{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزئنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم البناء العلمي، نحن وإياكم في ظلال سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع كتاب "الفصول من سيرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ.
ضيفنا في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. باسمي وباسمكم جميعًا أرحبُ بفضيلة الشيخ}.
حياك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل ـ زوجاته
في زوجاته رضي الله عنهن:
أول من تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
فكانت وزير صدق له لما بعث، وهي أول من آمن به على الصحيح.
وقيل: أبو بكر. وهو شاذ.
ولم يتزوج في حياتها بسواها لجلالتها وعظم محلها عنده. واختلف أيها أفضل هي أو عائشة -رضي الله عنهما؟ فرجح فضل خديجة جماعة من العلماء.
وقد ماتت قبل الهجرة بسنة ونصف)}.
رضي الله عن خديجة، تزوَّجها النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعمره في الخمس وعشرين سنة، وهي عمرها في الأربعين، وهذا الزَّواج يدلُّ على أنَّ زواج النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمور أخرى غير ما يقصده الرجال من الاستمتاع بالنساء، وإنما كان لمعانٍ عظيمة جدًّا.
وكانت خديجة -رضي الله عنها- بعثت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتَّجر في بضاعتها مع غلامها ميسرة، ثم لَمَّا علمت بعظيم خلقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رغبت في أن ينكحها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان لها هذا الشرف الكريم العظيم، وهو زواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها.
وهذا دليل على أنَّ عقد الزواج في الإسلام لا يُعتبر فيه مسألة السِّن، فبعض الناس يأنف من الزواج ممن هو أكبر منه، فلنا أسوة في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمقصود هو حصول هذا الزَّواج والعفاف والستر للإنسان، والاستمتاع بما أباحه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الحلال، فهذه معاني مُهمَّة جدًّا ينبغي أن لا يغفل عنها الإسلام، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدوة في هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم تزوج سودة بنت زمعة القرشية العامرية، بعد موت خديجة بمكة، ودخل بها هناك، ثم لَمَّا كبرت أراد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلاقها، فصالحته على أن وهبت يومها لعائشة وقيل: له، فجعله لعائشة)}.
الصَّحيح أنها خشيت من طلاق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها وهي كبيرة، والصَّحيح أنها وهبت يومها لعائشة طلبًا لرضا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنها ربما رأت أنها كبُرَت، وربما يترتب على ذلك أشياء في ظنها، فجعلت يومها لعائشة.
قال أهل العلم: هذا هو الأليق بكمال هديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحينما يسمع الإنسان -أو يقرأ- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بدَّ أن يظن أن هذا هو اللائق بكماله.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إذا حدَّثتكم عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فظنُّوا به الذي أهناه وأهداه وأتقاه".
فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوَّج أم المؤمنين سودة وهي كبيرة، وهذا يدلُّك -كما ذكرتُ لكَ- على أن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقاصد في النكاح ومعاني غير مقاصد البشر الآخرين، فإنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيد ولد آدم، وله مصالح شرعية، ومن ضمن المصالح الشرعية: المصاهرة، فقد يقصد الإنسان المصاهرة لأمور معينة ومعاني عظيمة، كما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعلها، فتزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم المؤمنين سودة وعمرها في الخمسين، وذلك بعد وفاة زوجها السَّكران بن عمرو بن عبد شمس، وكان حليفًا في قريش، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكَّة فمات فيها، فجزءٌ من زواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها كان تطييب لخاطرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وفيها نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضً﴾ الآية.
وتوفيت في آخر أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقيل: تزوج عائشة قبل سودة، ولكنه لم يبن بها إلا في شوال من السنة الثانية من الهجرة، ولم يتزوج بكرًا سواه)}.
لاحظ الآن: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يقصد النكاح لذاته لربما لم يتزوَّج إلَّا الأبكار، فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوج الكبيرة وتزوج الثيب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولم يأته الوحي في لحاف امرأة من نسائه سواها، ولم يحب أحد من النساء مثلها، وقد كانت لها مآثر وخصائص ذكرت في القرآن والسنة)}.
تميَّزت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- بميزات عظيمة جدًّا، ويكفيها شرف أنها زوجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأن أباها هو أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهي مبلِّغة سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكثير من السنن البيتية إنما نُقلت عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها- وقد أنزل الله براءتها في القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: 11]
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يعلم في هذه الأمة امرأة بلغت من العلم مبلغه)}.
ولا شك في ذلك، فهي أعلم وجات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتوفيت سنة سبع -وقيل ثمان- وخمسين.
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في السنة الثالثة من الهجرة، وقد طلَّقها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم راجعه)}.
كان سبب طلاقها فيما ذكر أهل السِّيَر -رَضِيَ اللهُ عَنْها: ما جُبلَت عليه من غيرتها الشَّديدة، وهذا قد يقع من النساء، فبعض النساء قد يكون فيها غيرة شديدة، وهذه الغيرة تفسد العلاقة الزوجيَّة إذا زادت عن حدها، وكان جزء من مصالح طلاقها كان صيانة لها من هذه الغيرة، وجاء في بعض الروايات أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا طلَّقها جاءه جبريل فأمره بمراجعتها، وقال له: "إن الله يأمرك ان تراجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة" .
