الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1400 22
الدرس العاشر

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يهدينا سواء السبيل وأن يوفقنا للحق والصواب.
{كنا قد وقفنا يا فضيلة الشيخ عند كلام المؤلف عن القسم الثاني، قال -رحمه الله-: (القسم الثاني: ما حرم عليه من النكاح دون غيره.
قالوا: كان يحرم عليه إمساك من اختارت فراقه على الصحيح، بخلاف غيره ممن يخير امرأته، فإنها لو اختارت فراقه لما وجب عليه فراقها، والله تعالى أعلم. وقال بعضهم: بل كان يفارقها تكرم)
}.
الآن الكلام في المسألة: أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، أمَّا كونه -صلى الله عليه وسلم- يحرم عليه إمساك من اختارت فراقه، فهذا الذي ذكره ابن كثير وحصلت هذه القصة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأَنَّ ابْنَةَ أَبِي الْجَوْنِ لَمَّا دَخَلَتْ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودنا منها، قالت: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ» رواه البخاري، في رواية «عُذْتِ بمعاذٍ»، أما سبب استعاذتها قيل:
إنها لم تكن تعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دخل عليها.
وقيل: إنها غُرت بذلك ولم تعلم بمعنى هذه الكلمة، يعني: إذا دخل عليكِ فقولي أعوذ بالله منك، أنها ما تعرف معناها.
وقيل: إنها كانت من بيت له ملك وكانت تأنف من الزواج فيمن تظنه أنه دونها وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
على كل حال هذه أقوال في سبب استعاذتها -والله أعلم بما فيها-، لكن حدثت قصة والنبي -صلى الله عليه وسلم- ألحقها بأهلها ولم ينكحها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاختلف في اسمها، قيل: إنها أسماء بنت شراحيل الكندية، وقيل: إن اسمها أسماء بنت النعمان بن الجون، ثَمَّ أقوال.
فالحاصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يمسك من اختارت فرقته، وبينما قال بخلاف غيره ممن يخير امرأته فإنه لو اختارت فراقه لما وجب عليه أن يفارقها، هذا صحيح، هذا متجه.
{(مسألة: هل كان يحل له نكاح الكتابية؟ على وجهين: صحح النووي الحرمة، وهو اختيار ابن سريج والإصطخري وأبي حامد المروزي، واستدل الشيخ أبو نصر بن الصباغ لهذا الوجه فقال: لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة»، ثم حكى الوجه الآخر وهو الإباحة وكأنه مال إليه، ثم قال: والخبر فلا حجة فيه، لجواز أن من تزوج به منهن أسلمن)}.
هذا فيما يتعلق بزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكتابية، والأصل فيه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمه كحكم غيره، لا دليل على الخصوصية، ويدل على ذلك أن الله -عز وجل- قال: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾[المائدة: 5].
فصحيح أن الحرة العفيفة الكتابية للنبي ولغيره أن يتزوجها بواسطة وليها، وهذا مستقر ويدل عليه الأحاديث ويدل عليه الآية الصريحة في ذلك، وهذا كالحكم العام لكن الأولى بالمسلم أن لا يُقدم على ذلك، بل ينكح المسلمة المحصنة سلامة لدينه؛ لأن المرأة إذا كانت كتابية فإنها تؤثر في الأبناء، وسلامة لدينه أن لا ينكح هذه الكتابية ولأجل أن إعفاف المسلمات أولى من إعفاف أهل الكتاب، ولأن سلامة الذرية من المهم أن يختار لسلامتهم المكان الصالح، الكتابية في الجملة قد تؤثر في أبنائها، الأعم الأغلب تؤثر ولهذا قال الإمام أحمد لما سُئل عن نكاح الكتابية، قال: ما أحب أن يفعل ذلك، لا شك أن هذا في كلام الأئمة المتقدمين، ولهذا نُقل كذلك عن عمر وعن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن نكاح الكتابية لكن الدليل يدل على صحة النكاح مراعاة للمصالح الشرعية.
ولهذا كان هذا الكلام في السابق، فما بالك في زماننا هذا الذي اختلف فيه الأمور، ففي السابق كان العلو فيه للمسلمين، الدولية الإسلامية كانت مترامية الأطراف في عهد عمر وكانت القوة والغلبة للمسلمين، أمَّا الآن فأوضاع المسلمين كما لا يخفى، لهذا كان الزواج من الكتابية في هذا الزمان يتكنفه تحديات تجاه الزوج وتجاه الأبناء.
