الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 22
الدرس العشرون

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، ضيفنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{شيخنا الفاضل تحدثنا في الحلقة الماضية عن صلح الحديبية وما فيه من الدروس والعبر، والآن يعقب هذا الحدث حدث عظيم هو فتح مكة، وفيه دروس عظيم وعبر، فهل تحدثوننا مشكورين عن هذا}.
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
النبي -صلى الله عليه وسلم- استجاب لبنود صلح الحديبية، ثم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من العام المقبل وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ثم خرجوا من مكة على تنفيذ هذا البند لكن قريش بعد ذلك حصل منها نقض لهذا الصلح، وكان من أسباب نقض هذا الصلح: أنَّ خزاعة كانت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بينما كانت قبيلة بكر في عهد قريش، فأغار جماعة من بني بكر على جماعة من خزاعة من بني الدئل وكانت بينهم الإحَن في الجاهلية، في موضع ما يقال له الوتير وهو قريب من مكة، والوتير هذا أقرب ما يكون الآن من مخطط ولي العهد، كان فيه ماء لكن جفَّ من مائة سنةٍ تقريبًا لا يعلم، أنه كان مورد ماء، فعلمت قريش بذلك فأعانت بكراً بالسلاح، بل قيل: إنه قتل بعضهم مع بكر مستترًا ومتلثمًا في الليل، فلا شك أن ذلك من قريش نقضٌ لشرط من شروط الصلح.
انطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة مستنجدًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نُصرت يا عمرو بن سالم»، حاولت قريش وأحست بالخطأ الذي وقعوا فيه وأرادوا أن يستدركوا الموقف وأرسلوا أبا سفيان لإبقاء الصلح، ولكن امتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من إبقاء الصلح بعدما حدث منهم هذا النقض، قلنا: لما ندمت قريش أرسلت أبا سفيان، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فلم يرد عليه ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فرفض، فكذلك إلى عمر، فعلم أبو سفيان أنه لا حيلة، ورجع بخفي حنين إلى مكة، عند ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجهز للقتال، وكان من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يكتم الأمر، وكان هذا التجهيز على وجه السرية.
وكان من سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحرب أنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها، هو أخبرهم أن الصلح قد انتقض وأنه ليس بينهم وبينه عهد بعدما نقضوه، ولكن أوههم أنه لا يريدهم في هذا العام، فأرسل ابن ربعي الأنصاري إلى بطن أضم، موضع آخر، حتى يوهم أنه غير قاصدٍ لهم، لكن هذا الخبر انتشر بين المسلمين على وجه السرية، فحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- في حالة من حالات الضعف الإنساني كان حليفًا لقريش وليس هو من صلبهم، ليس قرشي وإنما محالف لهم، فكتب كتاباً لقريش يريد أن يكون هذا الكتاب له يد، يعني: نعمة على قريش، يحفظ به ماله وولده في مكة، لكن جاء جبريل بالوحي فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حاطبًا كتب هذا الكتاب، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن العلم بغزوة النبي -صلى الله عليه وسلم- سيفسد هذا المخطط الذي كان يخطط له النبي -صلى الله عليه وسلم- وربما يتسبب في هزيمة المسلمين وعدم قدرتهم على دخول مكة، فأرسل عليًّا والزبير للحاق بتلك المرأة كما هو وارد في صحيح البخاري، وأخبرهم أنه سيجدونها في روضة خاخ، فجاءوها وطلبوا منها أن تخرج الكتاب، فامتنعت، قالوا: إما أن تخرجيه وإما أن نفتش عن هذا الكتاب، فأخرجته من عقالها أو من شعرها على وجه الإخفاء، وقرأ الصحابة ذلك وكان هذا من الغلط من حاطب -رضي الله عنه- لكنها حالة ضعف بشري.
وهو ظن أن هذا الكتاب لا يضر النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما ينفعه هو، وأن الرسول الله ناصره ولا قدرة لقريش على حربه، لكن كانت زلة من حاطب -رضي الله عنه-، غضب عليه بعض الصحابة ومنهم عمر، وقال: "دعني يا رسول الله أضرب عنقه"، فقال: «إنَّه شَهِدَ بَدْرًا وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، وصدَّقه النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقال: ما حملك على ما صنعت يا حاطب؟ قال: يا رسول الله والله ما فعلت ذلك كفراً بعد إيمان ولكن كنت رجلاً مُلصقاً بقريش ولي فيها مال وولد، وأردت أن أحمي مالي وولدي، فأردت أن يكون لي عليهم يد، يعني: نعمة، أحفظ بها مالي وولدي، وهكذا الإنسان قد يضعف سبحان الله، فصدَّقه النبي ﷺ ولكن الله -عز وجل- أنزل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾[ الممتحنة: 1].
