{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في ظلال سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، ضيفنا في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا إلى الصواب، وأن يهدينا سواء السبيل وأن ينفعنا بهذا الكتاب العظيم.
{قال -رحمه الله-: (مسألة: قالوا: ومن استهان بحضرته أو زنى، كفر. وقال الشيخ أبو زكريا النووي: وفي الزنا نظر. والله أعلم)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذه المسألة: مسألة الاستهانة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حضرته أو في غيبته، لا شك أنها من نواقض الإيمان في كما ذكر ابن كثير، وهي مرتبة أقل من الاستهزاء، والاستهزاء والاستهانة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو بشريعته من نواقض الإيمان، ويدل على ذلك ما أنزله الله -عز وجل- في محكم كتابه في شأن المنافقين الذين استهانوا واستهزءوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبصحبه، أنزل الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة،
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65- 66].
المقولة التي كفروا وأظهروا بها كفرهم هؤلاء المنافقين، لأنهم قالوا: "مَا رَأَيْنا مِثْلَ قُرائنا هَؤُلَاءِ، أرغبَ بُطُونًا، وَلَا أكذبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ"، يعنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء عوف بن مالك وأراد أن يبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- مقولة هؤلاء، فوجد القرآن قد سبقه في حكمهم، فحاولوا أن يعتذروا فلم يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عذرهم، ولهذا نقول مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن يحترم، ولا ينبغي لأحد ولا يجوز لأحد التعرض لهذا المقام ولو من بُعد، لأن التعدي عليه ليس كالتعدي على غيره، ولأن التعدي عليه يتضمن الطعن في شريعته، والطعن في شريعته كفر وتكذيب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يجب على الإنسان المسلم أن يحذر من مثل هذا، ومما يدخل في الاستهانة، الاستهانة بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستخفاف بها أو باستخدام ما جاء عن الله وجاء عن رسوله من الأمور الغيبية أو من السنن النبوية على وجه الاستهزاء أو على وجه الاستهانة، وعلى وجه أن تجعل طُرف ومُلح في المجالس لإضحاك الناس، فهذا خطير جدًّا، فإن هذه المقامات وهذه الأمور ينبغي أن لا يلجها أحد ولا يدخل فيها خشية على دينه وعلى عقيدته، لأن ورد في الحديث الوعيد الشديد لمثل هؤلاء.
من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَيْلٌ لِمَنْ يَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ»، ومن كذبه أنه يأتي شيئًا من هذا، من أمور الدين ومن شعائر الدين، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رب كلمة يلقيها ولا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفً» هذا وعيد شديد، لهذا المؤمن يحرص كل الحرص على أنه لا يتعرض ولا يدخل هذا الباب ولا يلج إليه، في أي وجه كان، يعني باب الشريعة وباب النبوة والغيبيات لا يتحدث عنها ولا يجعلها مسارًا للطرف ولا مجالاً للاستهانة، هذا خطر على الإنسان وعلى عقيدته، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله-: (أو زنى).
والزنا قد يتعذر في حضرته -صلى الله عليه وسلم- وفي المكان الذي هو جالس، ولكن الزنا في زمانه قد وقع؛ لأن الزنا وقع من ماعز وتاب، وقَبِلَ الله توبته، ومن الغامدية وقد تابت وَقَبِلَ الله توبتها، وَحُدة بحد الرجم، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الغامدية: «تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم»، وكذلك ماعز -رضي الله عنه- تاب، فوجود الزنا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجوده، فلا يتصور أن يكون بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهوده، هذا يتعذر لكن في زمانه قد وقع، وجعله يعني حقيقة هو من تفريعات بعض الفقهاء الذي أظن هذا قد لا يتصور أن يقع، لكن في زمانه قد وقع، وهذا يدل على أنه في كل زمان قد يوجد الخطأ، قد يوجد الكبائر ومع ذلك فالأمر بعمومه وبغالبه وهو الخيرية وحتى هؤلاء الذين زلوا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- سارعوا وبادروا إلى التوبة والله تعالى يغفر الذنوب جميعًا.
{قال: (يجوز التسمي باسمه بلا خلاف، وفي جواز التكني بكنية أبي القاسم ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: المنع مطلقاً، وهو مذهب الشافعي، حكاه عنه البيهقي، والبغوي، وأبو القاسم بن عساكر الدمشقي: لحديث ورد فيه "عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي»" أخرجاه، ولهما عن أبي هريرة مثله.
والثاني: وهو مذهب مالك، واختيار النووي -رحمهما الله تعالى- إباحته مطلقاً، لأن ذلك كان لمعنى في حال حياته زال بموته صلى الله عليه وسلم.
الثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمداً، ولا يجوز لمن اسمه محمد، لئلا يكون قد جمع بين اسمه وكنيته، وهذا اختيار أبي القاسم عبد الكريم الرافعي)}.
كل هؤلاء من فقهاء الشافعية -رحمهم الله-، وهذه المسألة التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله- وهي مسألة التسمي باسمه والتكني بكنيته -صلى الله عليه وسلم- من المسائل المهمة التي كما ذكرها ابن كثير جرى فيها خلاف لأهل العلم، تحت هذه المسألة مسائل تحتاج تحقيقهم وحرر فيها الكلام.
أولاً: أما التسمي باسمه في حياته، أن يسمى محمد فقد وقع من الصحابة، أن يسمى من الصحابة محمد أو يسمون أبناءهم بمحمد، ولم ينكره -صلى الله عليه وسلم-، هذا ثابت، وأما التكني بكنيته فالنهي واضح وثابت في الحديث الصحيح، أنه نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أن يتكنى بكنيته، وكنيته -صلى الله عليه وسلم- أبا القاسم، وهذا لا إشكال هو ثابت، لكن محل الخلاف هل هذا النهي كان إلى أمد أم إلى أبد، بمعنى هل كان النهي معللاً ومسبباً في وقت حياته، فمنع لأجله، لأجل أن لا يشتبه أحد بكنيته وزال هذا المنع بموته كما هو رأي الإمام مالك، ولهذا الظاهر من خلال النصوص أن المنع إنما كان لأمد، يعني لوقت حياته، ولهذا فلما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- زال هذا المانع وانتهى هذا النهي، لأنه كان يشتبه، لكن بموته -صلى الله عليه وسلم- لا يحصل الاشتباه.
ومن دلائل الجواز: أنه ما زال أهل العلم والفضل يتسمون باسمه من غير نكير وكذلك يتكنون بكنيته من غير نكير لزوال سبب المنع، وهو في هذه المسألة لعل هذا القول هو أقرب وهو اختيار الإمام مالك كما ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى.
{قال: مسألة: (وذكروا في الخصائص: أن أولاد بناته ينتسبون إليه، استناداً إلى ما رواه البخاري "عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عند النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى، فيقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»")}.
طبعًا هذه المسألة: أبناء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأولاد بناته ونسبتهم إليه، أما أولاده -صلى الله عليه وسلم- فقد مر معنا ذكرهم، أولهم القاسم -رضي الله عنه- مات طفلا، ثم زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله ومات طفلاً كالقاسم، وهؤلاء كلهم من خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، ولم يولد له -صلى الله عليه وسلم- من زوجة غير خديجة، ثم ولد له إبراهيم في المدينة من مارية القبطية، هؤلاء هم أولاده، وكل أولاده ماتوا في حياته إلا فاطمة -رضي الله عنها- فماتت بعده بستة أشهر، وتزوجها علي وأنجب منها الحسن والحسين وعاشا في حياته -صلى الله عليه وسلم-، بقي من ذريته الحسن والحسين.
قال ابن القيم: "المسلمون مجمعون على دخول أولاد فاطمة -رضي الله عنها- في ذرية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن ابني هذا سيد» فسماه ابنه، فدل على أن الحسن والحسين وذريتهم ينتسبون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الوجه، من جهة أنهم أبناء فاطمة، وجُعل ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-.
{قال: (مسألة: ومن الخصائص أن كل نسب وسبب فإنه ينقطع نفعه وبره يوم القيامة إلا نسبه وسببه وصهره صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن محرمة، "عن عبد الله بن أبي رافع، عن المسور، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها ويبسطني ما يبسطها، وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري»". هذا الحديث في الصحيحين عن المسور بغير هذا اللفظ، وبدون هذه الزيادة)}.
يعني الثابت في الصحيحين «فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها ويبسطني ما يبسطه» أما الزيادة هذه فليست في البخاري وليست في مسلم.
{(قال الحافظ أبو بكر البيهقي: وقد روى جماعة هذا الحديث بهذه الزيادة عن عبد الله بن جعفر هذا، وهو الزهري، عن أم بكر بنت المسور بن مخزمة، عن أبيها، ولم يذكر ابن أبي رافع، فالله أعلم)}، هذا يشير إلى أن السند فيه اضطراب.
{("وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما خطب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له علي: إنها صغيرة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي»"، فأحببت أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب، فزوجه علي -رضي الله عنهما-. رواه البيهقي من حديث سفيان بن وكيع، وفيه ضعف)}.
أما زواج عمر يعني المصاهرة بين الصحابة وآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم عمر، هذا ثابت وواقع، هذا الدليل على أن العلاقة متصلة بهم.