من ذلك أن العفة فيهن قليلة جدًّا؛ لأن الله أباح نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والمحصنة هي العفيفة والتي تمتنع من الوقوع في الزنا وهذا قليل في الزمان الآن، لا أقول معدوم لكنه قليل، وكذلك قوانين الدول فيها معنى أنها تشكل العلو للمرأة وعلو المرأة على الرجل لا شك أنه سبيل لفساد أو انفصال هذا النكاح ولتأثيره في نتائج هذا النكاح من الأبناء، ومن ذلك حق الحضانة للأبناء، فإنه تنشب صراعات وخصومات وقصص وأحداث بسبب مثل هذه الزيجات، وفي الزواج من المسلمات غُنية، كما أن الإقامة في بلاد المسلمين أولى من بلاد غير الإسلامية، ولهذا نصيحتي للمسلمين جميعًا أن يحرصوا في النكاح على نكاح المحصنات من المؤمنات، وأن لا يلتجئوا لذلك لِمَا يتكنف ذلك من أخطار، ولهذا ينبغي أن يراعي الإنسان هذه الأمور، حينما نقرر أنه يجوز نكاح الكتابية لا يعني ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يفعل.
{(ثم حكى الوجه الآخر وهو الإباحة وكأنه مال إليه، ثم قال: والخبر فلا حجة فيه، لجواز أن من تزوج به منهن أسلمن، قلت: وهذا الحديث ليس له أصل يعتمد عليه في رفعه، وإنما هو من كلام بعض الصحابة، وقال أبو إسحاق المروزي: ليس بحرام.
وفي جواز تسريه بالأمة الكتابية، وتزوجه بالأمة المسلمة ثلاثة أوجه أصحها أنه يباح له تسري الكتابية، ولا يباح له نكاح الأمة المسلمة، بل يحرم.
وأما الأمة الكتابية: فقطع الجمهور بتحريم نكاحها عليه، وطرد الحناطي فيها وجهين، وهما ضعيفان جداً. وفرعوا هنا فروعاً فاسدة تركها أولى من ذكرها. وهذا النوع من الخصائص الذي زجر عنه ابن خيران والإمام وهما مصيبان في ذلك، والله أعلم)
}.
يعني التفصيل في مسألة الخصائص وما يجوز وما لا يجوز عليه -صلى الله عليه وسلم- هو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله-.
{(القسم الثالث ـ ما أبيح له من النكاح دون غيره.
مات -صلوات الله وسلامه عليه- عن تسع نسوة، واتفقوا على إباحة تسع، واختلف أصحابنا في جواز الزيادة، فالصحيح أنه كان له ذلك، ودليله ما في البخاري عن بندار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من ليل أو نهار، وهن إحدى عشرة. قلت لأنس: هل كان يطيق ذلك؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين، وفي رواية أربعين. ثم رواه البخاري من حديث سعيد، عن قتادة، عن أنس: وعنده تسع. "وقال أنس: تزوج صلى الله عليه وسلم خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع" وقال قتادة أيضاً. وذكره ابن الصباغ في شامله قال: وقال أبو عبيد: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة امرأة، واتخذ من الإماء ثلاث)
}.
طبعًا فيه من كلام ابن كثير مسائل، أما طوافه -عليه الصلاة والسلام- على نسائه في ساعة واحدة هذا فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر، وفيه معلم من وسطية الإسلام في التوازن بين النكاح والعبادة، فالذي يفعل هذا هو أن يطوف على نسائه في ساعة واحة بغسل واحد هو الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه -صلوات ربي وسلامه عليه-، ولهذا خُص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحكام، أنه أبيح له أكثر من أربع نسوة، وهذه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- كما وقع الإجماع، واختلفوا في عدد الزيادة كما ذكر ابن كثير، وهذا كونه -صلى الله عليه وسلم- يزيد عن أربع متوافق مع ما منحه الله -عز وجل- من القوة من النكاح، ولهذا هذا لم يكن من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط بل لغيره من الأنبياء.
فقد صح الخبر كما جاء في الأحاديث أن سليمان، وهو نبي من الأنبياء كان له عدد من الأزواج، ولهذا أقسم مرة أن يطوف على مائة امرأة من نسائه في ليلة واحدة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يُقاتل في سبيل الله، ولكنه -عليه السلام- لم يقل إن شاء الله، لم يستثن، فولدت واحدة شق إنسان، جاء هذا الخبر في الحديث الصحيح.