فهذا الموقف ذكر أهل العلم أن هذا نوع من الموالاة للكفار، والموالاة لا شك أنها محرمة بل هي من أكبر الكبائر، فالذي وقع من حاطب ولا شك أنه أمر لا يجوز لكن لسابقة حاطب وكونه من أهل بدر، فإن الله -عز وجل- غفر له، لكن الموالاة لا تزيل مسمى الإيمان، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، فلم يُزل اسم الإيمان، فدلَّ على أنَّ الموالاة مخالفة للتولي، والتولي هو ما جاء فيه النص ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة: 51]، والتولي هو تولي الكفار، وضابطه أن ينصرهم رغبة في علو الكفر على الإيمان، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استفصل من حاطب، قال: ما حملك على ما فعلت، فقال: يا رسول الله إني لم أفعل ذلك رغبة عن الإسلام أو كفراً بعد إيمان، فدل على أن أحكام الشريعة يفرق فيها بين حكم الموالاة وحكم التولي، مع أن الموالاة لا تجوز ومن كبائر الذنوب وبريد الكفر لكنها لا تصل في الحكم إلى تكفير من فعلها.
اجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد دخول مكة بــ (مُر الظهران)، هو الآن يسمى: وادي فاطمة، مع القبائل التي جاءت، فبلغ عدد جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يقارب عشرة آلاف مقاتل، ومع ذلك جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاط بمكة وأمرهم أن يوقدوا النيران على رؤوس الجبال حتى تهاب قريش من القتال؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يريد أن يقاتل تعظيماً لحرمات الله -عز وجل- وتعظيماً لحرمة الكعبة.
دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحداث متتابعة مكة سلماً دون قتال إلا ما حصل من عكرمة بن أبي جهل أو معارك بسيطة جدًّا لا تذكر، ودخلها النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة متواضعاً والمغفر يكاد يمس عنق راحلته من التواضع لله -عز وجل-، ولما بلغه أن سعد بن عبادة يقول: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة"، زجره النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر أن تؤخذ الراية منه وتعطى إلى ابنه، قال: «كَذَبَ سَعْدٌ»، يعني: أخطأ؛ لأنَّ كذب بلغة الحجاز يعني: أخطأ.
قال: «هذا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فيه الكَعْبَةَ، ويَوْمٌ تُكْسَى فيه الكَعْبَةُ»، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة على هيئة المتواضع، وهو لم يجد قتالاً دخلها سلماً، وسلمت قريش، وأول عمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- حين دخول مكة، أنه طاف بالبيت العتيق وجعل يطعن الأصنام التي كانت حول الكعبة بقوس كانت معه وهو يتلو ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوق﴾[الإسراء: 81].
طبعًا فتح مكة فيه ملحظ مهم جدًّا: أن هذا الذي دخل مكة بعد ثمان سنوات في عمر الزمان قصير جدًّا، قد خرج منها هاربًا خائفاً أن يقتل وأن يمنع، ومع ذلك في سنوات معدودة عادها منتصراً فاتحاً، وهذا في طبيعة البشر أن الإنسان إذا خرج من مكان وهو على هيئة الخائف أنه يرجع بعزة، لكن لاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها في تواضع لله -عز وجل- وهذا هو فضل الله -عز وجل- عليه، فدخل في هيئة المتواضع لا هيئة المتكبر أو المنتصر على غيره؛ ليبين أنَّ الأمر بيد الله -عز وجل- وأنَّ هذا من الله -عز وجل.
فلا شك أنَّ ذلك درسٌ للمسلمين ولمن كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا بعد ما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيت جمع أهل مكة وخطب فيهم، يعني: هؤلاء الذين ألقوا سلا الجزور عليه وطردوه من مكة وأذوا أصحابه وقاتلوه، يعني: الموقف ما هو؟ موقف منتصر، فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟»، فماذا قالوا؟
لاحظ أنهم كانوا يعرفون من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- الكرم والحلم وإقراء الضيف وإكساب المعدوم والإحسان، هذا من أخلاقه في الجاهلية قبل أن يمن الله -عز وجل- عليه بالرسالة، فماذا قالوا؟
قالوا: «خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، قال: «فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ».