وهذا فيه بيانٌ أن الطَّلاق قد يقع من الفضلاء ومن خيار الناس، ومنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد يكون حلًّا حينما تكون استدامة الحياة الزوجيَّة يترتب عليها ضرر أكثر من الانتفاع، ولهذا شرع الله الطَّلاق، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلَّقَ، وهذا من المصالح الشرعية في طلاق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحفصة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتوفيت سنة إحدى وأربعين. وقيل: وخمسين. وقيل: سنة خمس وأربعين.
ثم أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية ـ واسمه حذيفة ـ ويقال: سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية، وذلك بعد وفاة زوجها أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن مخزوم، مرجعه من بدر)}.
مرَّ معنا في الفصل السابق قصة أم سلمة مع زوجها، وهجرتها، وأخذ الصبي منها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فابتليت بوفاة زوجها، وكان جزء من نكاح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها تطييب لخاطرها وإحسانًا غليها، وهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكريم المُحسن.
وكما جاء في الحديث: أنَّه لَمَّا مات زوجها أمرها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تسترجع وأن تقول: «اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْه» . تقول أم سلمة: حينما قلتُ هذا، قلتُ: ومَن خيرٌ من أبي سلمة! فأكرمها الله -عز وجل- بمَن هو خير، فحسن الظَّن بالله -عَزَّ وَجَلَّ- مهم جدًّا في دعاء المسلم لربه -سبحانه وتعالى- نسأل الله أن يرزقنا إحسان الظن بربِّنا.
9:47 الى 11:37
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما انقضت عدتها خطبها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يقتضي أن ذلك أول السنة الثالثة، وقد كان ولي عقدها ابنها عمر، كما رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة.
وقد جمعت جزءًا في ذلك، وبينت أن عمر المقول له في هذا الحديث إنما هو عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأنه كان الخاطب لها على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا يُبين كيف تم العقد، وابن عقيل الحنبلي -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: ظاهر كلام أحمد أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُشترَط في نكاحه الولي، وهذا من خصائص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاصَّة أنه هو الإمام، والإمام ولي مَن لا ولي له، وأم سلمة ما كان لها ولي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ذكر الواقدي وغيره أن وليها كان ابنها سلمة، وهو الصحيح إن شاء الله)}.
تكلم أهل العلم في هذا وان ابنها سلمة كان صغيرًا، والولاية لا تكون للصغير، ولعل ما ذكرتُ فيه جوابٌ -إن شاء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ذكر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها بغير ولي، والله تعالى أعلم)}.
يعني ما حقَّق ابن كثير في المسألة، وذكرتُ لكَ أنَّ هذا من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم هو يُمثِّل ولي مَن لا ولي له؛ لأنه هو الإمام، فحينما لا يكون للمرأة ولي؛ فإنَّ الإمام -ويُمثَّل في القاضي- له أن يعقد، حينما يكون العضل من الولي، وهذا معروف في أحكام الشريعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال الواقدي: توفيت سنة تسع وستين. وقال غيره في خلافة يزيد بن معاوية سنة اثنتين وستين.
ثم تزوج زينب بنت جحش في سنة خمس من ذي القعدة، وقيل: سنة ثلاث، وهو ضعيف.
وفي صبيحة عرسها نزل الحجاب، كما أخرجاه في الصحيحين عن أنس، وأنه حجبه حينئذ وقد كان عمره لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عشرً).
زينب -رَضِيَ اللهُ عَنْها- كان فيها ورع عظيم، ولَمَّا حدثت قصة الإفك كانت أختها حمنة بنت جحشٍ قد وقعت في شيءٍ من هذا، وتقول عائشة: "وأما زينب فقد حماها الله بالورع في الدين" -رَضِيَ اللهُ عَنْها، ولها قصة عظيمة في زواجها من زيد، ونزول القرآن بنكاح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فدل على أنه كان قد استكمل خمس عشرة سنة. والله أعلم.
وقد كان وليها الله -سبحانه وتعالى- دون الناس، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَ﴾)}.
زيد بن حارثة كان مولى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل البعثة قد تبنَّاه، وكان يُسمَّى زيد بن محمد، وكان من أحب الناس إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانَ حِبُّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابنه حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه، يعني: كان محبوبًا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان يُحبه حبًّا عظيمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي أشار على زينب أن تتزوج زيدًا، ولكن الطبيعة البشريَّة قد تُوجد أشياء من التَّنافر، فحصل بينها وبين زيد شيء من التَّنافر، ثم أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُبيِّن أن زيد بن حارثة ليس ابن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّه يجوز أن يتزوج ممن كانت زوجة له، وذلك قطعًا لصلة التَّبنَّي، فكان الواحد منهم إذا تبنَّى لا يجوز له أن يتزوج ممن كانت له زوجة، فجاء التوجيه من الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرً﴾ [الأحزاب: 37].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وروى البخاري في صحيحه بسند ثلاثي)}.
السند الثلاثي: هو ما بينه وبين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثة رجال، وهذا معروف في المصنفات، ثلاثيَّات البخاري، وثلاثيات أحمد؛ فهي مصنفات مشهورة في أجزاء حديثيَّة، وهذا أسهل في حفظ السند.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أنها كانت تفخر على نساء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله في السماء"، وكانت أول أزواج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفاة، قال الواقدي: توفيت سنة عشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقيَّة)}.
مرَّ معنا أن بني المصطلق من خزاعة، وحدثت غزوة بني المصطلق والمريسيع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وذلك أنه لَمَّا غزا قومها في سنة ست، بالماء الذي يقال له: المريسيع، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها، فجاءت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تستعينه في كتابتها فاشتراها وأعتقها وتزوجه)}.
هي ابنة سيد القوم، ولا تصلح إلا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن مقاصد المصاهرة الشرعية: تأليف القلوب، ولهذا كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل هذا، ولما اشتراها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأعتقها وتزوجها، فأطلق الصحابة سبايا بني المصطلق لأجل هذه المصاهرة، فكانت امرأة مباركة، حلَّت بركتها على قومها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقيل: إنها توفيت سنة خمسين. وقال الواقدي: سنة ست وخمسين.
ثم تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية الهارونية النضرية ثم الخيبرية -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، وذلك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اصطفاها من مغانم خيبر، وقد كانت في أوائل سنة سبع، فأعتقها وجعل ذلك صداقه)}.
تكلمنا عن هذا من قبل، وذكرنا أن أغراض النكاح عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تختلف عن أغراض النكاح عند غيره، فمن مقاصد النكاح للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تأليف القلوب، وتطييب الخواطر، والدليل على ذلك أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتزوج بكرًا إلَّا عائشة، ومعلومٌ أنَّ الرجال لا يقصدون من النساء إلا الأبكار لأغراض النكاح، فكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقصد بعض النساء الكبيرة؛ فهذا يدل على أن مقاصد النكاح مختلفة عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يُمكن أن يتكلم أحد في مثل هذا إلا مَن في قلبه مرض، ومَن في قلبه مرض سيفسر كثير من الأحداث على هذا، كما مرَّ معنا في أثر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما حلت في أثناء الطريق بنى بها، وحجبها، فعلموا أنها من أمهات المؤمنين.
قال الواقدي: توفيت سنة خمسين، وقال غيره: سنة ست وثلاثين، والله أعلم.
وفي هذه السنة، -وقيل: في التي قبلها-سنة ست ـ تزوج أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية.
خطبها عليه عمرو بن أمية الضمري، وكانت بالحبشة، وذلك حين توفي عنها زوجها عبيد الله بن جحش، فولي عقدها منه خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: النجاشي، والصحيح الأول.
ولكن أمهرها النجاشي عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعمائة دينار، وجهزها، وأرسل بها إليه رضي الله عنه.
فأما ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عكرمة بن عمار اليماني عن أبي زميل سماك بن الوليد عن ابن عباس أن أبا سفيان لما أسلم قال في حديث لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكما" الحديث.
فقد استغرب ذلك من مسلم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كيف لم يتنبَّه لهذا؟)}.
هذا موضع غلط في المسمَّى، فهذا الكلام من جهة السند صحيح، لكن من جهة المتن فيه غلط.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لأن أبا سفيان، إنما أسلم ليلة الفتح، وقد كانت بعد تزوج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم حبيبة بسنة وأكثر، وهذا مما لا خلاف فيه.
وقد أشكل هذا على كثير من العلماء: فأما ابن حزم فزعم أنه موضوع وضعف عكرمة بن عمار، ولم يقل هذا أحد قبله ولا بعده)}.
وهذا غلط من ابن حزم -رَحِمَهُ اللهُ- من جهة الصناعة الحديثية، فربما تجرأ على الكلام في بعض المسائل الحديثية، وهذا محل النظر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأما محمد بن طاهر المقدسي فقال: أراد أبو سفيان أن يجدد العقد لئلا يكون تزوجها بغير إذنه غضاضة عليه، أو أنه توهَّم أن بإسلامه ينفسخ نكاح ابنته، وتبعه على هذا أبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا النووي في شرح مسلم، وهذا بعيد جدً)}.
ظهر الآن الإشكال، فظاهر الكلام أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كيف تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فإنه لو كان كذلك لم يقل: عندي أحسن العرب وأجمله، إذ قد رآها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ سنة فأكثر، وتوهم فسخ نكاحها بإسلامه بعيد جدًا، والصحيح في هذا أن أبا سفيان لما رأى صهر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرفًا أحب أن يزوجه ابنته الأخرى وهي عزة، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة)}.