{(وعن روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن ابن أبي ملكية، عن حسن بن حسن، عن أبيه، أن عمر... فذكره)}.
تحت هذه المسألة أو تحت هذا الكلام مسألة مهمة: ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أن كل سبب ونسب منقطع إلا نسبه وصهره -صلى الله عليه وسلم-، وذكر ابن كثير -رحمه الله- هذا الحديث، والحديث واضح في دلالته أن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري، هذا الحديث الذي دلالته ظاهرة وذكره ابن كثير مختلف في صحته من جهة سنده ومن جهة متنه.
أما من جهة السند، فبعضهم يضعفه وبعضهم يحسنه بمجموع طرقه، الإشكال الذي فيه من جهة متنه أكثر من جهة السند، لأن الله -عز وجل- قال: ﴿لاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾[المؤمنون: 101]، فنفى وجود هذه الأنساب ونفع الأنساب، وهذا ما جعل ابن تيمية -رحمه الله- يقرر في مجموع الفتاوى في مقال أو في كلام عظيم له، يقول: "الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله، وأما ما سوى ذلك لا ينفعهم، لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك" كما ثبت في الحديث الصحيح، أنه قال -صلى الله عليه وسلم- وهذا ثابت: «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيء، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك ممن الله شيء، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيء » هذا الحديث ثابت في صحيح مسلم، ويزيده بياناً ووضوحاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ آلَ أَبِي فُلاَنٍ»، وهم من أقربائه ولهذا لم يسميهم الراوي، «لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إنَّمَا وَليِّيَ الله وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ».
فهذه النصوص تنبئك بأن النسب نفسه لا ينفع صاحبه بذاته، إلا أن يكون فيه عمل وطاعة لله ولرسوله، ولهذا صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»، فهذا دليل على أن الأنساب، ومنها النسب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كونك مع آل بيت رسول الله أو نسبك يتصل بالحسن أو بالحسين فهذا النسب بذاته لا ينفع، لأن ثَمَّ أنساب متصلة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تنفعهم أنسابهم، ومنهم عمه أبو لهب وعمه أبو طالب، كل هؤلاء لم تنفعهم أنسابهم بل هم في النار كما صحت الأحاديث بذلك.
قال الشيخ محمد الأمير -رحمه الله تعالى- في تفسير آية ﴿لاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾، قال: المراد بنفي الأسباب انقطاع آثارها التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا من التفاخر والتواصل والقرب، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة ويكون الإنسان يوم القيامة لا يهمه إلا نفسه وليس المراد نفي حقيقة النسب، يعني باقي حقيقة النسب، لأن الله بيَّن أنها باقية في قولهم: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: 34- 35]، دل على أنه يعرف أنسابه يوم القيامة ولكن التفاخر والتواصل والعلاقة والنفع منقطع لأن الإنسان لا يكون في يوم القيامة له شغل إلا بنفسه.
خلاصة ما تقدم: أن الذي يظهر ضعف هذا الحديث من جهة سنده وقد أشار إليه ابن كثير في اضطراب سنده وفي بعض رجاله، والمتن فيه نكارة واضحة، تعرضه النصوص الصريحة الواضحة في أن النسب لا ينفع، وأما شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لآل بيته فهي لا تتوقف على النسب والمصاهرة، بل تحصل لهم ولغيرهم شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم.
بقي مسألة اللحاق بالدرجات، وهذا قد يكون لآل بيته من هذا الوجه وهو لا يختص به -صلى الله عليه وسلم-، وقد صرحت به الآية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾[الطور: 21].
قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان النسب وعلاقته بالعمل الصالح: "لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه لا أجل نسبه"، ولهذا حصل لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قنتن لله ولرسوله وعملن صالح أجرين، وقد وقع منهن لما خيرهن الله -عز وجل- واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قال: "أجرين لا لمجرد المصاهرة بل لكمال الطاعة، كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضعف لهن العذاب ضعفين لقبح المعصية منهن"، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى كان تقواه أكمل من تقوى غيره".
خلاصة هذا: يعني أن الإنسان إذا كان على وجه نسيب وعلى وجه شريف، فكمال التقوى منه وحصول التقوى منه يؤجر فيه أكثر، لأن مثل هذه الأمور تحمل على الكبر، وكذلك إذا كان ذا مال وكان من أسرة غنية وأقبل إلى الله -عز وجل- وأنفق في الطاعة لا شك أن أجره ليس كغيره، لأن الصوارف وما يحمل على الكبر وما يحمل على الطغيان موجودة، وأذكر أن ابن حزم -رحمه الله- تناظر مع أبي وليد الباجي مناظرة علمية، فاعتذر أبو الوليد الباجي من ابن حزم -رحمه الله- بعد نهاية المناظرة أنه كان يقرأ على سرج الحراس، ما كانت فيه كهرباء كان يقرأ على سروج الحراس، كان يطلب العلم ربما إذا حصل منه شيء أو تقصير بسبب هذا، فيريد أن يعتذر بالفقر، فقال له: وأنا اعتذر منك في مناظرتي هذه إن كانت مطالعتي أكثرها على فرش زباريد الذهب والفرش الوثيرة وكذا، هو يريد أن الغنى أكثر إلهاءً من الفقر في الطلب وفي العلم، وهذا الذي أشار إليه ابن تيمية -رحمه الله- أنه إذا كان ذا الشرف متقينًا لكن لا شك أنه كما أن توفر الوسائل المناسبة للخير والعمل تبعث الإنسان أن يكون خيَّرًا وتقيًّا، فالله -سبحانه وتعالى- حكم عدل.
أما مجرد النسب والزعم بأن النسب نافع بذاته، فهذا خلاف ما دلت عليه النصوص، وهذا يبعثنا على تحقيق معنى آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أشار إلى أن هؤلاء لا شك أنه
من المباحث المهمة ومن مسائل الاعتقاد توقير آل بيت رسول الله، لكن الزعم بأن النسب بذاته ينفع هذا خلاف التحقيق وخلاف ما دلت عليه النصوص، والأقوال متعددة وأقرب الأقوال أن آل بيته هم أزواجه -صلى الله عليه وسلم- وذريته من فاطمة، وهما نسل الحسن والحسين ويدخل في آل بيته على التحقيق بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «موالي القوم منهم»، هذا مبحث مهم جدًّا، أن الموالي يدخلون في الحكم وهذا معروف عند العرب، وقد أثبتته النصوص، مواليهم يعني الأرقاء الذين تحصل لهم الحرية يدخلون في عداد القوم، وقال: مواليهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما للولاء لحمة كلحمة النسب» هذا المشهور عند العرب وما دلت عليه النصوص، فهم يدخلون الموالي إذا ثبت أن ثَمَّ من موالي الحسن والحسين فإنهم داخلون في حكمهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد وهو قول الشافعي.
وأما الإمام أبي حنيفة ومالك فيرون عدم دخول آل المطلب وآل هاشم فيها، فإذاً المسألة فيها خلاف لكن أقرب الأقوال أن هؤلاء هم آل بيته، وآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محبتهم عقيدة ودين يدين المرء به لله ولرسوله كما أن محبة آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- هي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي من معالم عقيدة أهل السنة والجماعة، أنهم يحبون آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويستوصون بهم خيرًا ويذكرون وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أذكركم الله في أهل بيتي»، ومظاهر هذه المحبة لها آثار، أن يعتقد أنهم أشرف الناس نسبًا لاتصالهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأهل السنة يعظمون منزلتهم بما يستحقون، فيقدمونهم في المجالس ويكرمونهم وينصرونهم فيما عندهم من الحق ويصونون أعراضهم عن القدح والسب والطعن، وهنا أهل السنة مع محبتهم وتوقيرهم لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم يفارقون منهج أهل الغلو في أهل بيته -صلى الله عليه وسلم-، ويفارقون منهج أهل الجفاء في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما أهل الغلو فمعروف أنهم يعتقدون في آل بيت رسول الله اعتقادات مخالفة للإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيعتقدون أنهم يشفعون لهم من دون الله، وأنهم يملكون سرًّا خاصاً بهم وفي نسلهم ولهذا يخافون منهم كما يخافون من الله، ويعتقدون فيهم الاعتقادات الخاطئة، هم بشر كغيرهم مطلوب منهم الإيمان والتقوى، فمن آمن منهم وأتقى لا شك أنه على خير عظيم، ومن أعرض كانت الحجة عليه قائمة ولا ينفعه هذا النسب، فاعتقاد أنهم يضرون أو ينفعون هذه من اعتقادات أهل الغلو الباطلة، وهذا الغلو بعثهم إلى الطعن في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والكلام فيهم، الطعن في أبي بكر والطعن في عمر -رضي الله عنه- والطعن في عثمان.
وقد مر معنا أوجه العلاقة بين علي -رضي الله عنه- وبين آل بيته من جهة المصاهرة والقرابة، وأن عليًا -رضي الله عنه- كان في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبايعهم، ثم ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن حينما قال: «إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين»، فأثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن لأجل أنه كان سببًا في الإصلاح ووصف هاتين الطائفتين بأنهم من المسلمون وهؤلاء يخرجونهم من دائرة الإسلام، هؤلاء أهل الغلو، ولهذا وقعوا في أنهم جعلوا آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آلهة معظمة، ويعبدونهم كما يعبدون الله، ويطوفون بمزاراتهم ويستغيثون بهم ويطلبون منهم الغيث الذي كان لا يفعله كفار قريش، كفار قريش كانوا يطلبون الاستغاثة أو يعرفون أنه لا يجيبهم حال الشدة إلا الله -عز وجل-، والله -عز وجل- قال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت: 65]، فهم يعرفون أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا الله -سبحانه وتعالى-، لهذا قال حصين بن عبد الرحمن لما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- كم إلهًا تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك، يعني: شدة الرغبة والرهبة، قال: الذي في السماء، مستقر عندهم، وهؤلاء جعلوا آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبونهم في حال الرخاء وفي حال الشدة، ففارقوا شرك المشركين -نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا من أراد الحق منهم عليه أن يقرأ كتاب الله -عز وجل- دون هذه الخزعبلات والخرافات، سيجد أن الله ليس بينه وبين خلقه وسائط، الله -عز وجل- يقول: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾[النمل: 62]، هو الله -سبحانه وتعالى-، وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186]، ما أرشدك الله -عز وجل- في القرآن أن تذهب إلى قبور الأولياء أو قبور آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطلب منهم من دون الله، هذا لم يقع من آل بيته كذلك علي -رضي الله عنه- لم يثبت عنه أنه جاء إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يثبت عنه ولا عن الحسن والحسين أنهم جاءوا إلى قبر فاطمة سألوها من دون الله -عز وجل-، هؤلاء أهل الغلو.
والطائفة الثانية وهم أهل الجفاء، وهؤلاء هم الخوارج الذين طعنوا في علي -رضي الله عنه- لأنه قبل بالتحكيم وتسمى المحكمة الأولى أو الشُّراة وكفروا عليا -رضي الله عنه- وتبعًا لذلك تكلموا في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأهل السنة وسط في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفق ما جاءت به النصوص وأوضحته النصوص، ولهذا فينبغي أن يعرف هذا وأن يدرك أن الوسطية في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمثلها أو يمثلها منهج أهل السنة والجماعة لا منهج الغلاة وأهل الغلو، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الغلو، قال: «هَؤُلاَءِ فَارْمُوا وإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»، وهم قد هلكت اليهود والنصارى بغلوها في أنبيائها، غلت اليهود وغلت النصارى، غلت اليهود في عزير وغلت في شرائعها وفي أحكامها وغلت النصارى في عيسى، فجعلوه إلهاً من دون الله -عز وجل-، صاروا يطلبون منه كما يطلبون من الله -عز وجل.
فإذاً هذا الغلو وقع في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة، مظاهر الغلو في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا من يراجع تراث هؤلاء المكتوب والمقروء والمسموع والمرئي يرى عجباً من الضلال والانحراف عن الصراط المستقيم، من دعاء هؤلاء من دون الله -عز وجل-، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم وتعظيم قبورهم، ولو رجع أحد منهم مريد للحق لوجد أن القرآن كله يبطل هذا، والسنة، ولكن هم يتكلمون في السنة لكن لا يستطيع أحد مسلم أن ينكره، لهذا القرآن بين أيديهم وفيه الشفاء، لو قرءوه بتدبر وبتمعن وبنفس قابلة للحق لهداهم إلى التوحيد، وأظهر أن ما هم عليه هو مخالف لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء لدعوة الناس للتوحيد، وهؤلاء -نسأل الله السلامة والعافية- يمارسون، فهم يعتقدون في آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتبعاً لهذا وجدت الطبقية عند هؤلاء، فسمى طائفة مقدسة وهم من انتسب إلى بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهم شعار حتى في ملابسهم، لهم شعار خاص دون غيرهم ولهم امتيازات خاصة دون غيرهم، وهذا لكل صاحب فطرة سليمة يعرف أن الإسلام يناقض هذا، الإسلام ما فيه طبقية كما دلت عليه النصوص، والإسلام لا يجعل لذي النسب علوًا على غيره، وهذا شعار من شعارات الإسلام الكبرى، النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الحج الأكبر قال: «لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى»، والله -عز وجل- قال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، فالكرامة إنما تنال بتقوى الله -عز وجل-، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «مَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ»، وهؤلاء تبعاً لاعتقاد أن آل بيت يعني فئة فاضلة ولها امتيازات جعلوا الطبقية هذه الموجودة عندهم، حتى إلى درجة الثوب واللباس والشعار وما يوضع على الرأس، فصار له امتيازات، كذلك غير الامتيازات الظاهرة وأنهم يقدمون وأنهم امتيازات مالية، فجعلوا لهم صرف الأموال التي من الفئة الأخرى، فيصرفون لهم أموال ويعطونهم شيئًا من المال ومن الزكوات الواجبة جعلوها لهم، وهذا ثابت واضح لكل صاحب فطرة سليمة أن الإسلام ما جاء بهذا، هم كما يعتقدون فيهم البركة ويعتقدون، هذا من أحياءهم، أما أمواتهم فهم ينتابون إلى قبورهم ويطوفون بهم ويعظمون قبورهم ويستغيثون بهم من دون الله، هذا منهج غالي وهذا يخالف ما دلت عليه النصوص، هذا من هذا الوجه.
الوجه الثاني: ثبوت النسب الشريف، يعني: الناس يقولون علماء الأنساب، وعلم الأنساب علم معتبر وكان أبو بكر -رضي الله عنه- كان له عناية به، ولا يعاب على الإنسان أن يتعلم الأنساب على سبيل المعرفة لا سبيل التفاخر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صح عنه قال: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ»، جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- بإسناد حسن أنه لا قربة للنسب إذا قطعت ولا بعد لها إذا وصلت، فعلم الأنساب علم شريف إذا كان على وجه التعلم لا على وجه التفاخر والتعالي على الناس، التعالي على الناس إذاً يكون هنا محذور، لأن الله -عز وجل- بيَّن أن الكرامة ليست بالنسب وإنما بالتقوى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ومن يفاخر بنسبه على الآخرين دل على نقصه؛ لأن النسب ليس للإنسان فيه اختيار، إنما هو من قضاء الله الكوني القدري، ولا يعني أن تكون لك نسب شريف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو بغيره أو بما هو دونه أنك تفاخر على الناس، دل على نقصك.
ولهذا يقول الشاعر:
إذا افتخرت بآباء لهم شرف
قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
يعني أن تفتخر لا تفتخر بهذا، ولكن أن تتعلم النسب ومن ذلك تعلم النسب الشريف والناس مؤتمنون على أنسابهم، هكذا يقول علماء النسب وأضافوا قيد مهم جدًّا، ما لم يدعوا شرفًا، إذا ادعى شرف فإنه يحتاج أن يتثبت منه، وهذا يجرنا إلى بحث النسب الشريف ومن هم آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأهل العلم يعني لا نتكلم في هذا لأنه كثر أدعياء النسب الشريف، كثر هؤلاء الأدعياء، فما زال الدعوة قائمة، وبعض هؤلاء في دعواهم يكذبهم التاريخ والواقع، يعني يكذبهم لكنهم يريدون أن ينتسبوا لأجل أشياء كثيرة، ومن ذلك الدولة الفاطمية بنو عبيد القداح الذي أنشأ الدولة الفاطمية وهي الدولة العبيدية وحكم مصر لأكثر من ثلاثة قرون أو ما يقاربها، فهو ادعى النسب الشريف ونسب نفسه إلى فاطمة، وعلماء النسب في ذاك النسب ألفوا مصنفات في كذب هذه الدعوة وأنهم لا يتصلون بنسب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وليس بآل بيته، فدل على أنه فئام من الناس ادعوا هذا.
كيف يُعرف هذا؟ بالبينة الواضحة بالنص التاريخي على ذلك أو بالقضاء الشرعي أو بالاستفاضة، أمَّا إن يدعي النسب الشريف دون بينة، ما أكثر الدعاوي، ومن ثبت نسبه الشريف بآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحرم عليه الزكاة وما يلحق بها من الكفارات، تحرم عليه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن هذه الأموال: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» أوساخ الناس دون صدقة التطوع؛ لأنها لا تدخل في هذا الحكم كما صرح به جمع من أهل العلم.
وآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين ثبت نسبهم -كما ذكرنا- حقهم أن يكرموا وأن يوقروا وأن يحسن إليهم، فالإحسان إليهم لا شك أن ثوابه أعظم من الإحسان إلى غيرهم لمقامهم وقربهم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذو الفضل، فهم الذين يعرفون الفضل لأهله، ثم من كان متصلاً بنسب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو له اتصال بنسبه الشريف من كونه من آل بيته أو من آل هاشم أو من آل المطلب، فلا شك أن الواجب عليه أعظم من جهة تدينه ومن جهة أخلاقه، لأن السمو الذي ظهر به محمد -صلى الله عليه وسلم- وبآل بيته إنما ظهروا بالدين والخلق، فعليه أن يكون أكثر تمسكاً بأمر الله وبأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبسنته وعليه أن يكون من أهل الأخلاق الفاضلة، الكرم، الجود، السخاء، الوفاء، التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متصفاً بها وكانت سمة غالبة على آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا يكون قد حقق الانتساب الحقيقي لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
{(قال أصحابن)} يعني الشافعية {(قيل: معناه أن أمته ينتسبون إليه يوم القيامة، وأمم سائر الأنبياء لا تنتسب إليهم. وقيل: ينتفع يومئذ بالانتساب إليه، ولا ينتفع بسائر الأنساب)} يعني السبب الذي ذكره في الحديث، {(وهذا أرجح من الذي قبله، بل ذلك ضعيف، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [النحل: 89]. وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[يونس: 47]، في آي كثيرة دالة على أن كل أمة تدعى برسولها الذي أرسل إليها. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب)}.
طبعًا هذا المعنى دل، يعني هذا محل نظر ولهذا أشار إليه ابن كثير، قال الظاهر، (وقيل: ينتفع يومئذ بالانتساب إليه، ولا ينتفع بسائر الأنساب وهذا أرجح من الذي قبله، بل ذلك ضعيف) يعني أن من ينتسبون إليه هم سائر الأنبياء لا تنتسب إليهم، والظاهر من النصوص أن كل أمة ينتسبون إلى نبيهم، لكن هذه الأمة فضلت على غيرهم من الأمم بأمرين أو بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن رسولها -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء، وكونه أنه خاتم الأنبياء أنه مبعوث للناس جميعًا، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، بينما الأنبياء كانوا يرسلون إلى أمم خاصة، فموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء كانوا يبعثون لأقوام خاصة، أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان مبعوثًا إلى الناس جميعًا، وأخذ الله الميثاق على الأنبياء على الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾[آل عمران: 81]، فأخذ الله الميثاق على الأنبياء أنهم إذا بعث محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو خاتم الأنبياء وأمته -صلى الله عليه وسلم- يتناول أمرين: أمة الدعوة وأمة الإجابة، فأمة الإجابة الذين أجابوه، وأمة الدعوة كل الذين بعث فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين ظهور دعوته إلى يومنا هذا تعتبر من أمة الدعوة، فهذه الأمة فضلت بهذا وتمايزت عن غيرها، فهي أمة محمد يشمل كل هؤلاء، ثم إن هذه الأمة الله وصفها بالخيرية، فهي خير الأمم، قال الله -عز وجل-: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ﴾[آل عمران: 110]، فخيرية الأمة، وصفها بالخيرية مرتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لم يقع أو كان ضعيفاً في الأمم السابقة ومنها بني إسرائيل، ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[المائدة: 78- 79].
فدل على أن هذه الأمة هي الخيرية، فيها الخيرية بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأعظم المعروف هو التوحيد، وأعظم المنكر هو الشرك بالله -عز وجل-، فهذه الخيرية، كذلك من ما تميزت به هذه الأمة أنها أمة الوسط، والوسط هم الخيار والعدول، فوسطية الأم بين الأمم في شريعتها وفي كل أمور المنهاج، وفروع الشريعة وفي أصولها، الله -عز وجل- يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَط﴾، فجعلها الأمة الوسط، وقال: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، فهذه الأمة تشهد على الأمة السابقة، فبعثها حجة على الأمم السابقة وهي تشهد كما صرحت بذلك النصوص من كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[يونس: 47]، وقال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ﴾[النحل: 89]، ولهذا الأمة تشهد على الأمة والنبي -صلى الله عليه وسلم- شهيد على أمته، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيد﴾[البقرة: 143].
فإذاً شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وشهادة الأمة على الأمم السابقة، وهذا إنما يكون يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، ويكون يوم الدين ويوم الحساب، فيحاكم الله -عز وجل- ويقاضي بين الأمم ويصير الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، وتظهر الأمم مع أنبيائهم ويكون الحساب والعقاب يوم الحساب، ثم يصير الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الموفقين وأن يختم لنا بالصالحات.
{(وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في ترجمة عثمان: وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إني سألت ربي أن لا يدخل النار أحدًا ممن صاهرني أو صاهرت » هذا غريب)}.
هذا كالذي قبله.
{مسألة: (قوة الرسول وشجاعته: ومن خصائصه -صلى الله عليه وسلم- من دون سائر أمته أنه كان أشدهم بأس وأقواهم شجاعة، كان لا يفر من عدو قل أو كثر، قال أنس بن مالك: لما ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف على نسائه في يوم واحد وكن نعده في قوة ثلاثين من أمته، ومن ذلك أنه كان -صلى الله عليه وسلم- ينظر من خلفه كما ينظر أمامه كما جاء في الحديث، وقد تقدم على معنى ذلك.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ البيهقي في كتاب دلائل النبوة، حيث قال: أخبرنا أبو سعد الماليني، قال: أخبرنا أبو أحمد بن علي الحافظ، قال: حدثنا بن سلم، قال: حدثنا عباس بن الوليد، قال: حدثنا زهير بن عبادة عن عبد الله بن محمد بن المغيرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في الظلمة كما يرى في الضوء"، فإنه حديث ضعيف ضعفه الحافظان ابن عدي والبيهقي وغيرهم)}، يعني هذا لا يثبت، والمسائل التي قبلها مرت معنا.
{(قال البيهقي: وروي من وجه آخر ليس بالقوي، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس، قال: حدثنا أبو إسحاق بن سعيد، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الخليل النيسابوري، قال: حدثنا صالح بن عبد الله النيسابوري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عمار الشهيد، قال: حدثنا مغيرة بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء، قلت: وأما ما ذكره كثير من القصاص وغيرهم")}، هذا غير ثابت {("أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبصر بنات نعش ثمانية كواكب والناس إنما يرونها سبعة، فالأصل كذلك -والله أعلم")}.
يعني هذا الكلام مر معنا فيه، وأما الأحاديث التي أنه هذا ليس من خصائصه وهو لم يثبت.
{قال: (مسالة: أبناء فاطمة ينتسبون للنبي، قال: عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن شيبة بن نعامة عن فاطمة بنت الحسين عن فاطمة الكبرى قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « كل بني آدم فإنهم ينسبون إلى عصبتهم إلا بني فاطمة فإنهم ينسبون إلي وأنا عصبتهم »، أنكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره على عثمان بن أبي شيبة، قال الحافظ أبي بكر الخطيب: وقد رواه غيره عن جرير)}.
وهذه المسألة التي مرت معنا قبلها.
{قال: (فصل في الإشارة إلى أنواع الشفاعة التي يعطاها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأعلاها وأعظمها وأوسعها المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق كلهم فيه ليشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى-، ليأتي لفصل القضاء وإنقاذ المؤمنين من مقام المحشر يوم القيامة، ويخلصهم من مجاورة الكفار في عرصات بما ما يسأله آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى -صلوات الله وسلامه عليهم-، فكل يقول ليست بصاحب ذلك، فيأتون إلى محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فيسألونه ذلك فيقول: أنا لها أنا لها، فينطلق فيشفع عند الله في ذلك، وقد تقدم بسط ذلك)}.
المقام المحمود والذي يسأله الناس للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في الحديث « ابعثه المقام المحمود الذي وعدته »، محمود لأن الخلائق تحمده على ذلك.
{(المقام الثاني من مقامات الشفاعة: شفاعته في أقوام من أمته قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها وذلك بين في الحديث الذي رواه الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا -رحمه الله- في كتابه أهوال القيامة في فصل الشفاعة من آخره، حيث قال: حدثنا سعيد بن محمد الجرمي قال: حدثنا أبي عبيدة الحداد، قال: حدثنا محمد بن ثابت البناني عن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ينصب للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها ويبقى منبري لا أجلس عليه قائماً بين يدي الله -عز وجل- منتصب بأمتي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي، فأقول: يا ربي أمتي، فيقول الله -تبارك وتعالى-: يا محمد وما تريد أن أصنع بأمتك؟ فأقول: يا ربي عجل حسابهم، فيدعى بهم فيحاسبون، ومنهم من يدخل الجنة برحمة الله ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي، فما أزال أشفع حتى أعطى سكاك برجال قد بعث بهم إلى النار، حتى إن مالك خازن جهنم يقول: يا محمد ما تركت للنار لغضب ربك لأمتك من نقمة»، وقال أيضًا: حدثنا إسماعيل بن عبيد بن عمير بن أبي بكر أبي كريمة قال: حدثني محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم، قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة قال: "يحشر الناس عراة فيجتمعون شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قياماً أربعين سنة، فينزل الله من العرش إلى الكرسي فيكون أول من يدعى إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم-، فيكسى قبطتين من الجنة، ثم يقول: ادعوا لي النبي الأمي محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: فأقوم فأكسى حلة من ثياب الجنة، قال: ويفجر لي الحوض وعرضه كما بين أيلة إلى الكعبة، قال: فأشرب واغتسل وقد تقطعت أعناق الخلائق من العطش، ثم أقوم عن يمين الكرسي ليس أحد يومئذ قائم ذلك المقام غيري، ثم يقال: سل تعطى وأشفع تشفع، قال: فقال رجل: ترجو لوالديك شيئًا يا رسول الله؟ قال: إني لشافعًا لهم أعطيت أو منعت وما أرجو لهم شيئًا")}.
لعلنا نكمل -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة الكلام على هذا.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم}.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.