أسقط النبي -صلى الله عليه وسلم- كل الحقوق، ولم يأخذهم بأي شيء من الجرائم التي أجرموها في حقه وفي حقه أصحابه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا درس مهم جدًّا، النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعالى عن الأشياء الشخصية، وهكذا العظماء وأعظم العظماء هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا من يمن الله -عز وجل- عليه بالنصر والتمكين عليه أن لا ينزل إلى سفاسف الأمور وإلى الإحَن وإلى الأشياء الشخصية؛ لعظم الكرامة التي أكرمه الله -عز وجل- بها بالنصرة والغلبة، والنفوس العظام لا تنزل إلى الماضي لنبشه والانتقام منه، إنما تفعله النفوس الوضيعة، أمَّا النفوس الكريمة العزيزة فإنها لا تلتفت لهذا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِخْوَتِهِ: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»، فلا شك أن الاقتداء بالأنبياء معلم، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[الأنعام: 90]، النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمر أن يقتدي بالأنبياء وكان هذا من مواضع الاقتداء بالأنبياء، من كريم أخلاق الأنبياء، وفعل ذلك بقريش مع سابق الأذى من قريش للنبي ولأصحابه.
كذلك من معالم دروس فتح مكة: عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر التوحيد، فأول عمل هو إزالة تلك الأصنام التي حول الكعبة، حيث ذكر أهل السير أنه كان يحيط بالبيت ما يقارب مائة وستين صنمًا، وطهارة البيت تكون بتطهيره من أدران الشرك، ولذا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أزال تلك الأصنام وأسقطها، ودخل الكعبة ورأى الصور التي في البيت، ولما رآها لم يدخل حتى محيت، فمحيت، وكان من تلك الصور صورة مصورة لإبراهيم وإسماعيل وبأيديهما الأزلام، فقال: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ واللَّهِ إنِ اسْتَقْسَما بالأزْلَامِ»، وهذا يدل على أن الإسلام فيه تحريم التصاوير والرسومات وهذا من قواعد هذه الشريعة ومن معالم هذا الدين العظيم، وهذه التصاوير جاء فيها الوعيد الشديد، لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المصورين، فالإنسان ينبغي أن يكون وقافًا عند حدود الله، وأن يجتنب تلك المصورات لذوات الأرواح، النبي -صلى الله عليه وسلم- أزالها وأمر بمحيها، ولما بعث عليًّا -رضي الله عنه- قال: «لا تَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتَهَ».
من دروس فتح مكة: لا شك أن قريش فيهم السادة وفيهم من هو دونهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعامل كل إنسان بحسب طبيعته الشخصية وبحسب مكانته، ولَمَّا أسلم أبا سفيان وكان معاديًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- طيلة عمره حتى مَنَّ الله -عز وجل- عليه بالإسلام، قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان يحب الفخر" بطبيعته زعيم وهو من سادتهم، "فاجعل له شيئًا" يعني: شيئًا يوافق شخصيته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»، فهذا من باب تأليف القلوب، ولا شك أن أبا سفيان في ذاك الموقف منكسر، فعالج النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الانكسار بأن أعطاه شيئًا يفتخر به على الآخرين ويرغبه في الإسلام، الإسلام جاء بالتأليف وجاء بحفظ الحقوق وبإشاعة السلم.
كذلك من المواقف العظيمة وهي تأكيد لما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في سيرته مع أم سلمة -رضي الله عنها-، مكانة المرأة، فإن أم هانئ بنت عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجارت رجلين، جعدة بن هُبيرة ورجل آخر، فتوعدهم علي، توعد هذين الرجلين بقتلهما؛ لأنهما ممن أُهدر دمهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاءت تشتكي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: "يا رسول الله ابن أمي زعم أنه قاتل من أجرت"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: «قد أجرْنا من أجرتِ يا أم هانئ»، فصارت وسامًا لها، يذكر هذا الأثر وهذا القول من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة، ولا شك أن هذا يدل على مكانة المرأة أنها تجير وتحمي ويؤخذ بجوارها ولا يتعدى عليه، وهذا سلسلة من سلسلة تكريم النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرأة المسلمة في أشياء كثيرة.