ظهر الآن وجه الغلط، وهو الغلط في المسمَّى، فهي ليست أم حبيبة وإنما هي عزَّة، ويؤكده ما ثبت في الصحيحين أنَّ أم حبيبة قالت: "تزوج يا رسول الله أختي"، فالغلط في بعض المواضع في الصحيحين قد يرد خاصة في مسلم، قال ابن الصلاح: "الأمَّة تلقَّت الصحيحين بالقبول سوى أحرف يسيرة قد تكلَّم عليها بعض أهل النقل من الحفَّاظ"، يعني: من جهة الغلط في مسمَّى، وهذا وقع في مسلم في مواضع، وهي مذكورة وتكلم عنها الحفَّاظ، ما يأتي أحد في هذا الزَّمان يريد أن يقرأ الصحيحين قراءة اخرى -أو قراءة حديثيَّة وصناعة حديثيَّة أخرى- فهذا لا يُقبَل منه، لأن الأمة تلقته بالقبول، لأن كل ما قد يُشكِل أجاب عليه العلماء من جهة المتن ومن جهة السند، وهناك مصنفات كثيرة جدًّا في أسانيد البخاري ومسلم والجواب عنها وما يُشكل عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كما أخرجا في الصحيحين عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان، قال: «أوتحبين ذلك؟» قالت: نعم.. الحديث.
وفي صحيح مسلم أنها قالت: يا رسول الله، انكح أختي عزة بنت أبي سفيان.. الحديث.
وعلى هذا فيصح الحديث الأول، ويكون قد وقع الوَهمُ من بعض الرواة في قوله: وعندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة. وإنما قال: عزة. فاشتبه على الراوي، أو أنه قال الشيخ: يعني ابنته، فتوهم السامع أنها أم حبيبة، إذ لم يعرف سواها.
ولهذا النوع من الغلط شواهد كثيرة قد أفردت سردَ ذلك في جزء مفرد لهذا الحديث ولله الحمد والمنَّة.
وتوفيت أم حبيبة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- سنة أربع وأربعين فيما قاله أبو عبيد، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سنة تسع وخمسين قبل أخيها معاوية بسنة.
ثم تزوج في ذي القعدة من هذه السنة ميمونة بنت الحارث الهلاليَّة واختلف هل كان محرمًا أم لا؟)}.
مرَّ معنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها في سَرِف، وتكلمنا عن هذا الموضع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأخرج صاحبا الصحيح عن ابن عباس أنه كان محرمًا.
فقيل: كان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم عن عثمان أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا يَنْكِح المحرِمُ، ولا يُنْكِح، لا يَنْكِح»)}.
كون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نكحها في موضع "سَرِف" وهو قريب من الحرم، فظُنَّ أنَّه مُحرِم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واعتمد أبو حنيفة على الأول، وحمل حديث عثمان على الكراهة، وقيل: بل كان حلالًا كما رواه مسلم عن ميمونة أنها قالت: تزوجها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو حلال، وبنى بها وهو حلال)}.
لا شكَّ أنَّ هذا من أوجه الترجيح، فكونها صاحبة القصَّة وتروي أنه تزوجها وهو حلال؛ فلا شك أن قولها مقدَّم على قول غيرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد قدم جمهور العلماء هذا الحديث على قول ابن عباس، لأنها صاحبة القصة فهي أعلم.
وكذا أبو رافع أخبر بذلك كما رواه الترمذي عنه، وقد كان هو السفير بينهما.
وقد أجيب عن حديث ابن عباس بأجوبة ليس هذا موضعها.
وماتت بسَرف حيث بنى بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منصرفه من عمرة القضاء، وكان موتها سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ثلاث، وقيل: ست وستين، وصلَّى عليها ابن أختها عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
فهؤلاء التِّسع بعد خديجة اللواتي جاء في الصَّحيحين أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مات عنهن)}.
من خلال السرد ظهر أنَّ نكاح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له مقاصد عظيمة جدًّا، وهذا الشَّرف نالته أزواج النبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهن- وهذا فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- يؤتيه مَن يشاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وفي رواية في الصحيح أنه مات عن إحدى عشرة، والأول أصح.
وقد قال قتادة بن دعامة أنه صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة، فدخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، ومات عن تسع)}.
من خصائص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تجاوز العدد أربعة نسوة، فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للإنسان أن يتجاوز أربع نسوة، وإنما كان من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزيادة عن ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد روى الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي نحو هذا عن أنس في كتابه المختارة فهذا هو المشهور)}.
يعني كتاب الضياء المقدسي "الأحاديث المختارة من سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد رأيت لبعض أئمة المتأخرين من المالكية وغيرهم في كتاب النكاح تعداد زوجات لم يدخل بهن مع اللواتي دخل بهن ما ينيف على العشرين.
وقد كان له من السراري اثنتان. وهما: مارية بنت شمعون القبطية، أم إبراهيم ولد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية ومصر)}.
المقوقس: لقبٌ لوالي القبط، والقبط كانوا نصارى يتبعون مذهب اليعقوبيَّة، وكان لهم وجود في مصر، فقوله: (إسكندرية ومصر)؛ لأنَّ "القاهرة" ما نشأت في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما كان أشهر ما يُذكر في مصر: الإسكندرية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومعها أختها شيرين وخصي يقال له مابور وبغلة يقال لها: الدلدل)}.
كانت هدية المقوقس من باب اللطف مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه كان نصرانيًّا، ولهذا تلطَّف مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأجابه بجوابٍ لا يُفهَم منه الإسلام، ولكنه قال: اقبل هديتي، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقبل هدايا الملوك، وهذا الهدايا متنوعة، من ضمنها:
- هاتان الجاريتان: مارية وأختها شيرين -ويُقال سيرين.
- وخصي: وهو العبد المملوك، يُقال له: مابور.
- وبغلة: يُقال لها الدلدل، وكانت من مراكب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فوهب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيرين إلى حسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن)}.
مارية هي التي حملت بولد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إبراهيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتوفيت مارية في محرم سنة ست عشرة، وكان عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يحشر الناس لجنازتها بنفسه)}.
هذا من كرامة هذه المرأة التي كانت عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكانت سريَّة له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وصلى عليها ودفنها بالبقيع -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
وأمَّا الثانية فريحانة بنت عمرو، وقيل: بنت زيد، اصطفاها من بني قريظة وتسرَّى بها، ويقال: إنه تزوجها، وقيل: بل تسرى بها، ثم أعتقها فلحقت بأهلها.
وذكر بعض المتأخرين أنه تسرَّى أمتين أخريين، والله تعالى أعلم)}.
هذا يدعونا إلى الكلام على مسألة الرِّق، وكان موجودًا عند كل الشعوب والديانات، وكان في صور مختلفة، بل صور بشعة، أما الإسلام قيَّده وضبطه، فالرِّق كان موجودًا في تاريخ البشريَّة، وما زال الآن الرِّق ولو تغيَّرت المسميَّات، ومتعدِّدة صوره وباقٍ.
يقول أحد الغربيين وهو جوستاف لوبون في كتاب "حضارة العرب": "الذي أراه صدقًا أنَّ الرق عند المسلمين خيرٌ منه عند غيرهم، وأنَّ حال الأرقاء في الشرق أفضل من حالهم في أوروبا".
فالرِّق موجود في الديانات، عند اليهود وعند النصارى، وفي كتبهم، أما الإسلام فضيقه في حدٍّ ضيِّق، فمسمَّى الرق عند الفقهاء: "هو عجزٌ حكميٌّ سببه الكفر"، يعني عجزٌ عن الحريَّة، ثم إنَّ الإسلام سعى في خلاص الإنسان من هذا الرِّق، بالمكاتبة والمدابرة، وحثَّ على تحرير الرقاب، وبخاصَّة الرقاب المسلمة، ثم عظيم الأجر لمن وقع عليه الرق، فهذه مصيبة وقعت عليه، فله عظيم الأجر في إحسانه لسيده، وإحسانه في علاقته مع الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فيكون له أكثر من أجر الحر، فالرق هنا جزء من الابتلاء، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل تحرير الرقاب في الكفارات، والثناء على مَن أعتق رقيقًا، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعتق له بكل عضوٍ عضوًا من النار، وهذا ما تجده إلا في الإسلام.
إذًا؛ الرق كحالة تاريخيَّة للبشرية هو موجود، ما انفرد بها الإسلام، ولكن المسلمين نظَّموه.
وفي عصر المغريات هذا تجد بيانًا للأمم المتحدة بإلغاء الرق، صحيح أن الرق ربما اختفى في صورته القديمة، لكن الرق الآن أخذ أبادًا أخرى وصورًا أخرى مختلفة، لكن الإسلام دين الرحمة، ولن تجد توجيهًا في أي دين من الأديان كما جاء من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دين الإسلام، قال: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ» ، وهذا لا تجده في غير الدين الإسلامي، فهذا من عظمة الدين وعظة الإسلام العظيم، وعظمة هذا النبي الكريم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا يغتر الإنسان بهذه السِّهام المسمومة التي تُطلق على الصحابة أو التابعين أو الرق؛ فمن قرأ في الإسلام سيجد كل المعاني النبيلة والفاضلة في هذا الدين القويم الذي هو صالحٌ لكل زمان ومكان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل ـ مواليه
في ذكر موالي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حروف المعجم رضي الله عنهم أجمعين، وذلك حسبما أورده الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه)}.
وهو تاريخ دمشق، وهو معروف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهم: أحمر، ويكنى أبا عسيب، وأسود، وأفلح، وأنس، وأيمن بن أم أيمن، وباذام، وثوبان بن بجدد، وذكوان ـ وقيل: طهمان، وقيل: كيسان. وقيل: مروان. وقيل: مهران ـ ورافع، ورباح، ورويفع، وزيد بن حارثة، وزيد جد هلال بن يسار، وسابق، وسالم، وسعيد وسفينة، وسلمان الفارسي، وسليم ـ ويكنى بأبي كبشة، ذكر فيمن شهد بدرًا ـ وصالح شقران، وضميرة بن أبي ضميرة، وعبيد الله بن أسلم، وعبيد، وعبيد أيضًا ـ ويكنى بأبي صفية ـ وفضالة اليماني، وقصير، وكِركَرة ـ بكسرهما، ويقال: بفتحهما ـ ومابور القبطي، ومدعم، وميمون، ونافع، ونبيه، وهرمز، وهشام، وواقد، ووردان، ويسار نوبي، وأبو أثيلة، وأبو بكرة، وأبو الحمراء، وأبو رافع وأسمه أسلم ـ فيما قيل ـ وأبو عبيد.
فهؤلاء الذين حرَّرهم أبو زكريا النووي -رَحِمَهُ اللهُ- في أول كتابه تهذيب الأسماء واللغات، إلا أني رتبتهم على الحروف ليكون أسهل للكشف.
وأما إماؤه: فأميمة، وبركة ـ أم أيمن، وهي أم أسامة بن زيد ـ وخضرة، ورضوى، وريحانة، وسلمة ـ وهي أم رافع امرأة أبي رافع ـ وشيرين، وأختها مارية أم إبراهيم -عليه السلام- وميمونة بنت سعد، وأم ضميرة، وأم عياش.
قال أبو زكريا -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ولم يكن ملكه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهؤلاء في زمن واحد، بل في أوقات متفرقة.
فصل ـ خدمه
وقد التزم جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بخدمته، كما كان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه، إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وكان المغيرة بن شعبة سيافًا على رأسه)}.
اللهم ارضَ عنهم، عبد الله بن مسعود خدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وخدمة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم شرف، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عظيم الخلق، يكفي فيه ما ذكره أنس الذي خدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشر سنين، قال: "لم يقل لشيءٍ فعلته: لم فعلت؟ ولا شيء تركته: لم تركته؟".
فاللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، فمع مقامه العظيم كيف تعامل مع خدمه -صلوات ربي وسلامه عليه- وهذا مَعلَم من معالم الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن أعطاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وملَّكه ووهبه من المال، وجعل بين أيديه هؤلاء الخَدَم؛ أن يُحسن إليهم، فإذا كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو سيد ولد آدم، فالرأفة بالخدم وبمَن يعمل تحت يديه من مقاصد العظيمة لا يفعلها إلا العظماء والنبلاء، وسيد ولد آدم هو القدوة في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعقبة بن عامر صاحب بغلته، يقود به في الأسفار.
وأنس بن مالك، وربيعة بن كعب، وبلال، وذو مخبر -ويقال: ذو مخمر- ابن أخي النجاشي ملك الحبشة، ويقال: ابن أخته ـ وغيرهم.
فصل: كتاب الوحي
أما كتاب الوحي: فقد كتب له أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن مسلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبان بن سعيد بن العاص، وأخوه خالد، وثابت بن قيس، وحنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب، وخالد بن الوليد)}.
حنظلة: نسبة إلى أُسَيد، وهو تميمي، وكان حليفًا لقريش، وهو صاحب الحديث المشهور حينما قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نافقَ حنظلة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، والعلاء بن عتبة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة، وقد أورد ذلك الحافظ أبو القاسم في كتابه أتم إيراد)}.
يقصد ابن عساكر
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأسند ما أمكنه عن كل واحد من هؤلاء إلا شرحبيل بن حسنة، وذكر فيهم السجل)}.
ذكروا أن أحد كتَّاب الوحي رجل يُقال له: السِّجل. وأنه صحابي، وهذا غير صحيح -كما سيُبيِّن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ قال: هو كاتب كان للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
الصَّحيح أنَّ السِّجل هو: الصَّحيفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد أنكر هذا الحديث الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسيره، وقال: لا يعرف في كتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل ولا في أصحابه أحد يسمى "سجلًا".
قلت: وقد أنكره أيضًا غير واحد من الحفَّاظ، وقد أفردت له جزءًا، وبيَّنت طرقه وعلله، ومن تكلَّم فيه من الأئمَّة ومن ذهب منهم إلى أنه حديث موضوع، والله تعالى أعلم)}.
يعني هذا الحديث موضوع، وهذا من أغراض التأليف، لأنَّ بعض المواضع يحتاج فيها البيان، وابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- تصدَّى وألَّف جزءًا، ولا أظنه موجودا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: المؤذنون)}.
فضل الأذان عظيم، فالمؤذنون هم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة، وكون الإنسان يُشرِّفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالأذان فهذا شرف له، وهذا الشرف ينبغي للإنسان أن يحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه، ووظيفة الأذان من أعظم الأعمال التي يقوم بها الإنسان، يكفي أنه يُنادي بهذه الصلاة، فكل مَن جاء يكون له به أجر النِّداء، وحينما يُنادي يشهد له كل مَن سمع هذا النِّداء، وهذا شرف عظيم جدًّا وفضيلة لا يُوفَّق لها إلا مَن فوقه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا تشرف بأن يكونون مؤذني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جملة من أصحابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كان له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مؤذنون أربعة: بلال بن رباح، وعمرو بن أم مكتوم الأعمى ـ وقيل: اسمه عبد الله ـ وكانا في المدينة يتناوبان في الآذان.
وسعد القرظ بقباء، وأبو محذورة بمكة، رضي الله عنهم).
سعد القرظ كان مؤذنًا في قباء، واسمه: سعد بن عائد، وهو مولى.
وقيل: سعد بن القرظ، إضافة للقرظ وهو نوع من الشجر الذي يُدبَغ فيه الجلد، وهذا الشجر موجود إلى يومنا هذا في الجزيرة.
وقيل: إنه كان يتَّجر في أشياء متنوعة، وكلَّما اتَّجر خسر، واتَّجر في القرظ فربح، فنُسب إليه. وهذا من اللطائف.
وأبو محذورة قرشي من بني جُمح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: رسله إلى الملوك.
في ذكر رسله إلى ملوك الآفاق.
أرسل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي بكتاب، فأسلم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ونور ضريحه.
ودحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم الروم، فقارب وكاد ولم يسلم، وقال بعضهم: بل أسلم، وقد روى سنيد بن داود في تفسيره حديثًا مرسلًا فيه ما يدل على إسلامه)}.
أرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى النجاشي، وأسلم النجاشي، وهذا مشهور ومعلوم، ودحية بن خليفة الكلبي وكان جميلا نضرًا وسيم الخلقة، ولهذا كان جبريل إذا جاء للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإرسال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دحية إلى هرقل له مقاصد؛ لأن الرسل لابد أن يكونون بأوصاف.
قوله: (فقارب وكان ولم يسلم)، فالصحيح أن هرقل لم يُسلم، وجاء في بعض الأخبار أنه قال: "لولا الضَّنُّ بملكي لصنعتُ كما صنع النَّجاشي"، يعني بخل بملكه أن يسلم، ولو تأمل رسالة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأسلم، لأنه لن يخسر لا الدنيا ولا الآخرة، فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: «أسلم تسلم»، وهذا يدل على السلامة في الدنيا والآخرة، ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أعلم بالمحالِّ القابلة لهذه الهداية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وروى أبو عبيد في كتاب الأموال حديثًا مرسلًا أيضًا فيه تصريح بعدم إسلامه.
وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، فتكبر ومزق كتابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمزقه الله وممالكه كل ممزق بدعوة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه بذلك)}.
هذا الكبر الذي في نفسه جنى عليه وجنى على أمَّته، وعادة الملوك لا تفعل هذا، لكن هذا الكبر والغطرسة وقعت شؤمها عليه، فدعا عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان هذا، فلم تقم لهم قائمة بعد دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، فقاربَ ولم يذكر له إسلام، وبعث الهدايا إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتحف.
وعمرو بن العاص إلى ملكي عمان فأسلما، وخلَّيا بين عمرو والصَّدقة والحكم بين النَّاس، رضي الله عنهم)}.
هذه ممالك لها ملك جزئي، وليس مسمَّى المُلك، لأنَّ هذا قد يُشكل هذا على البعض.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة)}.
هوذة كان له ملك وتاج، وكان هذا الملك في اليمامة -منطقة الرياض الآن- وتوَّجه بذلك كسرى، فكان بينهما علاقة، فكان بعض التوابع لهم يجعلون لهم شيئًا من الملك، ولما جاء كتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه: «وَاعْلَمْ أَنّ دِينِي سَيَظْهَرُ إلى مُنْتَهَى الْخُفّ وَالْحَافِرِ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلْ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْك» يعني من الملك، فكاتبه وقال: "اجعل لي بعض الأمر"، يعني مساومة. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ سَأَلَنِي سَيَابَةً مِنَ الأَرْضِ مَا فَعَلْتُ، بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ»، وبعد سنتين زال ملكه، فكان هذا الملك مجزَّا تبعي، وليس بمسمى المملكة أو الملك.
ومثل ما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، فقال أحد الصحابة عن عبد الله بن أبي: "يا رسول الله، والله لقد كنَّا نعقد له التَّاج"، أي: يُريدون أن يُملِّكوه ويجعلون له الملك، وهو ملك جزئي، ربما يكون تابعة، وهي في الحقيقة ليس لها نفوذ كبيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من الشام)}.
البقاء: الآن جهة الأردن وما حولها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والمهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث الحميري)}.
الحارث الحميري، اسمه: الحارث بن عبد كلال الحميري، وهو أحد أقيال اليمن. والأقيال: هم أبناء الملوك.
يقول الكلبي في كتاب "الأصنام": "وكانت العرب تُعبِّد لأشياء متنوعة"، يعني: عبد كُلال، عبد يالال، عبد...، قال: "ولا أدري أعبدوها أو لا".
والحارث الحميري أسلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين فأسلم)}.
المنذر بن ساوى كان نصرانيًّا، وهوذة كان نصرانيًّا كذلك، وكان من زيدة مناة من تميم، وكذلك كان الملك جزئيًّا ومختصرًا وتبع للفرس وكسرى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل كليهما إلى أهل اليمن فأسلم عامة ملوكهم وسوقتهم)}.
يعني الملوك ومَن دونهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: نوقه وخيوله.
وكان له صلى الله عليه وسلم من النوق: العضباء، والجدعاء، والقصواء، وروي عن محمد ابن إبراهيم التيمي أنه قال: إنما كان له ناقة واحدة موصوفة بهذه الصفات الثلاث، وهذا غريب جدًا، حكاه النووي.
وكان له من الخيل السكب ـ وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه. وسبحة: وهو الذي سابق عليه)}.
التَّحجيل: هو السواد في القوائم.
طلق اليمين: يعني الجهة اليُمنى ما فيها سواد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي، وشهد فيه خزيمة بن ثابت)}.
ولهذا جعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهادة خزيمة بشهادة رجلين -كما في البخاري-، فجاء أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اشترى فرسًا من أعرابيٍّ فجحدَه، فشهد له خزيمة، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعَنَا حَاضِرًا؟». فقال: "صدَّقتُكَ بما جئتَ به، وعلمتُ أنَّكَ لا تقول إلا حقًّا"، فهذا من الاستدلال بالأعلى على الأدنى. ولهذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ عَلَيْهِ فَحَسْبُه».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقال سهل بن سعد: كان له ثلاثة أفراس: لزاز والظرب، واللخيف، وقيل بالحاء المهملة، وقيل النحيف، فهذه ستة، وسابعة وهي الورد، أهداها له تميم الداري.
وكانت له بغلة يقال لها الدلدل، أهداها له المقوقس، وحضر بها يوم حنين، وقد عاشت بعده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى كان يحسى لها الشعير لما سقطت أسنانها، وكانت عند علي، ثم بعده عند عبد الله بن جعفر)}.
يُحسَى لها الشعير: أي يُخلَط لها الشعير بعد تكسيره بالماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: {وكان له حمار يقال له: عفير، بالعين المهملة، وقيل بالمعجمة ـ قاله عياض)}.
كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يركب الحمار، ويركب الأتان، ويركب البغل، ويركب الخيل، ويركب النوق -صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال النووي: واتفقوا على تغليطه في ذلك.
قلت وأغرب من هذا كله رواية أبي القاسم السهيلي في روضه الحديث المشهور في قصة عفير أنه كلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال إنه من نسل سبعين حمارًا كل منها ركبه نبي)}.
قوله: (في روضه)، يعني: "الروض الأُنُف" في السيرة. وهذا من الأحاديث الموضوعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأن اسمه يزيد بن شهاب وأنه كان يبعثه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحاجات إلى أصحابه.
فهذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف إلا ما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم من طريق منكر مردود، ولا يشك أهل العلم بهذا الشأن أنه موضوع)}.
ربما يذكرون الموضوع ويذكرون الضعيف على وجه التنبيه والتَّحرير، وهذا من مقاصد التأليف في علم الحديث، فلا يُظن أنه غذا أورد هذا أنه يقرُّه، ولهذا يقولون: "مَن أسندَ فقد برئ"، يعني: مَن أسندَ الحديثَ فقد برئ، لأنَّ الإسناد يُبيِّن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ذكر هذا أبو إسحاق الإسفرائيني وإمام الحرمين، حتى ذكره القاضي عياض في كتابه الشفاء استطرادًا، وكان الأولى ترك ذكره لأنه موضوع. سألت شيخنا أبا الحجاج عنه فقال: ليس له أصل وهو ضحكة.
وكان له صلى الله عليه وسلم في وقت عشرون لقحة، ومائة من الغنم.
وكان له من آلات الحرب: ثلاثة أرماح، وثلاث أقواس، وستة أسياف، منها ذو الفقار، تنفله يوم بدر، ودرع، وترس، وخاتم، وقدح غليظ من خشب، وراية سوداء مربعة، ولواء أبيض، وقيل: أسود)}.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- أحسنَ في هذه النُّبَذ وهذه الفصول المختصرة في بيان ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه، وما حازه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحُقَّ لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الشرف، وحق لنا أن نعرف هذه السيرة العطرة من سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النَّافع والعمل الصالح.
{شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ، وجعله في ميزان حسناتكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدون- على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.