وضع الشاهد منه: أن لغيره كان من الأنبياء من يفعل ذلك، ثم أن هذا الخبر، أنه كان يطوف فدلالة الأحاديث ومعنى الحديث إن كان بلفظ كان لكن كلام المحدثين وشراح الحديث أن هذا الفعل منه ليس عادة مستمرة، والأصل هو القسم بين أزواجه -صلوات ربي وسلامه عليه-، بل إن بعض المحدثين والشراح قالوا: إنه وقع مرة واحدة وبعضهم قال: مرتين، كما مال إليه ابن عبد البر في الاستذكار، قال: أنه فعل ذلك قبل أن يحرم وفعله مرة وهو في المدينة، فهذا يدلك على ما ذكرنا لك في مثل هذه المسألة، وهذا من معانٍ عظيمة بعضها يظهر لنا وبعضها لا يظهر، فهذا متوافق -كما ذكرنا- مع أباحه الله -عز وجل- وما خصه الله -عز وجل-.
{(مسألة: قالوا: وكان يصح عقده بلفظ الهبة، لقوله تعالى: ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 50] وإذا عقده بلفظ الهبة فلا مهر بالعقد ولا بالدخول، بخلاف غيره.
وهل كان ينحصر طلاقه في الثلاث؟ فيه وجهان، أصحهم)
}.
ذكر قبل هذا أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ له أن يقبل من وهبت نفسها، وهذا جاء في القرآن ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾، هذا نص واضح أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أن المرأة تهب نفسها له، وأما غيره فلا بدَّ من الصداق ولا بدَّ من الإشهاد والولي، وقد وهب عدد من النسوة أنفسهن للنبي -صلى الله عليه وسلم- طلباً لهذا الشرف، ولكن أكثر من نسوة أكثر من امرأة حدث منها، لكن لم يقع نكاحه -صلى الله عليه وسلم- للموهوبة، وإنما هو مما خُص به -صلى الله عليه وسلم- من النكاح، ولكن لم يصح في الأخبار أنه نكح النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة وهبت نفسها له.
{(وهل كان ينحصر طلاقه في الثلاث؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، لعموم الآية. وقيل: لا، لأنه لما لم ينحصر نكاحه في الأربع، لم ينحصر طلاقه في الطلقات الثلاث. وهذا ضعيف، لعدم التلازم)}.
هذا تعسف، وهو الصواب، بعض تفريعات فقهاء الشافعية -رحمهم الله- أنهم يفرعون أن كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يجوز له أكثر من أربع نسوة وعلى ذلك أنه لا ينحصر طلاقه -صلى الله عليه وسلم- بالثلاث، وهذا من التفريعات التي لا داعي لها وفيها تعسف، والأصل في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحكامه في الأمة أنه يشاركهم في هذا الحكم، ولهذا نقول دائمًا، والفقهاء -رحمهم الله- يقولون ذلك، أنه من ادعى الخصوصية فعليه الدليل، وقد ذكرنا في الآية أن الله -عز وجل- يبن ذلك، إما أن يبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يبينه الله -عز وجل- في الوحي، ولهذا لما أباح للنبي -صلى الله عليه وسلم- الموهوبة، قال: ﴿خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾، والفقهاء وعلماء الأصول يقولون: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولهذا البيان منه -صلى الله عليه وسلم- ومن خلال الآية، خلال النصوص القرآنية وخلال الأحاديث النبوية الأصل بذلك العموم ومن دل استدل على خصوصية ذلك الحكم بالنبي فعليه الدليل.
{(مسألة: وكان يباح له التزوج بغير ولي ولا شهود على الصحيح، لحديث زينب بنت جحش أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: "زوجكن أهلوكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات". رواه البخاري)}.
وهذا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولأنه في مقام الإمامة، فيدل على ذلك ما ذكره ابن كثير من قول زينب بنت جحش -رضي الله عنها-، وكذلك ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع صفية بنت حيي بن أخطب، قالوا في الروايات في زواجه: إن حجبها علمنا أنها من أمهات المؤمنين، فلما حجبها -صلى الله عليه وسلم- علمنا أنه تزوجها، وهو استثناء من القاعدة التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل»، لأن الفقهاء -رحمه الله- قالوا: إن اشتراط الولي لضمان الكفاية، الكفاءة يعني، الكفاءة بين الزوج والزوجة، يعني هو أن تكون مكافئة له، لأن عدم الكفاءة من أسباب عدم انتظام الزواج وليس ثَمَّ أكفأ منه -صلى الله عليه وسلم-، وهذه منتفية اشتراط الكفاءة، والشهود بضمان أمن الجحود، بأن لا يجحد هذا الزواج الزوج، وهو أمر غير متصور منه -صلى الله عليه وسلم-، فهو أمين الوحي فكيف يؤمن على مثل هذا، هذه من المعاني التي ذكرها أهل العلم فيما خُص به -صلى الله عليه وسلم-.