كذلك من معالم الدروس في فتح مكة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء بحفظ الحقوق، ما جاء لإزالة هذه الحقوق، فكان سدانة البيت ومفتاح البيت في يد عثمان بن أبي طلحة، فأبقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه القصة نزل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾[النساء: 58]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خُذْهَا خَالِدَةً مُخَلَّدَةً وَلَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظالِمٌ».
فهذه من المعالم العظيمة في فتح مكة، وربما الدروس كثيرة جدًّا، ولكن هذه بعضاً منها، ولهذا
لما فتحت مكة استبشر الناس، فكانت قريش تمثل العقبة القعود في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوة العرب جميعًا، لكن بزوال قريش وسقوط مكانتها ودخولها في دولة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع سيطرة النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكة لا شك أنه لا يدان العرب لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا عند ذلك أقبل الناس إلى الدين أفواجًا، فكانت قريش تشكل المنعة من إسلام الناس، كان الناس ينظرون إليها، يعني: العرب تنظر إليها، فلما زالت سارع الناس للإسلام، وجاءت الوفود لبيعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله -عز وجل- سورة النصر ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاب﴾[النصر: 1- 3].
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر في ركوعه أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي"، وعمر -رضي الله عنه- كان يجتمع بأشياخ بدر وكان يدخل عبد الله بن عباس وكان صغيراً بالنظر إلى عمر أشياخ أهل بدر، أي: ممن حضر بدرًا، فكانوا يستغربون من حضور عبد الله بن عباس، فلما رأى أن هذا التقديم ربما يوقع في قلوبهم شيء، فسألهم وقال: "أيكم يعلم في هذه السورة شيء؟" فقال عبد الله بن عباس: "ذلك أجل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمه الله إياه"، ففهم عبد الله بن عباس أن هذه السورة دلت على أن الأجل قد قارب النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهمة التي أوكلت له أوشكت على الانتهاء من قول الله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاب﴾؛ لأنه بعد فتح مكة قالت العرب: أما إذا ظهر محمد بأهل الحرم فليس لكم به يدان، فكانوا يسلمون أفواجاً، ويدخلون في دين الله أفواجًا، عند ذلك دانت العرب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم توافد الوفود من كل فج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلنون إسلامهم وإيمانهم ويدخلون في دين محمد -صلى الله عليه وسلم.
لا شك أن النظر إلى هذا الفتح العظيم وهذه الكرامة، أولاً من رحمة الله -عز وجل- بهذه الأمة أن كان هذا الفتح المبين لدخول النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أن الله -عز وجل- من فضله على أهل الإسلام ومن فضله على محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحابه، أنه لم يرق دم في فتح مكة، فدخلها المسلمون بأيسر ما يكون، وفي عبرة وعظة، كيف أنهم قبيل سنوات يمنعون، بل قبل سنة وشيء يمنعون من الدخول إلى الطواف، ثم بعدها بفترة وجيزة يدخلون فاتحين منتصرين دون أن يقاتلوا وقد كف الله -عز وجل- عداوة قريش وكسر الله شوكتها، فلم يعد لها بعد ذلك أي قيمة، ودخلها النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتحًا منتصراً أعلى الله فيه شأن هذا البيت وطهر الله هذا البيت من أدران الشرك إلى يومنا هذا من فتح مكة -ولله الحمد- وأعلام التوحيد قائمة فيه، أزال الله -عز وجل- ولم يستفيد أولئك الكفار من صد دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا خزي الدنيا وعذاب الآخرة -نسأل الله السلامة والعافية-، والله -عز وجل- أعلم بأهل فضله والمحال القابلة فهداها الله للإسلام.
مثال: أبو سفيان مع ما فعل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- كان الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فأزال الله تلك الذنوب بإسلامه وعاد كأنه لم يفعل شيئا، وذلك من فضائل الإسلام، ولهذا عمرو بن العاص لما جاء في فتح مكة يريد أن يسلم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا عمرو ابسط يدك أبايعك»، فقال: إني أريد أن اشترط، قال: ماذا تشترط يا عمرو؟ عمرو بن العاص شخصية ذكية وداهية حتى في إسلامه يريد أن يستوثق، قال: أريد أن اشترط، قال: ماذا تشترط؟ قال: أن يغفر الله لي؛ لأنه يعلم أنه كان من المحاربين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أما علمتَ يا عمرُو أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كان قَبلَه»، هذه من خصائص الإسلام العظيمة، أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الحج والهجرة يهدمان ما كان قبلها، الإسلام يهدم ما كان قبله، يعني كل هذه السيئات التي عملتها بمجرد دخولك في الإسلام تكون زائلة ويغفر الله -عز وجل- لك ذنوبك، فحسنة الإسلام لا يقابلها كل سيئة، ومر معنا في غزوة أحد ذلك الرجل الذي أسلم وهو لم يسجد لله سجدة، كيف أنه مضى أمره في ماذا؟ في الكفر، ثم لما أسلم مجرد نطق هذه الكلمة وقاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يصلِّ ولم يسجد لله سجدة، دخل الجنة، هذه من معالم هذا الدين، أن الإسلام يهدم ما كان قبله، كل الذنوب وهكذا دائمًا التوبة تهدم ما كان قبلها متى ما علم الله -عز وجل- منك التوبة، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر: 53].
فهو الذي يغفر الذنوب -سبحانه وتعالى-، وهذه من فضل الله وكرمه على أهل الإيمان وعلى الناس أنهم إذا دخلوا في هذا الدين كل الأمور التي فعلوها تزول ويغفر الله -عز وجل- لهم وكأنما يخلقون من جديد وكأنما ولدوا من جديد فلا يكتب لهم إلا ما عملوه من الخير في أعمالهم الصالحة.
{أحسن الله إليكم، شيخنا هل نتحدث عن بركة الاتباع لأوامر الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث نرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حُصر في غزوة الخندق في العام الخامس من الهجرة وأتى من الأحزاب عشرة آلاف، ثم في العام السادس يذهب إلى صلح الحديبية ويصد عن البيت، ثم في العام الثامن يأتي إلى مكة فاتحاً ومعه عشرة آلاف رجل، فبركة الاتباع جعلت هذا العدد الغفير الكبير يسلم في مدة وجيزة وينصر الله بهم الدين}.
لا شك في ذلك، ولهذا المستقبل بيد الله -سبحانه وتعالى-،وليس للإنسان أن يعرف هذا المستقبل، ولكن واجب عليه أن يعمل، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مبشرًا كما مر معنا في غزوة الخندق وهم في ظل أزمة جوع وأزمة برد وأزمة خوف، يعني: أن يجتمع عليك الجوع والخوف والبرد، يعني: لا شك أن هذه حالة نفسية سيئة، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرضت لهم تلك الصخرة وضرب بمعوله النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الله أكبر إني رأيت كنوز كسرى، ثم كنوز الروم، ثم كنوز الروم، ثم اليمن».
ولهذا أهل النفاق الذين لا يؤمنون بالغيب يتصورن أن هذه خيالات، ما لها واقع، وأنت الآن في خضم بالأزمة، ولكن كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يستبشرون بوعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ووعد الله لا يخلف، ولهذا دائمًا نقول لأهل الإيمان وأهل التقوى -جعلنا الله منهم-: إنهم بالصبر واليقين ينالون ما ينالون من الخير، وأسوتهم في ذلك الصحابة، يعني: في ظل الأزمات كانوا ممتثلين لأمر الله، ولهذا كان أهل الريب وأهل الماديات والمحسوسات ما يرون إلا الذي بين أيديهم، أهل النفاق يقولون: إن محمدًا يعدنا بمفاتيح كسرى وقيصر ونحن لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى حاجته، كيف؟
مادي لا يثق بوعود الله -عز وجل-، لكن أهل الإيمان ليسوا على هذا النحو، بل أهل استبشار، يستبشرون بوعد الله -عز وجل- ويستبشرون بفضل الله -عز وجل- ويستبشرون بفرج الله -عز وجل-، متى كان الإنسان مؤمناً موحدًا مستقيمًا على طاعة الله -عز وجل-، ثم أن الدنيا ليست شيء، يعني: قد لا ينال الإنسان فضله وحسنته في الدنيا لكن ينالها في الآخرة؛ لأن جمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- قتلوا، قتل مثلاً حمزة في أحد ومصعب بن عمير، وغيرهم وغيرهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أهل بدر قتل من قتل، عبد الله بن حرام والد جابر، وعدد من الصحابة، هل رأوا فتح مكة؟ لم يرو النصرة ولم تقر أعينهم برؤية محمد -صلى الله عليه وسلم- منتصرًا، هل ذلك ينقص من أعمالهم شيئا؟ لا، هم أدوا الوظيفة، صبروا على ما صبروا عليه، ولهذا الدنيا ليست الثواب، الثواب في الآخرة.
ولهذا المؤمن يعمل قد ينال شيئا حظه من الدنيا، بل ربما أن تنال شيئًا من حظك أن هذا قد يكون ينقص من حسناتك، فكونك ما ترى وأنت تعمل، وظيفتك أن تعمل، أن تثبت على الحق الذي أنت عليه وعلى الاستقامة حتى يأتيك الأجل؛ لأن المؤمن منظاره بعيد وليس منظاره قريب، الإيمان ثوابه ليس في الدنيا، وإنما بركة الإيمان في الدنيا لكن الثواب الحقيقي في الآخرة، ليس هو موضع الجزاء، الدنيا ليست موضوع جزاء، فربما ترى أهل الفجور وأهل البغي وأهل الظلم يملي الله -عز وجل- لهم ويتركهم وليس ذلك لكرامتهم عند الله -عز وجل- ولكن لأن الله -عز وجل- يملي لهم فيحاسبهم حسابًا شديداً، إذاً ليست الدنيا هي الميزان وليست الماديات المقياس، على الإنسان أن يعمل وأن يصابر وأن يستقيم حتى يأتيه الموت وهو على خير، أما كونه أن ينال أمر شيئًا مادياً، فليس هذا في حسبان المؤمن، المؤمن يحتسب الأجر والثواب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث صهيب: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».
فهكذا عنوان السعادة، عنوان السعادة أن يصبر الإنسان في الضراء وأن يشكر في حال السراء، وأن يأتمر بأمر الله -عز وجل-، هذا عنوان السعادة للمؤمن وهذه حقيقة الإيمان، والله -عز وجل- يقلب الإنسان في أحواله بين الضراء السراء ابتلاءًا وامتحانًا، والمؤمن ينتظر وعد الله -عز وجل- بالجنة، حينما يدخله الله -عز وجل- الجنة هذا وعد الله -عز وجل- له.
{أحسن الله إليكم، شيخنا هل نتحدث عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الفتح المبين، حيث أخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة وجلس مهاجرًا عدداً من السنوات وقبلها كان يؤذى، مجموع هذا الأذى يصل إلى عشرين سنة، عشرون سنة منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يؤذى من كفار قريش، فلما دخل مكة عاملهم معاملة سجلها التاريخ في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي قدوة وينبغي أن تكون قدوة للمصلحين والدعاة والمربين}.
لا شك أن من عوامل الجذب في الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ما جمله الله -عز وجل- به من الأخلاق الفاضلة سواء في حالة الجاهلية وفي حال الإسلام، كان أهل الكفر يرون من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عليه من الأخلاق الفاضلة، وهذا ما جعل خديجة تقبل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعرض نفسها عليه حتى يتزوجها، تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عليه من الأخلاق الفاضلة، وكانوا يسمونه الأمين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا لا يعرفون منه الكذب، فدل على أنه كان متجمل بالأخلاق الفاضلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا لما جاءه الوحي ماذا قالت خديجة؟ هذا معلم مهم جدًّا، قالت: "كلا والله لا يخذيك الله أبدًا"، فدائماً للمصلحين والمحسنين والباذلين وأهل العطاء وأهل الكرم، أن الله -عز وجل- من عادته ومن سنته أنه لا يخزيهم، قالت: "كلا والله لا يخذيك الله أبدًا، إنك لتقري الضيف وتكسي المعدوم وتعين على نوائب الدهر"، لكن هذه أخلاق الكمل من الرجال، فما جاءك ليس خذيًا، ليس هو طيف من الجنون ولا طيف من الهوس وإنما هو إكرام لك؛ لأنك في حال حياتك أنت على أخلاق فاضلة، وزاد هذا الخلق أن جاءه الوحي، فكمل تلك الأخلاق.
ولهذا لما سُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا قالت؟ قالت: "كان خلقه القرآن"، وقال الله -عز وجل- في مقام الثناء على النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4].
فمن المهم جدًّا أن نعرف أن الأخلاق الفاضلة ميزان ووسام يتجمل الإنسان به، إذا كان الناس يتجملون بالحسن من الملابس، والإنسان إذا رأى إنساناً قد لبس من اللباس أحسن، فإن هذا الحسن لا يقارن ولا يقابل بحسن الخلق الذي يتخلق الإنسان به؛ لان حسن الخلق ميزة في الإنسان وعوامل جذب للإنسان مع أهله ومع مجتمعه، دائمًا الإنسان يتجمل بالأخلاق الفاضلة، فكما أن الإنسان يتجمل باللباس عليه أن يتجمل بالشيء المهم جدًّا وهي الأخلاق الفاضلة، وهذا قد يكون من الصفات الخلقية، أن الله -عز وجل- يجبلك على هذا، وقد تكتسب هذا، إذا لم يشرفك الله -عز وجل- بهذه الأخلاق، فعليك أن تكتسبها، لأن الأخلاق جزء منها خلقي وجبلي يجبلك الله -عز وجل- عليها، وجزء منها يكتسبه الإنسان، إنما العلم بالتعلم، فدائماً الإنسان يعود نفسه على الأخلاق الفاضلة لأن هذه الذي يبقى معك، وهذا الثناء وهذا الوسام الذي تعيش به بين الناس، لكن أن تكون فظًا غليظاً تتعدى على الآخرين، حينما يسيء إليك الإنسان بنصف كلمة تعطيه عشر كلمات وتظن أن ذلك هذا قوة وشجاعة، هذا من قلة التوفيق.
هذا الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يرى كفار قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا كل خير، وجدوا منه البر، وجدوا منه العطاء، في غزوة حنين كما سيأتي معنا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم، بل كان الأعراب يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يلجئوه إلى شجرة فتخطف هذه الشجرة رداء النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رُدُّوا عَلَيَّ رِدائي»، يعني كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحسن ويؤذى وجاءه أعرابي فجذبه بردائه، مواقف عظيمة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمثل فيها الأخلاق الفاضلة، وكان الإحسان من النبي -صلى الله عليه وسلم.
انظر إلى موقفه من حاطب، يعني حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- أخطأ وزل ذلة خطيرة جدًّا، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان عليه من الخير حاطب بشهوده بدر ونصرة الإسلام، قبل عذره وقال: «دعه فإنه من أهل بدر»، يعني لاحظ حفظ الحقوق، حفظ الجميل، قتاله مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر حفظ له وكانت حسنة عظيمة غفرت تلك السيئة التي وقعت من حاطب، وفيه أن الإنسان مهما بلغ من الكمال فإنه ليس معصومًا من الخطأ، وأن مثل هؤلاء تقال عثراتهم إذا كانت مرة ولم تتكرر، وقبول العذر قبله النبي -صلى الله عليه وسلم- منه، ومن رحمة الله -عز وجل- أن الله ناصر هذا الدين، أن الله -عز وجل- أبلغه بذلك الكتاب الذي ذهب إلى مكة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة وهم على غرة حتى أنهم لم يستطيعوا أن يقاتلوا، بل أنهكتهم الحروب ولم يعد صناديد قريش كما كانوا، زالوا وقتل من قتل منهم في بدر وفي أحد، ثم بعد ذلك أسلم من أسلم، وضعفوا، ودائمًا الباطل والبقاء على الباطل، الباطل له صولة ومع ذلك يزول، ولكن كان من أسباب زوال هذا الباطل الثبات، ولذلك فتح مكة كان عنوانًا لانتشار الإسلام.
ومن عظمة هذا الدين سرعة انتشاره، فلاحظ الآن كم بيننا وبين فتح مكة وانظر إلى يومنا هذا الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، مازالوا يدخلون، لماذا يدخلون في دين الله أفواجًا؟
لماذا الإسلام من ألف وأربعمائة سنة هو الدين الأكثر رواجًا والأكثر إقبالًا؟
لماذا يسلم الناس مع هذه العداوة من المعاديين له والتشويه؟

ما الذي يحمله على هذا؟
هذه المضامين العظيمة التي في الإسلام، لذلك الإسلام ما فيه كهنوت ولا فيه رهبانية ولا فيه أحد يعملك الدين، أو يخبرك أنه هو يمثل الدين، لا، القرآن الكريم والسنة النبوية هذان المصدران اللذان يؤخذ منهم أحكام الشريعة، وفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- هذه النصوص، هذا ما جعل الناس يقبلون على هذا الدين.
هناك عقبة في انتشار الإسلام، العقبة ليست في الإسلام، وإنما العقبة في المنتمين لهذا الدين، لو كانوا على قدوة وأنهم يمثلون الإسلام، لا شك أن الإسلام سينتشر بقوة وبأكثر؛ لأن الناس ينظرون دائمًا فيه حالة ربط بين الإنسان وبين سلوكه، يعني كثير من الناس مما يصدهم عن الدين أنهم ينظرون إلى سلوك بعض المسلمين، فمثلاً يقولون أن الخمر محرمًا في الشرائع فلماذا يعاقر المسلمون بعض المسلمون الخمر، الربا محرم في الإسلام، السرقة، فيجد مسلم يسرق، فيجعل ذلك الذي ليس بمسلم ينظر إلى الإسلام بمنظار آخر، أن هذا دين ليس واقعي لكن لما يرون من المسلمين امتثال هذه التعاليم لا شك أنه مؤثر والقدوة مؤثرة كما ذكرنا في الجذب لهذا الدين.
وفتح مكة يُبَيِّنُ للمسلمين أن هذا الدين الله ناصره، وأنه مهما كانت القوة التي تكافح هذا الدين وما فيه من الفضائل وما فيه من جميل التعاليم، فإن الله ناصر دينه، لا بدَّ الإنسان يؤمن بهذا، أن الدين منصور، وقد يمتحن، قد يدال عليه في بعض المواضع لكن العاقبة لأهل الإيمان، لأن الإسلام دين الفطرة، ليس في الإسلام شيء يخالف الفطرة حتى لا يقبل عليه، لكنها حالات الضعف الإنساني وحالات التمرد على مثل هذه الأمور، والإنسان عندما يستبصر يجد أن طريق الإسلام هو الحقيقي، الطريق الذي ينبغي أن يتعلم الناس عليه وأن يسيروا عليه.
لاشك أن فتح مكة تحقيق لوعد الله -عز وجل-، ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾[الصافات: 173]، فنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- رآها الصحابة وعاينوها في فترة وجيزة، فتحول تلك المآسي والوقائع التي وقعت إلى أن رأوا بأعينهم وأقر الله أعينهم بهذا الدين العظيم، فبينما كان بلال بن رباح يعذب في صحراء مكة تحت أشعة الشمس وهو يقول أحد أحد، جاء إلى مكة بعد سنوات بسيطة ليشرفه الله -عز وجل- بالأذان في المسجد الحرام ويرفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله، لا شك أن هذه من نعم الله -عز وجل-، ثم إن هذا الأمر تحقق هذا النصر لم يتحقق إلا بسواعد الرجال وبصبر الرجال من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله -عز وجل- أثنى عليهم فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[الفتح: 29]، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- كان واحدًا ولكن كان معه رجال، صابروا وقاتلوا وبذلوا أنفسهم وتحملوا المشاق حتى أقر الله أعينهم بنصرة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا الصحابة -رضوان الله عليهم- حازوا من الفضل ومن الكرامة أنهم هم الذين نشروا هذا الدين، وهم الذين بلغوا هذا الدين، فواجب على كل مسلم أن يتربى عليهم وأن يعرفهم حقوقهم وأن يعرف سابقتهم في الدين، ويعرف أن هذا الدين الذي نشره الله -عز وجل- وجاءنا إنما جاء على سواعد الرجال وعلى البذل والتضحيات -رضي الله عن أصحابه وجمعنا به في مستقر رحمته-، فحفظ حقوقهم من واجبات هذا الدين، ومن حفظ حق محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويكفيهم فضل أن الله -عز وجل- أثنى عليهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[التوبة: 100].
بيعة العقبة وبيعة الرضوان ومواقف عظيمة بذل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باعوا أنفسهم في سبيل الله، قال الله -عز وجل-: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾[التوبة: 111]، بيع وبذل وتضحية، أموال، أبو بكر بذل ماله، عثمان -رضي الله عنه- ماذا فعل؟ بذل ماله في سبيل نشر هذا الدين وهكذا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم وأرضاهم، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجمعنا بهم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك