عليهم تلك الوفاة، ولا شك أن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب عنهم أمان من وجوده -صلى الله عليه وسلم-، عند ذلك بايع الناس أبا بكر -رضي الله عنه-، وكانت خلافته -رضي الله عنه- خلافة راشدة وإن لم تكن طويلة، ومع ذلك استقام أهل الإسلام وقام أبو بكر ومعه عمر للدفاع عن الإسلام والدفاع عن الدولة الإسلامية الناشئة، وواجه أبو بكر -رضي الله عنه- أحداثًا جسيمة منها حدث الردة وارتداد العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنفاذ جيش أسامة وقاتل المرتدين في سنوات قليلة، سنتين وشيء خلافة أبي بكر، ولكن الله -عز وجل- بعد تلك السنتين وشيء من الأشهر لحق أبو بكر -رضي الله عنه- برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا فالمواقف والدروس كثيرة جدًّا من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما الدرس الأول: فهو أن الله -عز وجل- قد كتب الموت على كل شيء، فليس لأحد دوام ولا خلود، ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾[الأنبياء: 34]، فالخلد ليس للبشر، والله -عز وجل- لم يكتب أن يخلد أحد منهم، والأنبياء يجري عليهم كما يجري على غيرهم من الموت، ولكن الأنبياء لهم خصوصية في موتهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- انتقل بعد ذلك إلى الدار الآخرة وإلى البرزخ، ولا شك أن الأنبياء في الرفيق الأعلى مع الأنبياء، ﴿مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيق﴾[النساء: 69].
فالموت مصير الإنسان، لا بدَّ أن يؤمن بهذا وأن يعرف هذا غاية المعرفة، وأن يستعد لهذا الموت الذي نزل بمن هو خير منا، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في الموت شيء إلا أنه انتقال من حياة إلى حياة وانقطاع للعمل، وانقطع عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يراه الصحابة، وإن كانت آثار عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- باقي إلى يوم الدين، لكن أقصد بقائه وما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته وانتقل إلى الدار الآخرة، وإلا عمله -صلى الله عليه وسلم- هو يشاركنا ثوابنا في أعمالنا؛ لأنه ما من خير إلا ودلنا عليه، فكل الخير الذي نفعله لا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دلنا عليه.
كذلك من الدروس العظيمة: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحذيره من الشرك وإكماله لهذا الدين، يعني: لم يتوفاه الله -عز وجل- إلا بعد أن أكمل الدين، وكما قال ذلك الصحابي: تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على البيضاء، يعني على الصخرة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وما من شيء إلا وأخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرهم بأشياء، يخبرهم بأحكام ويخبرهم بغيبات.
فإنه مرة قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- قام مقاماً عظيماً من صلاة الفجر حتى غربت الشمس، فكان لا يحول بينه وبين خطبته وكلامه إلا الصلوات الخمس حتى أخبرنا بما هو كائن، فكان أعلمنا هو أحفظنا، من كان حفظه قويا هو أعلمنا، وكان من هؤلاء أبي هريرة -رضي الله عنه- وكان حافظاً، وأعطاه الله -عز وجل- قوة حفظ، ولهذا كان أبو هريرة يعرف تفاصيل إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمغيبات، حتى أنه قال: "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لقُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ"، يعني: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- يحفظ أسماء الخلفاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن يكون منه الظلم، ولا شك أن أبا هريرة أدرك جزءًا من خلافة بني أمية، ولا شك أن بعض خلفاء بني أمية حصل منهم الشطط والخروج عن منهاج النبوة في أشياء.
فإذاً النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغ البلاغ المبين في مثل هذا.
موقف عائشة -رضي الله عنها- وموقف الطاعنين فيها، كون النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض في بيتها إنما يدل على فضيلتها -رضي الله عنها- وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات بين سحرها ونحرها، وهذه رسالة لكل من يشكك في أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهم عائشة -رضي الله عنها- الصديقة بنت الصديق المبرأة من كل عيب، فكيف لشخص يزعم أنه مسلم ثم يتعرض لعائشة -رضي الله عنها- بالطعن والسب والافتراء عاملهم الله -عز وجل- بعدله.
مر معنا في القصة حدث مهم جدًّا لعلنا أن نعرج عليه، وهو من الدروس العظيمة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ائْتُونِي باللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ، ائْتُونِي اَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ اَبَدً»، هذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم، وقال ابن عباس: "إن الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب هذا الكتاب"، مضمون هذا الكتاب ليس بمعلوم عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الظاهر أو في الرواية، ولهذا فمن عادة أهل الزيغ الذين ذكرهم الله -عز وجل- في محكم كتابه أنهم يتبعون المتشابه، وليس هو بالحديث الذي يتبعون فيه المتشابه، لأن الله -عز وجل- قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[آل عمران: 7].
فقاعدة أهل السنة أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، يعني يفهمون الرد معنى أنهم يستمسكون بالمحكم، الرد هو أنهم يفهمون المتشابه في ضوء المحكم، وهذا الحديث مما يظهر فيه التشابه في المعنى، ما هو مضمون هذا الكتاب، ولهذا شبه بعضهم على الناس قال أن الكتاب فيه وصية بإمامة علي -رضي الله عنه- وأن الصحابة ومنهم عمر حال بينه وبين أن يكتب هذا الكتاب لأجل أن لا يوصي بعلي بهذه الإمامة، وأن علي هو الوصي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن الصحابة منعوا من تلك الوصية وغصبوا عليًّا حقه، كل هذا من الافتراء والكذب واتباع المتشابه، والمحكم هو النص على إمامة وخلافة أبي بكر دون منازعة، والمتشابه ما خالف ذلك.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته التي خطب قال: «لاَ يَبْقَيَنَّ باب إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ باب أَبِي بَكْرٍ»، وهذه إشارة عند أهل العلم على أنه الخليفة بعده، إذعان الصحابة -رضوان الله عليهم- بأبي بكر دليل على أنهم يعرفونه، ولهذا مر معنا في غزوة أحد أن أبا سفيان قال: أفيكم محمد؟ ألا تجيبوني؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ يعني حتى قريش يعرفون أن أولى الناس بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر وعمر، هذا محكم لا خلاف فيه بين الصحابة، تعرضاً لذلك والافتراء في ذلك لا شك أنه إجماع على إجماع الصحابة، ولهذا طلب منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحضروا له كتاباً ليكتب فيه لأمر لم يفصح عنه -صلى الله عليه وسلم- وهو في وعك وفي تعب شديد، فاختلفوا في ذلك -كما مر معنا-، فقال عمر: "غلب النبي -صلى الله عليه وسلم- الوجع وعندنا كتاب الله هو حسبنا" وأصر آخرون على أن يكتب، فحصل هذا اللغط والاختلاف، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قُومُوا عَنِّي».
لهذا أهل العلم أجابوا إجابات عن هذا الكتاب كما قلنا: إنه المتشابه الذي يرد المحكم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو كان ما يكتب في الكتاب مما يجب بيانه وكتابه لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه"، يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد، فدل على أنه على وجه الاستحباب هذا الكتاب؛ لأن القول بأنه من الدين معناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قصر في التبليغ، مع أن الله -عز وجل- أنزل في المحكم من كتابه: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة: 67]، إذا كان هذا من الدين، فإذًا النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع عن البلاغ وحيل بينه وبين البلاغ، إذاً النبي -صلى الله عليه وسلم- عاص في القول بهذا، فيترتب عليه محظور يلزم منه هذا القول الباطل.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما ترك شيئًا من أمر الدين إلا وقد بينه، والزعم أنه شيء من الدين ما بلغه وأن الصحابة حالوا بينه وبين التبليغ هو الحقيقة تكذيب لقول الله -عز وجل-: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾[المائدة: 3]، ولهذا قال بعض أهل العلم ومنهم ابن حزم -رحمه الله-: أن الذي لم يكتب هو استخلاف أبي بكر، الكتاب أراد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستخلف أبا بكر وأن يكتب كتاباً في ذلك، حتى لا يقع الضلال في الأمة بعد ذلك، لكن شاء الله -عز وجل- أن لا يكون منه ذلك الكتاب، وكانت خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- ليست استخلافًا من النبي فقط وإنما هو استخلاف واختيار من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا شك أن كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يستخلف ليس هو بمعنى الاختيار، فاجتمعت له الإشارة عليه وإن كان لم يكن ذلك على علم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- جميعًا والنص على ذلك، ثم اختاروا فوافق اختيارهم استخلاف النبي -صلى الله عليه وسلم- له، فإذاً هذا حديث لا يمكن فيه التعرض لخلافة أبي بكر -رضي الله عنه- وهذا أمر مستقر.
ثم أنه من الغريب جدًّا أن من عادة أهل البدع والضلال أنهم يعمدون إلى هذا المتشابه، وليس هو الحديث الوحيد الذي يجعلونه ويتكلمون في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بسببه، فيه أحاديث الحوض أن نفرًا من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- يَرِدن عن حوضه، ثم يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فيقال: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، فيزعمون أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتدوا إلا بضع نفر من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- ويجعلون من ارتد يجعلونه على رأسهم أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، كل هذا كذب وافتراء على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أكرمهم الله -عز وجل- وجعل لهم هذا الفضل.
من الغريب جدًّا أنهم حينما يريدون أن يطعنوا في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعمدون إلى مرويات أهل السنة المروية في كتبهم ويجعلونها عمدة لهم في الطعن في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أنهم ينتقون في ذلك، فيأخذون من مرويات أهل السنة ما يوافق بدعهم وضلالاتهم، فيحتجون به أو يشبهون به على أهل السنة والجماعة.
هذا فيما يتعلق بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- مصيبة عظيمة، ولكن من بشائر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أن الإسلام ليس مرتبط بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بل النبي -صلى الله عليه وسلم- أدى الأمانة وبلغ الرسالة ولم يمت إلا حتى أقر الله عينه بنصرة الإسلام وبظهور الإسلام، وقد بشر هذه الأمة بأن هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار فلا يترك وبر ولا مدر إلا دخله بعز عزيز وبذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله، فهذا الدين منصور بنصر الله -عز وجل-، وقد بلغ -ولله الحمد- ما بلغ الليل والنهار، فلن تجد رقعة من رقاع الأرض إلا وتجد فيها هذا الدين القويم، بل إنه في المناطق في القطب الشمالي وفي أجزاء منها تجد هناك بيوت الله -عز وجل- ومساجد ويتلى فيها القرآن ويُصلى فيها الصلوات الخمس، وهذا من فضل الله علينا، فضل الله على الإسلام، من فضل الله على أهل التوحيد أن هذا الدين انتشر والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق قال: «عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام وأهله»، فدل أن العز والتوفيق هو بنشر هذا الدين القويم وبأن يكون الإنسان داعياً إلى الخير، داعياً إلى ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وآخر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمور عظيمة جدًّا: من ضمن الأمور التي نبه عليها أمر التوحيد، فحذر من بناء المساجد على القبور وأخبر أن ذلك الأمر هو طريقة أهل الكتاب اليهود والنصارى، ودعا ربه أن لا يجعل الله قبره وثناً يعبد، وقد أجاب الله دعوته -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُعبد قبره -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن وثنًا، ولا يسمح بالطواف به أو بفعل أمور الشرك، وهذا من فضل الله علينا ومن فضل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن إجابة دعوته.
كذلك من وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أوصى بالأنصار خيرًا، وكذلك أمر بأمر الصلاة، فقال: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، وهذا يدل على رحمة الإسلام، يعني حتى الفئة الضعيفة المغلوبة على أمرها وهم من حصل لهم ملك اليمين والرق كان موجوداً في الأمم السابقة، ووجد في هذه الأمة الإسلامية ولكن كان رقاً منظماً ورقاً له سبيل واحد، ليس له سبيل آخر، فهو كما قال أهل العلم في العبودية والرق: أنه عجز حكمي سببه الكفر، فسببه الكفر حينما يغزو المسلمون الكفار ويكون ذلك السبيل، وكان موجود في الإغريق والرومان والأمم السابقة كلها، حتى في الديانات اليهودية والنصرانية موجود، ولكن الإسلام نظم أمر الرق وكان أهل الإسلام توجيهات الإسلام إلى إضعافه إلى آخر نقطة، فيكفي أن الثواب لمن أعتق رقيقاً وعبداً، لأن الله يعتق بكل عضو منه عضو من النار، إذًا يتشوف الإسلام للحرية للناس جميعًا، وإن كان هذا الرق موجود، ثم وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ».
وثم في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، يعني استوصوا بما ملكتم أو ما ملكت أيمانكم من الرقيق والعبيد والإماء خيرًا فأحسنوا إليهم، وهذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذاً ديننا دين الإسلام دين رحمة يشمل كل الأمور ولا يترك شيئًا إلا وقد بينها، فالحمد لله الذي شرفنا بهذا الإسلام، ورفعنا بهذا الإسلام، وجعلنا -إن شاء الله- من الدعاة إلى هذا الخير، ومن الموفقين لهذا الخير.
وتشرفنا في الحلقات الماضية بالتعطر بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي الختام أنا في الحقيقة أنبه إلى أمر مهم جدًّا، وهو أن الناشئة والصغار والناس جميعًا بحاجة إلى أن يقرءوا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يستلهموا ما فيها من الدروس والعبر، فقبيح بالمسلم أن لا يعرف سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا المعارك التي غزاها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا التضحيات التي قدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبيل نشر هذا الدين ورفع مكانة هذا الدين القويم.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
شيخنا الصحابة -رضي الله عنهم- الذين قدموا التضحيات العظيمة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان عندهم معلم عظيم ومعنى عظيم بعد وفاته، وهو أنهم يثبتون على ما فارقوا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، في طاعاتهم وفي عباداتهم وإيمانهم، فهل تحدثنا يا فضيلة الشيخ عن هذا المعنى وعن ثبات الصحابة -رضي الله عنهم-، وأنه ينبغي لنا أهل الإسلام أن نثبت على ديننا حتى نلقى الله -عز وجل- ونلقى نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة ونحن ثابتون على هذا الدين متمسكون به}.
لا شك في ذلك ولا شك أن من أسباب نصرة الإسلام ثبات الصحابة -رضوان الله عليهم- على دينهم، وتضحياتهم العظيمة، فموت النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان أثر فيهم تأثيراً بليغاً وهو مصاب عليهم، لكن ذلك لم يمنعهم من التضحيات والقتال والثبات على هذا الدين، والمرحلة الأولى عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مرحلة جسيمة جدًّا وكان موقف صعب، ولكن الصحابة ثبتوا لأنه بدأ أهل النفاق يشيعون أن العرب ارتدت ويكذبون ويذكرون أشياءً وامتناع بعضهم عن أداء الزكاة، لا شك أن ذلك موقف جسيم جدًّا، حتى وصفته عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كالشياه في الحظيرة في الليلة المطيرة"، أمر مخوف جدًّا لكن ثبات أبي بكر -رضي الله عنه- في إنفاذ جيش أسامة أثر في صفوف الأعداء، دل على أن الإسلام مازال قويًّا والمسلمون قد اجتمعوا، ثم بعد ذلك إرسال أبو بكر -رضي الله عنه- خالد إلى اليمامة لقتال المرتدين في اليمامة وكسر شوكتهم في ذلك اليوم العظيم حينما قاتلوا مسيلمة الكذاب في اليمامة، لا شك أن ثبات الصحابة كان له أثر، وهذه رسالة للأمة جميعًا: أن الثبات حتى الممات، فثبت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، الثبات على الدين، لا شك أن أعظم ما يقوي الإنسان في ثباته أن يقرأ سير العظماء وسير الثابتين، لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أن المؤمن يمر بفتن، يعني فتن مادية وفتن معنوية ولا يزال الإنسان يفتن ليظهر الله -عز وجل- ويميز الله -سبحانه وتعالى- الخبيث من الطيب.
فثبات الإنسان على دينه وعلى تقوى الله -عز وجل- وخاصة أن الأمر قصير، يعني الإنسان إنما هي أيام وليالي معدودة ثم يغادر الإنسان، وثبات الإنسان في ظل الفتن والمغريات لا شك أنه قيمة عظيمة جدًّا ينبغي أن يترسمها الناس في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يقتدوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر العظيم، ولولا ثبات الصحابة لما وصلنا هذا الإسلام، ولولا ثبات العلماء، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه» أهل العدل الذين يبلغون الدين، بقي الصحابة -رضوان الله عليهم- خلفهم التابعون، ثم تابعوا التابعين، ثم الأئمة من كل قرن يتناوب أهل العلم في تبليغ هذا الدين والثبات عليه، فالثبات قيمة عظيمة جدًّا أمام هذه المغريات، والإنسان دائمًا في ظل المغريات لا بدَّ أن يتذكر ما وعده الله -عز وجل- لعباده في الآخرة، يذكرنا موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الأنصار حينما قال: «أوَجَدتُم لُعاعَةٍ مِن الدُّني»، يعني الدنيا إنما هي أشياء حقيرة.
النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم خلق الله -عز وجل- مات وهو درعه -صلى الله عليه وسلم- مرهونة في خبز شعير -صلوات ربي وسلامه عليه-، فدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج ولم يخلف شيء، الأمور المادية ينبغي أن لا يكون للإنسان أثرها أو يتأثر الإنسان بها كما قال الإمام أحمد، لما قيل له قال: "إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ثم المصير إلى الله"، لا بدَّ الإنسان يتذكر النهاية الأخيرة لحياته وأنه إنما هو جعله الله -عز وجل- في هذه الدنيا ابتلاءً، والموفق من وفق الله للخير، ولهذا دائمًا الإنسان لأن العواصف والرياح تهب على الإنسان في مراحل حياته، المغريات كثيرًا جدًّا، لهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فالقلوب تتقلب وتمر بأشياء وتضعف، فإذا لم يثبتها الله -عز وجل- لم يثبت، فالثبات لا شك أن له دور عظيم، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الدجال قال: «يا عباد الله إنه عاث خلة في الشام وفي العراق يا عباد الله أثبتو»، ثبات على الدين قيمة عظيمة جدًّا، والثبات توفيق من الله -عز وجل- ولكن له أسباب، أسباب الثبات الاستقامة على طاعة الله -عز وجل-، المحافظة على الصلوات وقراءة القرآن وحفظ القرآن وقراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والارتباط بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا شك أنه من أعظم أسباب الثبات على هذا الدين القويم، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبتنا على الدين القويم، وأن لا نرحل من هذه الدنيا إلا ونحن غير مفتونين ولا خزايا وأن يميتنا على الإسلام وأن يتوفانا على الإسلام.
{شيخنا في ختام هذا الحلقات نريد وصايا للمشاهدين تتعلق بالسيرة النبوية، سواءً في دراستها، سواءً في الحرص عليها والتمسك بها، في تكرارها، في مراجعتها، في بثها بين البيوت وبين الأهل والإخوان وبين الأقارب}.
الحقيقة من المؤلم جدًّا أنك لو سألت بعض الشباب وبعض الناشئة عن بعض الأحداث ربما يجهلونها، لو سألتهم عن غزوة أحد وعن غزوة بدر يجهلونها، مع أن السيرة من السهل جدًّا عرضها على الناس، لأنها قصص وطبيعة الناس يحبون القصص، فحري بطلاب العلم والدعاة عموماً أن يجملوا أحاديثهم بهذه القصص في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناشئة خاصة، يعني لو أن الأم تحدث أبنائها بغزوة بدر وغزوة أحد، والحمد لله الآن ميسرة، هناك كتب مختصرة جدًّا لا تعرض لها التفصيل وإنما تذكرها في سرد وحكاية ليسمع الناشئة ذلك ويتعلموا، فالحقيقة من المهم جدًّا أن يتعلموا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحداثها وكيف وقعت وغزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- وسراياه مفيدة جدًّا، والخطباء والأئمة ندعوهم إلى أن يكون مثلاً خطبة من الخطب عن بئر معونة أو عن قصة الرجيع، أو عن أحد أو عن بدر، حري به أن يحدث الناس ويعلمهم، هذا من التعليم من نشر سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويبدأ لهم بالسرد البسيط، والناشئة يناسبها ومن هو أعلى يتعلم، ويمكن أن تكون السيرة عن طريق السؤال والجواب، وأنا أجد في بعض المواقع الالكترونية أسلوب جيد جدًّا وهو أن تكون على طريقة السؤال والجواب.
يعني غزوة أحد كم كان عدد المسلمين، كم كذا؟ كم كذا؟ يسهل حفظها معرفتها، فقبيح من الإنسان أنه ما يعرف غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-، يحدث بها غيره ويحدث بها المجتمع، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بما قلنا وأن يجعل كلامنا حجة لنا لا حجة علينا، وأن يجعلنا من الموفقين.
{شيخنا الكريم: هل يصح إن نقول أن الغاية العظمى للمسلم من دراسة السيرة هي الاقتداء والاتساء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، إذا تعلم الإنسان السيرة النبوية وأحداثها وتفصيلاتها عرف كيف يقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وتمثل في كل حدث من أحداث حياته مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا مرض تذكر مرض النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا جاع تذكر جوع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا افتقر، وهكذا في كل حياته يتذكر سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنها أمام عينيه، فيتمثلها واقعًا في حياته}.
لا شك أن معالم السيرة كثيرة جدًّا، مثل ما تفضلت الجوع، الصبر، صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو معلم كبير جدًّا وأن الدعاة إلى الله -عز وجل- لا بدَّ أن يصبروا ويصابروا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صبر في سبيل رفعة هذا الدين، كذلك تأله النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه -سبحانه وتعالى- لم ينقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- من التأله والتعبد والدعاء والاستغاثة بالله -عز وجل- في كل أحواله، وجرى على النبي -صلى الله عليه وسلم- الابتلاء، فإذا كان أشرف الخلق أوذي -صلى الله عليه وسلم- وألقي سلا الجزور عليه، بل وأصابته الجراحات، هذه سلوى للإنسان أن قد يؤذى في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصبر ويحتسب وأسوته في ذلك محمد -صلى الله عليه وسلم-، مع أنه أكرم على الله -عز وجل- من كل خلقه، ولكن الله -عز وجل- أراد أن يربيه ويربي هذه الفضائل في الأمة، لأنه هو الأسوة.
فكانت تلك الأحداث الجسام معلم للأمة ونور يهتدى به الناس إلى يوم الدين، ليقرءوا هذه السيرة العطرة ويقرءون المواقف، كذلك من معالم الأحداث النبوية أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا ثنى الله -عز وجل- عليه، قال: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران: 159]، فالداعية إلى الله -عز وجل- يحتاج الصبر، يحتاج أن يكون متجملًا بالأخلاق الفاضلة، يحتاج القرب من الله -عز وجل-، النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أن الله -عز وجل- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقوم مقاماً طويلاً يتعبد الله -عز وجل-، القدوة الحسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يمثل القدوة الحسنة، يعني في آخر حياته النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أن يراق عليه الماء حتى يصلي بالناس، ثم يؤتي به يهادى بين الرجلين ثم يصلي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قاعد، قيمة عظيمة جدًّا في التعبد، وكانوا يرون من النبي -صلى الله عليه وسلم- امتثال ولم يروا من النبي -صلى الله عليه وسلم- الإقبال على الدنيا، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعيش في شغف من العيش، بل كان يجوع، بل كان يربط الحجر عليه من الجوع، ما فعلنا هذا نحن، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان يجلس على الحصير ويتوسد الليف، فكانت معالم عظيمة حتى فارق هذه الدنيا إلى آخر حياته، ولم يستمتع النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يستمتع الملوك والعظماء، بل عاش -صلى الله عليه وسلم- البساطة والبذاذة حتى توفاه الله -عز وجل- وخيره فاختار الرفيق -فصلوات ربي وسلامه عليه-، جمعنا الله به في جنات نعيم.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم وشكر لكم ما قدمتم وجعله في ميزان حسناتكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقات وبرامج قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.