{(مسألة: وهل كان يباح له التزوج في الإحرام؟ على وجهين:
أحدهما: لا، لعموم الحديث الذي في مسلم "عن عثمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب»". والمخاطب داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثرين.
وصححوا الجواز، لحديث ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. أخرجاه. ولكن يعارضه ما رواه مسلم عن ميمونة نفسها: أنه تزوج بها وهما حلالان. وصاحب القصة أعلم بها من الغير، والله أعلم)
}.
هذا ليس من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا إدعاء الخصوصية يحتاج دليل، والأصل أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحكامه التي يذكرها أنه يشارك أمته إلا ما دلَّ الدليل عليه، وهذا الحديث واضح وبين، الإشكال في الواقعة التي وقعت وهو زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بميمونة بسرف، مر معنا أنه تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بسَرِفَ، وسَرِفَ هذه موضع قريب من الحرم، هي الآن موجودة بمسمى النورية -كما ذكرنا-، فالصحيح أن سَرفَ من الحل وليست من الحرم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما تزوج بها وعقد عليها وهو حلال قبل أن يحرم.
ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله- قال: إنه تزوج وهما حلال، قال: (يعارضه ما رواه مسلم عن ميمونة نفسه) والراوي أعلم بما روى ولا شك أنها هي صاحبة القصة، فمن وجوه الترجيح أن يرجح بأن من له متعلق بالقصة بيَّن أنه تزوجها وهو حلال، فكيف يقال تزوجها والنبي -صلى الله عليه وسلم- محرم؟ فعلى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكح ولم يتزوج ميمونة إلا وهو حلل بسَرِفَ وما يثبت ذلك ما ذكره، إذاً إذا ثبت هذا فإدعاء أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- لا يصح كما ذكر ابن كثير -رحمه الله-.
{(وإذا رغب في نكاح امرأة وجب عليها إجابته على الصحيح عند الأصحاب، فيحرم على غيره خطبته)}.
هذا من تفريعات فقهاء الشافعية -رحمهم الله- في الخصائص التي رأى أنه كما ذكر ابن كثير لا داعي لها، لأنه لم يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه عندهم وجه آخر أن ذلك لا يجب، ولهذا قال ابن الخطيب المشهور بنور الدين الشافعي في كتاب له اسمه "تيسير البيان لأحكام القرآن" تعليقاً على هذا قال: "وهذا القول ساقط لا ينبغي حكايته"، يعني ما ذكر من فروع الشافعية من التفصيلات.
{(مسألة: هل كان يجب عليه أن يقسم لنسائه وإمائه؟ على وجهين: والذي يظهر من الأحاديث الوجوب، لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض جعل يطوف عليهن وهو كذلك، حتى استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجب، لقوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ﴾ [الأحزاب: 51]. فيكون من الخصائص، وهذا كله تفريع على أن تزوجه: هل هو بمنزلة التسري في حقنا أو لا؟ على وجهين)}.
هذا مسألة مهمة: هل كان يجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم لنسائه؟
قَسَمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أزواجه من عدله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا القسم هو في المبيت والنفقة، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من عدم العدل بين الأزواج، بل جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- الوعيد الشديد لمن لم يعدل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» رواه أهل السنن بسند حسن، وهذا فيما يملكه الإنسان يجب عليه العدل فيه، وأما ما لا يملكه وهي الرغبة القلبية، فهذا لا يتعلق به الحكم الشرعي لأنه غير مقدور، الأحكام الشرعية والتكليف إنما يناط بالمقدور عليه، لهذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهمَّ هذا قَسْمي فيما أملِكُ فلا تلُمْني فيما أملِكُ»، وهو الرغبة القلبية وهذا لا علاقة له، لكن مع هذا ينبغي للإنسان أن لا يبديها، يعني للزوج أن لا يبديها وأن لا يظهرها، يعني أن يظهر رغبته في فلانة دون فلانة، هذا من الغلط وهذا الإبداء يخالف هذا، الرغبة تكون في محل القلب، إما يبديها فهذا من عدم العدل، عليه أن لا يبديها، لكنه لا يلام أنه يرغب في الأولى أو يرغب في الثانية أكثر من الأولى، لأمور قلبية ونفسانية، لكنه عليه أن لا يبديها.
وأما أصل العدل فإنه في المبيت والنفقة وهذا كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- إلا فيما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في القسم، أنه وشرعه لأمته، إذا تزوج بكراً فيقيم عندها سبعاً -جاء في الحديث- ثم يقسم، وإن تزوجها ثيباً أقام عندها ثلاثاً ثم يقسم، وبهذا صح الحديث في البخاري.
وكان من عادته -صلى الله عليه وسلم- في قسمه بين أزواجه، أنه كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، وللمرأة من النساء أن تتنازل عن حقها في المبيت، وهذا وقع من بعض أزواجه مرتين، أما الأولى فوقع من سودة أنها تنازلت عن حقها في المبيت لعائشة -رضي الله عنها- طلباً لتطيب قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأنها خشيت أن يطلقها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهي لأجل ذلك فعلت، وأما عموم النساء فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه في حال مرضه -صلى الله عليه وسلم- كان يطاف به على نسائه، شق عليه ورأوا المشقة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فطابت أنفسهن أن يبقى في بيت عائشة -رضي الله عنها وأرضاها ورضي الله عن أبيها.
أما كون القسم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بواجب، فكما ذكر ابن كثير حكا الخلاف في ذلك والظاهر من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه واجبٌ عليه، لأنه في حال المرض لم يترك ذلك، فدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس من خصائصه أنه لا يقسم وأن ما ذكر من التفريعات غير وجيه -والله أعلم.
{(مسألة: وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها، كما ثبت في الصحيحين عن أنس، فقيل: معنى ذلك أنه أعتقها وشرط عليها أن تتزوج به، فوجب عليها الوفاء بالشرط، بخلاف غيره، وقيل: جعل نفس العتق صداقاً، وصح ذلك بخلاف غيره، وهو اختيار الغزالي.
قلت: يشكل على هذا ما حكاه الترمذي عن الشافعي أنه جوز ذلك لآحاد الناس، وهو وجه مشهور.
وقيل: أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر، لا في الحال ولا في المآل، وهو المحكي عن أبي إسحاق، وقطع به الحافظ أبو بكر البيهقي، وصححه ابن الصلاح والنووي. قلت: ووجه الشيخ أبو عمرو)
} عمرو بن الصلاح {(قوله: وجعل عتقها صداقها. يعني: أنه لم يمهرها، غبر أنه أعتقها، فيكون كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له.
وقيل: بل أمهرها جارية، كما رواه البيهقي بإسناد غريب لا يصح - والله أعلم)
}.
وهذا الظاهر أنه غير صحيح، طبعًا هذه المسألة مهمة جدًّا وأذكر أننا ذكرنا شيئًا منها، ولا بأس أن نعيد الكلام فيها، زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفية بنت حيي بن أخطب، فصفية -رضي الله عنها- انتفعت من هذا النكاح أولاً بإسلامها ونجاتها من الكفر ونجاتها من النار وبزواجها من خير الناس وسيد ولد آدم وهذا شرف شرفها الله به، ولهذا لما دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي لما قالت لها حفصة أنها بنت يهودي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا صفة إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ؛ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ»، وهذا شرف عظيم لأنها -رضي الله عنها- من نسل هارون وعمها موسى -عليه السلام-، وتزوجها سيد ولد آدم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا من المهم في قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفية الإشارة إلى الحوار الذي دار بينها وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فعن إبراهيم بن جعفر كما في الطبقات الكبرى لابن سعد، إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: "لما دخلت صفية على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَمْ يَزَلْ أَبُوكِ مِنْ أَشَدِّ يَهُودَ لِي عَدَاوَةً حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ»، أبوها حيي بن أخطب وقد مر معنا قصته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغدر والمؤامرات، "فقالت: يا رسول الله، يقول الله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [فاطر: 18]، فقال لها رسول -صلى الله عليه وسلم-: اختاري، فإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية حاجة، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيَّرتني الكفرَ والإسلامَ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي، فأمسكها رسول الله لنفسه.
فإذاً القصة في ورودها فيها اختصار، وتفصيلها موجود في كلام أهل العلم، أن بعض من لا خلاق له ممن في قلبه مرض يتعرض لقضية زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفية ويحاول التشكيك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو في عظمة هذا الدين، وهذا من طريقة أهل الأهواء والمعادين لشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكن من المهم كشف الشبهة لأهل الإسلام، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعاشرها وهي مبغضة له كما يقول الأفاقون الكذابون.
ومن المفيد جدًّا أنها قد رأت أن ما يدل على أنها تتزوج من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا صح فيه الأثر الصحيح، أنها رأت رؤية وكان زوجها قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- سلام بن أبي الحقيق اليهودي، فقصت عليه أنها رأت أن قمرًا يسقط في حجرها، فلما قصت عليه الرؤية لطمها بيده، يعني: ضربها، قال: أتتمنين ملك يثرب، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن خلال هذه الوقائع يدلك على ذلك.
كذلك من الأمور التي ذكرها ابن حبان -رحمه الله- في قصة حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع صفية، قالت: "فما زال يعتذر إلي" لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمره قتل حيي بن أخطب وزوجها الذي كانت تحت يده، قالت: "فما زال يعتذر إلي حتى ذهب الذي في نفسي".
خلاصة القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكحها إلا وهي مقبلة، قبلت الإسلام وقبلت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نكحها أو جامعها إلا بعد إسلامها وبعد عتقها وبعد استبراء رحمها، وكان مهرها على الصحيح من الأقوال أن أعتقها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصنع لها وليمة عرس، هذا هو الثابت.
فإذاً لا مجال لهؤلاء الكذابين الأفاقين الذين يعمدون إلى قصص واردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيها اختصار في أحداثها، ثم يجعلون تحتها مضامين سيئة وفيها الإساءة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أكرم الناس خلقاً، والذي أثنى الله -عز وجل- على خلقه -صلى الله عليه وسلم- ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4]، فكيف يتصور منه ما يقوله هؤلاء الكذابين الأفاكون الشانئون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال الله -عز وجل- وقد أوعد هؤلاء: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾[الكوثر: 3]، فهؤلاء بترهم الله -عز وجل- في شبهاتهم وفي افتراءاتهم وسيبترهم الله -عز وجل- في الدنيا فلا ذكر لهم وعقابهم عظيم وشديد عند الله -سبحانه وتعالى-، وسيعاملهم بعدله، لأن الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس كالإساءة إلى غيره -صلى الله عليه وسلم-، فهو الأمين وهو أمين الوحي، فكيف لا يؤمن بمثل هذه الأمور.
ولهذا لما اعترض عليه ذاك المنافق في قسمته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»، فكيف لا يأمن؟ كيف يشكك في النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ في عدالته وفي رحمته، في كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم-، من يفعل ذلك من لا خلاق له، ولكن لأن هؤلاء يأخذون من جراب الشبهات ليشبهوا على الناس ويضلونهم ويستفيدون من جهل الناس المسلمين بسيرة رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، فيضعون هذه الشكوك في قلوبهم ويأزرهم ويساعدهم الشيطان الرجيم -أعاذنا الله منه.
{(القسم الرابع ـ ما اختص به من الفضائل دون غيره
فمن ذلك أن أزواجه أمهات المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، ومعنى هذه الأمومة: الاحترام، والطاعة، وتحريم العقوق، ووجوب التعظيم، لا في تحريم بناتهن وجواز الخلوة بهن، ولا تنتشر الحرمة إلى من عداهن.
وهل هن أمهات المؤمنات؟ على وجهين: صححوا المنع، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وهذا تفريع على أن جمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء؟ وهي مقررة في الأصول)
}.
طبعًا هذه المسألة -مسألة أمهات المؤمنين- صح بها النص كما ذكر ابن كثير من الآية التي في سورة "الأحزاب" آية 6: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾، وأمهات المؤمنين شرفهن الله وميزهن عن غيرهن، فقال الله تعالى: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32]، فإذاً أمهات المؤمنين شرفن بالاختيار والاصطفاء، ففضلهن واضح وبين خلال النصوص، والله يعلم حيث يجعل رسالته، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم زاد هذا الفضل في حقهن لما خيرهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما مر معنا، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ﴾ كما مَرَّ مَعَنَا ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيم﴾ [الأحزاب: 28- 29]، فلا شكَّ أنَّ الله وعدهن بالأجر العظيم.
ومن فضائلهن وفضائلهن كثيرة: أن أجرهن مضاعف، ولهذا قال الله -عز وجل- في الآية: ﴿وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيم﴾ [الأحزاب: 31]، وهذا فضل لهن.
ومن فضلهن ومن خصائصهن: أنه لا يحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- استبدالهن كما جاء في ذلك النص، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [الأحزاب: 52] بعد ما اخترن الله ورسوله، ﴿وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾، مما اخترن الله ورسوله أكرمهن الله بذلك، قيل: إن هذا الحكم نُسخ ثم جاز له التزوج لكنه لم يفعل -صلى الله عليه وسلم-، لكن في الأصل والظاهر أنه من فضائلهن -رضي الله عنهن وأرضاهن.
كذلك من فضائل أمهات المؤمنين: أنهن من أهل بيته، وأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- شرفهم الله -عز وجل- بفضائل، وهن يصدق عليهن معنى أنهم من أهل البيت، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير﴾ [الأحزاب: 33]. قال عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة: "نزلت في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ومن فضائل أمهات المؤمنين: أن الوحي كان يتنزل في بيوتهن وهذا شرف عظيم، كانت عائشة -رضي الله عنها- أقرأها جبريل السلام وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه الوحي وهو في حجراته بين أزواجه، ولهذا حثهن الله -عز وجل- على نقل السنة والأحكام، ولهذا قال الله -عز وجل- في محكم كتابه: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِير﴾ [الأحزاب: 34].
كذلك مما خُص به أمهات المؤمنين من الفضائل ومن الأحكام: أنه لا يجوز نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما صح أو كما جاء في الآية: ﴿وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَد﴾ [الأحزاب: 53] على الأبدية، وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- الخلاف في هل أمهات المؤمنين هذا الحكم يشمل الرجال والنساء أو هو خاص بالرجال؟ الله اعلم كما ذكر القرطبي -رحمه الله- ، كما قال القرطبي: الذي يظهر لي أن أمهات الرجال والنساء، أن أمهات المؤمنين للرجال والنساء، يعني للمرأة أن تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وهذا المعنى كما قال القرطبي تعظيماً لهن على الرجال والنساء وهذا أقرب، فما حكاه ابن كثير من هذا الوجهين ظاهر ودلالة النصوص تدل على أن الحكم تشمل الرجال والنساء، وإن كان معنى الأمومة على الرجال والنساء فيه معنى زيادة في الحرمة من نكاحهن، لكن هذا لا يمنع أن يكون هذا الحكم شامل للرجال والنساء في هذا اللقب، ولهذا فمن تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- تعظيم أمهات المؤمنين والترضي عنهن، ومن الخطر بمكان التعرض لمقام أمهات المؤمنين سواء عائشة -رضي الله عنها- بنت أبي بكر أو حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو صفية بنت حيي بن أخطب أو غيرها من أمهات المؤمنين، التعرض لهن بسوء، لأن التعرض لهن بالسلب أو التنقص يترتب عليه أمرين:
الأمر الأول: أنهن شرفن بزواجهن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأمر الثاني: أنهن من يشملهن فضل الصحبة، تعرض لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا شك أنه جاء فيه الوعيد الشديد، وأن فضل الصحابي على غيره لا يقارن، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي»، فهذا يشمل أمهات المؤمنين، «فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ».
فالتعرض لأمهات المؤمنين خطر عظيم وسلب لدين الإنسان، فأمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- ينبغي بل يجب على الإنسان أن يترضى عليهن وأن يوقر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يذكر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخير وبخاصة أن جملة من الوحي وجملة من السنن النبوية إنما نُقلت عن طريق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من دون استثناء، وإن كانت عائشة -رضي الله عنها- لها السبق في رواية السنة البيتية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن يشاركها غيرها من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالتجرؤ على أمهات المؤمنين أمر خطير، وقد وقع من المنافقين، وقع في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم- في عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك التي مرت معنا، وحينما تخلفت وتكلم من تكلم من المنافقين وسمع هذا الكلام ونقله بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه غفلة عن خطورة هذا الكلام، وحد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قذفها، وأنزل الله براءاتها من فوق سبع سماوات، بعد أن ابتلاها الله -عز وجل-، وكان هذا الابتلاء تشريف وتكريم، فلولا هذا الابتلاء لما ذكرها الله -عز وجل- في سورة النور قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾ [النور: 11].
ففضل عائشة على النساء عظيم وإن كان الفقهاء -رحمهم الله- اختلفوا في تفضيل عائشة على خديجة على أقوال، لكن فضل عائشة ثابت كما أن فضل خديجة ثابت، وعائشة -رضي الله عنها- ابنة الصديق وابتليت في عرضها وبرأها الله -عز وجل-، فلهذا من أقبح ما يكون من القول التعرض لزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسلب؛ لأن التنقص منهن أو التعرض لهن هو تعرض لمقام النبوة، وقدح فيهن قدح في النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أن القدح في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قدح في النبوة، لأن القدح في أصحابه وفي أمهات المؤمنين، لا شك أنه قدح في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن كان له عقل سليم فإنه يرشده إلى توقير أمهات المؤمنين عن التعرض لإحداهن بشيء من السوء، فيجب على المسلم والمسلمة أن يوقر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمهات المؤمنين ويترضى عنهن، فهذا حق الأمومة لأن الله -عز وجل- قال: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾، وأمهات المؤمنين لقب عظيم لا بدَّ أن يكون له دلالة ومعنى، فكيف يظن بفرقة أو طائفة تقدح في أمهات المؤمنين؟ وأمهات المؤمنين لا شك أن ذلك سفه وجهل وتعرض لدين الإسلام، لكن الضلال ليس له حد -نسأل الله السلامة والعافية من مثل هذه الأمور.
{(وهل يقال في إخوتهن: أخوال المؤمنين؟ فيه نزاع، والنص جوازه)}.
من ذلك أن العلماء -رحمهم الله- تكلموا في معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ذكروا أنه خال المؤمنين، لأن أم حبيبة بنت أبي سفيان تحت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي من أمهات المؤمنين، ومعاوية خال المؤمنين بهذا الاعتبار، ومعاوية -رضي الله عنها- وإن كان قد أسلم متأخراً عن الفتح، لكنه شرف بفضل الصحبة -رضي الله عنه وأرضاه- وشرفه الله -عز وجل- بالولاية، وبنشر الإسلام وبالجهاد في سبيل الله مع أنه تأخر إسلامه فإنه قد كتب الوحي، ولهذا أذكر كلام لأهل العلم ولعلماء السلف -رحمهم الله- في التحذير من القدح في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن معاوية -رضي الله عنه- تعرف أن أبا سفيان كان له في سابق أمره عداوة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه أسلم وحسن إسلامه وجاهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتوبة تجب ما قبلها، وشرف -رضي الله عنه- أبي سفيان بفضل الصحبة، وهؤلاء الذين يتعرضون أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسلب والتنقص يعمدون إلى معاوية طوائف، منهم من يقدح في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه العموم، لكن للأسف أن بعض المنتسبين للسنة أنه يتعارض خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بالتنقص أو بالكلام، فحكمه كحكم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي»، لا شك أن فضل المتقدم خيرٌ من المتأخر لكنه يشمله فضل الصحبة كما أجمع على ذلك أهل العلم، «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي».
ولهذا كما قال السلف -رحمهم الله-: معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الستر يعني مثل الستارة، فمن هتك الستر أوشك أن يلج، فمن يقدح في معاوية، بعضهم ينتسب للسنة فيقدح في معاوية تارة لمواقف سياسية أو أنه تولى على المسلمين بغير شورى أو حول هذه الأمور، ثم يقدح في معاوية ويصفه بأوصاف قبيحة من المنتسبين للسنة، فهؤلاء هتكوا ستر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعاوية الستر، فمن هتك الستر أوشك أن يلج، ولهذا نحذر أهل الإيمان من التعرض لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، سواءً من كان له سابقة أو من أسلم متقدماً قبل الفتح أو من أسلم بعد الفتح، لأن الله -عز وجل- قال: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى﴾[الحديد: 10]، والله وعدهم الحسنى ووعدهم الجنة ورضي الله عنهم وأرضاهم وهم من بلغوا الدين، ومن ذلك أحاديث رواها معاوية -رضي الله عنه-، فالقدح فيهم قدح في الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أسأل الله أن يرزقنا سلامة القلوب على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يرزقنا حب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والترضي عنهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{(وهل يطلق على بناتهن أخوات المؤمنين؟ نص الشافعي في المختصر على جوازه، وجوزه بعض الأصحاب، ومنع منه آخرون، وقد أنكر ابن الصباغ وغيره ذلك على وقالوا: غلط)}.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة ولعلنا نكمل -إن شاء الله- الفرع الذي يليه.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك